الجزائر: من أزمة نظام إلى أزمة سياسية – جزء 1

بقلم، حسين بلالوفي

يعيش حسين بلالوفي في الجزائر العاصمة ويعمل بها. صحافي  ومنسق سابق لهيئة تحرير l’Alger républicain  من العام 2003 إلى 2008، ومناضل في حزب العمال الاشتراكي. مؤلف كتابين :  الديمقراطية في الجزائر . إصلاح أم ثورة؟ و الشرق الأوسط الكبير: حرب أو سلام؟

***

لم تسقط الأزمة السياسية التي تهز الجزائر اليوم من السماء. إنها تندرج في استمرارية لأزمة سابقة، أزمة النظام، مُعمِّقةً ومُتوِّجةً إياها. وتدل كل المؤشرات على أن النظام السياسي الراهن مُشرف على نهايته. ويدل وعد بوتفليقة بتنظيم ندوة وطنية شاملة مفتوحة لكل القوى، عند انتخابه لعهدة جديدة من خمس سنوات، على أن السلطة ذاتها أدركت أن نظامها لم يعد يطابق مصالح القوى الاجتماعية السائدة، وأنه يتعذر إبقاؤه على حاله، وأنه يستدعي تغييرا.  لكنه يجرب مناورة أخيرة بأمل مواصلة الإمساك بعملية التغيير المُحتَّمة. كما كان الأمر سابقا، بخاصة بعد أكتوبر 1988.

لقد حل أوان التغيير. لكن ثمة أسئلة عديدة  لابد لها من جواب. أولها: هل سيحصل هذا التغيير، أم أن البلد سيسقط مرة أخرى تحت سطوة نظام مستبد؟ وثانيا: كيف سيحصل هذا التغيير، هل في الدم والدموع أو بلا إفراط في الهزات الفجائية والخسائر؟ هل سيكون بضربة من داخل السلطة أم بالتعبئة الشعبية؟ أم بكليهما؟ وثمة سؤال آخر: إلى ماذا سيفضي هذا التغيير؟ كل هذه الأسئلة هي ما يتطلب توضيحا من خلال صراع مختلف القوى الاجتماعية على الساحة السياسية، دون إدعاء إتيان إجابات نهائية طالما الوضع السياسي متحرك.

أولا- في أصول الأزمة

عودة إلى أزمة النظام

تتجلى أزمة النظام، التي باتت قديمة، في أزمة تمثيل متجسدة بالمقام الأول في استنكاف شعبي كثيف على صعيد الانتخابات. فحسب أرقام المشاركة الرسمية، المضخَّمة بنحو ممنهج، لم يكن ثمة سوى نسبة 50.7% من المصوتين في آخر انتخابات رئاسة في العام 2014، مقابل نسبة 74.56% في انتخابات 2009. خسر المرشح بوتفليقة، بين الانتخابين، 4.5 مليون صوت. ومع ذلك يحتكر التحالف الرئاسي (جبهة التحرير الوطني، التجمع الوطني الديمقراطي، الحركة الشعبية الجزائرية، تجمع أمل الجزائر)، وتوابعه ضمن أرباب العمل (منتدى رؤساء المؤسسات) وضمن الأجراء (الاتحاد العام لعمال الجزائر)، والحكومة والإدارة، لاسيما بفضل قنوات التلفاز العمومية والخاصة، حياة سياسية فاترة تُهمِّش كل معارضة. وما خلا زبائن النظام، لا يصوت معظم الجزائريين. وليس ملايين منهم، وبوجه خاص الشباب، مسجلين في قوائم الانتخابات.

وليست المؤسسات “المنتخبة” الرئيسية تعبيرا عن نتائج الانتخابات.  وتوجد رئاسة مجلس الأمة (غرفة البرلمان الثانية)، ومنصب الوزير الأول، تِباعاً، بيد عبد القادر بنصالح وأحمد أويحيى، قائدين من حزب الأغلبية، التجمع الوطني الديمقراطي.  وكانت انتخابات مجلس الأمة في ديسمبر العام 2018 مسرحا لتزوير كثيف بين أحزاب “متحالفة” من “الأغلبية الرئاسية” لصالح جبهة التحرير الوطني التي يرأسها بوتفليقة شرفيّاً.

وأكد الانقلاب على سعيد بوحجة، رئيس المجلس الشعبي الوطني، في أكتوبر العام 2018، انعدام مصداقية المؤسسات. فقد جرت إزاحة الرجل بنحو غير قانوني من منصبه ومن مكتبه من قبل جلاوزة حزبه ذاته (جبهة التحرير الوطني) وآخرين من تشكيلات “التحالف الرئاسي”. وتقمص الوزير الأول أحمد أويحيى شخصية بسمارك ليعلن أن “القوة فوق الدستور”.

لكن الأزمة ألمّت في النهاية بحزب السلطة الرئيسي، حزب جبهة التحرير الوطني. وفي غياب تام للشفافية، جرى في نوفمبر 2018 خلع الأمين العام والقيادة الانقلابية، ليس بتصويت من “القادة” بل بقرار صادر عن رئاسة الجمهورية. وبات الحزب منذئذ في عز “إعادة تنظيم”، وهذا عشية انتخابات أبريل المقبل.

وليست أحزاب المعارضة بمنأى عن الاستنكاف الشعبي، إذ  تجهد بكل اتجاهاتها للإقناع وللتعبئة، وتعيش أزمات متواترة. والأمر عينه قائم لدى هيئات أرباب العمل ونقابات العمال.

لم تعد أغلبية الجزائريين تؤمن بإمكان تناوب سياسي في إطار النظام القائم. ولم يعد للإسلاميين الجذريين، الذين كسبوا قلوب العديد من المواطنين/ات في سنوات 1980-1990، مصداقية سياسية؛ لكن لم تفلح أي قوة في شغل المساحة المحررة بهذا النحو.

تخللت حكم بوتفليقة، الذي بدأ قبل 20 سنة، جملة فضائح مذهلة ومتوالية: تهريب كوكايين، قضايا فساد في العقار، الأوراش العمومية الكبرى (الطريق السيار شرق-غرب) وتسليم صفقات لشركات أجنبية متعددة الجنسية (قضايا متعددة سونتراك-المجموعة البترولية اليطالية ENI –وفرعها Saipem)، وقضية رفيق خليفة في تبذير المال العام لصالح شركة أنشاها فاعل في البورصة، وعمليات خصخصة بالدينار الرمزي… وقائمة الفضائح أطول من أن تُسرد، لكنها تشترك كلها في كونها تتعلق بأعضاء من النومنكلاتورا (وزراء، مسؤولي شرطة وجيش…) و/أو أبناء طبقة برجوازية الأعمال الجديدة.

ينظر جزائريون كـُـثر إلى الفساد كمجرد انحراف عن معيار مجرد، ديني أو علماني، يوصي بعدم السرقة.  وبهذا النحو تُـدرك الظاهرة في بعدها الأخلاقي الصرف. وتُتعزز هذه الرؤية الأخلاقية العفوية بخطاب المعارضة فائقة الليبرالية التي تردد خرافة رأسمالية بدون فساد حيث يحصل كل واحد على ما يستحق. رأسمالية جيدة  قد توجد في مكان آخر، لكن ليس بالجزائر. ويكفي تتبع الأحداث العالمية لتبين أن لا بلد يخلو من الفساد (الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد الأوربي، واليابان، وكوريا الجنوبية، والبرازيل…)، لا بل إن بعض الدول “الجديرة بالاحترام” مختصة في تدوير المبالغ المالية المتأتية منه: سويسرا، ولوكسمبورغ وموناكو و باناما وجزر أخرى ليست عذراء بالقدر المتصور… هذا لأن الفساد ليس انحرافا. إنه، بالعكس، ضرورة موضوعية لدى المالكين، المرغمين على التقاتل إلى الأبد بقصد الحفاظ على حصصهم من السوق، والحصول على حصص جديدة، وملء دفاتر طلبياتهم، وإبعاد منافسيهم والإفلات من الضريبة التي تأخذ أموالهم لبناء الطرق والمدارس والمستشفيات… الفساد منظومة، أو هو  بوجه الدقة جزء من النظام الرأسمالي.

كان للفساد بالجزائر دور تاريخي خاص في أثناء الأربعين سنة الأخيرة. إذ أسهم، إلى جانب قوانين تفكيك القطاع العام، في نزع ملكية الشعب الجزائري العائدة إليه شكليا عبر الملكية القانونية العامة: مقاولات، أراضي زراعية وحضرية، ممتلكات منقولة وعقارية… و أسهم في الاستحواذ على التجارة الخارجية للاستعاضة عن الاحتكار العام القديم باحتكار خاص.  ليس الأمر إذن حادثة طريق، ولا حتى بدرجة أقل خطأ أو انحرافا، بل عملية لا غنى عنها لتمكين أقلية غير مشروعة من مراكمة رأس المال فيما سواد السكان الأعظم يتعرض لسيرورة بَلْــتَرة تُرغمه على بيع قوة عمله لأجل العيش. ولم يغب بُعدُ الفساد هذا عن أفهام السكان الذين أدركوا ما يقيمه من علاقة بين السلطة والثروة. شهدنا بهذا النحو تركزا للسلطات وصعودا ملازما للسلطوية.  وجرى تعزيز على نطاق كبير للسلطة التنفيذية في مختلف مُدد حكم بوتفليقة. ولا ينبع الطابع الرئاسي المفرط للدستور المفصل على قياسه، وظهور عبادة شخصية مغالية ومضحكة، من جنون عظمة أسطوري لدى الشخص وحسب. إنهما يعبران بنحو أوْكدَ عن الضرورة الموضوعية لتركيز السلطات حول شخص لتوحيد مختلف الزُّمر وفرض سياسات معادية للشعب ليست بالضرورة محل إجماع حتى داخل السلطة. تلك كانت، مثلا، حالة المسألة الأمازيغية، مع الاعتراف بلغة البربر لغة رسمية وإحداث أكاديمية وطنية للغة الأمازيغية…، التي حسمها بوتفليقة، بضغط من الجماهير، فيما لا إجماع داخل السلطة حول الأمر. كذلك شأن مسائل اقتصادية واجتماعية: عمليات خصخصة، ودعم لأسعار مواد الاستهلاك، وسعر الغاز والكهرباء، والماء… بيد أن الوجه الآخر للعملة يكمن في ما أدى وسيؤدي إليه تركيز السلطات من صعوبة تشكيل إجماع داخلي لتعيين الخلف.

لا يمكن لرفض أي تفاوض وحتى مجرد تشاور مع أحزاب المعارضة، ومع النقابات وغيرها من الجمعيات، ولغياب مساحات وهيئات توسط لتدبير سلمي وشرعي للتناقضات في المجتمع وحتى داخل السلطة، وللنيل المتكرر من الحريات الديمقراطية والنقابية (عرقلة حق الإضراب، والتظاهر، والاجتماع، والتنظيم…)، ولقمع كل الاحتجاجات، ولانحياز المغالي لقنوات التلفزيون العامة والخاصة (المحدثة بشكل غير قانوني من قبل مقربين من السلطة)، وللتهديدات المستورة بالكاد لكل من وزير الدفاع ووزير الداخلية، لا يمكن لذلك كله إلا أن يستثير تعبئات شعبية، وقد استثارها فعلا. ليس الثوريون من يثير الثورات بل الأنظمة المستبدة.

ويؤكد تكاثر تصفيات الحساب الداخلية والقرارات المتناقضة تصدع تجانس السلطة. فقد جرت تنحية رئيس مصالح الأمن، الجنرال محمد مدين المسمى “توفيق”، الثابت بهذا المنصب، بعد سنة من إعادة انتخاب بوتفليقة لمرة رابعة في العام 2014. وأُعيدت هيكلة  مصلحة المخابرات والأمن التي كان يشرف عليها. وأفضى تفتيش سفينة على متنها 701 كيلوغرام من الكوكايين إلى تنحية عبد الغني هامل رئيس الإدارة العامة للأمن الوطني. ولم يبق خلفه سوى بضعة أشهر، وقام وزير الداخلية بتجميد عدة تدابير اتخذها المُنحّى منها تعديلات داخل مصالح الشرطة. وجرى منع مسؤولين كبار بالجيش الوطني الشعبي من مغادرة التراب الوطني، وتجميد حساباتهم البنكية قبل اعتقالهم. وبعد مدة أطلق سراحهم بلا تعليل. وأُخلي يوم 26 فبراير 2019  سبيل سبعة أطر سابقة بالشرطة متهمة بالمس بسلامة أمن الدولة بعد مظاهرات عناصر شرطة محتجة على ظروف العمل الصعبة في العام 2014.

تتمثل إحدى أمارات أزمة النظام في عجزه عن استكمال عملية إصلاحات اقتصادية هيكلية  شرع فيها قبل أربعين سنة. فقد بدأ التوجه نحو الليبرالية منذ العام 1980، لكن الدولة تواصل إدارة الاقتصاد. وتظل الثروات الطاقية (محروقات) والمنجمية ضمن الملك العام على حساب أنصار الليبرالية الفائقة بالسلطة وبالمعارضة والقوى الامبريالية (مجموعة السبعة الكبار) ومؤسساتها المالية (صندوق النقد الدولي و البنك العالمي…). وعادت إلى كنف الدولة مقاولات عمومية ضخمة جرت خصخصتها ( الشركة الوطنية للحديد الحجار لصالح ArcelorMittal، واسمدال التي غدت فرتيال بعد أن أصبحت المجموعة الاسبانية Grupo Villar Mir مالكة أغلبية الأسهم…). وتم، بفضل تعبئة عمال المُرَكّب، إحباط محاولة علي حداد، رئيس نقابة أرباب العمل (منتدى رؤساء المؤسسات) لشراء حصص المجموعة الاسبانية، بتواطؤ أويحي الوزير الأول.  وأجبر بوتفليقة الحكومة على ممارسة حق الشفعة لصالح الدولة التي باتت تحوز من جديد أغلبية أسهم هذه المقاولة. ولم يصدر الرئيس قانون البيع الرخيص للمحروقات المصادق عليه في العام 2005 وجرى تعديله أخيرا سنة بعد ذلك. ويستمر منذ عشر سنوات قانون الاستثمارات القاضي بحيازة المقاولات الجزائرية  المتشاركة مع أجانب أغلبيةَ الحصص (51/49). و يتراجع الاستيراد بقوة بفعل تدابير حكومية (نظام حصص، منع، رسوم مرتفعة جدا…) ومن جهة أخرى تواصل الحكومة بناء مساكن اجتماعية ودعم الأسعار، والحفاظ على مجانية الصحة والتعليم العموميين، ورفض الاستدانة الخارجية…

هذا التناقض بين الوجهة الجلية صوب أفق ليبرالي من جهة، ومن جهة أخرى التوقفات والانعطافات والتراجعات الدائمة، يؤجج منذ سنوات عديدة التوتر داخل النظام ويُغلّ يدل الحكومة عن الإجبار. كما يغذي معارضة ديمقراطية فائقة النزعة الليبرالية وكذا استياء شعبيا متناميا. تطول البطالة نسبة 11.7% من السكان النشطين، وتبلغ أوجا بنسبة 28.3% لدى الشباب (16 إلى 24 سنة). ولا يجد ذوو الشهادات فرص عمل فيما نسبة 43% من الأجراء غير مسجلين في الضمان الاجتماعي.  وتهوي القدرة الشرائية لدى العمال والعاطلين والفلاحين بلا أرض والفلاحين الفقراء وصغار الحرفيين والتجار… بفعل ارتفاع الأسعار، وانخفاض قيمة الدينار وركود الأجور والمعاشات. وتتضرر الطبقات المحرومة بشدة من تراجع التزام الدولة بخدمات التعليم والصحة. إن السلطة تعيد النظر في ما تبقى من الدولة الاجتماعية.

وبالمقابل تحابي هذه السياسة الطبقات السائدة (رأسماليون جزائريون وأجانب، مالكو أراض، مستوردون، تجار كبار، مهن حرة سامية،…)  المستفيدة من نزع ملكية الشعب الجزائري غير المشروع (خصخصة، “شراكة” القطاعين العام والخاص…) وما تمنحها السلطة من مساعدة سخية. الشركات متعددة الجنسية المتفاخرة بتصدير الأسمدة  والإسمنت (فرتيال،لافارج…) إنما تفعل ذلك بفضل دعم الدولة للغاز. يُصدر الاسمنت بنصف السعر وتشهد مقاولة سونيلغاز عجزا بمقدار 23 مليار دولار!

وبوجه ما تُبدي الجماهير من مقاومة مشروعة، يظل القمع جوابا وحيدا: لجوء إلى القضاء لعرقلة حرية الإضراب، تحويل قانون العمل إلى قانون الرأسمال، والاعتقال المتعسف للموظفين ولمُدوّني إِنترنت، ومنع المظاهرات واستنطاقات للمناضلين وتنكيل بمشجعي فرق كرة القدم… ويهاجم أرباب عمل القطاعين الخاص والعام النقابيين مباشرة: سونيلغاز، شركة الطيران، ليبرتي، سڤيتال… وتدافع السلطة بجلاء متزايد عن مصالح الطبقات السائدة الكمبرادورية التي تمثل حصان طروادة حقيقي للامبريالية.

تتجلى بوجه الدقة  إحدى آخر أمارات أزمة النظام، وليس أقلها شأنا، في ما يواجه من صعوبة مقاومة الضغوط الإمبريالية. لا تزال السلطة تساند قضية الشعبين الفلسطيني والصحراوي، ورفضت أن تكفل التدخلات الامبريالية في ليبيا وسوريا واليمن… وترفض أي مشاركة للجيش الوطني الشعبي في عمليات خارج الحدود، وكذا إقامة قواعد عسكرية أجنبية في الجزائر. و لا تقبل إرساء مراكز عبور للمهاجرين… لكنها تراعي النظام السعودي المجرم وتدافع عنه باطراد، ولا تعبر عن موقف علني بصدد زعزعة استقرار فنزويلا، واتضح عجزها عن عرقلة “عودة إسرائيل”  في منطقة الساحل، وعن الاعتراض على تكاثر القواعد العسكرية والتدخلات الأمريكية أو الفرنسية في المنطقة… ومؤخرا، في فترة 18 فبراير إلى 1 مارس وحدها، شارك الجيش الوطني الشعبي فيما يسمى “Flintlock 2019” تحت إشراف قيادة القوات الأمريكية في أفريقيا (أفريكوم). وشهدت مناورات “« Phoenix Express ” التي نظمتها افريكوم في اليونان في مايو العام 2018، مشاركة قوات البحرية الجزائرية… نلاحظ إذن انعطافا أكيدا في السياسة الخارجية لا يمكن إلا أن يغذي التناقضات داخل نظام موجه تقليديا نحو الاتحاد السوفييتي ثم روسيا (في المجال العسكري بوجه خاص)، ومتمسك سابقا بعدم انحيازه.

يمكن استنتاج أن النظام الجزائري ليس ملكيا ولا جمهوريا حقيقيا.  ليس ديكتاتورية، ولا ديمقراطية. ليس تيوقراطية و لا نظاما علمانيا. ليس مناصرا للامبريالية، لكنه لم يعد مناهضا لها. ليس ليبراليا فائقا  لكنه ليس مناهضا لليبرالية. ويؤدي عجزه عن حسم تناقضات المجتمع الجزائري، وكذا تلك التي تخترقه، إلى إعادة إنتاج دائم لشروط الأزمة. وتدل جموديته هاته عن عجزه عن إصلاح ذاتي. إننا، والحالة هذه، محكومون بأن نعيش مجددا أزمات سياسية عنيفة إلى هذا الحد أو ذاك تنطوي على خطر التحول إلى أزمة للدولة ملائمة لثورات لكن أيضا لمغامرات امبريالية.

أزمة هيمنة

بعكس خطاب أنصار الليبرالية الفائقة، تحيل أزمة النظام إلى الرهانات والصراعات الطبقية التي تخترق المجتمع الجزائري.  وتنبع بوجه أخص من قصور هيمنة الطبقات السائدة.

سياسة إضفاء الليبرالية تنهجها  البرجوازية الداخلية. وليس قسم الطبقة هذا وطنيا بمعنى ما بات عليه من افتقار لمشروع سيادي،  ورفضه مواجهة النظام الامبريالي العالمي اقتصاديا وسياسيا ودبلوماسيا. لكنه لا يزال تابعا للطلب العمومي وبحاجة إلى حماية الدولة كي يراكم بوجه السوق العالمي.

يصطدم هذا القسم بعقبتين.  تتعلق أولاهما بمقاومات نشيطة وأخرى سلبية من قبل الجماهير وقسم من جهاز الدولة.  يضطر باستمرار هذا القسم الذي تقوده السلطة، كي يمرر إصلاحاته، إلى المراوغة والتقدم والتراجع. ولم يفلح، حتى الآن، في إتمام  إصلاحاته الاقتصادية الهيكلية، ولم يندمج كليا في النظام الإمبريالي… لكنه لا يريد، بالعكس، العودة إلى سياسة تنمية وطنية وإلى مقاومة النظام الامبريالي كما لا تزال تفعل، كليا أو جزئيا، بانسجام وعزم  متفاوتين، بعض الدول: إيران، وكوريا الشمالية وكوبا وفنزويلا وسوريا ولبنان…

هذا القسم من البرجوازية، يجبره تطبيق سياسته الاقتصادية والاجتماعية الليبرالية (تجميد الأجور والمعاشات، النيل من مكاسب قانون العمل، البطالة،…) على المراوغة، لكنه لا يتردد  في استعمال القوة ضد الجماهير العمالية والطبقات الشعبية التي ترفض تبخر مكاسبها. بهذا النحو يتضح عجز قسم البرجوازية هذا عن نيل القبول لدى ضحايا الاستغلال والسيطرة.

تتمثل العقبة الثانية بوجه قسم البرجوازية  الداخلي في عجزه عن الحصول على موافقة قسم البرجوازية الآخر، القسم الكمبرادوري المدافع عن تصور ليبرالي فائق للاندماج والخضوع  للسوق العالمي وللنظام الامبريالي. تعزز هذا القسم كثيرا في العقود الثلاثة الأخيرة مستفيدا من الحرب الأهلية التي يسرت تخريب المقاولات العمومية ونهبها بأوامر من صندوق النقد الدولي (خطة التعديل الهيكلي الموقعة في العام 1994)، وتحويل اقتصاد الجزائر من اقتصاد يروم الإنتاج والصناعة إلى اقتصاد بازار قائم على التصدير والاستيراد. يُزايد هذا القسم الكمبرادوري ولا يكف عن تأكيد نقص إرادة السلطة في مضمار الإصلاحات الهيكلية والاندماج في السوق العالمي.

يقع  قسم البرجوازية الداخلي إذن في كماشة  الجماهير الشعبية من جهة والقسم الكمبرادوري  المدعوم من الامبريالية من جهة أخرى.

سار القسم الكومبرادوري منذ سنوات عديدة نحو الظفر بالسلطة، ولديه أحزاب شكلية تقليدية أهمها حركة المجتمع من أجل السلم – من تيار الإخوان المسلمين، والتجمع من أجل الثقافة والديمقراطية ذو الاتجاه العلماني، وحزب طلائع الحريات للوزير الأول السابق علي بنفليس، وبعض الأحزاب والشخصيات المتجمعة في  حركة المواطنة… لكنه يستند وبوجه خاص على حزب حقيقي، عضوي، مشكل من وسائل الإعلام التقليدية والالكترونية، وهيئات التفكير think tanks وحركات مثل التي تساند الاوليغارشي الاول بالبلد يسعد ربراب، وشخصيات تشكل مجموعة أكثر دينامية في الغالب من الأحزاب الشكلية. يحظى هذا القسم الكومبرادوري بدعم  المراكز الإمبريالية (قوى غربية، صندوق النقد الدولي، البنك العالمي…) التي تمارس ضغوطا مستمرة على السلطة الجزائرية.

ويؤثر هذا القسم على جزء هام  من الأشخاص والمجموعات بالقسم الخصم ، يشاطره في الجوهر رؤيته لضرورة  إصلاحات اقتصادية واجتماعية هيكلية، لكنه لم يتجرأ لحد الآن على اتخاذ موقف لصالحه خشية  ردود فعل السلطة. بوجه عام يسهم بقوة اندماج أغنياء جدد في النظام عبر الأحزاب والمؤسسات المنتخبة (المجلس الوطني الشعبي، ومجلس الأمة، و المجالس الشعبية للولايات والمجالس الشعبية البلدية،…)، وكذا الحضور المباشر أو غير المباشر للعسكر  أو لأقاربهم في أوساط الأعمال، في تغيير ميزان القوى لصالحه. لأن خصمه الذي يقود البلد اليوم يعمل لصالحه بفعل عدم انسجامه الذي يجعله عاجزا عن العودة إلى تنمية وطنية واجتماعية. يلزمه لذلك الاستناد على الجماهير الشعبية ، وهذا ما يصر على رفضه.

يشهد إذن القسم الكمبرادوري دينامية صاعدة.  ويعمل للظفر بالهيمنة داخل الطبقات السائدة. لكن علاقاته مع القوى الرأسمالية العالمية والدول الامبريالية  تُبعد عنه قسما من الدولة العميقة الجزائرية المتحدرة من حرب التحرير الوطنية ومن سياسات التنمية الوطنية لعقدي الاستقلال الأولين. هذه القطاعات متطلبة جدا فيما يخص الاستقلال والأمن الوطنيين. ومن جهة أخرى يكابد  القسم الكمبرادوري أجَلّ المصاعب في نيل قبول ضحايا الاستغلال والاضطهاد لأن مشروعه الاقتصادي والاجتماعي فائق الليبرالية أقسى وأشرس إزاء الجماهير. فهل يمكنه في هذه الشروط أن يبلغ سدة الحكم بصناديق الاقتراع؟ وإذا بلغها، بالاستفادة من أزمة أو لكونه يمثل حاليا البديل السياسي الوحيد عن السلطة القائمة، ماذا سيكون رد الجماهير الشعبية؟  وبما أن العمال والعاطلين والشباب ليسوا بأي وجه على استعداد لقبول تلك السياسة، ثمة احتمال قوي أن يحكم هذا القسم، المدعي الديمقراطية، بكيفية معادية للديمقراطية لتمرير جرعة وصفته الليبرالية الفائقة.

قصور الهيمنة هذا لدى قسمي البرجوازية هو أصل أزمة النظام، أي عجزه عن الحكم  بنحو موحد وبنيل القبول لدى ضحايا الاستغلال والاضطهاد. لا يمكن إذن إضفاء الديمقراطية على النظام.  تستمر هذه الأزمة منذ سنوات وتتعمق. وشهدت تسارعا خلال العام 2018.

يُتبع  بالقسم الثاني: أزمة سياسية مفتوحة   

ترجمة : جريدة المناضل-ة

شارك المقالة

اقرأ أيضا