إرنست ماندل، قبل رحيله: ينبغي أن نمنح التاريخ الوقت لإنجاز عمله [*]

تاريخ الأممية21 يوليو، 2025

بقلم : كميل داغر

الكلام على إرنست ماندل، ولا سيما بالاختصار الذي تفرضه ندوة رباعية، ليس أمرا أسهلا. وهو ما نستشفه بخاصة حين ندرك ضخامة العمل الذي أنجزه على مدى نصف القرن من حياته الفكرية والسياسية، ناهيكم عن أن الإحاطة به لا تصح إذا نحن فصلنا الحديث حوله عن الحديث عن المنظمة العالمية التي انتمى إليها، عنيت الأممية الرابعة، وعن الحركة الماركسية الثورية في الخمسين سنة الأخيرة، بوجه عام.

وبالطبع، لسنا هنا لتأبين الرجل، بل لنبحث فقط في حياته وفكره عن عناصر موجهة للعمل، وأسباب لاستعادة الثقة واستكشاف طريق المستقبل، فهو من القلة النادرة التي تتماثل حياتها بالكامل مع أفكارها ، وتضع هذه الحياة وتلك الأفكار معاً في خدمة الخلاص البشري.

لقد سبق أن أشرت إلى إرنست ماندل في مقالة قصيرة نشرت في جريدة السفير في تشرين الأول الماضي 1995 ، تحت عنوان آخر المكملين الكبار لماركس وإنجلز ولينين وتروتسكي. وهو بالفعل كذلك إذا أخذنا بالحسبان ذلك الكم من الكتابات مجلدات وكتباً متوسطة وكراسات، ناهيكم عن المقالات والمحاضرات الجامعية والمراسلات ، وحتى التسجيلات الصوتية. وهي تندرج جميعاً في شرح النظرية التي أنتجها هؤلاء المفكرون التغييريون الذين لعبوا دوراً هائلاً في تطورات القرنين الأخيرين، وفي حفز مساعي البشرية للخروج من عبوديتها التاريخية إلى عالم من الحرية والعدالة والتضامن والفرح؛ ولكن أيضاً في إضافة ما تنبغي إضافته إليها تحت تأثير المستجدات الطارئة على صورة العالم، في نصف القرن الأخير، إثر الثورة الصناعية الثالثة وما شهده نمط الإنتاج الرأسمالي من تطورات وتمخضات، ومن عولمة رأسمالية تزيد من حدة التناقضات داخل المجتمعات الحديثة وتعمق أزماتها.مع ما يلازم ذلك من مفاقمة للمظالم بحق الكائن البشري، ومن تهديد للبيئة ككل، وبالتالي لبقاء الحياة على كوكبنا الصغير، ولا سيما إزاء الفشل، المؤقت على الأقل، ولكن الذريع ايضاً، في مسعى إقامة مجتمع لا طبقي منسجم، يتفق مع الصورة الأولية التي تعطيها عنه النظرية الماركسية.

لقد بدأ ارنست ماندل، الذي غادرنا عن 72 عاماً، حياته السياسية والتنظيمية الفعلية وهو بعد في السادسة عشرة. منذ تلك السن كان قد حدد خياره للحياة، كامل الحياة. حدث ذلك في مطلع حرب قضت على عشرات الملايين، وأزالت مدناً بقضها وقضيضها . اصطفى لنفسه الطريق الأصعب، طريق القلة المطاردة والمنبوذة والمضطهدة، التي في سعيها وراء الحلم النبيل لبناء اشتراكية محررة، لم تكن تضع نفسها فقط بمواجهة استبداد الرأسمالية ونهبها اللاعقلانيين، بل كذلك، ومنذ البدء، بمواجهة الوحش الستاليني الذي سحق الجانب الأكثر إضاءة في ثورة عام 1917، وضد الشريحة البيروقراطية التي صادرت سلطة العمال والفلاحين، في سياق سيرورة دموية طاحنة سقط فيها أكثر من مليون شيوعي، وخيرة القادة الثوريين الباقين من أكتوبر. وهي الشريحة التي اعتبر ليون تروتسكي، منذ عام 1936 ، أنها تهيئ ضد نفسها ثورة سياسية لن يكون الهدف منها ” تبديل القواعد الاقتصادية للمجتمع السوفييتي وإحلال شكل للملكية محل آخر، بل قلب الفئة البونابرتية ضمن إطار التطور السياسي. يقول : ” إن بروليتاريا بلد متخلف اضطلعت بأول ثورة اشتراكية، لذا سيكون عليها أن تدفع ثمن هذا الامتياز التاريخي بثورة ثانية ضد السلطة البيروقراطية المطلقة”. ويضيف: “ليست الغاية أن نبدل عصبة حاكمة بأخرى، ولكن تغيير طرق الإدارة الاقتصادية والثقافية نفسها. كما ينبغي للعسف البيروقراطي أن يخلي مكانه للديمقراطية السوفييتية. إن إعادة حق النقد والحرية الانتخابية الحقيقية شرطان ضروريان لتطور البلاد، كما إن عودة حرية الأحزاب السوفييتية، بدءاً من حرية الحزب البلشفى، وبعث حرية النقابات، أمور مطلوبة ….)، أما “مقاييس التوزيع البرجوازية” فتنبغي إعادة النظر فيها، وأن تتحكم الضرورة بنسبها وفروقها، إلى أن تحل محلها المساواة الاشتراكية، مع ازدياد الثروة الاجتماعية. كما ينبغي أن تُلغى الرتب فوراً ويستغنى عن الأوسمة. عندها تستطيع الشبيبة أن تتنفس بحرية، وأن تنتقد، وأن تخطئ وتنضج. وينفض العلم والفن أغلالهما . كما إن السياسة الخارجية تعيد علاقتها بتقاليد الأممية الثورية”.

لقد قرأت عليكم هذا المقطع من كتاب “الثورة المغدورة” لتروتسكي، لأن الثورة السياسية التي يصفها كانت جزءاً أساسياً من البرنامج الذي استلهمه ماندل، منذ التحاقه عام 1939 بالحزب الاشتراكي الثوري، فرع الأممية الرابعة في بلجيكا، وحتى سنواته الأخيرة حين توقع، وإن خطأ، أن ساعة تلك الثورة قد أزفت .

منذ سنه المبكرة، كان عليه أن يقوم بعمل سيزيف. اضطلع مع أبراهام ليون بإعادة تنظيم الحزب الذي صفّى النازيون قيادته. وشارك بحيوية خارقة في المقاومة، ووقع في الأسر ثلاثاً، ولكنه نجح في الإفلات من الموت المحتم في كل مرة والعودة إلى النضال، بفضل طاقاته الخلاقة التي أتاحت له حتى اكتساب تعاطف حراسه الذين ساعدوه في المرة الأولى على الفرار.

بعد الحرب ، سنجده ومنذ عام 1946، علاوة على موقعه في قيادة حزبه، عضواً في الأمانة الموحدة، الهيئة القيادية العليا للأممية. وقد كان إسهامه أساسياً في القرار الذي اتخذته الأممية عام 1947 ضد تقسيم فلسطين وقيام دولة إسرائيل. وشارك عام 1950 في مفرزة العمل التي أرسلتها الأممية إلى بلغراد، تضامناً مع تيتو وتجربة التسيير الذاتي العمالي في يوغوسلافيا، في وجه تهديدات ستالين بالانقضاض على نزعة الاستقلال لدى الجمهورية الشقيقة. كما ساهم أيضاً بعد ذلك في أعمال التضامن مع الثورة الجزائرية، وباتت بلجيكا بفضله قاعدة خلفية أساسية للعمــل السري لجبهة التحرير الوطني.

كانت الأممية الرابعة وأحزابها نواة صغيرة نسبياً. ولكنها بفضله وفضل العديد من رفاقه، استطاعت أن تنخرط دائماً، وبعيداً من أي عصبوية، في أعمال التضامن والدعم الوثيقين لكل حركة تثبت توجهها الثوري، ولكل ثورة أصيلة في أي مكان من الكرة. ومن هذا المنطلق وبسبب دوره الشخصي الخلاق في النظرية كما الممارسة الثوريتين، وجه إليه غيفارا منذ العام 1962 دعوة للمجيء إلى هافانا ومشاركة القيادة الكوبية في نقاش قضايا بناء الاشتراكية هناك.

بعد ذلك، ستلعب كتاباته، ومن ضمنها مؤلفه “بحث في الاقتصاد الماركسي” (1) ، دوراً هاماً في تكوين الشبيبة الثورية، في تلك الفترة الحافلة بالمخاضات. وفي سياق منطقي بالكامل، سوف نجده في أيار / مايو 1968، في قلب الانتفاضة الطلابية- العمالية التي أقضت مضاجع البرجوازية الفرنسية وبرجوازيات العالم، وأثارت الرعب في نفوس كهنة العالم القديم، وكان يمكن بالتأكيد أن تغير مسار التاريخ لو قيض لها أن تحظى بقيادة ثورية منظمة، قادرة على لعب دور الأسطوانة التي تمنع البخار من التبدد، وتحصره عند النقطة الحاسمة”، بحسب العبارة التي استعارها ماندل، في نصه الهام بعنوان “لينين ومشكلة الوعي الطبقي البروليتاري”، من كتاب تروتسكي “تاريخ الثورة الروسية”.

ان ماندل الذي يقوم في ذلك النص أحداث أيار / مايو 68 الفرنسي وخريف عام 1969 الإيطالي، يقول:

” طبعاً إن القوة المحركة هي في النهاية قوة التعبئات والنضالات الطبقية وليس الأسطوانة بحد ذاتها. بدون هذا البخار ليست أكثر من أنبوب فارغ، ولكن بدون الأسطوانة، حتى البخار الأكثر قوة يتبدد ولا يبلغ الهدف”. ويضيف:

ذلك هو جوهر النظرية اللينينية في التنظيم”.

لقد كان أيار / مايو الفرنسي محطة بالغة الأهمية في حياة الرجل، الذي تسنى له آنذاك أن يترك بصماته الفكرية والتنظيمية بقوة في أوساط الشبيبة المنتفضة، بحيث سيشكل ذلك، مضافاً إلى وزنه الفكري والنضالي المتنامي عبر العالم، انطلاقاً من ذلك العام، حافزاً حاسماً للعديد من الحكومات الإمبريالية لإغلاق أبواب بلدانها دونه. ذلك، سوف تشهده شتى القارات متنقلاً بينها في مهمات تنظيمية وسياسية وفكرية، ولأجل المشاركة في لقاءات جماهيرية، واجتماعات تكوين، ومنتديات دراسية، أو لإعطاء محاضرات جامعية، إلى غير ذلك من أشكال إيصال معرفته وتجربته الفذتين إلى مجموعات متزايدة من الشبيبة المتمردة عبر العالم.

الثورة السياسية هل أزفت ؟!

لقد كانت كتاباته الأهم هي تلك التي شرح فيها النظام الاقتصادي الرأسمالي ، منذ ” البحث في الاقتصاد الماركسي” لعام 1962، إلى “تشكل فكر ماركس الاقتصادي”، الصادر عام 1967 ، إلى كتابه “العصر الثالث للرأسمالية”، الصادر بالألمانية والفرنسية عام 1972، ثم بالإنكليزية عام 1975، تحت تسمية “الرأسمالية المتأخرة”، وصولاً إلى الكتاب الصادر له بالإسبانية في أوائل الثمانينيات بعنوان: رأس المال، مئة عام من المساجلات حول عمل كارل ماركس”… ولكن قلبه كان يخفق بأكبر قدر من القوة والحيوية كلما انفجرت نضالات معممة في واحد من بلدان المنظومة المسماة اشتراكية، أو نمت حركة إصلاحية تفتح هوامش جدية لتحرك الجماهير وتنظمها. وهو ما كان يمكن استشفافه إبان الأشهر الذهبية لحركة “تضامن” البولونية في أوائل الثمانينيات، وقبل أن تذبل في ظلال القمع البيروقراطي، مثلما سوف نرى بوضوح في ما بعد، مع بدء البيرسترويكا الغورباتشوفية، وبوجه خاص الغلاسنوست التي تلازمت معها، وتركت متنفساً هاماً، للمرة الأولى في تاريخ الاتحاد السوفييتي الستاليني وما بعد الستاليني، للحريات الديمقراطية لأوسع الجماهير، مع انعكاسات ذلك بوجه خاص في ألمانيا الديمقراطية ، التي بدت فيها عام 1989 إرهاصات حقيقية لما رأى فيه ماندل تباشير الثورة السياسية.

ولقد جاء كتاب إرنست، الصادر في ذلك العام بعنوان “الاتحاد السوفييتي إلى أين في ظل غورباتشوف؟”، علاوة على مقالاته العديدة في الصحافة الأممية،والمقابلات معه، ناهيكم عن زيارته لموسكو والمناقشات المتكررة التي أجراها هنـاك مع أوساط عديدة داخل إنتليجنسيا البلد، وحتى داخل الحزب الشيوعي السوفييتي بالذات، لتعطي صورة عن الآمال الكبار التي أثارتها لديه تلك المخاضات الحقيقية لولادة غير مضمونة قطعاً، ولكنه كان يرجح أن تندرج في إطار الثورة السياسية.

وهي ثورة كان يؤكد أنها لا تمت بصلة إلى مشاريع هذا الجناح أو ذاك من البيروقراطية، بل ستستفيد فقط من مناخ الحريات السياسية، التي أطلقتها الغلاسنوست للاندفاع من القاع الجماهيري، في موجة عارمة تفجر في طريقها الغطاء البيروقراطي، وتعيد الاعتبار للديمقراطية العمالية القائمة على التسيير الذاتي ورقابة الشغيلة، والتخطيط الديمقراطي، خالصة إلى النجاح في إقامة سلطة “المنتجين المتشاركين بحرية”، وفك الحجر أخيراً عن عملية البناء الاشتراكي، والبدء الفعلي لاضمحلال الدولة، مع ما يلازم ذلك من ازدهار هائل للحريات وللإبداع الشعبي.

ولكن ما كان يغيب عن بال الرجل، في نشوة التطورات المتسارعة التي رأى الزعيم الكوبي، فيدل كاسترو، أنها تفتح الطريق أمام عودة الرأسمالية، بينما رأى فيها هو مدخلاً إلى الثورة السياسية، نقول إن ما كان يغيب عن باله، مثلما اعترف في ما بعد، في نقد ذاتي واضح، نجد عناصره بوجه خاص في أحد كتبه الأخيرة ، “السلطة والمال”، الصادر عام 1992، إنما هو مدى التخبيل وغياب التسيس الذي أصاب الطبقة العاملة، في ظل القمع البيروقراطي الطويل، في أي من بلدان المنظومة، بحيث حال دونها والعمل كذات ثورية مستقلة قادرة على التماهي مع المشروع الاشتراكي وبالتالي على الانخراط في سيرورة تغيير ثوري.

ولقد جاءت الوحدة الألمانية، في عام 1990، بقيادة برجوازية الشطر الغربي من الدولة المقسمة، ومن ثم انهيار الاتحاد السوفييتي وباقي حلقات المنظومة، ليشكلا مصدراً للإحباط العميق لدى الرجل الذي كان يأمل أن يشهد بعينيه الخطوات الأولى، على الأقل، في المسيرة الرائعة للبناء الاشتراكي الحقيقي، على الكوكب المهدد بالمفاعيل القاتلة لقوانين الربح الرأسمالي.

بعث الأمل

في كتابات ماندل الأخيرة، التي رافقت تلك التطورات وما لازمها من تغييرات لصالح الامبريالية العالمية وهيمنة الاحتكارات ومتعددات الجنسية، حاول أن “يبعث الأمل”، ولكن من دون أوهام، وذلك انطلاقاً من تناقضات الرأسمال العالمي في طوره الراهن، ومن ضمنها التناقض بين الدولة – الأمة ورأس المال المنظم عالمياً، مدافعاً أولاً وقبل كل شيء عن الماركسية بوصفها نظرية تحتفظ براهنيتها، أيا تكن التغيرات الظرفية، مدخلاً لتفسير العالم وتغييره في آن، وثانياً، عن ثورة أكتوبر، التي كتب بخصوصها قبل أربعة أعوام واحداً من دفاتر مؤسسة أمستردام الأممية للبحث والتكوين، التي باتت تحمل اسمه، وذلك بعنوان: “ثورة أكتوبر، انقلاب أم ثورة؟”، مثبتاً طابعها الثوري الجماهيري الصرف، ومستشهداً حتى بكتابات أعدائها آنذاك التي تؤكد ذلك، خالصاً إلى القول في الخاتمة:

” إن التاريخ قاض صارم، ولكنه عادل ينبغي أن نمنحه فقط الوقت اللازم لإنجاز عمله. ففي عام 1810، لا بل في عام 1815، لم يعد ثمة تعاطف كبير مع ثورة 1789 الفرنسية إلا في بعض الأوساط الضيقة جداً. ولكن في عام 1848، لكي لا نقول عام 1889 ، شهد الحكم بصدد هذا الموضوع تبدلاً عميقاً. ونحن على يقين بأن الأمر سيكون مماثلاً بخصوص الحكم على ثورة أكتوبر.

هذا ولقد اعتبر ماندل في تلك الكتابات أن ما سقط في البلدان المنحطة بيروقراطياً إنما هو الستالينية حصراً، التي لم تكن وليدة لا للماركسية ولا للينينية، بل وليدة ثورة مضادة قضى ستالين في سياقها على أكثر من مليون شيوعي. ولكنه أخذ في الوقت نفسه بالحسبان الواقع القاسي جداً، المتمثل في أن الجماهير العادية تماثل بين الاشتراكية والماركسية من جهة، وما جُرِّب على أرض الواقع، من جهة أخرى، مع ما يعنيه ذلك من أزمة ثقة عميقة بالمشروع الاشتراكي.

ولقد اعتبر أن شروط تجاوز أزمة الثقة تلك تتمثل في التالي:

أولاً: عدم إخضاع الدعم الذي يقدمه الاشتراكيون للنضالات الجماهيرية لأي مشروع سياسي، بل مساندة الجماهير في كل معاركها، من دون قيد أو شرط.

ثانياً: الحاجة للدعاوة وتربية الجماهير بخصوص الهدف الكلي، الذي يدمج التجارب الرئيسية وأشكال الوعي الجديد في العقود الأخيرة. “علينا، يقول، أن ندافع عن مثال للاشتراكية محرر بالكامل في كل ميادين الحياة، مثال يقوم على التسيير الذاتي، والدفاع عن حقوق المرأة وضمانها، وحماية البيئة، وتعميم سلام جذري، و ضمان التعددية، ونشر الديمقراطية المباشرة بصورة نوعية. وهو أمر لا يمكن بلوغه إلا بالزوال التدريجي للعمل المأجور، ولقسمة العمل بين من ينتجون ومن يديرون ويراكمون”.

ثالثاً وأخيراً، أن يرفض الاشتراكيون كل ممارسة للاستبدال الأبوي والعمودي.

“علينا التشديد، يقول ماندل، على إسهام ماركس الأساسي في السياسة، المتلخص بقوله إن تحرر الشغيلة سيكون على يد الشغيلة بالذات. لا يمكن أن يكون فعل الدول أو الحكومات، أو الأحزاب، أو قادة معصومين عن الخطأ، أو خبراء من أي نوع. إن هذه الأجهزة مفيدة، لا بل لا غنى عنها على طريق التحرر، ولكنها لا تستطيع أن تفعل أكثر من مساعدة الجماهير على التحرر، لا الحلول محلها في هذه العملية .

التفاؤل الدائم

حتى بعد انهيار الاتحاد السوفييتي بعام تقريباً، التقيت الرفيق ماندل في منتدى لقوى وشخصيات يسارية من قارات عدة انعقد في ضواحي موسكو، حول موضوع “الوجوه الاجتماعية والاقتصادية للديمقراطية في المجتمع المعاصر”. وقد عاد فعبر هناك عن إصراره على التفاؤل، وإن يكن بات مشروطاً. “أنا متفائل، قال، في أن الاشتراكية لا بد ستأتي، ولكن بعد 20 أو 30 ، أو 40 عاماً، حيث إن انتصارها، على المدى القريب، لم يعد مضموناً. ستأتي لأن الخيار لم يعد حتى بين الاشتراكية والهمجية، كما كان الأمر في النصف الأول من هذا القرن، بل بات بينها وبين استئصال الجنس البشري، إذا نظرتم إلى الكوارث التي تلوح في الأفق. وهي كوارث ربما أمكن تأجيلها، ولكن يستحيل استبعادها بالكامل. والضمانة الوحيدة لمنعها هي انتصار فعلي تحققه قضية الاشتراكية على الصعيد العالمي”.

وفي مؤتمر الأممية الأخير، في حزيران / يونيو 1995، كان مريضاً. فلقد أصيب بانسداد بالشرايين في كانون الأول/ ديسمبر 1993، وبات مرضه يتفاقم. وبعد أن كان ينتقل إلى كل بقاع الأرض، للتباحث مع الثوريين في قضايا التحرر والاشتراكية، جاءت الأممية هذه المرة إليه: عقدت مؤتمرها الرابع عشر في بلدة قريبة من مكان سكنه. ولقد تدخل مراراً بصوته الجهوري، المشبع بالحرارة والحماس والحيوية، في كل شاردة وواردة من القضايا العامة للثورة وإعادة البناء، إلى التباينات داخل بعض الفروع، إلى قضايا تنظيمية متنوعة أخرى، كضرورة عودة رفيقة فرنسية إلى اللجنة التنفيذية، وانتخاب رفاق من أوروبا الشرقية إلى اللجنة عينها.

كان المؤتمر ينعقد تحت شعار كبير يرتفع فوق منصته هو شعار التضامن مع كوبا وفك الحصار الأميركي عنها، وأذكر أني حين قدمت شخصياً مشروع قرار بخصوص بدء حملة عالمية تشارك فيها كل الفروع لأجل رفع الحصار عن الشعب العراقي، بدأتُه بإدانة شديدة لنظام البلد، عقب الرفيق إرنست، معتبراً أن الإدانة الواردة ليست بالحزم الكافي، ولا سيما بسبب قصف صدام لكردستان العراقية بالقنابل الكيماوية، التي قضت على الآلاف من سكان مدينة حلبجة.

هذا الحس الهائل ضد أي اضطهاد أو قمع أو استغلال لأي كان، في أي مكان من العالم، ضد العنصرية، وضد التمييز الجنسي، وكل أشكال التمييز الأخرى، التي تخل بمبدأ المساواة بين الناس، هذا الحس كان لدى ماندل في أقصى توهجه، حتى على بعد أسابيع قليلة من نهايته.

في 5 آب / أغسطس 1895 ، كانت وفاة فريدريك إنجلز، رفيق ماركس وشريكه الحميم في بلورة تلك النظرية التي باتت تعرف بالماركسية، والتي لن تنفك تملأ الدنيا وتشغل الناس، وكان تمنى أن تكون جنازته بسيطة، وأن يحرق جثمانه ويلقى برماده في البحر على الشاطئ الإنكليزي بالضبط، بعيداً من وطنه الأم، ألمانيا.

وبعد أقل من مئة عام بأيام، وبالتحديد في 20 تموز / يوليو 1995 ، توفي إرنست ماندل. وقد أوصى من جهته بحرق جثمانه، هو الآخر، ونقل رماده من بلده بلجيكا، إلى مقبرة بير لاشيز بباريس، وبالضبط إلى حائط المتحدين، الذي أعدمت البرجوازية الفرنسية أمامه بالرصاص عدداً كبيراً من عمال باريس، الذين شاركوا في كومونة 1871.

ولا عجب، فهؤلاء الأمميون موطنهم الأرض، لا هذه البقعة منها أو تلك، وقضيتهم الإنسان في أي مكان يكون.

في الوصية التي تركها إرنست، واصفاً فيها الأممية بأنها “معنى حياته ” ، طلب أن تنقش على ضريحه هذه الكلمات:

يا شغيلة كل العالم اتحدوا في الأممية الرابعة “

وقد يقول البعض إنه التفاؤل الذي لازم حياته، مذ نجح في الفرار مراراً ثلاث من معتقلات النازيين، يعود ليطل برأسه من رغباته الأخيرة. وهم محقون بالتأكيد، ذلك أنه على الرغم من المرارة العميقة التي شعر بها بعد اندثار أمله في انتصار وشيك للثورة السياسية، ظل حتى اللحظة الأخيرة يثق بأن العالم، المهدد بالزوال، إذا لم يقم مقام الوضع الراهن نظام عقلاني إنساني شامل، سوف يجد أكثر من سبب يحول بينه وبين أكبر انتحار في التاريخ، أو المزيد من الدقة في …. اللا تاريخ !!

أليس هو القائل في ختام مقابلة أعطاها لمجلة الأزمنة الحديثة السوفييتية، قبل عام واحد من تفكك الاتحاد السوفييتي : ” ما من مجزرة أو تعذيب، أو قمع، أو دِعاوة، أو انجذاب إلى نمط استهلاكي، ما من هزيمة، أو خيبة، أو فشل مؤقت، قادر على التغلب على جهد رجال ونساء شجعان لتحقيق الأمر الأخلاقي، الذي صاغه ماركس شاباً : ” إلغاء كل الشروط الاجتماعية، التي يكون فيها الكائن البشري مهاناً ومستعبداً ومتروكاً ومحتقراً. لقد كانت جريمة نوسكي وستالين تكمن في التضحية بهذا الأساس الخاص بالاشتراكية، لصالح اعتبارات تتعلق بسياسة واقعية إدارية وقحة. فإذا عادت الاشتراكية إلى إلهامها الأصلي، ستصبح عصية على القهر “.

لقد عاش إرنست ماندل حياته الواعية كلها يكافح لأجل أن يبلغ البشر هذا الأفق، الذي كان يقترب أو يبتعد، وفقاً للظروف والتقلبات، ولا ريب في أن مصلحة الغالبية العظمى من سكان هذا الكوكب يُفترض أن تصب كلياً في منظور كهذا، وأن يبتعد بالتالي، وبصورة حاسمة، شبح الموت الكوني المهدِّد.

===

[*] الكلمة التي ألقيتها في الندوة التي انعقدت يوم الثلاثاء 27 شباط / فبراير 1996 ، في دار الندوة، تكريماً لذكرى المفكر والمناضل الأممي، ارنست ماندل، وتكلم فيها أيضاً كل من الأساتذة فواز طرابلسي وخالد عايد وسناء أبو شقرا . وقد نشرت في ما العمل؟ ، العدد 183 ، ربيع العام 1996.

(1) صدر مترجما الى العربية، في دار الحقيقة، بعنوان “النظرية الاقتصادية الماركسية”، وذلك في جزأين، في النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي.

==================

 المصدر:   داغر كميل: ينبغي أن نحلم ، نصوص في سياسة هذا العالم، التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 2010، ص.355 الى 364

شارك المقالة

اقرأ أيضا