من أجل تجاوز مغرب بسرعتين: مغرب الرأسماليين ومغرب الكادحين- ات
مرة أخرى يؤكد خطاب الدولة الرسمي على أن “مستوى التنمية الاقتصادية والبنية التحتية لم تساهم في تحسين ظروف عيش المواطنين، من كل الفئات الاجتماعية، وفي جميع المناطق والجهات”. ليست هذه أول مرة يجري فيها إقرار بهذا الواقع من طرف رأس الدولة. ففي عز حَراك الريف، في مناخ القمع الأهوج الذي واجهته به الدولة، كان تردَّد نفس الخطاب: “إذا كنا قد نجحنا في العديد من المخططات القطاعية، كالفلاحة والصناعة والطاقات المتجددة، فإن برامج التنمية البشرية والترابية، التي لها تأثير مباشر على تحسين ظروف عيش المواطنين، لا تشرفنا ، وتبقى دون طموحنا”، وقبل ذلك، في سنة 2014، طُرح تساؤل “أين الثروة؟ وهل استفاد منها جميع المغاربة، أم أنها همت بعض الفئات فقط؟”.
لهذا الإقرار وظيفة سياسية مزدوَجة: التهليل لـ”منجزات اقتصادية كبرى” يعود فيها الفضل إلى الملكية، وتحميل مسؤولية عدم انعكاسها على الأوضاع الاجتماعية لحكومة الواجهة.وفي نفس الوقت حرصٌ على ضمان تجديد هذه الواجهة المؤسسية، التي تقي الملكية شرَّ الغضب الشعبي، ومن هنا تركيز خطاب العرش الأخير إجراء الانتخابات التشريعية المقبلة في موعدها الدستوري والقانوني العادي.
إن فكرة النمو الاقتصادي الذي لم ينعكس بعد إيجابا من الناحية الاجتماعي، هيالفكرة ذاتها التي سادت مناقشات لجنة إعداد ما سمي “نموذجا تنمويا جديدا”، مفادها أن الاختيارات الاقتصادية سليمة، لكن نتائجها الاجتماعية غير مُرضية. ثم يُعزى هذا كله إلى كيفيةتنفيذ تلك الاختيارات الاقتصادية.الأمر الذي يستدعي مجرد تدخل تقني/ سياسي لتوجيه “المؤسسات” لتطبيق “التعليمات المولوية”ـ كي تتمكن من ضمان انسياب الثمار الإيجابية لتلك الاختيارات صوب “المواطنين ومختلف المناطق والجهات”.
لكن، الواقع ينطق بعكس ذلك تماما. فغرق العالم القروي في لجة البؤس والفقر والإقصاء، والبطالة الجماهيرية، والحصيلة الكارثية لمنظومة التربية والتعليم، وحالة الصحة العمومية البائسة، وانخفاضقدرة الشغيلة والكادحين- ات الشرائية، كلها نتائج لتلك الاختيارات الاقتصادية/ التنموية التي تُقررها المؤسسة المَلكية (بتعاون مع مؤسسات الرأسمال الدولي) وتنفذها واجهات حكومية تتناوب عليها أحزاب ببرنامج واحد: برنامج المَلك؛ وفي التحليل الأخير نتاجُ رأسمالية تابعة وخادمها الاستبداد السياسي.
ما جوهر تلك الاختيارات الاقتصادية؟ إنها إتاحة كل الشروط الملائمة للرأسمال (المحلي والأجنبي) كي يتمكن من الاستثمار، وعدم مضايقته بالسياسة الضريبية والجبائية، وحفزه عبر المالية العمومية وتوفير العقار العمومي (وكل المغريات الواردة في ميثاق الاستثمار 2022) واليد العاملة المسترخَصة والمطوَّعة. والنتيجة المأمولة- والمضمونة حسب الخطاب الرسمي- هو أن الرأسمال بعد تحقيقه لنموه سيضمن تدفق/ انسياب المكاسب الاجتماعية على بقية “الفئات الاجتماعية”.
يُكذب الواقع هذا الادعاء، كما دحضته النظرية. فالرأسمال يستثمر لإنماء أرباحه، وليس “لتنمية الوطن”. تقوماستراتيجية الدولة المغربية، ووراءها الرأسمال المحلي،على ضمان شروط تراكم الرأسمال المحلي بما لا يتصادم مع حصته من قسمة العمل الدولية. لذلك فإن ما يشاع من “نهضة صناعية غير مسبوقة” و”بناء اقتصاد أكثر تنوعا”، ليسا إلا تجميلا لواقع يستفيد منه الرأسمال المحلي وحده. فالقطاعات الجديدة، ويُطلق عليه المهن العالمية للمغرب (مثل السيارات والطيران والطاقات المتجددة)، كلها مدفوعة بالاستثمار الأجنبي وموجَّهة للتصدير، وتخدم الأهداف الاستراتيجية للرأسمال الأجنبي ذاك: البحث عن مواقع استثمار قليلة الكُلفة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وهو ما تضمنه الدولة بالمغرب، ويُطلق عليه “الأمن والاستقرار السياسي والمؤسسي، الذي ينعم به المغرب”، وإلى جانب ذلك ضمان حصة الرأسمال الكبير المغربي من هذه الكعكة.
ثمار هذه التنمية الاقتصادية تصب في جيوب المستثمِرين الأجانب، الذين يضمن لهم ميثاق الاستثمار ترحيل أرباحهم بدون قيود إلى دولهم الأم، وفي الآن ذاته يستفيد الرأسمال المحلي الكبير عبر شراكته مع أولئك المسثمِرين. أما الشغيلة المغاربة فنصيبهم أجور بؤس وقمع معمَّم للعمل النقابي، ومنه في المناطق الصناعية الحرة.
هذا الحرص على استقطاب الاستثمار الأجنبي، الذي تعتبره الدولة قاطرةَ تصنيع البلد ونقل التكنولوجيا، هو الذي يجعل مناطقا شاسعة من البلد، وبالأخص المناطق القروية، غارقة في البؤس والفقر. فتلك المناطق ليست مغرية للاستتثمار الأجنبي، ولا يجري مدها ببنية تحتية إلا في الحالة التي ستسهل فيها نقل ثرواتها المعدنية من طرف المستثمِرين الرأسماليين. ويعيد هذا الواقع إنتاج نفس التقسيم الاستعماري القديم بين “مغرب نافع” وآخر “غير نافع”، يسيران بسرعتين متفاوتتين. بل الأصح أن مغرب الكادحين يجري سوقه بسياط الدولة وإكراه الموت جوعا ليضمن سرعة تدفق الأرباح في أرصدة الرأسماليين، محليين وأجانب.
هذا التقسيم لا يخص العالم القروي من جهة والعامل الحضري من جهة أخرى. فالفقر والإقصاء الاجتماعي والبطالة توجد في المدن كما في القرى. تريد دعاية الدولة نشر فكرة أن الانقسام الموجود، محضُ انقسام مجالي، بين مجال مديني محظوظ، ومجال قروي لم يُشمل بعدُ بثمار التنمية الاقتصادية. وفي الحقيقة فالاستقطاب طبقي/ اجتماعي، وما التفاوتات المجالية/ المناطقية، سوى نتيجة فرعية لذلك الاستقطاب.
كان حلمُ المغاربة منذ فجر الاستقلال السياسي تصنيعٌ للبلد يساهم في تحديثه، ويضمن تطورا منسجما لكل مجالاته الجغرافية، إلا أن المَلكية رعت عملية إنماء رأسمالي استفادت منها البرجوازية الزراعية وقطاعات رأسمالية مدينية فضَّلت الاستثمار في قطاعات الربح السريع والمضمون (المضاربة العقارية، الخدمات…). إن الخضات النضالية التي يشهدها العالم القروي منذ نهاية تسعينيات القرن العشرين، وبلغت ذروتها مع حراكي الريف وجرادة، ونشهد انبعاثا جديدا لها مع حراك آيت بوكماز، تعبير عن استياء سكان العالم القروي من تلك الاستراتيجية الاقتصادية المستمِرة، باسم تنمية البلد، منذ خمسينيات القرن العشرين.
تستفيد الدولة من عزلة الخضات النضالية المنبعثة من العالم القروي، أي نضالات صغار المالكين الفلاحين، عن تلك التي تجري بالعالم الحضري، أي نضالات الطبقة العاملة (سواء في القطاع الخاص أو القطاع العمومي). تُعتبر الحركات الشعبية ردا جماعيا تبحث عن رغبة موحَّدة في بديل، لكن تلك الحراكات محكومة بطابع محلي وجزئي بالنظر لسببين رئيسيين: أولهما غياب منظمة نضال على صعيد البلد توحد النضالات وترسم لها افقا سياسيا، والثاني، أن هذا الرد الشعبي لم يحظ بالاهتمام الواجب من طرف قوى اليسار، لنقص عدته الفكرية السياسية في التعامل مع ما يعتمل طبقيا، ومغالاته في النظر الى الواقع بمنظار انتخابي موسمي.
هذا ما يفسر مآلات النضالات بكلا المجالين القروي والحضري. فقط عندما تتمكن الطبقة العاملة بالمدن من توجيه كفاحات صغار الفلاحين القرويين، وضمان تحالف الطبقتين، سيُقضى على مغرب السرعتين، أي مغرب الرأسماليين ومغرب الكادحين- ات، ليباشَر في اختيارات اقتصادية تخدم السوادَ الأعظم من الشعب، وليس أرباح قلة قليلة من الرأسماليين المحليين وحلفائهم الأجانب.
لنبنِ القوة السياسية القادرة على لف كل الشعب العامل حول بديل اجتماعي- اقتصادي للرأسمالية التابعة وخادمها الاستبداد السياسي. قوة من شأن تعاونٍ رفاقي جدي بين قوى اليسار أن يُسهم في بنائها، ويفتح الباب مشرعا أمام تحقيق أحلام المغاربة الكادحين- ات المؤجَّلة منذ أكثر من نصف قرن.
اقرأ أيضا