العودة إلى الثورة الشيلية
مقابلة مع فرانك غوديشو * Franck Gaudichaud
اليوم تحل ذكرى انقلاب بينوتشي في التشيلي الثانية والخمسون ، ما الذي يجب أن نحتفظ به عن الثورة التشيلية؟ ما الدروس الواجب استخلاصها منها؟
فرانك غوديشو، مؤلف كتاب ”اكتشاف الثورة التشيلية“ الصادر عن دار النشر Éditions sociales، ، أستاذ تاريخ أمريكا اللاتينية وحضارتها في جامعة تولوز جان جوريس، ومناضل في الحزب الجديد المناهض للرأسمالية.
• : عندما نفكر في تشيلي في سبعينيات القرن الماضي، أول ما يتبادر إلى الذهن هو صورة أليندي و إمكان ”طريق انتخابي سلمي إلى الاشتراكية“، أو ذكرى الانقلاب الرهيب الذي قاده بينوشيه وأنهى تجربة حكومة الوحدة الشعبية (UP). في عنوان كتابك الأخير المخصص لهذه الفترة، الصادر عن دار Éditions sociales في سلسلة ”Découvrir“، دعوة مثيرة للاهتمام لإعادة استعراض فترة 1970-1973، اخترت تعبير ”الثورة التشيلية“ للإشارة إلى هذه الفترة. لماذا اخترت هذا التعبير؟
فرانك غوديشو: بالضبط، بعد مضي خمسين سنة على الانقلاب، كانت الفكرة إعادةَ اكتشاف هذه التجربة بما هي سيرورة ثورية، وإظهار مدى ما كان الانقلاب في الواقع النتيجة المأساوية لفترة ألف يوم من التعبئة والنضال والمناقشات الإستراتيجية، وخلق أشكال مختلفة من السلطة الشعبية، ومقدرة القاعدة الشعبية على التدخل في الساحة السياسية، وتحريك الخطوط، بما في ذلك مواقف اليسار البرلماني وحكومة أليندي. كانت هذه الألف يوم حقبة تسييس هائل، كما يمكن أن نرى بجلاء تام في فيلم معركة تشيلي لـ باتريسيو غوزمان، لحظة إبداع شعبي في المجالات الفنية والثقافية والإعلامية، ولكن أيضًا في مجال التنظيم لمواجهة المعارضة والأوليغارشية والبرجوازية الانقلابية وجميع الرجعيين.
كان القصد عودةً إلى تلك الفرحة، تلك الانتفاضة التي أثارتها انتخاب أليندي. وراءه، ثمة حركة أوسع بكثير، يغذيها وينظمها مناضلون سياسيون، وهو ما أطلق عليه المؤرخ بيتر وينPeter Winn اسم “الثورة من أسفل”. عوض الوقوف عند نظارات بينوشيه السوداء، وعنف الانقلاب والقمع المضاد للثورة، وعند سنوات الديكتاتورية، كانت الفكرة العودةَ إلى القوة الزلزالية لهذه التحركات الممكن نعتها بالثورية. هذا أصل عنوان ”الثورة التشيلية“، حتى لو لم تكن ثمة ثورة من وجهة نظر التاريخية دقيقة. ثمة سيرورة ثورية لم تجد مخرجًا ثوريًا. تم سحقها قبل أن تتجاوز حدود وعقبات المسار التشيلي.
• : في تشيلي 1970-1973 الف يوم هزت العالم Chili 1970-1973. Mille jours qui ébranlèrent le monde (2013)، الذي يعد أحد أكثر الدراسات شمولاً عن تلك الفترة، وكذلك في السلطة الشعبية والكوردونات الصناعية، شهادات حول الحركة الشعبية الحضرية Poder Popular y Cordones industriales. Testimonios sobre el movimiento popular urbano (2004)، ومرة أخرى في كتيب اكتشاف الثورة التشيلية، تشدد على أن الكوردونات الصناعية كانت بلا شك أكثر المنظمات تقدماً خلال تلك الفترة، من وجهة نظر برامجية وتحررية، ولكنها في الواقع كانت بعيدة كل البعد عن أن تكون «سوفييتات على الطريقة التشيلية». بالإضافة إلى الصورة الشاملة التي ترسمها عن منطقة سانتياغو خلال فترة 1972-1973 التي شهدت نشأتها وتطورها، هل كانت ديناميتها مع ذلك دينامية تحول إلى سلطة بديلة ممكنة، ومصدر لـ«اشتراكية من أسفل»؟
فرانك غوديشو: لا شك أن تجربة الكوردونات الصناعية تمثل حقًا أحد الكنوز الأساسية، وأحد أكثر أشكال السلطة الشعبية والعمالية راديكالية واكتمالًا في تلك الحقبة. تجسد الكوردونات الصناعية شكلاً من أشكال التنسيق الإقليمي والطبقي في الشركات على طول الطرق الرئيسية المحيطة بمدينة سانتياغو، بوجه خاص. وقد ظهرت في المقام الأول من منظور دفاعي، في مواجهة هجوم أرباب العمل في أكتوبر 1972، وعرقلة الاقتصاد من قبل البرجوازية والتدخل الأمريكي. كما أن الكوردونات الصناعية هي أيضا مقدرة على مساءلة حدود الطريق الشرعي إلى الاشتراكية، مع سعي إلى تجاوز الائتلاف اليساري ودفعه قدما، الأحزاب منه وكذلك النقابة العمالية (CUT)، بقصد إضفاء طابع جذري على الإصلاحات التي اقترحها أليندي من فوق، واقتراح منظور طريق تشيلي نحو الاشتراكية الذي طالب به المناضلون العماليون النقابيون الذين نظموا تعبئة في هذه الكوردونات الصناعية.
كانت هذه الكوردونات بعيدة كل البعد عن كونها «سوفييتات على الطريقة التشيلية». فهي لم تقطع عن الدولة. وظلت بشكل أساسي بقيادة أعضاء الجناح اليساري للحزب الاشتراكي الذي ينتمي إليه أليندي، ولكنها ضمت أيضًا مناضلين من حركة اليسار الثوري (MIR) [1] وقطاعات من اليسار المسيحي والمسيحيين الثوريين. اعتبر معظم مناضلي الكوردونات الصناعية حتى النهاية أن حكومة أليندي كانت”حكومتهم”، وأن “الرفيق الرئيس” كان “رئيسهم”، حتى لو كانوا في الآن ذاته ينتقدونه بشدة، لا سيما في «رسالة الكوردونات الصناعية» الشهيرة المؤرخة 5 سبتمبر 1973، والتي كتبها جزئياً الجناح اليساري للحزب الاشتراكي.
تُتساءل هذا الوثيقة عن كل حدود أليندي وسياسته، ورفضه الاعتماد على السلطة الشعبية، ودعوته إلى تسليم المصانع بالتحالف مع الجنرال براتس والوزير الشيوعي أورلاندو ميلاس [2]. سعى أليندي بكل قوته وحتى النهاية للتفاوض مع الديمقراطية المسيحية من أجل الحصول على متنفس، على فرصة للتنفس المؤسسي، لكنه وجد نفسه في مأزق، دون أن تُفلح الكوردونات الصناعية، برغم راديكاليتها وقدرتها على مسائلة في حدود «الطريق التشيلي»، في تجسيد بديل من أسفل يكون واسعًا وواضحًا بما يكفي لإيجاد بديل ممكن في مواجهة تهديدات الانقلاب، وفي مواجهة منظور شرعي معطل تمامًا منذ بداية عام 1973، وبشكل أكبر بعد شهر يونيو 1973 ومحاولة انقلاب تانكازو [3].
• تجاوزت المناقشات حول الوحدة الشعبية حدود تشيلي بشكل كبير، وأثرت بشدة على اليسار، لا سيما في فرنسا. كانت هذه المناقشات حول تشيلي في عهد أليندي، حول ”طرق مختلفة للوصول إلى الاشتراكية“، ولا تزال، في حد ما، ذات أهمية معينة، برغم الاختلافات الكبيرة بين البلدين، وبرغم المسافة التاريخي عن السيرورة. كيف يمكن تفسير ذلك؟
فرانك غوديشو: من جانبي، لا زلت مقتنعا بالفائدة الكبيرة التي تكتسيها العودة إلى تاريخ تجرية تحالف الوحدة الشعبية وتشيلي في سنوات 1970 تلك. إنها حركة ثورية لا يزال لديها الكثير مما تمنحنا اليوم من حيث التفكير التاريخي، ولكن أيضاً من حيث التفكير النضالي، حول الآفاق الاستراتيجية للطرق الممكنة للتحرر ما بعد الرأسمالي والمناهض للإمبريالية.
يجب أيضًا استخلاص الدروس من تجارب أخرى كثيرة. على سبيل المثال، سيمر قريبًا خمسون عامًا على تجربة الثورة البرتغالية. لكن تشيلي لا تزال تلقى صدىً لأن جزءًا كبيرًا من اليسار العالمي قد تماثل مع هذه التجربة الأصيلة، في خضم الحرب الباردة، على بعد مسافة قصيرة من الثورة الكوبية ولكن أيضًا من الإمبريالية الأمريكية. في فرنسا على وجه الخصوص، كان هناك تماثل قوي مع النموذج السياسي ”الحزب الاشتراكي – الحزب الشيوعي – النقابة العمالية الكبرى“ الذي بدا أنه يلقى صدى، حتى لو كان نوعًا من انعكاس مشوه لما كان يحدث في فرنسا خلال سنوات 1970 . وذلك أيضًا بسبب وجود يسار ثوري، وهو حركة اليسار الثوري MIR، برغم أن اليسار الثوري الفرنسي لم يكن غيفاريًا في فرنسا، بل بالأحرى تروتسكيًا أو ماويًا.
استمر هذا النمط في التردد حتى يومنا هذا بسبب وجود 9000 منفيا سياسيا تشيليا استقبلتهم فرنسا. استمروا في ممارسة السياسة وتحفيز التضامن من فرنسا وأوروبا. وبذلك أنعشوا ذاكرة تجربة تشيلي في عهد أليندي حتى يومنا هذا. من ناحية أخرى، لا يزال صدى تشيلي يتردد على صعيد دولي مع الأحداث الأخيرة التي شهدها البلد. هناك تماثل قوي، برغم البعد الجغرافي والتاريخي، مع قوة الحركات الشعبية في تشيلي، لا سيما في الفترة الأخيرة مع قوة الحركة النسوية والانفجار والتمرد في العام 2019.
• الانفجار“ الكبير الذي شهدته تشيلي في العام 2019 ، و أشرت إليه، هز أركان النظام التشيلي، وريث الديكتاتورية، أركان لم تقم ”الحكومات الديمقراطية“ التي تولت السلطة بعد تنحي بينوشيه في عام 1990 بتغييرها هيكليًا. بعد ذلك، بعد عام 2021، شهدنا عودة قوية إلى الساحة السياسية التشيلية ليمين انتقامي ومُحن إلى الديكتاتورية. كيف تفسر هذا ”الماضي الذي لا يمضي“ وما هي المضادات،على صعيد الذاكرة والسياسة، التي تمكنت الحركات الشعبية واليسار الثوري في تشيلي من صياغتها لردع هذا الشبح؟
فرانك غوديشو: مرة أخرى، المفارقة أو المأساة التشيلية هي أنه في مواجهة الانفجار ومقدرة الطبقات الشعبية على التدخل من أسفل، والتي رأيناها تتجلى في سياقات تاريخية مختلفة ووفقًا لمنطق التعبئة والتأطير والمواقف السياسية والتسييس المتميزة تمامًا في عام 2019 مقارنة بسنوات 1970، هناك مع ذلك صدى: في عام 1973، كانت هناك ثورة مضادة، ومنذ عام 2021، هناك دعوة للعودة إلى النظام من منظور يمين متطرف مُحن إلى الديكتاتورية.
في تشيلي الحالية، يتأكد مرة أخرى أن قطاعًا من المجتمع التشيلي لا يزال متأثرًا بالدعوات إلى النظام، وبكاثوليكية متطرفة ومحافظة وأصبحت الآن إنجيلية، وبالحنين إلى الفترة الاستبدادية، وبيمين معادٍ بشدة للشيوعية. ويدعم هذا اليمين طبقة مهيمنة، برجوازية منجمية وصناعية وتجارية بالغة الرجعية وقادرة على فعل أي شيء لسحق من قد يهدد مصالحها.
ومن المفارقات أن ظهور خوسيه أنطونيو كاست José Antonio Kast، المرشح اليميني المتطرف المتصدر الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة في نوفمبر 2021، والجارية الرياح بما تشتهي سفنه، هو بالتأكيد رد فعل من قطاع من الطبقة المهيمنة، ولكن أيضًا من بعض قطاعات الطبقة الوسطى. حتى في أوساط الطبقات الشعبية، لا يزال البعض حتى يومنا هذا متأثرا بهذه الدعوة إلى النظام وبهذه القوى الرجعية والمناوئة للديمقراطية. وقد سمح بذلك الاستمرارية الكبيرة التي كانت سائدة منذ عام 1990 بين استبداد الديكتاتورية والنيوليبرالية في الفترة التي تسمى بالديمقراطية. كما سمح بذلك سيطرة منتصري عام 1973 على الاقتصاد والإعلام والمؤسسات في تشيلي الحالية. فهم لا يريدون أن يتم تحدي ثروتهم وسيطرتهم من قبل شباب لم يعرفوا الدكتاتورية وأصبحوا الآن مستعدين للتعبئة في سياقات أقل تنظيماً وهيكلة من الماضي.
لذا، فإن أجساما مضادة رجعية هي القائمة، في سياق ضعف بالغ لليسار الثوري، وحيث يبدو اليسار الحكومي، المتحالف مع الحزب الشيوعي، مُحيَّدا تماماً بسبب عناصره الاجتماعية الليبرالية، ويأقليته في البرلمان، وعدم قدرته على حشد قاعدة اجتماعية. كان ثمة، في حقبة جائحة، وأزمة تضخمية، وتراجع الحركات الشعبية بعد فشل العملية التـاسيسية في عام 2022، تحدٍ يتمثل في إعادة البناء. وهذه المرة، يطرح هذا التحدي من أسفل، حول التجمعات الإقليمية، ونقابات النضال الطبقي، والقوة الاستثنائية للحركة النسوية ونضالات شعب المابوتشي. وهذا يفتح آفاقاً للمطالبة بأهداف أكتوبر 2019، ولكن للذهاب إلى أبعد من ذلك. ويمكن أن تستند هذه الرؤية السياسية إلى «الذاكرة التي لا تزول»، ذاكرة الكوردونات الصناعية والديمقراطية الراديكالية في عهد الوحدة الشعبية، بالإضافة إلى كونها ما بعد رأسمالية وأممية، والآن باتت أيضًا بالضرورة إيكولوجية أو بيئية راديكالية.
اجرى المقابلة سوزان إيكاري وجان بابتيست توماس
المصدر : https://www.revolutionpermanente.fr/Revenir-a-la-revolution-chilienne
اقرأ أيضا