تفكيكٍ سريع لخطاب «انخفاض قيمة الديمقراطية»: قراءة نقدية لطرح جلبير الأشقر.
“ينشر موقع جريدة المناضل-ة هذا المقال كمبادرة لتوسيع دائرة النقاش والتفكير حول الموضوع الذي يتناوله. الأفكار والآراء الواردة هنا تعبّر حصرًا عن وجهة نظر كاتبها، وتهدف إلى إثراء الحوار وإثارة التفكير النقدي البنّاء. نرحب بجميع تعليقاتكم وآرائكم المتمحورة حول الموضوع”.
مقال جلبير الأشقر على الرابط التالي: نحن والديمقراطية: تأمّل في حالتي سوريا وتونس – المناضل-ة
*************
تفكيكٍ سريع لخطاب «انخفاض قيمة الديمقراطية»: قراءة نقدية لطرح جلبير الأشقر.
بقلم: رياض الشرايطي / تونس
لا يمكن لأي قراءة جادّة لمسألة «تراجع قيمة الديمقراطية» في المخيال الشعبي العربي أن تبدأ من تعريفات ثقافوية أو من استنتاجات انطباعية تربط المزاج الشعبي بحوادث سياسية متقطّعة، ولا أن تكتفي بالقول إنّ التجارب الديمقراطية كانت ضعيفة أو مسكونة بالفساد أو مخترقة من النخب غير الكفؤة. هذه مقاربة سطحية، حتى عندما تأتي بصيغة أكاديمية رزينة كما في نصّ جلبير الأشقر. فالمشكلة ليست في أنّ الديمقراطية «هجرت» أو «أُحبطت»، بل في أنّ النموذج الذي عُدرض على الناس باعتباره ديمقراطية لم يكن ديمقراطية أصلا، بل امتدادا لنفس البنية الاقتصادية الطبقية التي تصنع الاستبداد والإفقار. ومن هنا ينبع النقد الثوري الحقيقي: ليس من «جلد الذات» أو «عتاب الشعوب»، بل من تفكيك طبيعة الدولة وقواعد الاقتصاد السياسي.
إنّ القراءة التي قدّمها الأشقر، رغم قوّتها في دحض الخطاب الاستشراقي، تظلّ قراءة تنسب «خسارة الديمقراطية» إلى فقدان الثقة أو فشل التجربة، لا إلى البنية العميقة للرأسمالية المحيطية التي خنقت فيها هذه الديمقراطية منذ لحظتها الأولى. وهذا ما يتطلّب فتح النقاش على مستوى بنية السلطة، معنى التمثيل، دور الدولة، هشاشة الطبقات الوسطى، والارتباط العضوي بين الديمقراطية الليبرالية والنيوليبرالية الاقتصادية.
أولا: الديمقراطية الليبرالية في السياق العربي ، نموذج بلا قاعدة اجتماعية:
حين يتحدث الأشقر عن «عشر سنوات من الديمقراطية» في تونس فإنّه يتحدث عن عقد سياسيّ بلا حامل اجتماعي. لقد نصب البرلمان في بلد لم يخرج من النظام القديم بل أعاد إنتاجه عبر مسارات «الانتقال» التي صيغت بتدخل مباشر من المؤسسات المالية الدولية، أي نفس القوى التي نظّرت لخفض الدعم، الخصخصة، تحرير الأسعار، وتقييد دور الدولة الاجتماعي. بعبارة ماركسية صريحة: كانت الديمقراطية الليبرالية في تونس شكلا سياسيا فوقيّا بلا محتوى طبقيّ تقدّمي. فالشعب لم يشارك في صياغة قواعد اللعبة، بل جرى حشره في نظام رأسماليّ متحلّل، منهك بالديون، مقاد من تكنوقراط، يطلب منه أن «يصوّت» في حين تُدار ثروته خارج أي رقابة.
هكذا تصبح الديمقراطية مجرّد قشرة، بينما يبقى جوهر السلطة الاقتصادية مغلقا كما كان زمن بن علي. هذا ما يجعل الاستياء ليس مجرد «خيبة» بل وعيا طبقيا غريزيا بأنّ السلطة الحقيقية لا تغيّرها الانتخابات.
الأشقر يرى في التجربة التونسية «إحباطا» شعبيا. لكن الإدراك الثوري يراها اكتشافا: اكتشاف أن الديمقراطية الليبرالية ليست إلا وسيلة لإعادة ترتيب الطبقة السياسية دون المساس بعلاقات الإنتاج ولا بملكية الثروة. وهذا ما يجعل نقد الديمقراطية الليبرالية ضرورة، لا خيانة للديمقراطية نفسها.
ثانيا: الديمقراطية ليست حيادا سياسيا ، إنّها شكل من أشكال السلطة الطبقية:
غياب هذا الوعي في نص الأشقر يفتح الباب لتفسير «الانحسار الشعبي» بطريقة تبرّئ النموذج الليبرالي نفسه. فالتحليل يفصل بين «السياسي» و«الاقتصادي»، وكأن الديمقراطية يمكن أن تنجح في ظل منظومة نيوليبرالية تبتلع الدولة من الداخل. لكن الديمقراطية، في أصلها، ليست «إجراءات انتخابية» ولا «تعددية أحزاب»، بل هي إعادة توزيع السلطة، أي نقل القرار من طبقة إلى أخرى. هذا المعنى غائب تمامًا في التجربة العربية وغائب نسبيًا في قراءة الأشقر.
إنّ ما حدث في تونس لم يكن فشل الديمقراطية، بل نجاح النموذج النيوليبرالي في تجويفها. فالتجربة التي يتحدث عنها الأشقر لم تكن ديمقراطية اجتماعية، بل ديمقراطية سوق، ديمقراطية محكومة بحدود اقتصادية صارمة مرسومة من المؤسسات الدولية، ديمقراطية يمكن أن تسمح بتغيير الوزراء والرؤساء ولكنها تمنع الاقتراب من المصارف، الديون، السيادة الاقتصادية، أو من مصالح الكومبرادور المحلّي. لذا، لم يكن سقوطها مفاجأة للشعب، بل نتيجة طبيعية لانفصالها عنه.
ثالثا: سوريا… ليست مسألة «بدائل» بل مسألة انهيار الدولة الطبقية:
في الحالة السورية، يذهب الأشقر إلى أنّ الديمقراطية فقدت جاذبيتها بسبب نماذج الجوار: العراق ولبنان. وهذا صحيح إلّا أنّه يبقى وصفا للسطح. فالمسألة ليست أن السوريين «لا يريدون نموذجا طائفيا فاسدا»، بل أنّهم يرون التفكّك السياسي كامتداد للتفكّك الاجتماعي الناتج عن اقتصاد ما بعد الحرب. سوريا اليوم ليست بلدا يبحث عن نموذج للحكم، بل بلدا يبحث عن طبقات جديدة قادرة على حمل مشروع سياسي. فالبنية الطبقية القديمة دمّرت: البرجوازية الصناعية تبخّرت، الطبقة العاملة شتّتت، الفلاحون انهاروا. ما تبقى هو اقتصاد ميليشيات ورأسمالية حرب، أي بيئة تقتل أي إمكانية لديمقراطية ليبرالية أو غير ليبرالية.
من هنا يبدو تحليل الأشقر قاصرا: إنّ قرار الشعوب ليس امتناعا ذاتيا، بل فقدانا لشروط السياسة. فمن دون طبقة عاملة منظّمة، ومن دون نقابات مستقلة، ومن دون مجالس محلية قوية، لا معنى للحديث عن «خيارات ديمقراطية».
رابعا: الديمقراطية ليست مسألة وعي ، بل مسألة قوة:
إحدى أهم الثغرات في نص الأشقر هي تحويل الديمقراطية إلى مسألة ثقافية أو نفسية أو سلوكية: الناس «تعبت»، الناس «أحبطت»، الناس «توهّمت»، الناس «اقتنعوا». لكن منطق السياسة الثورية يطرح سؤالا واحدا: ما هي موازين القوى؟ الديمقراطية لا تزدهر بالإقناع بل بالقوة الاجتماعية. حين تكون النقابات ضعيفة، والمنظمات الطلابية محاصرة، والمجتمع المدني مموّلا خارجيا، والدولة مستولية على الفضاء العمومي ، فما الذي يتبقّى للشعب كي ينتزع حرية أو يفرض دستورا أو يشارك في صياغة القرار؟
إنّ الديمقراطية في الوطن العربي لم تسحق لأنها فشلت، بل سحقت لأنها كانت بلا قوة اجتماعية تحميها. والحراك الشعبي لا ينكفئ لأنه فقد الإيمان بل لأنه فقد أدواته. هذا ما لم يشر إليه الأشقر، لأنّ مقاربته تبقى قريبة من النموذج الليبرالي الذي يرى أنّ «الرأي العام» هو مركز السلطة، بينما الحقيقة الثورية تقول: الطبقات هي مركز السلطة.
خامسا: عن الزعيم الشعبي… ليس حنينا إلى الاستبداد بل بحثا عن دولة اجتماعية:
يحاول الأشقر تفسير صعود الشعبيّة حول قيس سعيّد أو أحمد الشرع كإشارة إلى سقوط قيمة الديمقراطية. لكن الواقع الطبقي يقدّم تفسيرا مختلفا: الناس ليست في حالة «خضوع» أو «رضا»، بل في حالة بحث عن سلطة قادرة على حماية معيشتهم. في زمن الانهيار، تصبح قوة الدولة أهم من تعدديتها. ليست هذه نزعة فاشية، بل استجابة غريزية لأزمة اجتماعية حادّة.
إنّ زعيما مثل قيس سعيّد لم يصعد لأنه «يشبه الشعب» أو لأنه «ساحر سياسي»، بل لأنه يمثل وعدا زائفا بدولة قوية. المشكلة ليست في الشعب بل في غياب بديل يساري قادر على تقديم دولة قوية اجتماعيا لا بوليسيا. وهذا ما لم يلمسه الأشقر لأنه يساوي بين الديمقراطية وبين «البرلمان» بينما يعرف كل يساري أن الدولة الاجتماعية أهم من صندوق الاقتراع.
سادسا: أزمة الديمقراطية هي أزمة الرأسمالية ، لا أزمة الوعي الشعبي:
لو كان الأشقر أكثر راديكالية في تحليله لكان قد وصل إلى النقطة الجوهرية: إنّ أزمة الديمقراطية في الوطن العربي امتداد مباشر لأزمة النيوليبرالية عالميا. فحين تنهار الطبقات الوسطى في أوروبا وأمريكا، وحين ترتفع الفاشيات، وحين تتراجع الثقة في التمثيل، فهل نتوقع أن تنجو تونس أو سوريا؟
إنّ الأزمة ليست أزمة «الربيع العربي» بل أزمة الرأسمالية المعولمة. وهذا ما يجعل التفسير الثقافي أو النفسي عاجزا. المشكلة ليست في الإسلام، ولا في «ثقافة الشعوب»، بل في تحوّل الدولة إلى جهاز إداري يخدم رأس المال العالمي ويخنق مجتمعه.
سابعا: ما الحاجة إلى الديمقراطية إذا كانت بلا خبز وبلا سيادة وبلا دولة اجتماعية؟:
هنا يظهر جوهر المسألة: الديمقراطية الليبرالية بلا مضمون اجتماعي تتحوّل إلى آلية لإدارة الفقر، لا للخروج منه. هي ديمقراطية البطون الخاوية. ديمقراطية الرواتب المتآكلة. ديمقراطية القروض والديون. ديمقراطية الهجرة الجماعية. لذا، لم تتراجع قيمتها لأن الناس «لا يفهمون السياسة»، بل لأنّ السياسة نفسها فقدت معناها.
ثامنا: البديل ، ليس «تنقية» الديمقراطية بل خلق ديمقراطية جديدة:
يصل الأشقر إلى أن الحل هو «بدائل سياسية تجسّد معنى الديمقراطية الأصلي». لكن هذا الطرح يغفل حقيقة بسيطة: الديمقراطية الأصلية لا تعاد، بل تبتكر. لا وجود لعودة إلى لينكولن ولا إلى برلمانات القرن التاسع عشر. الديمقراطية اليوم يجب أن تكون:
– ديمقراطية المجالس؛
– ديمقراطية التسيير الذاتي؛
– ديمقراطية الاقتصاد الاجتماعي؛
– ديمقراطية النقابات المقاتلة؛
– ديمقراطية القرار المحلي اللامركزي؛
– ديمقراطية الملكية المشتركة للثروة.
هذه الديمقراطية ليست «مكمّلة» لليبرالية، بل بديل عنها.
تاسعا: لجان المقاومة وجيل زاد ليست «نواتات» بل علامات على موت النموذج القديم:
حين يصف الأشقر هذه الحركات بأنها مجرد «قوى قاعدية» تنتظر أن تجد «قيادة مناسبة» فهو يعيد إنتاج منطق الأحزاب التقليدية. لكن الحقيقة أنّ هذه الحركات ليست ناقصة بل سابقة للأحزاب. هي إعلان عن نهاية النموذج التمثيلي وعن بداية سياسة أفقية، شبكية، قاعدية، راديكالية، تعيد السياسة إلى الميدان لا إلى قاعات الفنادق.
إنّها إشارة إلى أنّ البديل لن يأتي من الأحزاب القديمة، ولا من الليبرالية، ولا من اليسار التقليدي، بل من الحركات التي تخلق أدواتها وليس من الحركات التي تنتظر «اللحظة التاريخية».
الخلاصة ، إنّ نص الأشقر، رغم صدقه وعمقه النسبي، يبقى أسيرا لمقاربة تعتبر الديمقراطية الليبرالية أفقا نهائيا، وترى أنّ الشعوب «فقدت قيمتها» بسبب التجارب السيئة أو الظروف السياسية أو العوامل النفسية. أمّا التحليل الثوري، فيرى العكس:
ليست الديمقراطية التي فقدت قيمتها بل النموذج الذي قدّم نفسه للشعوب على أنه ديمقراطية.
لم تتراجع الديمقراطية، بل انكشفت.
لم تحبط الشعوب، بل فهمت.
لم تخضع الشعوب، بل تبحث عن شكل آخر للسلطة، أكثر عدلا وأكثر جذرية.
إنّ المستقبل في منطقتنا لن يكتب تحت سقف الديمقراطية الليبرالية، بل تحت سقف ديمقراطية جديدة: ديمقراطية اجتماعية—طبقية—قاعدية—ثورية.
اقرأ أيضا


