صدور العدد 87 من جريدة المناضل-ة: الاستبداد النيوليبرالي: صحافة مُقيدة وكلمة مُكمَّمة

بقلم؛ جريدة المناضل-ة

لتحميل العدد: العدد 87 من جريدة المناضل-ة الاستبداد النيوليبرالي صحافة مُقيدة وكلمة مُكمَّمة

علت ساحة الاحتجاج أصوات الصحفيين والصحفيات، لا احتجاجاً على قرار تعسفي فحسب، بل رفضاً لمنظومة كاملة وظيفتها مراقبة الصحافة لما فيه مصلحة الاستبداد. وما فجّر الاحتجاج (فضيحة لجنة الأخلاقيات) لم يكن سوى مناسبة كاشفة، بينما يكمن جوهر الأزمة في المجلس الوطني للصحافة ذاته، الذي صُمِّم منذ البداية ليحتوي الاحتجاج لا ليعززه.

لم يكن التظاهر مجرد رد فعل عابر، بل كان تشخيصاً دقيقاً لمرضٍ بنيوي: ديمقراطية داخلية معطوبة تسمح لمكتب انتهت ولايته بالاستمرار في تسيير الشؤون، متحدياً إرادة المهنيين، ومتجاوزاً قواعد التمثيل، ومختزلاً المساءلة إلى طقوس شكلية. لقد حمل المحتجون لواء الدفاع عن كرامة المهنة، لا بوهم تحييد المؤسسات، إذ إن هذه الأخيرة مسيَّسة في أصلها ووظيفتها، بل برفض تحويلها إلى أدوات مباشرة للإخضاع.
اعتقد الصحافيون-ات أنهم يملكون تنظيما يمثلهم فعلا، لذا لم يشككوا في وجود المجلس ذاته بل في آلية اشتغاله، وفي غياب التجديد، وفي تحويل «تنظيم مستقل يمثلهم» إلى « تنظيم لترويضهم».
غير أن هذا الاحتجاج، على مشروعيته، يظل ناقصاً ما لم يرق إلى مستوى المبدأ الجوهري: حرية الصحافة والنشر ليست هبة تُمنح بل حقٌ مطلق لا يقبل القيود… أي قانون ينظمها، وأي ترخيص يضبطها، يتحول حتماً إلى أداة في يد الأقوى ماديا وسياسيا. فخير قانون للصحافة أن يخلو النظام القانوني من قانون خاص بها، فكل نصّ يفرض رقابة أو يلزم بتصريح، سينتهي كأداة في يد من يملك المال والتقنية ويُسيطر على منصات الإعلام.
لا نعيش في المغرب انتقالاً بين أطوار متباينة، بل استمرارية سلطوية بأشكال متجددة. ما يتعمق اليوم هو نمط ضبط أكثر تعقيداً، يقمع حرية الصحافة والتعبير، ضمن هندسة سياسية–اقتصادية متكاملة. تريد الدولة، عبر سياساتها النيوليبرالية إعادة تشكيل المجال العام لتصبح أي معارضة فعلية مستحيلة. إنها تجفف كل تعبير قادر على تحويل النقد إلى قوة اجتماعية وسياسية منظمة. وما يجري ليس سوى انسجام بنيوي بين منطق الاستبداد السياسي ومنطق السوق الحرة المنفلتة، حيث تُعاد هندسة الإعلام لخدمة «استقرار» مزعوم، بينما يُعدم الحق في المعرفة، وتُدفن البدائل القائمة على العدالة والكرامة.
لا يمكن فهم هذا المسار خارج سياقه التاريخي. فمن إعلام خاضع لمراقبة مباشرة، إلى مرحلة أكثر دهاءً تُدار فيها السيطرة عبر القانون والمؤسسات والسوق وشعار «المهنية». بلا مواربة: ما يحدث هو ترسيخ لضبط نيوليبرالي سلطوي، تُمنح فيه حرية شكلية، مقابل تجريد الصحافة من روحها النقدية. الرقابة لا تختفي، بل تتعلم التخفي وتصير أكثر فتكاً.
وتندرج فضيحة المجلس الوطني للصحافة في هذا الإطار. المؤسسة التي قُدِّمت كحصن مستقل وحامٍ من تدخل الدولة، تحولت إلى أداة ضبط للمجتمع. إنها لا تحمي الصحفيين بل تفرزهم، ولا تضمن التعدد بل تؤدب المختلف. تمديد ولايتها بقرار فوقي، وفرض تركيبتها بمعزل عن الإرادة الحرة للصحفيين، يكشف أن الغاية ليست إصلاح المهنة، بل إخضاعها ودمجها قسرياً في آلة الهيمنة.
تتحول حرية التعبير، بموجب هذه الآلية، إلى سلعة مجزأة؛ تُختزل في إجراءات تقنية، وتُفصل عمداً عن مضمونها الاجتماعي والسياسي. فالصحافة «المسموح بها» هي التي تلتزم سقفاً منخفضاً، لا تُسائل السياسات الاقتصادية الجوهرية، ولا تفضح وحدة السلطة والمال بوصفهما وجهين لعملة واحدة، ولا تربط بين الفقر وبين الخيارات المفروضة من المؤسسات المالية العالمية، وبينه والبنية الرأسمالية التابعة. أما الصحافة التي تفعل، فتُوصف بـ «المزعجة» أو «غير المهنية» وتُحاصر بثلاثية قاتلة: حصار أخلاقي، وملاحقة قانونية، وخنق اقتصادي.
لا يمارس القمع هنا فقط عبر قضاء زجري أو قوانين قمعية، بل – وهذا هو الأخطر – من آلية السوق ذاتها. خنق المقاولات الصحفية المستقلة اقتصادياً، والتحكم في تدفق الإشهار العمومي، وتوجيه الدعم الحكومي بمنطق الولاء، وخلق إعلام ريعي تابع– كلها أدوات تُعيد إنتاج مشهد إعلامي مطواع، بلا نقد ولا عمق، يروج للنيوليبرالية كقدر محتوم، ويُجمل التفاوت الاجتماعي كحقيقة طبيعية.
ولا يُغفل هذا النظام البعد الطبقي داخل الحقل الصحفي نفسه: عقود هشة، وأجور ضعيفة، وتهديد دائم بالطرد. تُحوّل هذه العوامل الصحفي إلى كائن قلق، مكبّل بالهم المعيشي، وفاقد للأمان، وبالتالي أقل قدرة على المقاومة. إضعاف الصحفي اجتماعياً واقتصادياً هو الشرط الأساسي لإضعاف الصحافة سياسياً وفكرياً. في هذا السياق، تصبح أحاديث «الاستقلالية» مجرد كلام أجوف.
حتى أخلاقيات المهنة، تلك المنظومة التي يفترض أن تحمي الحق في المعرفة، تتحول إلى سيف مسلط على رقاب النقد. تُستعمل «المهنية» انتقائياً: فتكون أداة تأديب للصحافة الرافضة، بينما يُتغاضى عن الانحطاط والرداءة إذا خدما الخط السائد. وهكذا تُفرَّغ الأخلاقيات من مضمونها التحرري، وتُعاد تعبئتها كآلية للامتثال والطاعة.
لا يمكن فصل هذا الهجوم عن المسار العام لتفكيك أدوات التغيير في المغرب: إضعاف الأحزاب، وتدجين النقابات، وتهميش كل أشكال التنظيم الجماهيري المستقل. وفي هذا الفراغ السياسي المُدار، تتحول الصحافة النقدية إلى هدف استراتيجي، لأنها الوحيدة القادرة على ربط الوقائع اليومية بالبنية الطبقية للنظام، وعلى فضح العلاقة العضوية بين الاستبداد السياسي والنهب الاقتصادي.
حتى الفضاء الرقمي، الذي كان متنفساً، لم يَسلم. فبدل المنع المباشر، نرى ملاحقات قضائية، ضغوطاً اقتصادية، تجريماً للرأي، وتطبيعاً للرقابة الذاتية. إنها إعادة ضبط شاملة للمجال العام، لا تستثني أي منفذ.
نرفض هذا النموذج. نرفض «الحرية المُدارة». نرفض أن تتحول الصحافة إلى خدمة عمومية بلا روح، أو سلعة تُقاس قيمتها ببُعدها أو قربها من مراكز القوى. فحرية الصحافة ليست مسألة مهنية ضيقة، بل هي جزء من معركة أوسع، نرفض اختزالها لمجرد نقد ضد «الريع» دون المساس بجوهر النظام الرأسمالي ذاته. نريدها ضمن معركة أشمل ضد سياسات تُراكِم الثروة في القمة وتُعمِّم الفقر في القاعدة.
يُريدون إعلاماً بلا ذاكرة، بلا انحياز، يُطبع الظلم ويُحول القمع إلى «استقرار». لكن هذا الاستقرار ليس سوى إكراها مستترا.
الدفاع عن حرية الصحافة اليوم هو نضال ضد تحويل الكلمة إلى جريمة، ومن أجل جعلها أداة مقاومة. لا يكفي المطالبة بإصلاحات إجرائية أو ضمانات ورقية. النضال الحقيقي يتطلب وعياً شاملاً: ربط المعركة المهنية بمعارك الشغيلة والعدالة الاجتماعية، وبناء تحالفات مع الحركات الاجتماعية والنقابات المستقلة، واستعادة أخلاقيات المهنة كالتزام بالحقيقة الاجتماعية لا كأداة تأديب.
الخيار واضح: إما صحافة نقدية تنحاز للحقيقة وللأغلبية الساحقة المستعبدة، وإما لا صحافة على الإطلاق. إما كلمة حرة تُقاوم، وإما صمت طوعي يقبل بالاستبداد والاستغلال…
المعركة طويلة، لكن كل حرف يُكتب في وجه القمع هو خطوة نحو فضاء أوسع، حيث تكون الصحافة سلطة حقيقية، والحقيقة حرية…

المحتويات: 

افتتاحية: الاستبداد النيوليبرالي: صحافة مُقيدة وكلمة مُكمَّمة

• مؤتمر الكونفدرالية الديمقراطية للشغل السابع: حصيلة إجمالية

• حين تقتل الفيضانات الفقراء: النيوليبرالية تحوّل المدن المغربية إلى مصائد موت

• احتجاجات جيل زيد ودستور الحكم المطلق واقتصاد يخدم الأقلية

• تجربة صحافة برجوازية ناقدة، كتاب أحمد بوز عن «الصحيفة» و«لوجورنال»

• العدالة والتنمية والأحرار: إجماع على صيانة الواجهة المؤسساتية وخدمة الاستبداد

• الديون في المغرب: كيف تحوّل الاقتراض إلى آلية دائمة لنهب الطبقات الشعبية وإخضاعها؟

• عين على نضالات طبقتنا

• نظرية ثورية: استراتيجية المطالب الانتقالية

• «هل يمكن للحضارة البشرية أن تستمر في ظل الرأسمالية؟»

• كيف نفهم النظام الأبوي (البطريريكي)؟

• هل تحتاج البيئة إلى ماركس؟

• فلسطين، أي استراتيجية من أجل التحرير؟

شارك المقالة

اقرأ أيضا