المسيرة الخضراء: السياق… المستفيد والضحية؟

دراسات حول المغرب20 أكتوبر، 2015

كل يوم 6 نوفمبر تقصف عقول الكادحين بوابل من الأضاليل حول المسيرة الخضراء وتعلق الشعب بالعرش في مسيرة استكمال الوحدة الترابية… لكن لا حديث عن الحدث الحقيقي وسياقه التاريخي والسياسي، لا حديث عن المستفيد من هذا “الحدث” ولا عن الضحية. كل ما يهم هو إجماع الشعب حول العرش.

انطلقت المسيرة الخضراء من المغرب إلى الصحراء الغربية في أواخر سنة 1975، الحدث صنعه الحسن الثاني وحاشيته، وأشرف عليه كل من الجيش الملكي والداخلية وعدة أجهزة تابعة، هذه المؤسسات هي نفسها التي سحقت كل النضالات الجماهيرية الشعبية والمعارضة بالسلاح داخل المغرب.

إن الشعوب هي التي تقوم بالأعمال الخالدة، وتنجز الأمور العظيمة، تشارك في معارك التحرر وتشرف على بناء بلدانها، وتقدم من أجل ذلك الشهداء من فلذات أكبادها. حملت هذه الشعوب السلاح وخاضت معارك وحروب شرسة ضد الاستعمار والامبريالية، من أجل حقها في تقرير المصير والسيادة على خيراتها والحرية والكرامة فوق ترابها، بينما كان الحكام يتواطئون مع المستعمر.

يتناول هذا الموضوع قضية ظلت أقلام البورجوازية والاستبداد المأجورة تتكلم عنها بشكل واسع، لكن مع التغاضي عن تناول الجوهري في الأمر. كل ما يهمهم هو استعمال ما أطلق عليه إجماعا وطنيا خلقه هذا الحدث، قصد صناعة المغربي العبد والرعية والقطيع، الخاضع للحاكم المقدس، موحد الرأسماليين الكبار.

الحدث هو المسيرة الخضراء، والمبدع هو الحسن الثاني، حسب رواية البرجوازية المسيطرة على البلد. إن الأسئلة الجوهرية في الموضوع هي من شارك في المسيرة؟ من كان وراء التنظيم؟ وما هو سياقها التاريخي؟ وماذا حدث بالضبط في أيام المسيرة الخضراء؟ من استفاد منها ومن خسر؟ كل هذه الأسئلة لا تطرح من طرف صانعيها.

يصعب الجواب على هذه الأسئلة، دون الاطلاع على الوثائق والملفات الموجودة لدى جهاز الدولة والمؤسسات التي نظمت المسيرة. إن البورجوازية المغربية المرتبطة بالرجعية وبالامبريالية- المساندان لدولتها القمعية ونظامها المستبد- تريد طمس التاريخ بدون محاسبة، إن الوطنية المتشددة والشوفينية، والرجعية المتخلفة والمرتبطة بالنظام الرأسمالي، لن يقهرها سوى الكفاح الاممي.

للقضية جذور، ومعرفتها ضرورية.. يأتي في مقدمتها التفقير الذي تعرض له فقراء الفلاحين والذين مثلوا الحشود التي شاركت في المسيرة وبعدها جمهور المستغلين من طرف الرأسمال المستثمر بالصحراء ووقود الشوفينية الذي يرمي به النظام في محرقة تمسكه بالصحراء الغربية.

وفي الجهة الأخرى طور الأعيان والمشايخ بإيعاز من النظام إيديولوجية مضادة تركز على اعتبار الكادحين المغاربة المجتثين من أراضيهم مستوطنين يجب كحاربتهم كما يجب محاربة “العدو المحتل”، وتنفلت مواجهات بين الصحراويين والقادمين من أقاليم الداخل.. وكل ذلك يصب في مصلحة النظام وأعيانه الذين يحرفون هكذا جوهر الصراع إلى اقتتال بين الكادحين والفقراء.

تشريد الفلاحين المغاربة أهل الأرض.

مثلت الفترة الفاصلة بين اغتيال المهدي بن بركة في 29 أكتوبر 1965 وانقلاب 10 يونيو 1971 “زبدة” الطبقات السائدة، العصر الذهبي للمعمرين الجدد.

كان العصر الذهبي الذي سيطرت فيه البورجوازية المغربية الكبيرة على الأراضي التي كانت تحت هيمنة الاستيطان الزراعي، هذا القسم الأهم والأعظم من أجود الأراضي الخصبة في المغرب.

ومع سياسة السدود- التي طبلت لها البورجوازية وجيرت لصالح ملكية الحسن الثاني- تركزت الملكية العقارية أكثر. كل هذه الأراضي بالإضافة إلى المياه خصصت للمنتجات التصديرية المطابقة لحاجة الأسواق الغربية، وبالخصوص الأوروبية. ما شكل استمرارا مباشرا للسياسة الزراعية الاستعمارية .

هذه الأراضي انتزعها الاستعمار من جماهير سكان القرى، وتحولت إلى ضيعات عصرية تصدر إنتاجها للمتروبول. كل ذلك بعد الثمن الغالي الذي دفعه الشعب المغربي من أجل استقلال حقيقي.

إن الفلاحين الفقراء المغاربة، قاموا بتضحيات جسيمة وكفاح عظيم من أجل تقرير مصيرهم بأنفسهم واسترجاع أراضيهم من الاستعمارين الفرنسي والاسباني. لكن منذ منتصف الخمسينات إلى منتصف السبعينات لم يتحسن وضع الجماهير بشكل ملموس، بل زادت المصائب أكثر وأصبح الفلاحون أصحاب الأرض عمالا زراعيين، واندثر أكثر من نصف مليون مزارع يستغلون اقل من 1 هكتار، وانتشر الفقر والجوع والقحط، وسادت الأمية مع القهر وسط الأسر القروية وهجروا إلى ضواحي المدن يتكدسون في بيوت من القصدير، يعيشون على الهامش، بالإضافة إلى الاحتقار من طرف محدثي النعمة المسروقة .

نزع الأراضي الزراعية وتمليكها للأجانب كان أحد الأوجه الرئيسية للإستراتيجية الاستعمارية بالمغرب، وارتكز الغزو العسكري الفرنسي على إخضاع المناطق الغنية بثرواتها المائية وسهولها الشاسعة الخصبة وتحويلها إلى مراكز للاستيطان الزراعي الأوروبي، استند هذا التوسع على تخريب القرى والمداشر بمناطق المقاومة، واستعمال سلاح الجو والمدفعية الثقيلة بكثافة لطرد السكان من أراضيهم.

دخول الحماية سنة 1912، والظهائر التي كرست نزع الملكية

في سنة 1914 صدر ظهير إدماج أراضي القبائل بالأملاك الخاصة بالدولة ، ثم بعد ذلك تم منحها للمزارعين الأوربيين والسماح لهم بكراء الأراضي الجماعية لمدة طويلة، أي التصرف الأبدي فيها.

وفي شهر يناير 1915 صدر ظهير يحدد المساطر الإدارية من أجل تحديد الأملاك الخاصة ويعتبر هذا الظهير من القواعد القانونية الأساسية الذي استندت إليها إدارة الاحتلال لبناء الأسس القانونية للاستيطان الزراعي الرسمي.

تم إنشاء مصلحة المحافظة العقارية سنة 1915، من أجل تشجيع أطماع المعمرين والمستوطنين الزراعيين، سنت إدارة الاحتلال مجموعة من التشريعات التي ارتكزت عليها قوانين اغتصاب أراضي المزارعين المغاربة وتمليكها للمعمرين. من بين هذه الظهائر ظهير12 غشت 1913 المؤسس لنظام التسجيل والضامن للمبيعات العقارية، وظهير أبريل 1919 الذي يشجع الاستعمار المباشر. ثم الظهير السلطاني الصادر في 26 نونبر1915 الذي ينص على إعدام كل من يقف في وجه التمركز الاستعماري في البلاد رميا بالرصاص. وظهير 15 ابريل 1928 الذي عوض الظهير أعلاه ينص على استعمال المقصلة، وطبقت لأول مرة في غشت من نفس السنة في حق مواطنين اثنين أحدهما من منطقة واد زم بنواحي مدينة خريبكة- المنطقة الفوسفاطية، والآخر من الدار البيضاء ارتكبا “جريمة” الدفاع عن أملاكهما ضد أطماع المستعمرين الأوروبيين. هكذا يكون رفض الذل والدفاع على الأرض جريمة.

سمحت هذه الترسانة القانونية وأخرى كثيرة إلى جانب المقصلة بتشكيل خزان ضخم من الأراضي الزراعية الخصبة التي انتزعت من الشعب المغربي مالكها الشرعي وانتقلت إلى أيدي أقلية من المستوطنين الأوروبيين وبعد “الاستقلال” إلى كبار الملاكين والرجوازيين المغاربة.

هذه هي الخلفية التي تكونت من خلالها طبقة ملاك الأراضي والبرجوازية المغربية وخادمتهما المؤسسة الملكية، التي شحنت آلاف الفلاحين المكشطين بعد حرمانهم من “أرضهم” لتحرير أرض “الصحراء الغربية”.. إن ما يهم هنا هو الأرض التي انتزعها السادة وليس رمال الصحراء.

حقيقة وطنية النظام

إن دور الأيديولوجية القومية الشوفينية التي شحنت مشاعر الآلاف المتوجهين إلى الصحراء، هو التغطية عن المحتل الحقيقي والمضطهد الحقيقي الذي تواطؤ مع النظام الإسباني في اقتلاع جيش التحرير بالجنوب في عملية “الإعصار/ الممسحة”، وسكت عن احتلاله للصحراء، حتى تأسست الجبهة الشعبية… وخاف من تجاوز كفاح الصحراويين لدوره المرسوم من طرف الإمبريالية، وانطلق في مسيرة احتلال الصحراء الغربية، خدمة لأهداف الإمبريالية وأهدافه الخاصة.

بالنسبة لمقاومي جيش التحرير القومي ومناضليه لم يكن بالإمكان تصور الاستقلال كاملا إلا بتحرير جميع الأراضي من الاحتلال الأجنبي. وقد فضل خمسة آلاف من هؤلاء المقاومين والمناضلين، بدلا من الانصهار في القوات المسلحة الملكية المشكلة، أن يتحولوا

إلى الجنوب لمحاربة المحتل الإسباني، والصراع جنبا إلى جنب مع القبائل الموحدة الإرادة في رفع نير المحتل”..

تخلى العرش عن هؤلاء المقاومين، بل حاربهم، فمحمد الخامس وابنه البكر يريان أن توطيد سلطتهما الهشة عقب الاستقلال لها الأفضلية على تحرير الصحراء؛ بل إنهما يعتبران مجاهدي الجنوب متمردين يزدادون قوة ويجب كبح جماحهم، وهذا هو هدف الحملة الفرنسية- الإسبانية المسماة أوراغان- إكوفيون التي نفذت بتعاون تام مع القوات المسلحة الملكية المغربية. فبينما كانت القبائل الصحراوية تتشتت تحت وقع القنابل، كان جيش الجنوب يجرد من أسلحته، والقمع الإسباني في المنطقة يزداد ضراوة. كافأ فرانكو التعاون المغربي بالتخلي له عن منطقة طرفاية. هذه هي حقيقة استعادة طرفاية.

تم التخلي عن ضحايا القصف والقنبلة في هذه العملية، لكن التضامن الفعلي “أتى من المقاومين القدامى. نظم الفقيه البصري ترتيبات لاستقبال مئتي طفل من أبناء مجاهدي القبائل الذين أجلوا عن الصحراء الغربية بعد حملة إكوفيون الإسبانية؛ حيث هيئت روضة دار التوزاني لإيوائهم والعناية بهم في الدار البيضاء. كان بينهم فتى طويل القامة اسمه مصطفى الوالي. من كان يفكر أن دار التوزاني ستغدو مستنبت قادة جبهة البروليساريو المستقبليين”. (جيل بيرو، صديقنا الملك).

الأعيان: ركيزة الاستعمار.. ثم ركيزة الاستبداد الملكي

كانت حصيلة الاستيطان الزراعي الأوروبي ثقيلة حيث بلغت مساحة الملكية الاستعمارية الإجمالية غداة الاستقلال المغشوش، ما يفوق مليون هكتار تتركز نسبة %70 منها (716 ألف هكتار) في شريط الدار البيضاء- الرباط- القنيطرة- الغرب وحوالي ربعها (252 ألف هكتار ) بمنطقة فاس- مكناس. وتمثل الضيعات الكبرى التي تفوق مساحتها (300هكتار) حوالي %60 من المساحة الاستعمارية الإجمالية.

تتوفر هذه الضيعات على مواصفات الزراعة الرأسمالية حيث حظيت الفلاحة الاستعمارية بمختلف أشكال الدعم المالي والتقني وتوفير البنيات التحتية الضرورية من سدود وطرق وموانئ وتوفير الأسواق الخارجية.

أما قوة العمل التي تسمح بتحقيق تراكم الرأسمالي فهي البروليتاريا الزراعية المغربية التي ترزح تحت نير الاستغلال الكثيف بأجور زهيدة وفي غياب أبسط حماية قانونية. هؤلاء المفقرين والمتزعة أراضيهم، هم من سيتم تكديسهم في الشاحنات ويتجهون إلى قفار وفيافي الصحراء الغربية في أواخر سنة 1975.

بالموازاة مع تطوير رأسمالية زراعية محدودة في المناطق الخصبة التي تم الاستيلاء عليها، عمل الاستعمار الفرنسي على تدعيم فئة الأعيان المحليين حيث نصب (3500 باشا وقائد وشيخ ) استغلوا نفوذهم لتوسيع أملاكهم.

عند إعلان الاستقلال المغشوش والخائن، بلغ عدد ملاكي الأراضي المغاربة (7500 ملاك) يحوزون على حوالي ريع الأراضي الزراعية (1،800،000هكتار ) ومن أشهر هذه العائلات، باشا مراكش التهامي الكلاوي وعائلته ويملك (30،000هكتار ) وقائد منطقة الرحامنة القائد العيادي يملك (30،000هكتار، كذلك). هؤلاء وسلالتهم هم من سيشرف على تنظيم المسيرة الخضراء. بدأنا نقترب من الأجوبة حول الأسئلة ، من نظم؟ ومن شارك؟

كانت حصيلة الاستعمار الزراعي استحواذ بعض آلاف الأشخاص على خيرة أراضي المغرب. وكان كبار الملاكين يناصرون استمرار الوجود الاستعماري بالمغرب الذي سمح لهم بالاستحواذ على ملكيات شاسعة انتزعوها من الفلاحين بنفس طريقة المعمرين. كان عددهم قليلا (500 إلى 600 ألف) إلا أنهم شكلوا ضغطا على جهاز الدولة الجديدة وأثروا على سياستها في مجال الملكية العقارية وحرص النظام على عدم المساس بمصالح هذه الطبقة من خلال الحفاظ على رصيدها العقاري وتنميته وعمل على دمج الأعيان في دواليب الدولة المبنية حديثا على المستوى المركزي (الحكومة والبرلمان ) والهيئات المهنية وعلى الصعيد المحلي حيث منحت لهم نفس الوظائف التي منحها لهم الاستعمار، أي التحكم في القرى والبوادي ومراقبتهما.

صدر عفو في ابريل 1963 على 200 من الأعيان الذين كانوا قد احتسبوا من “الإقطاعيين والخونة” سنة 1956. تلك هي الطغمة وهذه هي سلالتها، الحاشية وصانعي الحاكم المقدس. طغمة الحسن الثاني التي صاحت بأعلى صوتها خلف الاستبداد “عاش الإجماع الوطني…. اسحقوا الثوريون لا ترحموهم.. إنهم ضد الإجماع الوطني .. وأعداء استكمال الوحدة الترابية”. هكذا رددت البرجوازية وراءهم، ولم يكن هؤلاء الثوريين سوى زبدة جيش التحرير والمقاومة والجيل الجديد من مقاومي الاستبداد الذي أرادوا استئناف معركة المهدي بنبركة وابراهيم التزنيتي وأبراهام السرفاتي الخ…

الاستيلاء على الأرض والماء .. قلة قليلة جوعت الشعب المغربي.

هكذا إذن في غياب من يقود الجماهير بصدق ، نجح النظام بمساعدة برجوازية “الحركة الوطنية” في سيرورة نهب المغرب.

بلغت مساحة القطاع الاستعماري 1،020،000هكتار سنة 1956، منها 728،000 هكتار للمعمرين الخواص، و292،000 هكتار للاستعمار الرسمي. وفي الفترة التي تفصل بين 1956 و1965 ارتفعت صفقات بيع الأراضي بين الخواص المغاربة والمعمرين خصوصا بعد أن بدأت أثمانها تميل نحو الانخفاض مع تخوف المعمرين من مصير ملكياتهم.

شملت هذه الصفقات مساحة تقدر بـ 772،379 هكتار من الاستعمار الخاص، أي بمعدل سنوي بلغ (27،328 هكتار) وعمل النظام إلى إصدار ظهيري 26 شتنبر 1963، تسترجع بموجبه الدولة أراضي الاستعمار الرسمي، ويخضع جميع الصفقات العقارية المتعلقة بالملكيات الفلاحية لموافقة الدولة.

جاء هذا التدخل درءا لما وقع بالجزائر في نفس الفترة، حيث عمدت الدولة في الجزائر إلى الاستحواذ على أراضي المستعمرين، وفي تونس بدأ الكلام على تجميع الأراضي مع تيار صالح بن يوسف ( التعاضد والتعاونيات) ومن شان هذا أن يدفع نحو طرح مسالة تأميم أراضي الاستعمار بالمغرب.

صفي القطاع الاستعماري بشكل نهائي مع صدور قانون 2 مارس 1973 الذي استرجعت بموجبه الدولة مساحة (365،188 هكتار) المتبقية من أراضي الأجانب الخاصة ليصبح المجموع الذي استرجعته هو 657.188 هكتار. وبالمقابل انتقلت مساحة الخواص المغاربة من هذا القطاع إلى (362،812 هكتار).

ما بين هذا الظهير و6 نونبر 1975 تاريخ تنظيم المسيرة الخضراء، عرف المغرب انتفاضات وإضرابات وكفاح مسلح هددت النظام وحاشيته، لكن الكلمة الأخيرة كانت للجيش الملكي بمساعدة الامبريالية لسحقها.

يمكن القول أن القطاع الفلاحي الاستعماري شكل القاعدة المادية لتطور فئة جديدة من المالكين العقاريين المغاربة استحوذت على حوالي ثلاثة أرباع مساحته.

هذه الفئة الجديدة تتكون أساسا من البيروقراطية البرجوازية المكونة من كبار موظفي الدولة في الإدارة والجيش والأمن، الذين تسمح لهم وظيفتهم بتنمية استثماراتهم في جميع ميادين الاقتصاد، وطبقة الرأسماليين الذين خصصت لهم الموارد المالية الأساسية من طرف الدولة لتدعيمهم ويتوفرون على نقط الارتكاز في دواليب السلطة العليا. إن هؤلاء هم الذين شكلوا اللجان السرية لتنظيم المسيرة الخضراء نحو الصحراء الغربية.

هذه هي الطبقات “المالكة” التي صنعت المسيرة الخضراء للاستيلاء على أرض الصحراء الغربية بعد أن أتمت سيطرتها على أرض المغرب والاستحواذ على خيراته، ولا علاقة للوطنية بالأمر، فوطنية السادة تقاس بالدراهم والثروات بينما وطنية الجماهير بالدماء والتضحيات.

بعد أن تعرفنا على واقع جماهير المغرب، سنتعرف على ما كان في منطقة الصحراء الغربية في سنوات السبعينات، هذه الأرض التي توجهت إليها المسيرة الخضراء، بل (350الف) مغربي ومغربية محرومين من مصادر الحياة، يؤطرهم وينظمهم المستبدون المسيطرون على كل شيء. فرغم تنوع وتركيب فصول القضية، يوجد خيط رابط يجمع فصولها وهو الأقلية التي تحكم باسم المقدسات وبالحديد والنار، وأغلبية مسلوبة الإرادة.

بعد أن استكمل النظام الملكي تحكمه في أراضي المغرب وتمليك أجود الأراضي المنتزعة من فقراء الفلاحين لطغمة من كبار الملاكين والرأسمال الزراعي، وجه أنظاره لأرض الصحراء الغربية، تلك الأرض التي تركت في يد إسبانيا ورفض دعم نضال سكانها الذين قمعتهم شرطته في مظاهرات 1972 بطانطان، وأطلقوا الرصاصة الأولى منذ ماي 1973.

الصحراء الغربية الموقع والثروات..الشعب يكافح والرأسماليون ينهبون.

تقع الصحراء الغربية في شمال غرب إفريقيا، يحدها المغرب من الشمال (445 كلم) والجزائر من الشمال الشرقي (30كلم) وموريتانيا شرقا وجنوبا (1570كلم ) وتمتد حدودها على الساحل الأطلسي غربا، شاطئ يبلغ طوله أزيد من1200 كلم وتبلغ مساحتها الإجمالية حوالي 266.000 كلم مربع. قام الاستعمار الاسباني بتقسيم المنطقة إلى شطرين، الساقية الحمراء شمالا(82.020 كلم مربع) ووادي الذهب في الجنوب (184.000 كلم مربع )

الفوسفاط

يعتبر الفوسفات الصحراوي الموجود بالمنطقة من أجود الأنواع عالميا (نسبة 65 -80 في المائة ) ويمثل 10 في المائة من الاحتياط العالمي، أي 3.8 مليار طن، في حين ذهبت بعض المراجع إلى أن احتياطي 6 حقول مكتشفة على امتداد 1200 كلم مربع قد يمثل نسبة 28.5 في المائة من الاحتياطي العالمي ، ويعتبر منجم “بوكراع” أكبر منجم منفرد في العالم، حيث تبلغ مساحته 250 كلم مربع، وبلغ إنتاجه سنة 1975، 2.6 مليون طن، وتحتل الصحراء الغربية الرتبة الثالثة عالميا في إنتاج الفوسفات بعد المغرب والولايات المتحدة الأمريكية .

تم اكتشاف الثروة الفوسفاطية منذ العام 1947 على يد المكتشف الجيولوجي الاسباني “مانويل اليا ميدينا” والتي تعد حقولها في عمق الأرض إلى حوالي 800 كلم مربع بين منطقة “ازيك” وجزيرة الرأس الأبيض لكنها لم تستغل إلا منذ سنة 1963 عندما بوشر بالإنتاج الفعلي من منجم “بوكراع” الذي تحتوي خاماته على نسبة 85 في المائة من الفوسفات ثلاثي الكالسيوم، ويقدر احتياطه بحوالي 10.000 مليون طن (ويتم استغلال خيرات هذا المنجم رغم الصراع السياسي والعسكري من طرف المغرب تحت قيادة الامبريالية ومؤسساتها).

ظل استغلال فوسفات بوكراع بالصحراء الغربية مشتركا بين مجموعة المكتب الشريف للفوسفات والشركة العمومية للمساهمة الصناعية الاسبانية (sepi) مند 1975 زمن المسيرة الخضراء إلى الآن . واحتياط فوسفات بوكراع يناهز ملياري طن، تمثل مابين 2و3 % من الاحتياطي الإجمالي للمغرب ، ويمتاز فوسفاط الصحراء باحتوائه كمية مهمة من مادة (الاورانيوم) الذي يمكن استخراجها منه. وقد استوردت دولة بلجيكا 5% من الاورانيوم التي تتوفر عليها حاليا من المغرب، وهي مستخرجة من فوسفاط بوكراع . و(sepi) تمتلك 35% من رأسمال مناجم بوكراع وتشارك في مجلسه الإداري وبالتالي تساهم في تدبير شؤون المناجم وتسطير سياستها وإستراتيجيتها .ويصدر فوسفاط بوكراع بالأساس إلى (اسبانيا والولايات المتحدة الأمريكية ) .

إن الجماهير التي تم شحنها في الشاحنات مكدسة وقطعت مسافات طويلة جدا من أقصى الشمال والشرق إلى تخوم الصحراء الغربية وهم واقفون لا يستطيعون الجلوس نتيجة الازدحام. لازالوا يظنون أن اسبانيا تركت الثروات ولم تعد تستفيد من حبة رمل، لكن العكس هو الصحيح.

مصايد الأسماك والرخويات

يعتبر الساحل الصحراوي من أهم المناطق الغنية، يتسع على امتداد 200.000 كلم مربع، وتعتبر “الداخلة” والكويرة” من أهم المرافئ وهذا ما يجعل الامبريالية والبرجوازية المحلية تعقد اتفاقا مع الحكومة المغربية تسمح لها بالصيد في المنطقة رغم الصراع السياسي والحروب والمعارك الطويلة.

يتميز الساحل الصحراوي بأغنى حوض سمك بالمنطقة بسبب الطبيعة الصخرية، وعوامل بيئية محددة منها مرور التيار الكناري البارد الذي يجلب معه أنواعا من أسماك المناطق الباردة، ويتوفر على 71 نوعا من الأسماك بكميات كبيرة وأكثر من 100 نوعا بكميات متفاوتة و60 نوعا من الرخويات وعشرات القشريات وراسيات الأرجل، ويوفر صيد مليوني طن سنويا، وهذا ما تشتهيه البرجوازية المحلية والمغربية والأساطيل الامبريالية والاتحاد الأوروبي بالخصوص.

موانئ الصحراء الغربية

يحتل ميناء العيون لوحده المرتبة الأولى إفريقيا في تفريغ سمك السردين و 40 في المائة من الحمولة المغربية الكلية، كما يبلغ حجم التفريغ السنوي لميناء الداخلة 100.000 طن في السنة حسب إحصائيات 2006.

النفط والغاز

أغلب الدراسات والأبحاث ترجح إلى أن المنطقة غنية بهذه المادة، إضافة إلى طاقات أخرى متجددة، كالطاقات (الشمسية، المائية، والرياح..)

الحديد والمعادن

يقدر احتياطي الحديد المكتشف بمنطقة “أزميلات اغرشا” بـ 4.6 مليار طن (نقاوة الفلز بين 65-38 في المائة) ويعتبر ذا قيمة اقتصادية كبيرة لقلة الشوائب في تركيبته، إضافة إلى إمكانية استخراج (10) طن من التيتانيو، ونصف مليون طن من الفاناديوم (المرتبة الثانية بعد جنوب إفريقيا) من نفس المنجم أي “أزميلات افرشا” وتوجد خزانات كثيرة للملح على شكل سبخات (42 سبخة) في كل من ( اريدال ، كريط طاح ، أم الضبوع ، وأماكن أخرى.. ) فضلا عن إمكانية استخراج أملاح البوتاسيوم من الأحواض البحرية على شاطئ المحيط الأطلسي.

هذه الثروات المستغلة منها والكامنة هي التي كانت في رهان المسيرة الخضراء، الثروات التي أسالت ولا زالت تسيل لعاب البرجوازية المغربية والإمبريالية، هي التي كانت دافع وطنية الاستبداد والسادة الرأسماليين، في حين كانت وطنية الكادحين وطنية صادقة ظنا منهم أنهم يحاربون لاسترجاع الصحراء من الاستعمار الإسباني.

الحياة التقليدية لسكان الصحراء الغربية

هم بدو رحل يعتمدون على الثروة الحيوانية (خاصة الإبل والأغنام والمعز..) بينما تمتهن أعمال الصيد والزراعة والتجارة والصناعة التقليدية نسبة قليلة كوسائل ومصادر معاش . أما عدد السكان، فمن خلال مصادر عدة أو كل المصادر التاريخية للشعب الصحراوي تقريبا، فإنه من المستحيل أن يتم الوقوف على إحصاءات دقيقة لان اغلب الصحراويين غير مسجلين فالاستعمار الاسباني كان يسجل السكان في المدن فقط، وكل الإحصاءات القديمة سواء كانت إسبانية أو مغربية أو موريتانية، أو الإحصائيات التي كانت بالجزائر سنة 1966 تجد أنهم دأبوا دائما على تقديم أرقام غير ثابتة ويشوبها كثير من الغموض وعدم الدقة، فان اسبانيا أرسلت وفدا إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة من بعض الصحراويين المنحازين لسياستها حيث قدم هذا الأخير إحصاء أكد فيه أن عدد السكان بالصحراء (سكان الصحراء) الموجودين على أراضيها يبلغ 300.000 نسمة، فبينما تنكر لوجود صحراويين خارج الإقليم لمصلحة اسبانيا طبعا ، خاصة وان هذه الأخيرة كانت تعتزم تنظيم استفتاء يقرر من خلاله السكان مصيرهم، وعليه فانه ليس من مصلحتها تسجيل وإحصاء كل السكان.

تبدلت هذه الصورة كثيرا، وأصبحت مقتصرة على الذاكرة الشعبية، مع تطور المدن الكبرى وظهور عادات جديدة مرتبطة بأنماط الاستهلاك المتمدنة واندماج سكان الصحراء في مؤسسات الدولة العصرية (الوظيفة العمومية) وتدفق الهجرة من مدن الداخل نحو مدن الصحراء.. رغم أن النظام لا زال يعتمد على إبقاء مؤسسة القبيلة والأعيان لضبط سكان الصحراء.

هذا هو واقع المنطقة وهذا هو شعبها، المنطقة التي اندلعت فيها حرب الصحراء الغربية بين الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء وواد الذهب المعروفة اختصارا بالبوليساريو والنظام المغربي، والتي طحنت الشعبين معا في الأرواح، وأفرزت أغنياء الحروب المستفيدين من خلال التملق للنظام وكذلك حاصدي ثمارها، أي نافخي النيران لقتل الفقراء أبناء الكادحين والفلاحين الصغار منزوعي الأراضي الذين لم يبقى أمامهم سوى الهجرة القسرية والاضطرارية كعبيد في بلاد الغربة وبالخصوص أوروبا الغربية، أو تقديم أنفسهم للجيش الملكي كجنود من أجل الخبز، والحياة في ظروف قاسية تحت مناخ حار وقاحل لم يتعودوا عليه، إلا مكرهين على أمرهم.

من اشرف على تنظيم المسيرة الخضراء ؟

الجواب هنا واضح، إنهم كبار ضباط القيادات العليا في كل من (الجيش والدرك والشرطة والقوات المساعدة وأجهزة المخابرات…) وممثلي سلطة الملك (عمال الأقاليم والعمالات).

وضع ظهير 1 مارس 1963 الأسس الأولى لخلق هيئة السلطة المحلية، وحدد ظهير 15فبراير 1975 الوضعية القانونية واختصاصات (العمال والولاة) الذين أصبحوا من يومها يمثلون الملك ويتمتعون بسلطات واسعة، أي النفوذ القوي على جغرافية الأرض التي يسيطرون عليها إقليميا وجهويا. والملك هو الذي يعينهم، ويستعملون في تنفيذ أوامره (القوات المساعدة وقوات الشرطة والدرك الملكي) ويشرفون على رؤساء كل من (الدوائر والمقاطعات) ينفذون ويسهرون على مقررات مجالس العمالات والأقاليم، ومراقبة الجماعات المحلية.

هؤلاء هم ممثلي الملك وهم الذين نفذوا وطبقوا أوامره على الأرض. هم من قاموا بتسجيل الفقراء المعدمين سكان هوامش المدن والبوادي والمداشر، الذين نزعت منهم أراضيهم، وتوفير الحافلات والشاحنات التي انتزعوها من أصحابها.

دعت الدولة 700 من موظفيها إلى مقر وزارة الداخلية بدعوى أنه وقع عليهم الاختيار في عملهم الإداري، وتم نقلهم إلى مركز بن كرير، وتلقوا دروسا تكوينية في التنظيم والتأطير، وكل هذا مر في سرية تامة، وحتى هؤلاء لم يعلموا بأمر المسيرة حتى تم الإعلان عنه بشكل رسمي.

هذه المسيرة تم التحضير لها من طرف الملك وحلقته الضيقة، في سرية تامة حتى أعلن عنها. هذه هي الحكاية بالكامل، المستفيدون من الاستعمار وهم الملاكون الكبار، والقياد وحاشية الملك والذين تم دمجهم في دواليب الدولة وأجهزتها التنفيذية، هم من أشرف على تنظيم المسيرة الخضراء.

كل إقليم يمثل مسيرة لها قيادتها وهيكلتها الإقليمية، ارتبطت هذه القيادات باللجنة المركزية المكونة من مختلف الوزارات والمصالح المركزية، فتحت كل عمالة وإقليم مكاتب لتسجيل المشاركين من طرف “المقدمين والشيوخ” وهذا النوع من السلطة يعود إلى العصور الغابرة ويسمونهم “أعوان”.

كان الإشراف الكامل للداخلية (شخص من كل بيت/ أسرة) وكانت حصة النساء 10% (35 ألف امرأة )، حصة إجمالية محددة لكل إقليم مرتبطة بعدد السكان، 44 ألف مشارك من الرسميين والإداريين 470 (طبيبا وممرضا) عملت 10 قطارات يوميا بدون انقطاع على نقل الناس من المناطق إلى مدينة مراكش ومنه إلى مدينة أكادير عبر الشاحنات والحافلات على امتداد 12 يوما صباح مساء بدون انقطاع، والتي بلغ عددها 7813، وتم نقل الجماهير المفقرة من مدينة أكادير إلى مخيمات بضواحي مدينة طانطان وطرفاية .

تحركت أول موجة من هؤلاء المعدمين من قصر السوق. والسبب هو أنهم من الصحراء الشرقية متعودين على تضاريس مشابهة. شارك أكثر من 5000 عون مدني (موظفي الدولة والجمعيات المحلية ).

ضباط الجيش الفرنسي المغاربة.. في مقدمة الإشراف على المسيرة الخضراء

لا يمكن الكلام عن قضية الصحراء الغربية والمسيرة الخضراء وبناء الجيش الملكي والفتك بالمعارضة والثوار المسلحين والماركسيون الثوريون، من دون الحديث عن اليد المتينة للحسن الثاني.

درس وتعلم أحمد الدليمي في” كوليج” مولاي يوسف ثم أكاديمية مكناس تحت إشراف الإدارة والعسكريين الفرنسيين، تخرج منها برتبة (ليوتنان) وفي سنة 1955 سافر إلى فرنسا لإجراء تدريبات عسكرية خاصة.

أحمد الدليمي من العسكريين الذين تركتهم فرنسا الاستعمارية للقصر من أجل بناء الجيش الملكي. وقد لعب دورا أساسي في قمع كل التمردات والانتفاضات، من أشهرها تمرد القائد عدي اوبيهي بالمنطقة الشرقية سنة 1957، وفي ما بعد بقليل لعب دورا كبيرا في قمع كفاح أهل الريف بجانب الجنرال محمد أوفقير بقيادة الحسن الثاني وهو ولي للعهد.

وفي سنة 1960 عمل الدليمي مع أوفقير على وضع أسس المخابرات المغربية على أنقاض مكتب الشؤون الخاصة، وأصبح الجهاز الجديد يسمى (مصلحة التوثيق والأمن sds) في البداية ويشرف عليه أوفقير ثم أصبح مستقلا تحت إدارة الدليمي. و لهذا قرر الحسن الثاني جعل الدليمي سيد المخابرات المغربية بمساعدة الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا.

الدليمي هو قائد القوات العسكرية الملكية في الحرب مع البوليساريو، وهو من أشرف على إنشاء الجدار العازل على 500 كلم يبتدئ من السمارة إلى بوجدور، قبل موته الغامض سنة 1983. جاء في أسبوعية الحياة العدد 1 بتاريخ 29 فبراير – 6 مارس 2008 في ملف حول الصحراء؛ “الجدار العازل طوله 2500 كلم، مزود بالرادارات والوسائل الخاصة للمراقبة الالكترونية المتطورة التي تحتاج إلى 130 ألف جندي من أجل حمايتها لوحدها فقط، بتكلفة 3 مليار دولار”.

إعلام الاستبداد.. سلاح تجييش

التغطية الإعلامية خطط لها الحسن الثاني بسرية تامة، لنسمع ما قاله أحد قدماء الإعلام الناطق باللغة الاسبانية، سعيد الجديدي؛ “إن فكرة إنشاء إذاعة طرفاية جاءت من الحسن الثاني الذي أمر محمد بنهيمة وزير الداخلية آنذاك.. وإن مهمة إذاعة طرفاية لم تدم إلا سنة واحدة، لان مهمتها انتهت بعد المسيرة الخضراء، وكان الهدف من خلقها هو التحضير للمسيرة ومواكبتها” ويضيف أن “هدف الحسن الثاني هو أن تقوم الإذاعة بالتحضير للمسيرة ولذلك تم التفكير بطريقة سرية جداٌ في إنشاء الإذاعة وكان الحسن الثاني يركز على اللغة الاسبانية والدعاية بها ولهذا تم اختياري مع بعض الزملاء..”. واتصل به حسب قوله محمد بنددوش مدير الإذاعة ومحمد خالص المدير العام وقال له بان السلطات العليا بالبلاد تريدك أن تكون في طرفاية. ولهذا انتقل سعيد الجديدي إلى مدينة أكادير بالجنوب ووجد في انتظاره الجنرال أحمد الدليمي وقد تكلف الكولونيل الشعرة بإيصال سعيد الجديدي إلى مدينة طانطان عبر طائرة عسكرية. (سعيد الجديدي في حوار مع إدريس الكنبوري، يومية المساء عدد03/06/2009).

لنسمع ما قاله مدير الإذاعة إذاك محمد بن ددوش “إن وزير الإعلام أحمد الطيبي قال للمهندس قويدر بناني مدير التلفزة أن الحسن الثاني أعطى موافقته على الخطة التي تم إعدادها في التلفزة والإذاعة.. وقد قدمت تجهيزات ومعدات ضخمة من فرنسا على عجل.

وطبقا لخطة الملك انخرطت القوات المسلحة الملكية في عملية تنفيذ الخطة ، وكانت الطائرات تنقل التجهيزات من فرنسا إلى مدينة أكادير بالجنوب المغربي مباشرة ضمن رحلات متتابعة ، وبعد ذلك يتم نقلها في شاحنات الجيش إلى المواقع التي تم اختيارها لنصب التجهيزات ويقول بن ددوش إن السباق ضد الساعة كان قويا من طرف التقنيين وأفراد الجيش معا، ثم يشرح : “إن الخطة فشلت ولم يكشف مكان العطب، وتم الاكتفاء بنقل التسجيلات (تسجيل المراسلات ونقلها عبر الجو إلى أكادير ثم إلى العاصمة الرباط أي أنهم لم يستطيعوا انجاز محطة إذاعية بالمشاركة بين الجيش والتقنيين” (حلقات “ذاكرة الإعلامي محمد بن ددوش” كتبها توفيق ناديري).

هذه هي السرية التامة للمسيرة الخضراء التي شحنت فقراء القرى ومعدمي المدن القصديرية وجيوش البروليتاريا في الشاحنات في أيام البرد القارس في بداية شتاء 1975 باسم الوحدة الوطنية واسترجاع الصحراء للملك وحاشيته، الذين جمعوا وراكموا الملايير.

أما الفلاحون المغاربة أصحاب الأرض التي انتزعت منهم بحجة القوانين الاستعمارية والسلاح الفتاك وفقراء الهوامش، الذين شاركوا في المسيرة الخضراء خوفا من بطش أجهزة النظام أو صديقا لأضاليله، فلم يزدادوا إلا بؤس وشقاء، وأغلبهم مات منسيا.

بلغت ثروة الحسن الثاني بعد موته 40 مليار درهم، أما الديون التي أصبح المغاربة بسببها فاقدي السيادة على خيراتهم فبلغت 44 مليار درهم، هذا جزء من الحقيقة التي تخفيها البورجوازية على الجماهير. وهي ديون مشينة وكريهة، لأن الجماهير الشعبية لم تستفيد منها.

كم تطلبت المسيرة من المواد الأساسية؟

ما يناهز20 ألف طن من المواد الغذائية، وأكثر من 2500 طن من المحروقات و230 سيارة إسعاف و300 شاحنة تابعة للمكتب الوطني للنقل و1200حافلة لنقل المشاركين/ات و23 ألف طن من الماء، تمت مضاعفة هذه الأرقام بنسبة 2.5 بسبب البقاء في الصحراء من 21 أكتوبر إلى نهاية نونبر 1975، أي زيادة 63 ألف طن من الماء تقريبا و43 ألف طن من المواد الغذائية و10 ألف خيمة و430 ألف أنية للطبخ و35 ألف غطاء.

كانت قوات الجو والمظليين تتولى إمداد المشاركين بأكياس طحين القمح والمواد الغذائية، عبر إلقاءها فوق مواقعهم بطرفاية مستعملين طائرات (س- 130) التي تسلمها النظام المغربي من الولايات المتحدة الأمريكية عدوة الشعوب وحامية الأنظمة الرجعية والاستبدادية.

فرض على المشاركون بمخيمات طرفاية انضباط شبه عسكري، وتم توزيعهم إلى مجموعات ( مخيمات محكمة) غذاؤهم خبز وسردين معلب، وحتى شركة التبغ المغربية الاحتكارية استغلت الفرصة وتخلصت من التبغ الأسود الرديء.

التكلفة من دم الشعب المغربي الذي انتزعت منه أرضه.

حسب الكاتب ” موريس باريبي” صاحب كتاب “نزاع الصحراء”، كلفت المسيرة الخضراء الشعب المغربي 300 مليون دولار أي 300 مليار سنتيم، تم جمع جزء كبير منها من جيوب الكادحين المغاربة عن طريق اكتتاب وطني. وجزء من طرف مساعدة خارجية، من نظام الرجعية بالسعودية.

بعد أن انتزعت أراضيهم وهجروا من قراهم وكممت أفواههم بالقمع والاعتقال، حمل النظام الملكي المغاربة المعدمين تكاليف المسيرة الخضراء، وكذلك تكاليف حرب الصحراء الغربية إلى الآن. فرض اكتتاب/ ضريبة على الأشخاص المعنويين (الشركات والمقاولات)، والأشخاص الذاتيين (الكادحين الفقراء) ليست هذه الضريبة سوى قناع اقتراض ضخ في خزينة الدولة أكثر من 108 مليار في أقل من 3 شهور.

سياق المسيرة… تعميق التبعية وترسيخ أسس الرأسمالية

في هذه الفترة بالذات تعمقت تبعية المغرب للإمبريالية، ففي 24 يونيو 1964 وقع المغرب أول اتفاق مع صندوق النقد الدولي، واستفاد من” تسهيلات مالية ” بلغت 1.3 مليون دولار، وبدأ ينفذ تعليمات المؤسسات المالية (صندوق النقد الدولي والبنك العالمي ) مثل الاعتماد على الفلاحة التصديرية إلى الخارج من اجل الحصول على العملة الصعبة، من أجل تسديد الديون.

تم إنشاء مكتب (التسويق والتصدير) ووضع مدونة الاستثمار الفلاحي في شهر يوليوز 1969 لتشجيع الاستثمار الخاص في القطاع الفلاحي، بسن سياسة الإعفاء الجبائي.

شكللت الفلاحة 41% من مجموع الصادرات و مع ذلك عرف المغاربة الجوع والعطش والحرمان. ولا يتسع المجال هنا لذكر كل الانتفاضات على كل الخريطة ضد هذه السياسة.

استمرت الطبقة البورجوازية في فتح الأبواب للاستعمار. وقع المغرب على اتفاق الشراكة مع المجموعة الاقتصادية الأوروبية سنة 1969، وحددت سياسة البلد ووجهته إلى الليبرالية المفرطة، وسيتم تجديده في سنة 1976 انطلاقا من هذا التاريخ، أي زمن تنظيم المسيرة الخضراء ( السلم الاجتماعي ..الإجماع الوطني…الوحدة الترابية..المسلسل الديمقراطي..).

أصبح المغرب تحت القبضة المتينة لكل من (فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية ) من خلال قروض وإعانات مشروطة توجه اقتصاد المغرب لمصالحها. ويدعي النظام أنه توجه نحو الصحراء الغربية لاستكمال التحرير رغم أن غارق حتى أذنيه في رهن البلاد للإمبريالية.

هذه هي الامتيازات التي وضعها النظام الملكي للرأسمالية؛ إعفاءات ضريبية، مكافآت %30 من تكلفة المشاريع، تحمل نصف تكاليف المشاريع المتعلقة بالبنيات التحتية، 100% من التجهيزات الاجتماعية… الخ). كل هذا من أجل الحصول على العملة الصعبة لتسديد الديون.

كانت النتيجة بطالة واسعة وفقر مدقع وهجرة نحو المجهول في الداخل والخارج. ورغم ذلك تضخمت كرة ثلج المديونية، انتقل الدين العمومي الخارجي من 750 مليون دولار من سنة 1970 إلى 17.24 مليار دولار سنة 1986، بزيادة وصلت 2300% في ظرف 17 سنة.

هذه هي نتيجة الإجماع الوطني خلف المبدع والعبقري الحسن الثاني، الإجماع على إغراق المغاربة في الديون الأبدية والقهر والمرض والمصائب.

في الأساس خصصت هذه الديون لتنمية رأسمالية محلية من خلال مؤسسات عمومية امتصت 45% من الديون المتراكمة بين 1973 و1977 منها 30% للمكتب الشريف للفوسفاط و2.3% للبنك الوطني للإنماء الاقتصادي ز8.2% للقرض الفلاحي والقرض العقاري والسياحي. واستحوذت سياسة السدود على 25% من القروض متعددة الأطراف ما بين سنة 1975 و1982.

تتواصل استفادة هذه الأقلية عبر الدعم المالي والإعفاءات الضريبية وسوق الدين الداخلي (80% من المديونية الداخلية تتحكم فيها الطغمة الحاكمة).

تطور حجم الديون العمومية الخارجية في فترة المسيرة الخضراء من 750 مليون دولار عام 1970، إلى 5 مليار و 97 مليون دولار سنة 1977. وفي سنة 1980 ارتفعت إلى 9 مليار و 217 مليون دولار.

تعرضت هذه المؤسسات التي كانت الديون مخصصة لها لنهب كبير، وبلا محاسبة وتمت خوصصتها في النهاية للرأسمال الأجنبي وخديمه المحلي.

شهادة مشارك

لنعيش ظروف وأجواء المسيرة الخضراء مع أصغر مشارك فيها، كما حكاها لإدريس ولد القابلة، المنشورة في(Sahara hebdo )، يقول الفيلالي حاجي الذي شارك وهو طفل يبلغ من العمر 14 سنة: “قبل صعودنا إلى الشاحنات والتوجه إلى الصحراء وقفنا في صفوف طويلة/طوابير، كل مجموعة وقفت أمام الشاحنة التي ستنقلها، ووزعوا علينا (القران الكريم، الأغطية، قنينة ماء، ورقة تعريفية باسم المشارك والمكان ورقم الشاحنة التي ستنقلنا إلى الصحراء…).

يضيف “كان ازدحام كبير بين المشاركين فوق الشاحنات، وتم تقسيم المشاركين إلى مجموعات، وترأس مجموعتنا شيخ مسن أمي، يجهل الكتابة والقراءة، وكنت أنا من يكتب ويقرأ له ويساعده في عمله….بعد خروجنا من مدينة طانطان ونحن في الشاحنة أعطونا 6 علب من السردين، وقنينة ماء من حجم 1.5 لتر، وخبزتان”.

عن لحظة العودة يقول الفيلالي حاجي “بعد عودتنا ونحن في صحة غير جيدة/مهلوكة نتيجة البرد ومناخ الصحراء، انتقلنا إلى مركز البلدية وسلمونا (ميداليات المسيرة، وبطاقة القسم “مسيرة فتح”، وبطاقة التطوع ).

الكفاف والجوع وميدالية قابلة للصدأ مع بطاقة مصنوعة من ورق للمفقرين والمشردين، وهكتارات أجود الأراضي والرواتب المجزية الخيالية لخدام الاستبداد والرأسمال.

إن المغاربة منزوعي الأرض والماء، الغارقين في البؤس والحرمان…أين ما رحلوا يموتون، تحت سقف البيوت القديمة والمتهالكة وفي الطرق في حافلات الخردة المستوردة. هل يعرفون حقيقة مصير أموالهم وخيراتهم؟

فلنستمع إلى محمد طارق السباعي عن الهيئة الوطنية لحماية المال العام في رده على سؤال طرحته عليه جريدة “الأسبوعية الجديدة العدد 25 -7/13 ابريل 2005: يقول طارق “… إن معدلات البطالة والفقر وانعدام الخدمات الطبية وذيوع أزمة السكن وتدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي ، إن النهب كثير وكثير جدا ، فالنهب يطال الثروات الوطنية ومن ضمنها مثلا : المكتب الشريف للفوسفاط الذي لا نطلع على مداخليه وكيفية صرفها كما يطال النهب الثروات السمكية والصيد في أعالي البحار ونجهل تماما المقاييس المعتمدة في تسليم رخص الصيد..”. وتضيف الهيئة الوطنية لحماية المال العام على لسان محمد طارق “حجم المال المنهوب من الشعب المغربي يفوق 200 ملياردرهم، ولائحة المؤسسات المنهوبة طويلة (القرض العقاري والسياحي، البنك الوطني للإنماء الاقتصادي، البنك الشعبي، الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وزارة الفلاحة (أراضي صوديا) شركة (كوماناف ) للملاحة البحرية، الجمارك، وغيرها كثير…

هذا هو العدو الحقيقي وليس عدوا شبحا، يكمن وراء رمال الصحراء، وهو سبب شقاء الكادحين مغاربة وصحراويين، إنه الفساد الشامل، إنه الخراب والدمار بسبب كمشة حاكمة تفعل ما تشاء وقت ما تشاء. هذه هي الأسباب الحقيقية التي جعلت المغاربة بعد المسيرة الخضراء يتوجهون إلى الصحراء بحثا عن شغل وخبز وحياة كريمة، بالإضافة إلى سياسة النظام وحاشيته المطبقة هناك (الأجرة المضاعفة، الأسعار المنخفضة، دعم المواد الأساسية، الإعفاء الضريبي.. وامتيازات كثيرة …الخ)

البحث عن حياة أفضل هو الذي دفعهم إلى الزوابع الرملية والحرارة والمناخ القاسي والجاف، ومزاحمة الصحراويين المعدمين فوق أرضهم. إن القضية لها جذور فالإنسان ابن بيئته، ولا يهجرها إلا مكرها.

الجيش الملكي يقود وينظم المسيرة الخضراء

الاستعدادات الأولية للمسيرة تمت في سرية تامة بين الملك الحسن الثاني وكل من الكولونيل عبد العزيز بناني والكولونيل محمد اشهبار والكولونيل محمد الزياتي. وظلت في الكتمان إلى الساعات الأولى من الإعلان عن انطلاق المسيرة الخضراء، وفي خطاب 16 أكتوبر 1975 دعا الحسن الثاني الشعب المغربي للمشاركة في المسيرة، من أجل تحرير الصحراء.

يقول رشيد الحديكي مؤلف “السياسة الخارجية في عهد الحسن الثاني”: “فكرة المسيرة الخضراء برزت لدى الحسن الثاني في شهر ماي 1975، وذلك في حديث له يوم 8 ماي مع إذاعة “راديو فرانس بريس”. وقد لمح لذلك من خلال رده على سؤال يتعلق بتجمع القوات المسلحة الملكية في حدود الصحراء الغربية، وكان جوابه للصحفي “إنه إجراء وقائي لحماية مسيرة سيقوم بها المغاربة والملك في مقدمتهم في اتجاه الصحراء..” وهذا القول أكده الصحفي البريطاني “سيتفان هوغيس”. (المصدر: إدريس ولد القابلة في مدونة- ملفات تاريخ المغرب).

كانت مهمات الجيش توفير الأمن وتأطير المسيرة وتوزيع التموين (على المغاربة وبعض المشاركين من دول أجنبية، فقد شارك في المسيرة الخضراء سفراء كل من السعودية والأردن والإمارات وسلطنة عمان والسودان وقطر والغابون، ووفد من السنغال، والأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي ).

المهمة تمت هكذا: تكليف ضابط سامي يساعده ضابط على 2500 مشارك، إلى جانبهم قائد و3 مساعدين وطبيب وبعض فقهاء الدين الإسلامي يعطون الدروس الدينية. أما أحمد السنوسي السفير المغربي بالشقيقة الجزائر سابقا والذي تم تعيينه الممثل الدائم للمغرب بالأمم المتحدة في ما بعد فقد وصف المسيرة الخضراء، بـ”الحرب السلمية”.

وقد قام المشرفون على تنظيم المسيرة بطبع 350 ألف مصحف/ قرأن كريم من مطبعة المحمدية في سرية تامة. وحسب أحمد السنوسي أن التاجر المغربي بيرنار ليفي أخبره بسر شراء 350 ألف غطاء من الدار البيضاء وأن الجيش هو من تكلف بعملية الاقتناء هذه، وكذلك ذهاب الكولونيل محمد الزياتي إلى ولاية تكساس لزيارة مستودع للقوات الأمريكية للبحث عن صناديق من المطاط (الكاواتشو) التي بإمكان الطائرات رميها من علو منخفض، وبراميل من حجم (5 أطنان من الماء) وان الكولونيل الزياتي هو من تكلف بالعتاد .

قبل 6 نونبر 1975 بأيام قليلة التقى “كارو مارتينيز” بالملك الحسن الثاني بمدينة أكادير جنوب المغرب ودار بينهما حديث دام عدة ساعات، ولا أحد عرف مضمونه، وكان الوزير “كارو مارتينيز” مكلف بالصحراء الغربية التي كان يطلق عليها “الصحراء الاسبانية” وبعد اللقاء بقليل جدا تحرك 20 ألف جندي مغربي نحو طرفاية بالصحراء الغربية ( ثلث القوات المسلحة الملكية حينذاك) مقسمين إلى 4 وحدات، قادها كل من الكولونيل أحمد الدليمي والكولونيل بنعمان والكولونيل بن كيران والكولونيل المجاوي والكولونيل الوالي.

تأسست الإستراتجية السياسية للملك الحسن الثاني على استخدام الجيش ضد الشعب المغربي في المرتبة الأولى، ثم ضد الأحزاب السياسية إذا ما أصبحت قوية وفي مقدمة الجماهير المهددة لحكمه. الجيش هو الذي حسم في قمع انتفاضات (65-81-84-91-) بالإضافة إلى المشاركة في كسر الإضرابات العامة وبالخصوص في قطاع النقل.

هنا يجب أن نتابع كيف رتب الملك أمور الجيش، لأن عرشه كان مهددا. بعد أن نجا الملك من انقلاب الصخيرات الذي قاده الجنرال محمد اعبابو بتاريخ 10يوليوز 1971، عين الملك الجنرال محمد اوفقير وزيرا للدفاع ورئيس للقيادة العامة للقوات المسلحة الملكية، مع كثير من الامتيازات والرفع من أجور القيادات العسكرية. وبعد المحاولة الانقلابية الثانية يوم 16 غشت 1972، أصبح الأمر بيد الملك والسيطرة على الدفاع من خلال استعادة وزارة الدفاع وأصبحت من المقدسات وخارج كل نقاش سياسي، وهي احد أهم أسرار النظام.

في تاريخ 10 أكتوبر 1972 تم تقديم 210 (مجموعة من الطيارين والعسكريين ) من القاعدة الجوية بالقنيطرة للمحكمة العسكرية بنفس المدينة، وحكم على 14 من بينهم الربابنة (أمقران وكويرة) ونفذ فيهم حكم الإعدام سنة 1973 وحكم على 32 بأحكام تتراوح بين 3 سنوات إلى 20 سنة .

بعد هذه المحاكمة وإبعاد اوفقير وإعادة هيكلة الجيش وتصفيته من القيادات التي تشكل خطرا على الملك وحاشيته، وبعد سنوات قليلة على هذه الأحداث ، جاء تنظيم المسيرة الخضراء في اتجاه الصحراء الغربية في 1975 والتي شكلت فرصة جد ثمينة للملك وحاشيته.

حقق الحسن الثاني مجموعة من الأهداف أهمها، إبعاد اهتمامات الجيش نحو الصحراء بعد التصفيات الكبرى لقيادته ودفن الضباط في السجون السرية وإعادة هيكلته الداخلية بعد إزاحة أوفقير وتصفيته، وقد ربح الملك وقتا مهما في إعادة هيكلة القوات المسلحة الملكية من خلال تغيير جذري في قواعدها الاجتماعية؛ تعويض الضباط المنحدرين من الفئات الشعبية بضباط من أبناء الطبقة البرجوازية، وتعزيز وتقوية سلطة الملك بدعم من الامبريالية (فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية) التي أطرت الجيش الملكي وحمت مصالحه الأمنية وسلحته بأحدث الأسلحة والتجهيزات والعتاد ومضاعفة الجنود مركزة على أبناء البوادي الأميين ضحايا التعليم الطبقي، وتشكيل جيش ذكوري، بأجرة هزيلة جدا، ومنع على العسكريين مطالعة الكتب بجميع أنواعها وبالخصوص السياسية وتم عزلهم عن المجتمع وحصرهم في الثكنات وتربيتهم على الطاعة العمياء للملك وأسرته، وإنشاء عداوة بين (العسكري والمدني) من خلال استعمال الجنود البسطاء أبناء الفقراء في إغراق انتفاضة أحياء البؤس في الدم. إن ميزانية الجيش الملكي لا تناقش، وحاشية الملك التي يطلق عليها نواب الأمة كذبا وزورا، لا تنبس ببنت شفة حول الموضوع، وجزء من التمويل لبناء جيش ملكي قوي لحماية البورجوازية، تكلفت به الرجعية (السعودية والكويت).

دور أعيان الصحراء

هنا لابد من طرح سؤال حول من أرشد الجيش الملكي في تضاريس الصحراء الغربية؟ هذا ما يجب أن يعرفه كادحو الصحراء، الذين يعتقدون أن الكادح المغربي هو العدو وانه مستوطن، وابن الصحراء الذي ارشد ونهب وسرق واستفاد من الخيرات، ليس عدوا، لأنه ابن القبيلة.

هذه هي السياسة التي زرعها النظام، القبيلة والشرفاء وحفنة من أثرياء المنطقة يلعبون بعقول الشباب لخلق نزعة متشددة رجعية ومتخلفة تعود بالإنسانية إلى العصور القديمة. القبيلة ضد التنظيم؛ في العصور القديمة كانت القبيلة أما اليوم فإما الديمقراطية وسلطة الشعب أو الاستبداد وسلطة البرجوازية.

إن هدف النظام هو التحكم في تمرد الشباب من خلال العنصر القبلي بواسطة الأعيان ( الدرهم، الجماني، الدخيل، ولد الرشيد، أهل ماء العينين، لاراباس ..الخ ). أي الأغنياء الكبار الذين يستثمرون الأموال الطائلة في قلب المغرب.

إن تحريف الحقد الطبقي باستعمال القبلية وتوجيهه نحو ضحايا الاستبداد وجعلهم أعداء الكادحين الصحراويين، هي في قلب سياسة النظام المغربي، وإعادة استنساخها من طرف الصحراويين ليس إلا خدمة لهداف النظام.

إن الشعوب كانت دائما تعيش في سلام، والنزاع قام بين النظام وجبهة البوليساريو، النظام المغربي يقول إن قبائل الصحراء كانت تبايع أسلافه، والبوليساريو تقول إنها حركة تحرر ضد الاستعمار الاسباني وتريد بناء وطن مستقل عصري جديد وديمقراطي والمغرب اغتصب أراضيها.

لنتعرف على من قاد الجيش الملكي في تخوم الصحراء؟

إن هذا الدور قام به مجموعة من أبناء المنطقة، التي خلقها الملك الحسن الثاني وأطلق عليها اسم “كتائب المسيرة الخضراء” وكانت أولى الكتائب التي رافقت المسيرة وتقدمت المشاركين فيها.

بلغ عدد الكتائب أكثر من 5 كتائب، كل واحدة تضم نحو 450 شخصا، وتم إسناد مهمة قيادتها إلى ضباط من سكان الصحراء الغربية، ومن بينهم قدماء من جيش التحرير الذين التحقوا بالقوات المسلحة الملكية بعد تصفية جيش التحرير من خلال معركة “إكوفيون”، ومن بين هؤلاء أبا الشيخ، وأبا علي والخر محمد ولحبيب حبوها والشريف المختار ولد الغيلاني ومحمد قشار… وكلهم كانوا برتبة رائد (كابتن).

كانت مهمة هذه الكتائب هي التقدم للاستكشاف، وفتح الطريق أمام الفيالق العسكرية وخلف هذه الكتائب كانت توجد فيالق يتعدى أفراد كل فيلق 2000 فردا، من بينها الفيالق التالية (السمارة وبوكراع وطرفاية) وفيالق أخرى متجولة مهمتها النجدة والمساندة.

بعد 1975 اشتعلت الحرب وزاد لهيبها وفي معمعة النيران شكل الملك وجيشه قوات أطلق عليها (الوحدات المتنقلة) والتي تشكلت من القوات المسلحة والقوات المساعدة، وأغلب عناصرها ينحدرون من أبناء الصحراء الغربية وجنوب المغرب، ممن كانوا يعرفونها جيد، هم من أهلها ولهم قدرة كبيرة على تحمل قسوتها وصلابة طبيعتها الوعرة، وأشهر هذه الوحدات هي (ايدة التامك وامحمد مولاي والخرشي…).

سلح الحسن الثاني سكان بعض المناطق الصحراوية بكاملها، وزرع نعرة القبلية ضد وطنية الشهيد مصطفى الولي السيد أحد مؤسسي جبهة البوليساريو.

الإجماع الوطني

الهدف الأساسي الآخر الذي حققه الملك من خلال ضم الصحراء الغربية هو الإجماع الوطني حول الملك وذلك من خلال عقد تحالف استراتيجي مع الأحزاب ( الاتحاد الوطني للقوات الشعبية والحزب الشيوعي الذي غير اسمه إلى التحرر والاشتراكية ).

زاد الارتباط القوي لهذه الأحزاب مع نظام الملك الحسن الثاني بعد أن خرجت من رحمها تيارات جذرية تتبنى الماركسية- اللينينية والماوية (23 مارس والى الأمام ولنخدم الشعب )، إضافة إلى المحاولتين الانقلابيتين .

بعد أن تقوى الملك دمر كل الحركات الجذرية التي تنادي بالجمهورية وإسقاط حكمه الاستبدادي وبناء نظام اشتراكي. إن هذه الفترة كان العرش فيها على وشك الانهيار، كان الغضب الشعبي متجه نحوه من كل جهة وصوب، وفقد الشرعية وانعزل عن الشعب، لكن الرأسمالية والامبريالية العالمية وحلفائها بالداخل وضعوا يدا في يد لانقاذه.

شعر الحسن الثاني بعرشه يهتز، وبدأ يفكر في فتح حوار- طالما رفضه- مع المعارضة البرجوازية، وطرح عليها مشروع دستور جديد للاستفتاء، ولكنه همشها وأبعدها من المشاركة في صياغته واقترح تشكيل حكومة وحدة وطنية.

ساهمت هذه المناورة في تشتيت المعارضة، واهتزت الكتلة الوطنية التي لم يمر على تأسيسها سوى سنتين، وتفكك رباط الوهم (شعب عظيم مكافح وجبار وقيادة بورجوازية خنوعة متخاذلة وغشاشة وشيوعية دبلوماسية موسكو الجبانة).

إن التناقضات داخل حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية فرقت ما بين قابلي شروط الحسن الثاني ومسلسله الديمقراطي والثوار أنصار الكفاح المسلح. في سنة 1970 نظمت انتخابات برلمانية، قاطعتها أحزاب الحركة الوطنية (الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية ).

أفرزت هذه الانتخابات نواب الملك الذين سينطلقون في تأسيس أحزاب الملك، في كل سنة وكل مرحلة، في أفق تشكيل 60 حزب. هكذا سيطر أعيان النظام على مؤسسات الواجهة، بعد سحق المناضلين وكل أطياف المعارضة.

حصدت حاشية الحسن الثاني الغير منتمية للحركة الوطنية عفي انتخابات 1970 على 214 مقعد، وحصلت الحركة الشعبية على 21 مقعد، وحصل المنشقون عن حزب الاستقلال 4 مقاعد، ومقعد واحد للمنشقينعن الاتحاد الوطني.

لم يكن صعبا تحقيق هذا الإجماع، فتحرير كامل ترابا لمغرب كان في صلب أيديولوجية الحركة الوطنية، بالنسبة لعلال الفاسي الزعيم الوطني الشيخ فإن استعادة الصحراء حتى نهر السينغال هي واجب مقدس. وعلي يعته الشيوعي لا يقل عنه تصلبا، وليس للفقيه البصري موقف مغاير، أما المهدي بنبركة الذي كان له موقف بالنسبة لموريتانيا، فإنه لم يكن يحتمل أي شك بمغربية الصحراء الغربية. انطلاقا من البرجوازي الفاسي حتى أفقر قروي في الجبال، ومن العسكري إلى المثقف الإجماع عمليا تام دون أي صدع.

تفكيك اليسار الجذري

هذا هو السياق الذي فرق بين مساندي الحسن الثاني والرافضين لاستبداده وانفراده بالحكم.. بتاريخ 02/ سبتمبر 1970 قررت اللجنة المركزية للاتحاد الوطني للقوات الشعبية عدم المشاركة في الانتخابات المحلية ليوم 03 أكتوبر- عرفت هذه السنة حملة اعتقالات في صفوف مناضلي الحزب (ا و ق ش) وحزب الاستقلال حيث دعيا إلى التصويت بـ”لا” في استفتاء 22 يوليوز 1970 لتعديل الدستور، وإنشاء “الكتلة الوطنية”.

إن هذه المرحلة من تاريخ المغرب مهمة ومعرفتها ستساعدنا على معرفة الأهداف التي حققها الملك من تنظيم المسيرة الخضراء.

في سنة 1971 ازداد القمع على مناضلي (ا و ق ش )، وفي هذه السنة يعرض الحسن الثاني على حزب (ا.و.ق.ش) بعض المناصب في قطاعات أساسية، لكن الحزب رفضها، وفي 08 أكتوبر 1972 اجتمعت اللجنة المركزية لحزب (ا و ق ش ) في مدينة الدار البيضاء، وبعد الاستماع إلى التقرير المقدم من طرف عبد الرحيم بوعبيد، وبعد عروض ممثلي الأقاليم، أصدرت اللجنة المركزية بيانا عاما، حول الأوضاع بالبلاد والذي حددت فيه مطالب خاصة تتعلق بانجاز خطة وطنية متكاملة قصد تحرير الصحراء وسبتة ومليلية، بجميع الوسائل الفعالة التي يفهمها الاستعمار.

في يوم 10 ماي 1973 تأسست الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء وواد الذهب ( بوليساريو) أي قبل تنظيم المسيرة بسنتين، وفي 20 ماي بدأ الكفاح المسلح ضد الاستعمار الاسباني، ولمعرفة وضع الثوار بالمغرب يجب العودة إلى كتاب المهدي بنونة حول فشل ثورة 1963 -1973 المعنون ب ” أبطال بلا مجد ” الذي تحدث فيه عن الجناح الثوري المسلح داخل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية..

في هذه المرحلة عرف المغرب أحداث تاريخية مهمة، من بينها عدم انعقاد مؤتمر الاتحاد الوطني لطلبة المغرب في وقته المحدد قانونا، وهو سنة 1971، بسبب ( المحاولة الانقلابية الأولى) لأن المؤتمر صادف هذه المحاولة في نفس الأسبوع، وفي شهر غشت 1972 انعقد المؤتمر الخامس عشر، وصدر عنه بيان عام، وأشار في نقطة الوضع السياسي بالبلد (القمع والاختطاف والاعتقالات والاغتيالات..)، وكذلك العمالة للامبريالية العالمية من طرف النظام، وعلاقته الدائمة بالمخطط الاستراتيجي مع النظام الاسباني على حساب الشعب الصحراوي (وثائق المؤتمر الخامس عشر، غشت 1972 بالرباط ، ملتمس حول الرجال الزرق )

بعد هذا البيان الصادق والوفي لتضحيات الشعب المغربي ، وخوف الحسن الثاني من تطور الأمور إلى تماسك نضالات الجماهير، عمال وطلبة وفلاحين، أعلن النظام الحظر القانوني للاتحاد الوطني لطلبة المغرب، بتاريخ 24 يناير 1973الذي استمر حتى نوفمبر 1978).

ظلت قضية الصحراء الغربية حاضرة في النقاشات داخل الحركة الماركسية- اللينينية بالمغرب، وقد عبرت هذه الحركات عن موقفها من قضية الصحراء من خلال وثيقة “فلسطين جديدة في أرض الصحراء نشرت بمجلة أنفاس العددان 7/8 دجنبر 1971 يناير 1972.

إذا كان الحسن الثاني نجح في جر عدد كبير من الإصلاحيين إلى جوقته بقضية الصحراء والإجماع الوطني، فالقضية خلقت نقاش واسع في أوساط الحركة الماركسية– اللينينية وامتداداتها الطلابية والشبيبية في منتصف السبعينات. في البداية أصدرت منظمة 23مارس ومنظمة إلى الأمام بيانا مشتركا بتاريخ 24 يونيو 1974 يؤكدان فيه تشبثهما بمغربية الصحراء وبعد ذلك ستشرع كل منظمة في التعبير عن موقفها حول قضية الصحراء .

تراجعت منظمة “إلى الأمام” عن موقفها في مسألة “تقرير المصير”، مؤكدة أنها ضد قيام الدولة المستقلة، وفي نفس الوقت ضد “الضم التعسفي”، واقترحت حل إقامة “الجمهورية الديمقراطية الشعبية”، جاء هذا الموقف في بيان صادر عن “إلى الأمام ” في 01/08/1974 ، وهو نفس الموقف الذي ستعلن عنه سنة 1975 في موضوع “النضال طريقنا لانتزاع مطالبنا” جاء في بيان صادر عن المنظمة بتاريخ 15 فبراير 1975.

خلال هذه السنة بدأت النقاشات تدور وطرحت فكرة جديدة وهي “حق تقرير المصير للجماهير الصحراوية، وليس الشعب الصحراوي”. (طريق الثورة العدد الأول 15 ابريل 1975).

وفي سنة 1977 ستحسم الأمر لتعلن عن موقفها بقوة وهو “حق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره”، استغل النظام الملكي الموقف لحسم صراعه مع الحركة الماركسية اللينينة، وباشر اعتقالات واختطافات ومحاكمات صورية. وقد صاح الثوار الماركسيون المغاربة من داخل قاعة المحكمة (عاش الشعب المغربي..عاش الشعب الصحراوي).

بعد إصدار البيان المشترك بتاريخ 24 يونيو 1974 الذي يؤكد مغربية الصحراء، شرعت منظمة “23 مارس” في القول بان الاعتراف بحق جماهير الصحراء في تقرير مصيرها لا يعني الدعوة إلى انفصالها عن المغرب، بل الخطة التي ينبغي انتهاجها هي العمل على وحدة هذه الجماهير مع الشعب المغربي ( بيان 23 مارس /اللجنة الوطنية شتنبر 1974).

وبعد الضربة العنيفة والقاسية التي تعرضت لها المنظمة في شهر نونبر من نفس السنة، وبعد التحولات التي عرفتها في توجهاتها سنة 1974 ستحسم موقفها نهائيا حول قضية الصحراء ومسألة ” استكمال الوحدة الترابية سنة 1976، حيث لم تكتفي برفض أطروحات “تقرير المصير”، بل بدأت تهاجم رموز أنصاره.

الاتحاد الاشتراكي: ثمرة الإجماع الوطني

في سنة 1975 تأسس حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بعد القطيعة مع وثيقة الاختيار الثوري التي استشهد من أجلها عدد من مناضلي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وعلى رأسهم صاحب الوثيقة .

تأسس الاتحاد الاشتراكي بعد أن اختار عبد الله إبراهيم الذي ترأس (حكومة 24 دجنبر 1958) الابتعاد عن العمل السياسي. اختارت المجموعة التي نظمت المؤتمر الاستثنائي سنة 1975 الالتحاق بالقصر والتفاني في خدمته ضد إرادة الجماهير الشعبية في حقها في تقرير مصيرها بنفسها .

نفس الطريق سلكه الحزب الشيوعي المغربي بعد أن تأسس حزب التقدم والاشتراكية سنة 1974 وظل علي يعتة على رأس الحزب إلى يوم وفاته.

هذا هو السياق السياسي الذي نظم فيه الحسن الثاني المسيرة، وإنقاذ عرشه من السقوط وإنهاك الأحزاب الوطنية. في سنة 1974 قبل المؤتمر الاستثنائي عقد الملك الحسن الثاني لقاء مع الزعيم عبد الرحيم بوعبيد، وكان مدعوا لهذا اللقاء الشهيد عمر بن جلون، لكن عمر رفض الحضور لهذا اللقاء مع الحسن الثاني، وتمت دعوة أحد قيادي الحزب من متعقل تمارة للقيام بهذه المهمة، وهذا اللقاء يطلق عليها “صفقة إفران خريف 1964”.

كانت أهم شروط الملك الحسن الثاني على عبد الرحيم بوعبيد هو القطع مع الفقيه البصري ورفاقه. وأشار الملك إلى أنه ليس لديه أية عقدة من اسم “الاشتراكية” وانه ليس له مانع من تسمية الحزب ب “الاشتراكي”، ما دامت اشتراكيته لن تكون حاجزا أمام الإجماع الوطني. بعث عبد الرحيم بوعبيد برسالة إلى كل من الفقيه البصري وعبد الرحمان اليوسفي في منفاهما يطلب منهما الاستقالة من منصبهما في الكتابة العامة، وهو ما استجاب له اليوسفي من خلال شريط صوتي، ورفض الفقيه البصري باعتبار أن هذا إملاء من الملك الحسن الثاني على بوعبيد وابتزاز له ما كان ينبغي الخضوع له.

بعد أن سحق النظام الجناح الثوري من الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ( تنظيم 3مارس) وتعرض اليسار الثوري بداية السبعينات لقمع عنيف، وهمش الوزن السياسي للنقابيين في الاتحاد المغربي للشغل (جناح عبد الله إبراهيم )، تم تبني إستراتيجية النضال الديمقراطي، كما صاغاها الاتحاد الاشتراكي عام 1975، والتي كانت انعكاسا للوزن المتعاظم للعاملين في القطاع العام داخل الحزب، ونجح بذلك في جر الطبقة العاملة إلى معركة النضال الديمقراطي على الطريقة البرجوازية.

في هذه المرحلة أي 1975 زمن تنظيم المسيرة الخضراء، تم نهب أموال العمال، فقد كانت أموال الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي المودعة بصندوق الإيداع و التدبير موضع مساومة بين النظام الساعي إلى تامين السلم الاجتماعي في منعطف انطلاق قضية الصحراء الغربية سنة 1975 والبيروقراطية النقابية المتعطشة إلى فرص جمع المال والاغتناء، لقد فتح الملك احد أبواب النعمة للبيروقراطية، ففي سنة 1975 تفاوضت حكومة أحمد عصمان سريا مع الاتحاد المغربي للشغل، وتقرر تخصيص أموال طائلة من الضمان الاجتماعي لتشجيع سياسة حيازة ملكية السكن، وسياسة صحية وترفيهية، وإنشاء مديرية العمل الاجتماعي، وكان المفاوض باسم (ا،م،ش) هو محمد عبد الرزاق الذي كان نائبا لرئيس مجلس إدارة الضمان الاجتماعي بالمكتب الوطني للكهرباء وصديق المحجوب بن الصديق الكاتب العام للنقابة المذكورة منذ التأسيس إلى يوم وفاته (أكثر من نصف قرن)، وتكلف شخصيا بتطبيق الاتفاقية في أدق تفاصلها، وحلت لجنة الشؤون الاجتماعية للكهرباء محل الضمان الاجتماعي.

البيروقراطية النقابية والأحزاب البورجوازية والجمعيات والمنظمات التابعة لها، كلهم باستثناء( الماركسيون الثوريون والديمقراطيون الجذريون) دعوا قواعدهم للمشاركة في المسيرة الخضراء وتخلوا عن راياتهم وشعاراتهم وحملوا صور الحسن الثاني مرددين شعار “الصحراء صحراؤنا… والملك ملكنا”. إنها الحلقة الأولى من المسلسل الديمقراطي، تقول عنع نزهة الصقلي من حزب التقدم والاشتراكية بعد عودتها من فرنسا سنة 1975؛ “لبيت النداء الملكي”، وحزب التقدم والاشتراكية وجه دعوات للمشاركة بكثافة لمناضليه”. لقد تأسس الحزب في 1974 إذن من اجل تلبية النداء الملكي وتطبيق سياسة الحسن الثاني طبعا، بل حتى الفكرة الأصلية للمسيرة حسب جيل بيرو كانت من طرف علي يعته “الذي وجه انتباه الملك إلى ضرورة الاستعجال ببادرة تقلع بحشد شعبي مغربي لاستعادة الصحراء الغربية”. (صديقنا الملك).

ماذا حدث في الصحراء حينما كانت هذه الانتخابات تجري؟

كان أعيان وبرجوازيون الصحراء أمثال خطري ولد سعيد الجماني، خليه لنا ولد الرشيد والداي ولد سيدي بابا والدرهم وبوعيدة وايدة التامك وماء العينين والدخيل.. وكل أثرياء الصحراء الذين التحقوا بالعرش. يقول محمد علي الحيسن لأسبوعية “الوطن الآن ” عدد 345 -2/يوليوز 2009 وهو معتقل سابق ومنسق محلي لمدينة طانطان حول جبر الضرر الجماعي “..انه ما بين 1976 و1977 بلغ عدد المعتقلين الصحراويين 360معتقلا.. نقل المعتقلين في الشاحنات التابعة للقوات المساعدة إلى معتقلات السرية (اكدز ، قلعة مكونة ، تاكونيت ..) من شهر يوليو 1976 إلى متم شهر دجنبر من نفس السنة سقط 14 شهيدا .. يعتبر سجن اكدز من أقبح المخافر السرية التي عرفها المغرب المعاصر ..” ويضيف الحيسن “..في ليلة 25 أكتوبر 1980 تم نقلنا على متن الشاحنات التابعة للقوات المساعدة إلى معتقل قلعة مكونة .. وما بين المخفرين استشهدا43 شهيد. هذا القليل مما وقع أيام المسيرة الخضراء للصحراويين أنصار الاستقلال.

فترة المسيرة الخضراء التي نظمها واشرف عليها الجيش والداخلية بقيادة الحسن الثاني وجرت البرجوازية لصفها وترك المطالب الأساسية (الجمعية التأسيسية .. الحريات العامة .. إطلاق جميع المعتقلين واستقلال القضاء..ومحاكمة الخونة المجرمين وحقوق القوميات المضطهدة والمساواة بين البشر.. .الخ) هذه المطالب التي فجرتها الثورات العربية المستمرة وانبثقت من عمق المغاربة مسطرة في وثيقة حركة20 فبراير.إن الجماهير الشعبية المغربية العظيمة تريد معرفة الحقيقة كاملة ، ويجب فتح الأرشيفات لكتابة تاريخ حقيقي ومعرفة كل التفاصيل حولها.

إذا كانت البورجوازية تعتبر أن المسيرة الخضراء ارتعاشة قومية كبرى للمغاربة كما عبر عن ذلك عبد الله ساعف ، فهي تشريد المغاربة وتجويعهم .

إدريس البصري… ذراع الاستبداد

خدم هذا الرجل الاستبداد والطبقة البرجوازية التي نهبت الأموال وسيطرت على البلد، لكنه لم يقم بذلك لوحده، لكن البرجوازية تريد أن توجه كل الحقد إلى رجل واحد، بدل طبقة، تريد إبعاد الناس عن جوهر الصراع.

أصر البصري دائما على بنوة عمله لحسن الثاني “إن أفكاري هي أفكار الحسن الثاني في قضية الصحراء، فالحسن الثاني لا يريد الأرض بدون سكانها، وانتهج سياسة التقارب ودمج الصحراويين بشكل تدريجي في النسيج الوطني والشؤون العامة، والحكومة وكذلك في مسؤوليات (الولاة والعمال) وفي التجارة والصناعة والبلديات، فالأرض بدون كسب السكان لن يأتي بأي نتيجة”. (استجواب مع الصحيفة)

يقول إدريس في نفس الاستجواب؛ “أنا اعرف نزاع الصحراء بشكل جيد، لأنني كنت مشرفا على الملف عن قرب وبالقرب من الحسن الثاني..”.

.وكان البصري من نفذ سياسة “إن الوطن غفور رحيم”، وأشرف على عودة عدد كبير من مؤسسي جبهة البوليساريو إلى المغرب وتعينهم مباشرة من طرف الحسن الثاني (ولاة وعمال) بعدد من الأقاليم والعملات والدوائر في كبد الداخلية، وتركهم بعيدا عن الحياة المدنية (الجمعيات النقابات والأحزاب..الخ).

إن مهندس اللعبة هو إدريس، والدخول للمغرب كان يمر عبر قنوات المخابرات العسكرية وعبر المخابرات والأجهزة الأمنية التي كانت تحت سيطرة البصري.

البصري كان من منفذي سياسة الحسن الثاني في قطع الطريق على الألف من الصحراويين لكي لا يلتحقوا بالجامعات حيث الشهادات العليا والنقاش السياسي، بعد أن خلقت الدولة في أواخر الثمانينات “أشبال الحسن الثاني” الذين يبلغ عددهم 7000 تقريبا، وتم تسجيل هذه الفئة من حاملي الشهادات الثانوية والبكالوريا بالعمالات والتحاقهم بالشغل في قطاعات مختلفة خارج قانون الوظيفة العمومية، وحرموا من حقهم في الالتحاق بالنقابات والأحزاب والجمعيات.

لا غنى عن وحدة الكادحين.. مغاربة وصحراويين

إن المواجهات التي تحدث هنا وهناك في بعض المناطق من الصحراء الغربية بين أبناء وفقراء المغرب ومعدمي الصحراء الغربية، وتخلف ضحايا وجرحى ومعتقلين، هذه المواجهات عمياء، لأن شباب الصحراء الغربية يعتبر المغاربة الفقراء مستوطنين احتلوا أرض الصحراء. ولكن الحقيقة هي أن النظام الرأسمالي والاستبداد الملكي هو من شردهم، ولا يمكن أن يترك المغربي السهول والأنهار، والأراضي الخصبة والمياه والهضاب والجبال المكسوة بالثلوج على طيلة السنة والسواحل ومع كل هذا بضع أمتار من جنوب أوروبا، وبلده التي كانت تعتبر جنة أوربا، ويأتي إلى منطقة بيئتها قاسية وغير مألوفة.

إن من دفع كادحي المغرب هو ما قلناه في ما سبق أي انتزاع أراضيهم منهم، وهم الآن مشردون في بلاد أوروبا الغربية كيد عاملة رخيصة وفي الأعمال الشاقة في الصحراء. إن من يسيطر على ثروات الصحراء هي حاشية الملك من الصحراويين أنفسهم مع أغنياء الحروب والنزاعات، المتملقين للاستبداد حامي نفوذهم، المرتبطين شد الارتباط مع أغنياء المغرب ودول الخليج ( أمراء النفط والبترودولار) والامبريالية.

ليس مقبولا من وجهة نظر النضال أن يتواجه معدم صحراوي مع معدم مغربي بالعصي والحجارة والسكاكين والسيوف ويجلس غني مغربي مع ثري صحراوي حول طاولة الصفقات بالملايير.

طه محمد فاضل

نشر على موقع المناضل-ة القديم يوم الاربعاء 28 تشرين الثاني (نوفمبر) 2012

المراجع

• جريدة الأحداث المغربية عدد 8 مارس 2000 الصفحة (6)

• جريدة النهار المغربية العدد 203 الصفحة (2) 29دجنبر 2006

• إدريس ولد القابلة ، نشر بالحوار المتمدن – العدد 2482 – بتاريخ 01/12/2008

• جريدة المناضل-ة – يناير 2011 من كتاب مجدي ماجد – الصراع الطبقي بالمغرب منذ الاستقلال .

• علي فقير – التشكيلة الاجتماعية والصراع الطبقي بالمغرب من 1971 -1981 نشرت بموقع جريدة النهج الديمقراطي غشت 2012-

• رشيد الحنصالي- جريدة المناضل-ة العدد الأول (1) 2004

• عمر – جريدة المناضل-ة العدد الثاني (2) 2004

• محمد هلاب – بحث في الموضوع – الصحراء الغربية – معطيات عامة -http://www.intifadamay.com/1/trabsah30609.htm

• دراسة /وثيقة – فلسطين جديدة في ارض الصحراء –نشرت بمجلة انفاس وتم اعادة نشرها بموقع النهج الديمقراطي بمناسبة الذكرى 42 لتاسيس منظمة “الى الامام ” المغربية

• علي انوزلا – تحقيق – حرب الصحراء الغربية

• مجلة وجهة نظر –العدد 53 صيف2012

• كتاب –لنجر تحقيقا في المديونية –دليل التدقيق في ديون العالم الثالث- منشورات مجلة possible

• وثيقة – المؤتمر الوطني الثالث لاطاك المغرب – المغرب في مواجهة العولمة أوجه الهجوم النيوليبرالي والبدائل الممكنة

• مجلة وجهة نظر –العدد 46 صيف وخريف 2010

• كتاب –أبطال بلا مجد- فشل ثورة 1963-1973- مهدي بنونة دار نشر طارق

• الحركة الطلابية المغربية – قراءة في ازمة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب -1956-1996-منشورات المجلة المغربية لعلم الاجتماع السياسي – د.محمد ظريف

• نعمان الهاشمي –موقع يومية “المساء”

• أسبوعية الأيام –العدد 248 -30شتنبر/6اكتوبر 2006

• المساوي العجلاوي – (من الاتحاد الاشتراكي الى الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية )يومية الأحداث المغربية – الأعداد المنشورة في صيف 2002

• عثمان اشقرا –(الحركة الاتحادية او مسار فكرة تقدمية )جريدة – الاتحاد الاشتراكي – الأعداد المنشورة في صيف 2000

• حسن الصعيب – سيرورة إعادة بناء منظمة “إلى الأمام ” جدلية القطيعة والاستمرار – الجزء الأول – منشورات الأفق الديمقراطي

• محمد لومة- الثورة المؤودة –

• محمد لومة – سنوات الصمود وسط الإعصار – ابرز المحطات النضالية في حياة عبد الله إبراهيم

• د.محمد شقير- المؤسسة العسكرية بالمغرب – من القبيلة الى العصرنة – افريقيا الشرق

• دفاتر “وجهة نظر ” العدد 15 – مواجهات بين الاسلاميين والعلمانيين بالمغرب – ديموقراطية .فكر.حرية .عنف قيم –اشراف واعداد : المعطي منجب

• علي فقير – التشكيلة الاجتماعية والصراع الطبقي – منشورات النهج الديمقراطي (موقع حزب النهج الديمقراطي)

• ابرهام السرفاتي – الهيكلة الاقتصادية وتطورها 1960-1965 وانتصار سلطة المعمرين الجدد (موقع جريدة المناضل – ة)

شارك المقالة

اقرأ أيضا