شوط جديد من إصلاح أنظمة التقاعد، السياق والمضمون
بقلم، حمزة
كتفت الدولة ومؤسساتها خلال الأشهر الأخيرة من سنة 2025، حملاتها ضد أنظمة التقاعد بالتوزيع المغربية بغاية فرض إصلاحات لا تقف عند حدود رفع سن التقاعد إلى 65 سنة، وتقليص المعاش بمراجعة مقاييس حسابه، بل تسعى إلى فرض إصلاح هيكلي بغاية تقليص دور نظام التقاعد بالتوزيع، وإعلاء شأن نظام التقاعد بالرسملة، وهذا ما تسميه الدولة بالإصلاح الشمولي. وهو هجوم مباشر على نظام التقاعد بالتوزيع، بتقليص نطاق عمله أولا، حيث يراد له أن يقتصر على تغطية جزء محدود من الأجور ثم بمراجعة مبادئ اشتغاله، باستبدال تقنية الأقساط السنوية بنظام النقطة. وستأتي الضربة الثانية لنظام التقاعد بالتوزيع من فرض إجبارية نظام التقاعد بالرسملة الذي يبتغى منه تغطية أجور الشغيلة بمجملها. وبإضافة الحوافر الضريبية المغرية، سيغذو نظام الرسملة مهيمناً. وغاية الإصلاحات الجارية باختصار قَضْمُ الحق في التقاعد باعتباره أجرا اجتماعيا مضمونا ومقولاً بالاشتراكات الاجتماعية التي يتحملها أرباب العمل. سنقتصر هنا على التطرق الاستعداد الدولة التنفيذ شوط جديد من إصلاح أنظمة التقاعد، وتوضيح مضمون الإصلاحات التي تسعى جاهدة لفرضها.
كيف أعدت الدولة للإصلاحات التي تروجها الآن بشأن أنظمة التقاعد؟
قبل التطرق لمضمون الشوط الثاني من الإصلاحات التي تنادي الدولة حاليا بالإسراع في تنزيلها، لا بأس من الاطلاع على الخط الزمني لطرحها. في بداية سنة 2019 وإعدادا لمراجعة المقاييس كل أنظمة التقاعد، وإصلاح شمولي لها، كلفت الدولة مكتب الدراسات الدولي “فيناكتو” بإنجاز تصور دقيق للإصلاح، طبقا للسيناريو الذي صادقت عليه اللجنة الوطنية لإصلاح انظمة التقاعد سنة 2013. مجموعة فيتاكتو للاستشارة المالية (Finactu) هي مجموعة دولية انشات بفرنسا، لكن عملها تركز بالقارة الأفريقية، حيث تبيع خدماتها الشركات التأمين والبنوك والرساميل الاستثمارية وضمنها رأسمال المخاطرة وصناديق المعاشات وصناديق الاستثمارات المالية بالأسواق المالية. خدماتها الاستشارية موجهة للقطاع المالي وأعضاء مجلسها الإداري عملوا طويلا، إما في إدارة بنوك تجارية، أو صناديق استثمارية مالية، أو مؤسسات مالية دولية، مثل البنك العالمي.
ولهذا السبب. فإن أي استشارة تقدمها للمؤسسات المالية أو للحكومات لن تكون إلا متوافقة مع المبادئ الموجهة للاستثمارات المالية بالأسواق المالية.
في معظم الأحيان تقدم الدولة نتائج دراسات مكاتب الاستشارة العديدة التي لجأت لخدماتها في مجال التقاعد بمثابة توصيات غير قابلة للطعن. فهي تستخدمها لإضفاء شرعية على برنامج الإصلاحات، إذ يكفي أن يُقال أن هذه الإصلاحات هي نتيجة منطقية لخلاصات الدراسات الإكتوارية والاستشرافية للوضعية الآتية والمستقبلية لأنظمة التقاعد. لكن الحقيقة هي عكس ذلك تماما. إن برنامج إصلاح التقاعد هو تصور سياسي موضوع سلفا قبل إنتاج خلاصات الدراسات الاكتوارية، ويراد اليوم لمجموعة الاستشارة المالية الدولية “فيناكتو” ان تعيد تسخين ذلك الحساء البارد الذي سبق أن اعدته مكاتب الدراسات السابقة وهكذا تكمن مهمتها، إذن في إعادة تدوير تلك الذرائع الإيديولوجية التي تشرعن الهجوم النيوليبرالي على انظمة التقاعد بالتوزيع.
في نهاية سنة 2019 على الأرجح، أنهت مجموعة فيناكتو للاستشارة المالية مهامها بتقديم تصور دقيق للإصلاح على ضوء ترسيمة اللجنة الوطنية للتقاعد.
وفي بداية سنة 2022 رأت الدولة أن السياق السياسي مواتي للإعلان عن الشروع في إنجاز برنامج الإصلاح. ولهذا نظمت في البدء يوما دراسيا رسميا حول إصلاح أنظمة التقاعد بمجلس النواب يوم 23 فبراير 2022 أُحْضرت إليه كل الأطراف الرسمية وغير الرسمية، وخلال هذا اليوم قدمت خطوط عامة جدا للإصلاح لا تخرج عما رسمته اللجنة الوطنية للتقاعد.
وبعد ذلك مرَّت الدولة إلى تنظيم دورية مضبوطة العمل اللجنة التقنية لإصلاح التقاعد بمشاركة ممثلي القيادات النقابية، حيث عقدت عدة اجتماعات ما بين أكتوبر 2022 و فبراير 2023، خصصت هذه الاجتماعات للتداول في الوثائق الرسمية التي أعدتها مجموعة “فيناكتو” للاستشارة المالية، وهي عبارة عن تشخيص للأنظمة وتصور دقيق لإصلاحها وكان من بين الشروط الأساسية لضبط سير عمل هذه اللجنة، إتباع منهج سرية التداولات، بعدم نشر مضمونها.
وبالرغم من مرور حوالي ثلاث سنوات على صدور هذه الوثائق الرسمية التي أعدها مكتب الدراسات تشبثت الدولة بالامتناع عن نشرها، وكذلك فعلت صناديق التقاعد بل إن النقابات نفسها التزمت بالحفاظ على طابع السرية هذا رغم أن الأمر يهم مصير الطبقة العاملة بأسرها.
ما مضمون إصلاح أنظمة التقاعد التي تستعد الدولة لفرض تطبيقه؟
في غياب نشر وثائق الإصلاحات التي يقترح مكتب الاستشارة المالية “فيتاكتو” تنفيذها، يستحيل التعرف بدقة على مضمون التحويلات الرامية لهدم نظام التقاعد بالتوزيع، وإذا كان هذا المكتب قد وُكل بإنجاز التشخيص الانظمة التقاعد ووضع تصور لإصلاحها على ضوء سيناريو الإصلاح التي وضعته اللجنة الوطنية المكلفة لإصلاح أنظمة التقاعد سنة 2013.
فأفضل وسيلة للتعرف على التوجهات التي يقترحها، هي عرض الخطوط العامة للسيناريو الذي سبق أن اقترحته هذه اللجنة التي تضم في عضويتها الكتاب العامون للنقابات.
إن مضمون “سيناريو” الإصلاح الذي صادقت عليه هذه اللجنة يعد بمثابة خارطة طريق عامة للهجوم على أنظمة التقاعد بالتوزيع. فقد أوصت اللجنة الوطنية حينئذ بما يأتي:
أولا، إنشاء نظام للتقاعد بقطبين، أحدهما للوظيفة العمومية والآخر للقطاع الخاص، مبني وفق ثلاثة أسقف. السقف الأول مكون من نظام أساسي باستحقاقات محددة، والسقف الثاني نظام تكميلي يشتغل بالرسملة ويكون إجباريا للموظفين، وبالنسبة للقطاع الخاص يطبق نظام اختياري لا يشتغل بمبادئ نظام التوزيع( مساهمة من أول درهم) أو نظام اختياري يشتغل بالرسملة. وترك السقف الثالث مفتوحا وأكيد أنه سيتدرج بدوره في أنظمة فردية تشتغل بمنطق الرسملة.
ثانيا، تطبيق إصلاحات المقاييس أنظمة التقاعد لخفض عجزها المالي وجعلها أكثر انسجاما.
ثالثا، توسيع تغطية أنظمة التقاعد لتشمل أغلبية العمال غير الأجراء، والبدء بإطلاق دراسة حول ذلك.
إن هذا البرنامج العام لإصلاح أنظمة التقاعد هو المُوَّجه لما نفذته الدولة خلال الشوط الأول من الهجوم الذي استهدف نظام المعاشات المدنية للصندوق المغربي للتقاعد في سنة 2016. وهو نفسه الذي يقود في الوقت الراهن، جهود الدولة لإنزال أكبر هجمة على نظام التقاعد بالتوزيع، بحيث لن يقتصر الأمر على استهداف كل الأنظمة هذه المرة. بل سيكون هجوما مُزدوجا يشمل مراجعة جذرية للمقاييس ( تمديد سن التقاعد وتقليص المعاش) دفعة واحدة وتغييرا جذريا للمبادئ التي يقوم عليها نظام التوزيع.
وبالرجوع إلى ما تسرب حول الوثائق التي أنجزها مكتب الاستشارة المالية فيناكتو، لا سيما ما جاء على لسان كل من ممثلي الحكومة وممثلي القيادات النقابية يمكن رسم لوحة عامة المحاور الإصلاحات الرئيسية التي تعتزم الدولة تنفيذها، وهي تبدو كالاتي:
أولها، تقليص دور نظام التقاعد بالتوزيع
سَيُشرع في توجيه ضربة قاضية النظام التقاعد بالتوزيع بتقديم نطاق تطبيقه، وذلك بوضع سقف للأجور الخاضعة للاشتراكات الاجتماعية، بحيث لا تتجاوز صفها الحد الأدنى للأجور أي قرابة ستة آلاف درهم وسيُفضي هذا الإجراء أوتوماتيكيا إلى تقليص تحويل هذا النظام، بخفض حجم الاشتراكات المفروضة على أرباب العمل (الدولة كرب عمل أو باطرونا القطاع الخاص) وسينجم عنه بالتالي خفض قيمة المعاش التي يتيحه نظام التقاعد بالتوزيع الذي سينعت بالأساسي. وستأتي الضربة الثانية باستبدال تقنية الأقساط السنوية أو النسبة المئوية بنظام النقطة.
ستنسف هذه التقنية مبدأ التضامن الاجتماعي الذي يقوم على أساسه نظام التقاعد بالتوزيع وستتحول الحقوق الاجتماعية للمتقاعدين إلى مسألة فردية تتعلق بما استطاع كل عامل إدخاره من اشتراكات.
غاية نظام النقطة التحكم في كلفة المعاشات حيث تتيح كل سنة خفض المعاش بخفض قيمة النقطة كي يتلاءم مع حجم تمويل النظام. وبذلك يعصف نظام النقطة بالمعاش المضمون اجتماعيا. فبعدها كان يمكن لأي عامل في ظل نظام الأقساط السنوية تحديد قيمة معاشه سلفا في أي لحظة من مسارة المهني، لن يكون بإمكانه ذلك في ظل نظام النقطة إلا حين يأتي وقت الإحالة على التقاعد.
وسيشكل نظام التوزيع “الأساسي” هذا سقفا أول يطبق على كل الاجراء بقطبي التقاعد سواء تلك التابعة للقطاع العام أو الخاص، فيما سيخصص السقفان الثاني والثالث لنظام الرسملة الكاملة أو شبه الرسملة وفق ما رسمه سيناريو الإصلاح الذي وضعته اللجنة التقنية لإصلاح أنظمة التقاعد.
ثانيها، إعلاء مكانة نظام التقاعد بالرسملة
سَيُشرع في إرساء نظام للتقاعد بالرسملة بإجراء محض سياسي، أي بفرض إجبارية تطبيقه، وبذلك سيكون كل موظفي المغرب ملزمين بالانخراط في نظام الرسملة هذا تحت غطاء نظام تكميلي إجباري (السقف الثاني القطب القطاع العام). وسَيُدْرَج يقطب التقاعد للقطاع الخاص نظام اختياري للتقاعد يشتغل بنظام النقطة بدل نظام الأقساط السنوية (السقف الثاني الشغيلة المقاولات الخاصة).
وسيدرج بقطب التقاعد للقطاع الخاص نظام اختياري للتقاعد يشتغل بنظام النقطة، بدل نظام الأقساط السنوية ( السقف الثاني لشغيلة المقاولات الخاصة وفي مستوى ثالث يقترح أنظمة للتقاعد تشتغل بنظام الرسملة الكاملة ( السقف الثالث).
إننا إزاء مشروع للإصلاح يسعى لهدم نظام التقاعد بالتوزيع بفرض سيطرة نظام التقاعد بالرسملة على الأجور العليا وجزء من الأجور الدنيا، وتقليص مداخيل صناديق التقاعد بالتوزيع لتقتصر على اشتراكات ذوي الأجور الدنيا.
ثالثها، تمديد سن التقاعد وخفض المعاش بمراجعة جذرية لمقاييس حسابه
تعتزم الدولة وأرباب العمل طبقا للإصلاح الذي يقترحه مكتب الاستشارة المالية فيناكتو” تمديد سن التقاعد إلى 65 سنة ليشمل كل أنظمة التقاعد. غاية هذا التمديد خفض كلفة المعاشات، وفي الوقت عينه زيادة أعداد ناشطي الأنظمة. إنها الطريقة المثلى، في نظر واضعي الإصلاحات للتحكم في التوازنات المالية لأنظمة التقاعد بدل مراجعة جذرية لسياسة التوظيف في القطاعات العمومية ورفع معدل الاشتراكات الاجتماعية إلى مستوى كاف، لاسيما بالمقاولات الخاصة.
لن تكتفي الإصلاحات بكل ذلك، بل تسعى لخفض مباشر للمعاشات بمراجعة مقاييس حسابها. وفي هذا الصدد، ستحتسب أجور كل الحياة المهنية، بدل معدل أجور السنوات الأخيرة ثماني سنوات) كقاعدة لاحتساب المعاش. وبالإضافة لذلك هناك تسريبات تفيد بسعي هذا الإصلاح أيضا لتجميد مبدأ إعادة تقييم المعاشات لمدة عشر سنوات. هذا يعني أن مبلغ معاش المتقاعد لن يُرفع بنفس نسبة التزايد السنوي لمستوى الأجور أو معدل التضخم.
يتبين مما سبق، أن غاية الإصلاح إحداث تغيير عميق في طبيعة نظام التقاعد بالتوزيع، عبر تحويله من نظام للحماية الاجتماعية إلى نظام الادخار الفردي في ظل الرسملة. هذا فضلا عن خفض المعاشات وتمديد سن التقاعد.
بدل تنظيم المقاومة العمالية لهذا التقهقر الاجتماعي المخطط له، انحازت القيادات النقابية لصف الدولة وأرباب العمل مفضلة شراكة اجتماعية، هي في الحقيقة خيانة مكشوفة لمصالح الطبقة العاملة. وأمام ذلك ليس لدى الشغيلة المغربية سوى تنظيم مقاومتها لصد الهجوم وتنظيم النضال تحت شعار “لن ندع هذا الهجوم يمر”. لقد أن الأوان لتحرك ميداني كفاحي لتنسيق المبادرات العمالية بالقاعدة النقابية، لجانا وتنسيقيات وغيرها، لإعلان الرفض الصريح لهذا الإصلاح، ومن أجل الدفاع عن نظام التقاعد بالتوزيع ورفض تمديد سن التقاعد وخفض المعاشات.
اقرأ أيضا


