الحركة النقابية المغربية: استجداء الحقوق طريق مسدود

بقلم: سليم نعمان

تدل كل المؤشرات على أن البيروقراطية النقابية المغربية بصدد تحضير حلقة إضافية من مسلسل انبطاحها ومصاحبتها لتعديات الحاكمين على حقوق الطبقة العاملة المغربية ومكاسبها. فمجريات التفاوض الجماعي الذي يجمعها مع الدولة والباطرونا تشير إلى أن الأخيرتين غير مستعدتان لأدنى تنازل بخصوص الزيادة في الأجور وعزمهما تمرير تفكيك أنظمة التقاعد التضامني، وقانون تكبيل الإضراب، وقانون التحكم في النقابات، ومراجعة مدونة الشغل لجعل الشغل أكثر مرونة وهشاشة…

حتى الآن التفاوض دون نتيجة، وربما تعلن الحكومة من جانب واحد وضعها موضع تنفيذ ما قدمته من «تحسينات» لا تعدو كونها مسكنات لإخفاء الآلام لن يشمل نفعها في أحسن الأحوال سوى عدد يسير من الأجراء والمستخدمين والموظفين(مثلا من كثر منهم ولده، وهزيل أجره)، ما لن يكلف الدولة سوى ملايين معدودة قياسا بالملايير الثلاثة عشر إبان هبة حركة 20 فبراير. وهي مقابل ذلك عاقدة العزم على مواصلة هجماتها على طفيف المكاسب المتبقية. ليس في الأمر أي مفاجأة إذا استحضرنا مرافقة بيروقراطية النقابات العمالية لتعديات السياسية التقشفية للدولة على الكادحين منذ ثلاثة عقود، شهدت إجهازا تدريجيا على المكتسبات ومصادرة للحقوق المادية والمعنوية للأغلبية العمالية والشعبية الكادحة. لقد تم إقرار مدونة الشغل، بموافقة القمم البيروقراطية، وأطلقت يد الباطرونا دون قيود لاستغلال مفرط لليد العاملة، علما أن السائد عمليا بالقطاع الخاص أشرس بما لا يقاس موازاة مع البنود القاسية للمدونة نفسها، وجرى إقرار تخريب التعليم العمومي (الميثاق الوطني للتربية والتكوين) بمباركتها أيضا، والأمر نفسه بالنسبة للصحة (مرسوم الصحة 1999) والشغل(السكوت على تعميم الهشاشة من خلال العمل بالعقد المحددة المدة والمناولة والعمل السري وعمالة الأطفال…) والسكن… ووافقت كذلك على الاقتطاع من أجور المضربين، وعلى العديد من الإجراءات المفككة تدريجيا لأنظمة الوظيفة العمومية منها على سبيل المثال حذف السلالم الدنيا، وإعادة الانتشار، والتدابير ذات الأولوية في التعليم…
الآن، تريد بيروقراطية النقابات مقابلا لاستسلامها وحرصها على ما يسمى سلما اجتماعيا(حرب طبقية طاحنة من جانب واحد تقودها البرجوازية ودولتها). لسان حالها يقول: لقد أكدنا بجلاء نفعنا للاستبداد، ونحن خاضعون فلا تحطموننا أكثر. امنحونا بعض الفتات لنواصل دورنا دون صعوبات كبيرة في كبح جماح قاعدتنا المباشرة وغير المباشرة، وعندها مرروا ما يحلو لكم من تعديات.
ولأن الدولة والبرجوازية ترفضان التنازل وتردان باستحالة زيادة في الأجور واستعجال ما تسميانه إصلاحات، وجدت بيروقراطية النقابات نفسها في مأزق لا تحسد عليه. من جهة يدفعها حرصها على استقرار الاستبداد ودوامه، ومعه حظوتها وامتيازاتها، إلى الامتناع عن الحشد والنضال اللازمين للضغط وفرض الاستجابة للمطالب العمالية والشعبية، ومن جهة أخرى يدفعها سخط قاعدتها المباشرة، بخاصة السخط العمالي والشعبي المتنوع لاتخاذ قرارات نضال.
انطلق ردها «النضالي» في فاتح مايو 2015 بإلغاء تظاهراته. شكل نضالي عجيب لا يمكن أن يصدر سوى عن بيروقراطي قح. ولأن الدولة ظلت على تجاهلها، قرر تنسيق البيروقراطيات النقابية التصعيد. هكذا تم خوض ثلاثة إضرابات عامة متباعدة ومفرغة من محتواها الكفاحي بوضعها ل»دليل» إضراب لا يشجع على التعبئة والحشد والتظاهر، بل أكثر من ذلك يطالب المضربين بتعويض أضرار الإضراب العام على الإدارة العمومية والقطاع الخاص. وجرى»التصعيد» أيضا بتنظيم ثلاث مسيرات وطنية دون تعبئة حتى في صفوف منخرطي النقابات نفسها، مرت المسيرات المذكورة دون أن تشكل ضغطا فعليا على البرجوازية وحكومتها. ونظمت البيروقراطية وقفتين وطنيتين أمام البرلمان مرتا دون تعبئة وحشد ضاغط لإجبار الدولة على التنازل، بل إن واحدة منها تحولت فجأة من اعتصام أمام البرلمان لوقفة لساعات انفضت دون أثر. وتواصل «التصعيد» البيروقراطي بإعلان مسيرة من الدار البيضاء صوب الرباط تم تأجيلها، مرة بمبرر ضمان مشاركة وفود نقابية أجنبية متضامنة، ومرة أخرى بذريعة التعاطي إيجابيا مع دعوة الحكومة للتفاوض…
في سياق هذا الامتناع عن تنظيم تعبئة ونضال حقيقيين وسط القاعدة العريضة، لا يمكن اعتبار ما سمي تنسيقا رباعيا سوى أرضية لتفاهمات فوقية بين قمم بيروقراطية خدمة لمصالحها وتوحيد مواقفها كشريحة ذات مصالح وامتيازات تجاه الدولة، وهذا ما يبينه بوضوح انعدام أية نية لترجمة حقيقية للتنسيق المذكور على مستوى القاعدة لخوض كفاح عمالي لا هوادة فيه(لا ندوات مشتركة ولا تكوين جماعي، ولا تعبئات مشتركة ولا مظاهرات مشتركة…)
لقد تخلف يسار النقابات عن دوره، هو الآخر، فبدل أن يتلقف التنسيق الفوقي البيروقراطي ويعطيه ترجمة عملية في قاعدة النقابات، كرس الأسوار الصينية التي أرستها البيروقراطية لعزل قواعدها بعضها عن بعض، وكذا عزل القطاعات عن بعضها حتى داخل نفس النقابة.
يجدر القول كذلك إن هذا التنسيق أملاه ضعف النقابات كلها، وكذا حرص البيروقراطيات على منع أي انفلات نضالي يقوض ركائز سطوتها، من جهة، ودعائم السلم الاجتماعي العزيز على قلبها أكثر من النضال والحشد، من جهة ثانية، فحشد المحرومين الجماهيري، الذي تخشاه البيروقراطية، هو وحده الكفيل بإجبار الدولة على وقف تعدياتها والتنازل وتلبية المطالب العمالية والشعبية الملحة.
إن استسلام القيادات النقابية ورفضها للتصعيد النضالي الضروري لمواجهة تعنت الدولة يكشف تخبطها وعمق الأزمة التي تنخرها من الداخل. لقد تأكد ذلك أكثر من خلال مسايرتها للسياسات النيوليبرالية القاسية، وهو ما كشفته خيانتها لنضالات الأساتذة المتدربين، التي تعني ضربة موجعة أخرى لتجربة واعدة، كان بإمكانها، لو تلقت ما يلزم من الدعم والتضامن، أن تشكل بادرة لإعادة انطلاق مقاومة اجتماعية جبارة ضد الدولة، ولما لا مواجهة عمالية وشعبية شاملة وفق تصور ومطالب لإحداث قطيعة مع سياسات ظالمة نتج عنها تدهور اجتماعي كبير.
لقد استؤنف «الحوار الاجتماعي» دون أن تكون المصائب الكبرى المهددة لمكاسب الطبقة العاملة مطروحة على جدول أعماله، فالحرب الطبقية للبورجوازية متواصلة، يساعدها في ذلك المناخ السائد إقليميا بعد صعود الثورة المضادة المختلفة الأشكال بالمنطقة، وانكفاء حركة 20 فبراير، والضعف الكبير لمعسكر الكادحين العمالي والشعبي وخضوع القيادات النقابية التام للحكام ومشاركتهم في تمرير المخططات المعادية لمصالح الجماهير الكادحة، وأيضا، الضعف الشديد لليسار النقابي وتشتته، وتيه بعضه واستبطانه لأساليب عمل البيروقراطية، وعقده المساومات معها بدل كشف حقيقتها، وعدم قيامه بما يلزم لتنوير جماهير الشغيلة والشعب الكادح لفهم أصل كل الشرور والأسباب الحقيقية لحياة البؤس والحرمان، وحقيقة السياسات الخانقة للحقوق والمصادرة للحريات، وتربية الجماهير على التنظيم وطرقه الديمقراطية، وعلى الكفاحية ونبذ سياسة التعاون الطبقي. هذا بالضبط ما يمنع اليسار النقابي من الخروج من مأزقه والتقدم في بناء معارضة نقابية طبقية لا غنى عنها للنضال وانتزاع انتصارات ولو كانت جزئية.
لا مكاسب عمالية وشعبية دون نضال، فالزيادة المهمة في الأجور تمت في مناخ نضالي استثنائي مثلته الحالة النضالية لحركة 20 فبراير وما رافقها نضال شعبي وعمالي متنوع. زد على ذلك أن نيل المكاسب يكون حصيلة إعداد تنظيمي جيد ورقي بالوعي الطبقي للحركة العمالية والشعبية ونمو كفاحيتها…
لا غنى للمناضلين المخلصين لقضية الطبقة العاملة عن التدخل المنظم، العاجل والعميق، ليس فقط لضمان حماية ما تبقى من مكتسبات، بل لحماية النقابات نفسها. حمايتها بما هي منظمات للدفاع عن المصالح المباشرة والتاريخية للعمال والعاملات، وليس بما هي عليه حاليا، «وسيط» يساير الهجوم البورجوازي وسياسات التقشف.
ينبغي لأجل التقدم في الإتيان بالبدائل، خوض نقاش ديمقراطي واسع داخل كل الحركة النقابية المغربية. يجب القيام بكشف حساب موضوعي للفعل النقابي ولنتائجه حتى الآن، ومعالجة مسؤولية نمط اشتغال النقابات من خلال تلك الحصيلة.
تلزم مناضلي الطبقة العاملة خطة عمل نقابي جديدة قائمة على أهداف واضحة. خطة تكون حصيلة نقاش واسع وعميق في اجتماعات نقابية أوسع ما يكون. أما مطلبيا فوجب النضال لإلغاء كل الإجراءات التقشفية المطبقة إلى اليوم.
إن الأمل الوحيد لتأسيس عمل نقابي كفاحي معاد لسياسة التعاون الطبقي يتمثل في تقوية الجناح اليساري للحركة النقابية المغربية. هذ اليسارغير منظم ويلزم تنظيمه، ومن أجل أن يكون مؤثرا في النقاش والنضال وأن يصل إلى الأغلبية المنظمة نقابيا والى خارجها، يلزمه بناء شبكة من المناضلين الكفاحيين، بامكانها اتخاذ مبادرات نضالية مشتركة، فلنتقدم الخطوات لبناء يسار نقابي مكافح.

شارك المقالة

اقرأ أيضا