تشي غيفارا: الشرارة التي لا تنطفأ

غير مصنف28 نوفمبر، 2015


تشرين الأول (أكتوبر) 2007

 بقلم: ميكائيل لووي   كتب هذا المقال في الذكرى الثلاثين لاغتيال غيفارا

مازال لحياة ورسالة الطبيب/رجل حرب الغوار والأرجنتيني/الكوبي، وقع على أجيال 1997. وإلا، فما هو تفسير هذا الإنتاج الغزير من الكتب والمقالات والأفلام والنقاشات؟ لم ينتج هذا فقط عن الاحتفال بالذكرى الثلاثين: فمن الذي اهتم بجوزيف ستالين سنة 1983، في الذكرى الثلاثين لوفاته؟
إن تشي –مثل كل من خوسي مارتي إميليانو زاباتا، وأوغوستو ساندينو، وفراباندو مارتي، وكاميلو طوريس- وجه من هذه الوجوه التي سقطت شامخة والسلاح في يدها، وستبقى إلى الأبد بذور المستقبل مزروعة في أرض أمريكا اللاتينية، ونجوما في السماء التطلعات الشعبية، وجمرة متقدة تحت رماد خيبة الأمل.
في كل تعبيرات الحركات الثورية في أمريكا اللاتينية خلال الثلاثين سنة الأخيرة، من الأرجنتين إلى الشيلي، من نيكاراغوا إلى السلفادور، ومن غواتيمالا إلى المكسيك، تبرز آثار “الغيفارية” إلى هذا الحد أو ذاك. فهي توجد في المخيلة الجماعية للمقاتلين، كما في نقاشاتهم حول إستراتيجية النضال وطبيعته، وكذا أساليبه. يمكن أن نعتبر هذه الآثار بذورا نبتت، خلال السنوات الثلاثين الأخيرة، في الثقافة السياسية لليسار الأمريكي-اللاتيني، وأنتجت أغصانا وأوراقا وفاكهة. أو كأحد الخيوط الحمراء التي ننسج بها الأحلام والمشاريع الطوباوية والأنشطة الثورية، من باتاغونيا إلى ريو غراندي.
أليست أفكار تشي متجاوزة؟ هل يمكن بدون ثورة تغيير مجتمعات أمريكا اللاتينية –التي تحكمها، منذ قرن، أوليغارشية تحتكر الموارد والثروات والأسلحة، وتقمع الشعب وتضطهده-؟ هذه الأطروحة يدافع عنها بعض منظري اليسار “الواقعي” في أمريكا اللاتينية خلال السنوات الأخيرة، بدءا بالكاتب والصحافي الموهوب جورجي كاستانيدا في كتابه المعروف: الطوباوية منزوعة السلاح (1993). ومع ذلك، لم تكد تمر بضعة أشهر على صدور الكتاب، حتى شاهدنا في المكسيك، بلده بالذات، قيام انتفاضة رائعة للسكان الأصليين بقيادة منظمة تتشكل من طوباويين مسلحين، الجيش الزاباتي للتحرر الوطني (EZLN)، وينحدر زعمائها الرئيسيين من الغيفارية. صحيح أن أهداف الزاباتيين، عكس المجموعات التقليدية لحرب الغوار، ليس هو “الاستيلاء على السلطة”، بل دفع المجتمع المدني المكسيكي ليتنظم –ذاتيا من أجل تغيير عميق لنظام البلد السياسي والاجتماعي. بيد أنه، لولا انتفاضته في 24 يناير 1994، لم يكن يتأتى للجيش الزاباتي للتحرر الوطني أن يصبح، أربع سنوات لاحقا والسلاح في يده، مرجعا لضحايا الليبرالية الجديدة ليس فقط في المكسيك، ولكن في أمريكا اللاتينية كلها وحتى ما ورائها. وإن كانت الزاباتية تجمع بين عدة تقاليد تآمرية، فإن الغيفارية تشكل إحدى المقومات الأساسية لهذه الثقافة الثورية الجائشة.
في مقال حديث نشر له في المجلة الأمريكية (نووسيك)، بدأ نفس الكاتب جورجي كاستانيدا يتسائل بغرابة ما إذا كان بالفعل ممكنا، بطرق لا ثورية، إعادة توزيع كل من الثروات والسلطة التي يركزها الحكم في يد النخبة الغنية والقوية، وقلب البنيات الاجتماعية التقليدية في أمريكا اللاتينية: إذا تبينت، في نهاية هذا القرن، صعوبة ذلك، فيجب أن نعترف بأن غيفارا “كان محقا على كل حال”(1).
لم يكن تشي فقط مقاتلا شجاعا، بل كان أيضا مفكرا ثوريا وحاملا لمشروع سياسي أخلاقي، ولمجموعة من الأفكار والقيم، ناضل ووهب حياته من أجلها. إن النزعة الإنسانية الثورية العميقة، هي الفلسفة التي تمنح لخياراته السياسية والأيديولوجية تناغمها وصيغتها وحرارتها. فالشيوعي الحقيقي أو الثوري الحقيقي عند تشي، هو من يجعل من المشاكل الكبرى للإنسانية مشاكله الشخصية، و”يشعر بالأسى عندما يعدم شخص في إحدى بقاع العالم، ويتحسس لما ترفع راية جديدة في مكان ما”(2). إن أممية تشي –التي كانت بالنسبة له نمط حياة وعقيدة راسخة، ضرورة حتمية وطنيا وروحيا- تشكل التعبير الكفاحي والملموس عن هذه النزعة الإنسانية الثورية والماركسية.
كان تشي غالبا ما يستشهد في خطاباته بجملة لخوسي مارتي يسميها “راية الكرامة الإنسانية” :”على كل إنسان حقيقي أن يشعر وكأنه يتلقى على وجهه نفس الضربة التي تلقاها إنسان آخر على وجهه”. ويعتبر النضال من أجل هذه الكرامة مبدأ أخلاقيا سيسترشد بع في كل معاركه بدءا من سانتا كلارا حتى المحاولة الأخيرة في جبال بوليفيا. إن لمصطلح الكرامة أهمية في ثقافة أمريكا اللاتينية. وربما يجب البحث عن أصله في كتاب “دون كيشوط” الذي كان تشي يطالعه في سيرا مايسترا، ويستشهد به في “دروس الأدب” التي كان يلقيها على الفلاحين حديثي العهد بحرب العصابات، كما يعتبره، وهو يسخر في آخر رسالة إلى والديه، بطلا يتماثل معه. لكن هذه القيمة ليست مع ذلك غريبة عن الماركسية. أليس ماركس نفسه الذي كتب في مقاله “الشيوعية والمرصد الريناني” (شتنبر 1847) بأن “البروليتاريا تحتاج الكرامة أكثر مما تحتاج الخبز”؟
غالبا ما يحصر الفكر الإستراتيجي لتشي في محور البؤرة (foco) في حرب الغوار. لكن أفكاره بصدد الثورة في أمريكا اللاتينية كانت أكثر عمقا. فعبارته الشهيرة –”لم يعد هناك من تغيير يجب إحداثه: فأما ثورة اشتراكية أو مسخ من ثورة”- التي عبر عنها في رسالته إلى مؤتمر القارات الثلاث سنة 1967، ساعدت جيلا من الثوريين بكامله على التحرر من عقال التنظير الستاليني لـ”الثورة عبر مراحل”.
ومع ذلك، فإننا نجد في كتاباته –سواء حول التجربة الكوبية أو حول أمريكا اللاتينية- وأيضا في محاولته المأساوية في بوليفيا، ميلا إلى اختزال الثورة في الكفاح المسلح، والكفاح المسلح في حرب الغوار القروية، وهذه الأخيرة في النواة الصغيرة البؤرية. وقد هيمن هذا الميل على الإرث الغيفاري في أمريكا اللاتينية، ولو أننا نجد كذلك مقطعا من مؤلفاته يزيد من تدقيق هذا التصور: مثلا عندما يلح على أهمية العمل السياسي الجماهيري، أو على فعالية الكفاح المسلح في بلد يحكمه نظام ديموقراطي. هذا دون أن نتحدث عن رفضه الصريح والمطلق للمحاولات الإرهابية العشوائية.(3)
على أي، فالإرث الغيفاري الذي طبع إستراتيجية المنظمات الثورية في أمريكا اللاتينية خلال مرحلة الستينات إلى الثمانينات، يبقى حاضرا كحساسية ثورية وكمقاومة صلبة للنظام القائم لدى اليسار في القارة الأمريكية، كما لدى بعض الحركات الاجتماعية كحركة الفلاحين معدومي الارض في البرازيل (MST) والتيارات التي تدعي الاشتراكية.
كان خوسي كارلوس مارياتيغي قد كتب في 1929 أنه يجب الا تكون الاشتراكية في القارة الأمريكية تقليدا أعمى، بل إبداعا شخصيا. وهذا بالضبط ما حاول تشي القيام به، وهو يرفض تقليد النماذج “الموجودة حقا”، باحثا عن سبيل جديد لبلوغ الاشتراكية يكون أكثر راديكالية وأكثر مساواة، أكثر أخوية وأكثر إنسانية، وأكثر انسجاما مع الأخلاق الشيوعية.
إن أفكاره حول الاشتراكية والديمقراطية كانت في تطور لحظة وفاته، لكن خطاباته وكتاباته تبين بوضوح موقفا أكثر فأكثر نقديا إزاء ما يسميه ورثة الستالينية بـ”الاشتراكية الحقيقية”. ففي خطابه الشهير بالجزائر (فبراير 1965)، دعى البلدان التي تدعي الاشتراكية إلى “تصفية تواطئها الضمني مع بلدان الغرب المستغلة” والذي يتجلى في علاقات التبادل اللا متساوي مع الأمم التي تسعى إلى التحرر من القيود الإمبريالية. ويضيف: “لا يمكن للاشتراكية أن توجد إذا لم تحدث في الوعي تغييرا يترتب عنه تبني موقف أخوي جديد إزاء الإنسانية، سواء على الصعيد الفردي في المجتمع الذي يبني أو بنى الاشتراكية، أو على المستوى العالمي إزاء كل الشعوب التي تعاني الاضطهاد الإمبريالي”.(4)
وهو يحلل نماذج بناء “الاشتراكية الحقيقية” في مقال “الاشتراكية والإنسان في كوبا” التي كتبه في مارس 1965، كان تشي، ودائما انطلاقا من منظوره الإنساني والثوري، يرفض التصور الذي يزعم أنه “سيهزم الرأسمالية بقوانينها الخاصة”: “سنصل إلى الطريق المسدود إذا ما جازفنا بإتباع وهم تحقيق الاشتراكية بالأسلحة البالية الموروثة عن الرأسمالية (السلعة كوحدة اقتصادية، المردودية، المصلحة المادية الفردية كحافز،… الخ)”.(5)
تكمن إحدى الأخطار الرئيسية للنموذج المستورد من الإتحاد السوفيتي في زيادة الفوارق الاجتماعية، وتشكيل شريحة محظوظة من التكنوقراطيين والبيروقراطيين: ففي نظام المكافآت هذا يبقى “المدراء هم المستفيدون كل مرة أكثر. علينا أن نرى آخر مشروع وضع في الجمهورية الألمانية الديمقراطية، لنجد الأهمية التي أعطيت فيه لتسيير المدير أو بالأحرى لمكافأة المدير على تسييره”(6).
إن فكر تشي الاقتصادي حول مسائل الانتقال إلى الاشتراكية يستحوذ الاهتمام ويطرح أشكالا في نفس الآن. فهو يستحوذ الاهتمام بالتزامه الدفاع عن المساواة ومعاداة البيروقراطية، وبنقده لتقديس السوق –وذلك حتى في البلدان المسماة “اشتراكية”-. وليس صدفة أن كان رفيقنا إرنست ماندل قد ناصره في النقاش الاقتصادي لسنوات 1963-1964، ضد المدافعين عن تصورات ستالين الإقتصادية (شارل بيتلهايم) وضد الكوبيين الذين يقتدون بالنموذج السوفيتي.
لكن مجهوده الفكري –غير المكتمل بالطبع- يطرح أيضا إشكالية من زوايا عديدة، وذلك بالقضايا التي يسكت عنها –مسألة الديمقراطية الاشتراكية- أكثر من تلك التي تناولها. ليس لأن حجج تشي في الدفاع عن التخطيط الاقتصادي في وجه مقولات السوق كانت خاطئة بل بالعكس، فهي تكتسي حالية جديدة في مرحلة الليبرالية –الجديدة المهيمنة اليوم. لكن هذه الحجج لا توضح المسألة السياسية الحاسمة: من يخطط؟ من يقرر الخيارات الكبرى للمخطط الاقتصادي؟ من يحدد أولويات الإنتاج والاستهلاك؟ فبدون ديمقراطية حقيقية، أي بدون 1) تعددية سياسية و2) نقاش حر للأولويات و3) حرية السكان في الاختيار بين مختلف المقترحات والعرائض الاقتصادية البديلة، سيصبح التخطيط حتميا نظاما بيروقراطيا ومستبدا، غير فعال وبمثابة “ديكتاتورية على الحاجيات”، كما يبينه لنا بغزارة تاريخ الإتحاد السوفيتي سابقا. وبعبارة أخرى: إن المشاكل الاقتصادية لمجتمع الانتقال نحو الاشتراكية لا تنفصل عن طبيعة النظام السياسي القائم فيه. فالتجربة الكوبية خلال العشرين سنة الأخيرة، كشفت هي أيضا العواقب السلبية لغياب مؤسسات ديمقراطية/اشتراكية – رغم أن كوبا استطاعت أن تتفادى أسوأ الحماقات البيروقراطية والتوتاليتارية التي ارتكبت في البلدان الأخرى المسماة “الاشتراكية الحقيقية”.
كان جدال تشي ضد النزعة المركانتيلية مبررا جدا، لكن دفاعه عن التخطيط كان سيكون أكثر إقناعا لو وضع في منظور رقابة العمال الديمقراطية للأجهزة المخططة. وكما أشار ارنست ماندل في سياق آخر، فهناك طريق ثالث لمأزق السوق من جهة وللتخطيط البيروقراطي من جهة أخرى، يتمثل في التسيير –الذاتي الديمقراطي المنظم والممركز، في الحكم- الذاتي المخطط للمنتجين المتشاركين.(7) ولم تكن أفكار تشي في هذا المجال واضحة –رغم حذره إزاء المنتوج السوفيتي، ورغم حساسيته الكبيرة اتجاه البيروقراطية-.
إن تاريخ 8 أكتوبر 1967 سيبقى مرسوما إلى الأبد في التقويم الألفي لمسيرة الإنسانية المضطهدة نحو تحررها الذاتي. فالرصاص قد يقتل شخصا يكافح من أجل الحرية، لكنه لن يقتل مثله وتطلعاته وأحلامه. هذه الأخيرة، ستعيش بعده وهي تنبت في وعي الأجيال التي تستأنف النضالات. وهذا ما اكتشفته، وهم يستشيطون غيظا وخيبة الأمل تغمرهم، أولئك الدين قتلوا أميليانو زاباتا، وروزا لوكسمبورغ، وليون تروتسكي، وارنيستو تشي غيفارا.
يبدو أن عالم اليوم، بعد سقوط حائط برلين وموت الأنظمة الاستبدادية في أوروبا الشرقية، وبعد انتصار العولمة الرأسمالية وهيمنة الأيديولوجيات الليبرالية، تفصله سنوات-ضوئية عن ذلك الذي عاش فيه أرنيستو غيفارا. لكن، وبالنسبة لأولئك الذين لا يؤمنون بالمقولة الهيجلية المزعومة “نهاية التاريخ”، ولا بدوام اقتصاد السوق الرأسمالي/الليبرالي، أولئك الذين يرفضون التفاوت الاجتماعية الصارخ وتهميش شعوب الجنوب من طرف “النظام العالمي الجديد”، لأولئك، ستبقى رسالة تشي الإنسانية والثورة نافذة مفتوحة على المستقبل.

مجلة انبريكور. العدد 415 يوليوز 1997
تعريب : المناضل-ة

هوامش
1- جورجي كاستانيدا، مجلة نووسويك، 13 يناير 1997.
2- تشي غيفارا، المجلد 3، الكتابات السياسية، منشورات ماسبيرو، باريس، 1968، ص 118.
3- أنظر مثلا إ. غيفارا، الكتابات العسكرية، ماسبيرو، باريس 1968، ص 162.
4- نفس المرجع، ص 266-267.
5- تشي غيفارا الإنسان الاشتراكي في كوبا، الكتابات السياسية، ص 283.
6- تشي غيفارا: الرجل والمخطط، المجلد 4، غير منشور، ماسبيرو، باريس، 1972، ص 90.
7- إرنست ماندل: دفاعا عن التخطيط الاشتراكي، New Left Review، عدد 159، سبتمبر-أكتوبر 1986

شارك المقالة

اقرأ أيضا