لقاء تشي غيفارا مع ارنست ماندل
بقلم: JAN WILLEM STUTJE
بحلول الذكرى الثامنة والخمسين لاستشهاد الثوري الأممي ارنستو تشي غيفارا، وبقصد إلقاء ضوء على جانب من انشغالاته الفكرية بعد انتصار الثورة الكوبية، ارتأت جريدة المناضل-ة إن تعرض وصفا للقائه بالمنظر الماركسي الثوري، ذي الصيت العالمي، إرنست ماندل، ذلك إبان النقاش الاقتصادي الذي شهدت كوبا. الوصف المنوه به مقتطف من سيرة ارنست ماندل بعنوان ” إرنست ماندل، ثوري في القرن ” [*]
كوبا، مع تشي جيفارا وفيدل كاسترو (مقتطف من سيرة إرنست ماندل )
أدى إرنستو “تشي” غيفارا، الذي كان مع فيدل كاسترو وجه الثورة الكوبية، دوراً رئيسا في هذا النقاش. في 1958-1959، أنهت حرب العصابات نظام باتيستا القمعي المدعوم من الولايات المتحدة. وبذلك، تم القطع مع تصور العملية الثورية السائد منذ العام 1935. يعود هذا التصور السائد إلى نظرية المراحل في الكومنترن الستاليني، التي تحصر التطلعات الثورية في تشكيل حكومة وطنية ديمقراطية مكلفة بتحقيق الإصلاح الزراعي والتصنيع والتجديد الديمقراطي. ولن يحدث الصراع بين البروليتاريا والبرجوازية، وفق هذا التصور، إلا في مرحلة لاحقة، بعيدة إلى هذا الحد أو ذاك، من الثورة الاشتراكية. اكتشف الثوريون/ت الكوبيون/ت الاستحالة العملية لهذا الطريق، فبحثوا عن نموذج يضع حداً نهائياً للرأسمالية في كوبا. كانت كوبا معرضة، في هذا المسار، لخطر غزو أمريكي، الأمر الذي اتضح بجلاء في أثناء حادثة خليج الخنازير (بلايا جيرون) وأزمة الصواريخ في أكتوبر 1962. كما ألقت موسكو الحُرم على الكوبيين، إذ كانت تعتبر أن مساندة كوبا للحركات الثورية في أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا يقوض سياستها الخارجية الرامية إلى التعايش السلمي مع الغرب.
من عام 1961 إلى عام 1965، ترأس تشي جيفارا وزارة الصناعة الكوبية. وكان يعارض النفوذ المتنامي للشيوعيين الذين يميلون إلى موسكو، ويطورون الميول البيروقراطية في الدولة. تشكلت أفكاره بصدد الاقتصاد إبان مناقشات 1963-1964، التي لم تقتصر على التنمية الاقتصادية، بل شملت جوهر الاشتراكية: هيكل ميزانية مركزي ضد استقلال المنشآت المالي، وحوافز معنوية ضد حوافز مادية، وقانون القيمة ضد التخطيط، ودور الوعي.
كان تشي يعتبر أن اقتصادًا بلا منظور إنساني وبلا أخلاق شيوعية أمر لا يمكن تصوره (7). “محاربة الفقر ولكن أيضًا محاربة الاستلاب. […] إذا تجاهلت الشيوعية حقائق الوعي، فقد تكون منهجية توزيع، ولكنها لم تعد أخلاقًا ثورية” (8)
في بحث شهير عام 1965، بعنوان الاشتراكية والإنسان في كوبا، حذر تشي من« السعي خلف وهم تحقيق الاشتراكية باستخدام الأسلحة البالية الموروثة عن الرأسمالية (السلعة كوحدة اقتصادية، والربحية، والمصلحة الفردية المادية كحافز، إلخ) …» كان تشي يؤكد أن تحقيق الشيوعية الكامل يتطلب تغييرًا ليس فقط في البنية الاقتصادية، بل وفي البشر أيضا (9).
أُعجِب ماندل بموجة التأميم، وخلُص في خريف العام 1960 إلى أن كوبا أصبحت دولة ما بعد رأسمالية (10) “في الواقع، لجأ قادة الثورة، من أجل توطيد سلطتهم، إلى التروتسكية دون وعي(11)». بُعيْد نشر كتاب «النظرية الاقتصادية الماركسية»[**]، أرسل ماندل نسخة منه إلى تشي وكاسترو عن طريق سفارتهم في بروكسل(12). كان ماندل على اتصال غير رسمي بالنظام الكوبي عن طريق نيلسون زاياس بازوس Nelson Zayas Pazos (13)، وهو مناضل تروتسكي كوبي وأستاذ لغة فرنسية يعمل في وزارة الخارجية، وهيلدي غاديا، الزوجة السابقة لتشي، وهي اقتصادية بيروفية من أصل هندي وصيني تعيش في هافانا(14). كانت غاديا مؤيدة للأفكار التروتسكية، وبواسطتها هي و زاياس، كانت وثائق الأممية الرابعة تُنقل بانتظام إلى تشي(15).
في أكتوبر 1963، أبلغ زاياس ماندل عن الجدل الدائر بين من أسماهم الستالينيين-الخروتشوفيين والدائرة المحيطة بتشي(16). بينما دعا الأولون إلى الاستقلال المالي للمنشآت، وإلى حوافز مادية لزيادة الإنتاجية(17)، دعا تشي إلى مركزة المالية وتعزيز الحوافز المعنوية(18). شجع زاياس ماندل على التدخل في النقاش: «يبدو لي أن القيادة الكاسترية برمتها سترحب بهكذا مساهمة. […] فيدل، تشي، أراغونيس، هارت، فور شومون والعديد غيرهم يؤيدوننا (19) . “بعد شهر، وزع زاياس مساهمة من ماندل، مطبوعة على آلة كاتبة، على المشاركين في النقاش(20). كان ماندل يؤيد مقاومة تشي للاستقلال المالي، ليس لأنه كان معارضاً للامركزية، بل لأن التمويل الممركز للصناعات الصغيرة كان يبدو آنذاك الحل الأمثل. وكان يشاطر تشي مخاوفه بشأن تطور البيروقراطية، لا سيما أن معارضي تشي كانوا يريدون تحسين كفاءة الإدارة الاقتصادية اللاممركزة باستعمال حوافز مادية. لم يكن ماندل معارضًا للحوافز المادية في حد ذاتها، بشرطين: ألا تكون حوافز فردية بل جماعية لضمان التضامن، وأن يكون استخدامها محدودًا لكبح الأنانية الممكن أن تنتج عن هكذا نظام اثراء.
دافع ماندل، من أجل مكافحة البيروقراطية، عن تسيير ذاتي ديمقراطي وممركز، وتسيير من قبل الشغيلة في مكان العمل، خاضع لانضباط صارم إزاء سلطة مركزية تختارها مباشرة مجالس المنشآت(21). اختلف ماندل وتشي حول هذه النقطة الأخيرة. كان تشي يدافع بالفعل عن تسيير المقاولات من قبل النقابات، ولكن فقط إذا كانت هذه النقابات ممثلة وغير خاضعة لسيطرة الشيوعيين، الذين كانوا، في رأيه، فاقدين جدا للشعبية. كما أن نتائج التسيير الذاتي اللامركزي في يوغوسلافيا، حيث كانت المقاولات مثل عبيد للسوق، جعلت تشي حذراً. وقد حذره ماندل من إلقاء الرضيع مع ماء الحمام. كان التسيير الذاتي من قبل الشغيلة متوافقا تمامًا مع خطة مركزية يقررها ديمقراطيًا المنتجون المباشرون (22).
دُعي ماندل، في مستهل العام 1964، لزيارة هافانا. كانت ثمة احتمالات للقاء تشي وكاسترو(23). كان تشي قد قرأ بتحمس كتاب ماندل ”النظرية الاقتصادية الماركسية“ وترجم قسما كبيرا منه(24).. قال ماندل لليفيو مايتان: ”أعتقد أنني أستطيع أن أطرح العديد من المسائل بصراحة ودون إخفاء (25)“، وكتب مرة أخرى بعد بضعة أيام: ”وعلى أي حال، يمكنني حل مسألة تدريب أصدقائنا البوليفيين(26)“.
كان مايتان قد زار أمريكا الجنوبية أول مرة في العام 1962. وكان قد اتصل بحركات انتفاضية في بوليفيا وشيلي وبيرو وفنزويلا وأوروغواي والأرجنتين وحثها على العمل مع الكوبيين(27). والتقى، في بوينس آيرس، مناصري بيرون اليساريين مثل الشاعرة أليسيا إغورينAlicia Eguren ورفيقها جون ويليام كوكJohn William Cooke ، اللذين كانا على صلة بتشي منذ عام 1959 (28). وكانت لمايتان في بيرو اتصالات مع الجبهة الثورية اليسارية وزعيمها الفلاحي هوغو بلانكوHugo Blanco. والتقى في بوليفيا بعمال مناجم هوانوني وكاتافي وسيغلو 20. كان للتروتسكيين نفوذ قوي هناك، وكانوا يأملون تلقي تدريب على الكفاح المسلح في كوبا.
بقي ماندل في هافانا زهاء سبعة أسابيع. كانت زيارة غير رسمية، فرصة لتبادل الأفكار، وقد أقنعته هذه المناقشات تمامًا بأن كوبا «تشكل […] الحصن الأكثر تقدمًا لتحرير العمل والإنسانية(29)». كانت الكلاسيكيات الماركسية تُدرس على نطاق واسع في مدارس الكوادر وفي الوزارات وخارجها. كتب ماندل إلى أحد أصدقائه: «كان الفصل الذي شاركت فيه قد أنهى للتو قراءة المجلد الأول من رأس المال، بحضور وزير وثلاثة نواب وزراء. […] وكانت دراسة جادة، بل تلمودية، دراسة صفحة بصفحة(30)” .
كانت أعمال ماندل، بما في ذلك «النظرية الاقتصادية الماركسية»، موضوع نقاش؛ وتداول القادة مقتطفات مترجمة مطبوعة على آلة كاتبة(31). خاطب ماندل مئات المستمعين-ت في جامعة هافانا، متحدثًا بالإسبانية مع لمحة من الإيطالية عندما تعذر عليه نطق كلمة ما. وقد تم الإعلان عن زيارته في صحيفة Hoy، صحيفة المناضل الشيوعي Blas Roca ، كما أجرت معه صحيفة Revolución، الصحيفة اليومية الأكثر أهمية وتأثيرًا، مقابلة.
“لقد اختطفتني، بالمعنى الحرفي، وزارة المالية ووزارة الصناعة [وزارة تشي] لكتابة مقال طويل عن مشكلة قانون القيمة في اقتصاد مجتمع انتقالي(32).» تحدث ماندل بالفرنسية لمدة أربع ساعات مع تشي، الذي استقبله مرتديًا زيًا أخضر زيتونيًا، وقبعته السوداء الشهيرة تعلوها نجمة. كتب ماندل، وهو في غاية السعادة، إلى أحد أصدقائه: «بيني وبينك، إنه قريب جدًا من صديقك جيرمان [الاسم المستعار الذي استخدمه ماندل أكثر من غيره]، الذي تعرفه جيدًا(33)”.
عمل ماندل وتشي معًا على رد على الاقتصادي الفرنسي شارل بيتلهايم. كان هذا الأخير نشر، في أبريل 1964، مقالًا في المجلة الكوبية الشهرية Socialista قال فيه إن التخطيط المركزي الذي يدعو إليه تشي سياسة غير حكيمة، بالنظر إلى تطور قوى الإنتاج المحدود. كان الماركسي بيتلهايم أهم منتقدي تشي. ومن بين المعارضين الآخرين كان ألبرتو موراAlberto Mora ، وزير التجارة الخارجية، وكارلوس رافائيل رودريغيزCarlos Rafael Rodríguez ، وزير الزراعة. وبعد سنوات، صرح بيتلهايم أن
مستوى التنمية في كوبا يعني أن الوحدات الإنتاجية المختلفة تحتاج إلى استقلالية كافية، وأنها يجب أن تكون مدمجة في السوق حتى تتمكن من شراء وبيع منتجاتها بأسعار تعكس تكاليف الإنتاج. كما لاحظ أن انخفاض مستوى قوى الإنتاج يتطلب تطبيق المبدأ التالي: لكل فرد حسب عمله. كلما زاد العمل، زاد الأجر.
كان هذا جوهر خلافنا، لأن تشي لم يكن يعتبر الفروق مقبولة إلا عندما تنبع من مساهمة كل فرد بأفضل مقدراته(35).
لم يكن مدير الأبحاث في المدرسة العليا للدراسات الاجتماعية في باريس متفقًا مع فكر تشي.
كان ماندل يعتقد أن بيتلهايم يرتكب خطأً البحث عن أشكال صافية في الواقع التاريخي. على سبيل المثال، لا يمكن، وفقًا للاقتصادي الفرنسي، أن تكون ثمة ملكية جماعية لوسائل الإنتاج ما لم تكن هناك، قانونًا، ملكية جماعية كاملة. اعتبر ماندل أن إصرار بيتلهايم على مثل هذه الملكية الكاملة – «حتى الأظافر» – أمر تقنوقراطي بعض الشيء. لم تكن الملكية الجماعية ضرورية طالما أن التملك كان كافياً لتعليق قوانين رأس المال وبدء التنمية المخططة(36). وأكد ماندل أن زوال الشكل البضاعي لا يتحدد فقط بتطور قوى الإنتاج، بل أيضاً بتغيرات السلوك البشري. كان من الشائع تفسير أن قانون القيمة يؤدي أيضاً دوراً في اقتصاد ما بعد الرأسمالية، دون تحديد أجزاء الاقتصاد التي سيحكمها. كان السؤال الأساسي هو ما إذا كان قانون القيمة يحدد الاستثمار في القطاع الاشتراكي أم لا. يرى ماندل أنه إذا كان هذا هو الحال بالضرورة فإن جميع البلدان المتخلفة – بما في ذلك جميع البلدان ما بعد الرأسمالية باستثناء تشيكوسلوفاكيا وألمانيا الشرقية – محكوم عليها بتخلف أبدي. وأكد أن الزراعة في هذه البلدان كانت أكثر ربحية من الصناعة، والصناعات الخفيفة والحرفية أكثر ربحية من الصناعات الثقيلة، وأن السوق العالمية كانت أكثر ربحية من التصنيع المحلي على نطاق واسع، لا سيما لشراء المنتجات الصناعية. ” إن السماح للاستثمار بأن يحكمه قانون القيمة يحافظ على اختلال التوازن في البنية الاقتصادية الموروثة عن الرأسمالية(37)“. لم ينكر ماندل، في نقده، قانون القيمة، لكنه عارض ما أسماه بـ«قدرية بيتلهايم»، الذي أنكر ضرورة صراع مديد وصعب «بين مبدأ التخطيط الواعي والتطبيق الأعمى لقانون القيمة(38).
أمضى لويس ألفاريز روم Luis Alvarez Rom ، وزير المالية الكوبي، عشر ساعات في تصحيح ترجمة مقال ماندل إلى الإسبانية. نُشر المقال في يونيو 1964 تحت عنوان «Las categorias mercantiles en el periodo de transicion» (المقولات البضاعية في فترة الانتقال)؛ ونُشر في مجلات وزارتي الصناعة والمالية التي كان توزيعها 20000 نسخة(39). وأُرفق المقال بسيرة ذاتية تطري على الكاتب (40). وتساءل ماندل عما إذا كان هدف ذلك «تحييد بعض الانتقادات سيئة النية الموجهة لعائلتي الروحية [الأممية الرابعة](41). احتفظ ماندل في محفظته بورقة نقدية موقعة بيد تشي: كانت أكثر من مجرد ورقة نقدية، كانت دليلاً على الثقة. أعجب ماندل بشجاعة تشي في دعوته إلى كوبا للمشاركة في نقاش اضطر السوفييت والشيوعيون الأرثوذكس إلى قبوله، حتى على مضض. أشاد ماندل بتشي في كوبا،ب ما هو منظّر وقائد ضمن تقاليد ماركس ولينين وتروتسكي(42).
في عودة إلى هذه النقاشات، في العام 1977، اعتبر ماندل النقاش المفتوح حول الاقتصاد الكوبي «المنعطف الكبير» في الثورة الكوبية(43). كان ثمة، خلف هذه المناقشات، جدل محتدم، لكنه لم يكن علنيًا. وكان يتعلق بتوجه الثورة الاجتماعي والسياسي، ودور الشغيلة، ومسألة السلطة. أي أنه أُضيفت إلى مسألة قانون القيمة مسألة حق البروليتاريا في اتخاذ قراراتها الخاصة. وفقًا لماندل، إذا كان تشي قد انتصر في النقاش العام، فإنه هُزم في النقاش المخفي. كان ضمان الحرية مشكلة سياسية: وجب إنشاء مجالس عمالية ومجالس شعبية. لكن هكذا هيئات لم تر النور أبدًا.
كان تشي، لما غادر كوبا في العام 1965، الزعيم الأكثر شعبية في الجزيرة. لو جرى استماع لصوت الشعب، لكان تشي قد انتصر في هذه المواجهة السياسية كما انتصر في نظيرتها الاقتصادية. لكن تشي، كما قال ماندل، « لم يكن يريد اللجوء إلى الشعب. لم يكن يريد تقسيم الحزب علناً. ولهذا غادر بعد هزيمته (44)». اعترف ماندل، في مراسلاته عام 1964، أنه لم يجرؤ على تدوين بعض انطباعاته(45). هل كان يشك بالفعل أنه ستكون للنقاش نهاية مأساوية؟
عند مغادرته الجزيرة، أكد لويس ألفاريز روم لماندل أنه سيظل مرحبا به دوما، ويكفيه بعث طلب لتتم دعوته (46). تقول الشائعات إن كاسترو دعاه رسمياً في الأشهر التالية «لكي أهتم قليلاً بشؤونه(47)». عاد ماندل إلى بروكسل بشعور من الأمل:
يستمر تراجع تأثير «العصبويين» الستالينيين (هكذا يطلق عليهم هناك) […] وببطء، تتشكل طليعة جديدة قريبة من أفكارنا. […] الثورة لا تزال حية، وعلى هذا الأساس [يمكن] أن تزدهر الديمقراطية(48).
كما حصل على تأكيد أن «المجموعة المحيطة بتشي كان أقوى بكثير» وأن «تجمعات الشغيلة ستبدأ قريبًا (49)». هل كانت هذه بداية التسيير الذاتي العمالي، مهما كانت متواضعة؟ لم يكن الوعد كبيرا، وغض ماندل الطرف عن حدوده. ورد بنحو سلبي على نصيحة نيلسون زاياس Nelson Zayas بالضغط على تشي «وإقناعه بأنه سيخسر المعركة إذا خاضها في الساحة الحكومية والبيروقراطية فقط(50)». لم يكن ينبغي الاستهانة بدعم الشعب للحكومة(51). لم تكن النرد قد رُميت بعد: «لم يُحسم شيء نهائيًا في المناقشة الاقتصادية(52)». لم يرد ماندل أن يزعج تشي وفيدل في صراعاتهما مع التيارات الموالية للسوفييت. كما لم يكن ذلك ليحظى بتقدير الأعداد المتزايدة من الشباب الراديكاليين في فرنسا وأماكن أخرى، الذين كان تشي بنظرهم يرقى إلى مرتبة البطل. خيبت ردّة فعل ماندل آمال زاياس وعجّلت قراره بأن يعرض بوجهه عن كوبا وينتقل إلى إنهاء دراسته للغة الفرنسية في باريس. طلب من ماندل أن يستخدم نفوذه لدى تشي للحصول على تأشيرة الخروج اللازمة(53).
لم تتغير تقييمات ماندل لكوبا إلا بنحو بطيء.كانت الثورة بأمريكا اللاتينية قد تعرضت لكبح قوي: فقد خسر سلفادور أليندي الانتخابات التشيلية في سبتمبر 1964، ووقعت انقلابات عسكرية في البرازيل وبوليفيا، وهُزمت الجماعات اليسارية المسلحة في بيرو وفنزويلا. وكانت كوبا تدفع ثمن إخفاقاتها بزيادة اعتمادها على الاتحاد السوفيتي. كان مناخا سياسيا قاحلاً لا يمكن ان تزدهر فيه الديمقراطية الاشتراكية. وكما اعترف ماندل بصراحة للمناضل التروتسكي خيسوس فاسكيز مينديز:
:أشاطرك الرأي بأن مشاركة الشعب أمر أساسي. […] سمعت أن إدارة الشركات ستنتقل إلى أيدي النقابات بعد تغيير قادتها؛ لكن آخر الأخبار تفيد بأن شيئًا لم يحدث. يؤسفني ذلك، وأخشى مثلك أن يؤدي ترك الأمور تأخذ مجراها إلى مأزق اقتصادي. ربما أعود إلى كوبا في عام 1965 وأتمكن من إعطاء دفعة جديدة للنقاش(54).
لكنه لم يسافر في العام 1965 ولم ير تشي مرة أخرى، حتى عندما كان تشي في الجزائر لإلقاء كلمة في مؤتمر أفريقي آسيوي، في متم رحلته إلى أفريقيا في فبراير من ذلك العام. لم يسبق لتشي أن تحدث بهذا الحزم ضد الاتحاد السوفيتي. فقد أعلن أن «البلدان الاشتراكية هي، إلى حد ما، شريكة في الاستغلال الإمبريالي». وقبل كل شيء، يجب مساعدة الشعوب المضطهدة بالسلاح، «بدون أي كلفة وبالكميات التي تحددها الحاجات(55)». ترسخت كلمات تشي في التربة الخصبة لجامعات أمريكا اللاتينية وفي الأوساط الراديكالية في باريس، حيث تم نشر خطابه وتوزيعه (56)، ودعاه اتحاد الطلاب الشيوعيين (UEC) إلى المشاركة في نقاش حول الستالينية(57). كانت المبادرة من جناح الاتحاد اليساري، حيث أدى رفاق ماندل في التفكير دوراً بارزاً. قبل ستة أشهر، استقبلهم نائب وزير الصناعة، وهو أحد المقربين من تشي(58).كانت إحدى المتحدثات باسم المجموعة، جانيت بينكني Jeannette Pienkny (جانيت هابل بعد عام 1966)، في السابعة والعشرين من عمرها، تسافر بانتظام بين باريس وهافانا. كانت قد اتصلت بالسفير الكوبي، الذي نقل الدعوة إلى تشي بالهاتف. في غضون ذلك، كان ماندل يحاول الحصول على تأشيرة دخول إلى الجزائر. بعد خطاب تشي، اتصل ماندل به هاتفياً لتهنئته. وافق تشي على الفور على مقابلته، ولكن في اليوم التالي، وهو يوم الاثنين، لأنه كان على وشك المغادرة(59). ولكن في ذلك الأحد، حاول ماندل دون جدوى الاتصال بالسفير وبالقنصل الكوبي في السفارة ومن منزله. بدون تأشيرة، «لم يكونوا ليتركوني حتى أتصل من المطار. […] قررت أخيرًا، بأسف بالغ، أن أفوت الموعد الذي كان مهمًا جدًا بالنسبة لي(60)”.
لم تجر المناقشة في باريس أبدًا. فقد وضع لها الحزب الشيوعي حدًا (61). أصبح تشي الآن يعتبر هرطقيا، ليس فقط في موسكو بل حتى داخل الأحزاب الشيوعية. كانت الجزائر آخر ظهور علني له. ثم توجه إلى الكونغو وبوليفيا للمساعدة في كسر عزلة الثورات الجارية، وهو تضامن لخصه في رسالته الوصية:
“خلق اثنين، ثلاثة… العديد من فيتنام”(62).
أصبح هذا الشعار شعار جيل 1968.
==================
هوامش:
[*]ERNEST MANDEL UN RÉVOLUTIONNAIRE DANS LE SIÈCLE
JAN WILLEM STUTJE
PRÉFACE DE TARIQ ALI
TRADUCTION DE PATRICK LE TRÉHONDAT
ÉDITIONS SYLLEPSE (PARIS)
[**] كتاب Traité d economie marxiste
ترجمه الى العربية جورج طرابيشي بعنوان “النظرية الاقتصادية الماركسية”
إحالات مرجعية :
- Michael Löwy, The Marxism of Che Guevara: Philosophy, Economics, and Revolutionary Warfare, New York, Rowman & Littlefield Publishers, 1973.
- Interview de Che Guevara». L’Express, 25 juillet 1963, cité dans Ernesto Guevara, Écrits d’un révolutionnaire, Paris, La Brèche, 1987, p. 9.
- Ernesto Guevara, Le socialisme et l’homme à Cuba, Paris, La Découverte, 1987, p. 5.
- Jack [Ernest Mandel] à «Chers amis», 18 octobre 1960, Archives Ernest Mandel, dossier 70. Ernest Germain [Ernest Mandel] à «Cher camarade», 1 juillet 1961, Archives Ernest Mandel, dossier 483.
- Ibid.
- Gustavo Arcos Bergnes [ambassadeur cubain) à Ernest Mandel, 12 septembre 1962, Archives Ernest Mandel, dossier 16.
- Sous le pseudonyme de David Alexander, Zayas Pazos a publié un livre sur Cuba en 1967: Cuba: la via rivoluzionaria al socialismo, Rome, Samonà e Savelli, 1967. Il a également écrit des lettres signées sous le pseudonyme Émile.
- Hilda Gadea, Che Guevara: Años decisivos, Mexico, Aguilar, 1972. Pierre Kalfon, Che, Ernesto Guevara: une légende du siècle, Paris, Le Seuil, 1997.
- Nelson Zayas à Pierre Frank, 20 octobre 1963, Archives Ernest Mandel, dossier 23.
- Nelson Zayas à «Cher camarade», 25 octobre 1963, Archives Ernest Mandel, dossier 21.
- Alberto Mora, «En torno a la cuestión del funcionamiento de la ley del valor en la economia
cubana en los actuales momentes», Comercio Exterior, juin 1963. Traduit sous le titre: Alberto Mora, Zur Frage des Funktionierens des Wertgesetzes in der cubanischen Wirtschaft zum gegenwärtigen Zeitpunkt, dans Charles Bettelheim et col., Wertgesetz: Planung und Bewusstsein die Planungsdebatte in Cuba, Francfort, Neue Kritik, 1969. Alberto Mora était le ministre cubain du commerce extérieur.
- Ernesto Guevara, «On value» (1963), dans John Gerassi (éd.), Venceremos! The Speeches and Writings of Che Guevara, Londres, Simon and Schuster, 1969, p. 280-285.
- Nelson Zayas à «Cher camarade», 25 octobre 1963, Archives Ernest Mandel, dossier 21.
- Nelson Zayas à Ernest Germain, 16 janvier 1964, Archives Ernest Mandel, dossier 22.
- Ernest Mandel, Le grand débat économique à Cuba, Partisans, nº 37, 1967. Reproduit dans Guevara, Ecrits d’un révolutionnaire, op. cit.
- Ernest Mandel. lettre fragment, nd [1964]. Archives Ernest Mandel , dossier 26.
Mandel à Nelson Zavas, 12 fevrier 1964. Archives Ernest Mandel. dossier 21. 28. Ernest
- Nelson à Germain, 16 février 1964, Archives Ernest Mandel, dossier 19.
- Ernest Mandel à «Cher ami» [Livio Maitan], 3 mars 1964, Archives Ernest Mandel, dossier 22.
- Ernest Mandel à Livio Maitan, 7 mars 1964, Archives Ernest Mandel, dossier 22.
- Livio Maitan, mémoires manuscrits (non publiés), Paris, nd, p. 3, 19-20.
- Ibid.
- La Gauche, 9 mai 1964.
- Ernest Mandel à Paul [Clerbaut], 7 mai 1964, Archives Ernest Mandel, dossier 23.
- Mandel prévoyait qu’il verrait bientôt le Traité d’économie marxiste publié à Cuba, «évidem-ment sans le chapitre sur l’économie soviétique (il n’est pas nécessaire que nous embarrassions les Cubains)». Ernest Mandel à Paul [Clerbaut], 7 mai 1964, Archives Ernest Mandel, dossier 23. Mandel a écrit à son éditeur français: «Le président de la République [Osvaldo Dorticos] lui-même s’intéresse à l’œuvre et aimerait la publier en espagnol à Cuba. Ernest Mandel à Christian Bourgois, 28 mai 1964, Archives Ernest Mandel, dossier 278.
- Ernest Mandel à Paul [Clerbaut], 7 mai 1964, Archives Ernest Mandel, dossier 23.
- Ibid.
- Charles Bettelheim, Forms and methods of socialist planning and the level of development of the productive forces», dans The Transition to a Socialist Economy, Atlantic Highlands, Humanities Press, 1975, p. 121-138.
- Jean Cormier (en collaboration avec Hilda Guevara Gadea et Alberto Granado Jimenez), Che Guevara, Monaco, Le Rocher, 1995, p. 291-292.
- Ernest Mandel, «Mercantile categories in the transition Stage», dans Bertram Silverman (éd.), Man and Socialism in Cuba: The Great Debate, New York, Atheneum, 1971, p. 63-66. Sergie de Santis, Bewußtsein und Produktion: Eine Kontroverse zwischen Ernesto Che Guevara, Charles Bettelheim und Ernest Mandel über das ökonomische System in Kuba», Kursbuch, octobre 1969.
- Mandel, Mercantile categories», dans Silverman (éd.), Man and Socialism in Cuba, p. 82.
Roberto Massari, Che Guevara: Pensiero e politica dell’utopia, Rome, Edizioni Associate, 1987.
- Mandel, «Mercantile categories», art. cité, p. 82 (en italiques dans l’original).
- Ernest Mandel, «Las categorías mercantiles en el periodo de transición», Nuestra Industria, juin 1964.
- Janette Habel, «Le sens que nous donnons au combat du Che Guevara» (I), Rouge, 13 octobre
1977.
- Ernest Mandel à Alicia Eguren, 5 août 1964, Archives Ernest Mandel, dossier 25.
- Frans Buyens, Een mens genaamd Ernest Mandel, Bruxelles, film, 1972.
- Ernest Mandel, «Il y a dix ans, l’assassinat du Che, les positions du Che Guevara dans le grand débat économique de 1963-1965, Rouge, 11 octobre 1977.
- Ibid.
- Ernest Mandel à «Paul [Clerbaut]», 7 mai 1964, Archives Ernest Mandel, dossier 23.
- Ernest Mandel à « Émile» [Nelson Zayas], 26 mai 1964, Archives Ernest Mandel, dossier 24.
- Ernest Mandel à Alicia Eguren, 5 août 1964, Archives Ernest Mandel, dossier 25.
- Ernest Mandel à «Lieber Freund [Georg Jungclas], 22 mai 1964; Ernest Mandel à Ken Coates, 10 mai 1964, Archives Ernest Mandel, dossier 23.
- Émile à Ernest Mandel, 5 juillet 1964, Archives Ernest Mandel, dossier 25.
- Émile à Ernest Mandel, 13 août 1964, Archives Ernest Mandel, dossier 25.
- Ernest Mandel à «Cher ami [Nelson Zayas], 12 octobre 1964, Archives Ernest Mandel, dossier 25.
- Ernest Mandel à Alicia Eguren, 25 septembre 1964, Archives Ernest Mandel, dossier 25.
- Émile à Ernest Mandel, 27 septembre 1964; Ernest Mandel à Émile, 11 novembre 1964, Archives Ernest Mandel, dossier 26.
- Ernest Mandel à Jesus Vazquez Mendez, 2 novembre 1964, Archives Ernest Mandel, dossier 26.
- Ernesto Guevara, «At the Afro-Asian Conference», dans Che Guevara Speaks: Selected Speeches and Writings, New York, Merit Publishers, 1967, p. 108 et 114.
- Kalfon, Che, Ernesto Guevara, op. cit., p. 402.
- Ibid. Également: Philippe Robrieux, Notre génération communiste (1953-1968), Paris, R. Laffont,
1977, p. 316-317.
- Ernest Mandel à Livio Maitan, 10 juin 1964, Archives Ernest Mandel, dossier 24.
- Ernest Mandel à «Dear friend [I. Tabata], 19 mai 1965, Archives Ernest Mandel, dossier 31.
- Ernest Mandel à «Pierre», 1 mars 1965, Archives Ernest Mandel, dossier 30.
- Robrieux, Notre génération communiste, op. cit., p. 317.
- Guevara, Vietnam and the world struggle for freedom, dans Che Guevara Speaks, op. cit.,
- 159.
- Ernest Mandel à Alicia Eguren, 5 août 1964, Archives Ernest Mandel, dossier 25.
- Ernest Mandel à Ernst Federn, 18 février 1962, Archives Ernest Mandel, dossier 677.
اقرأ أيضا