(6) من العائلة القديمة إلى العائلة الجديدة

غير مصنف15 نوفمبر، 2017

إن علاقات العائلة وأحداثها الداخلية لا تخضع بسهولة، بحكم طبيعتها بالذات، لدراسة موضوعية أو لحساب إحصائي. لذا يصعب القول إلى أي حد باتت العلاقات العائلية أسهل قابلية للتفكك اليوم ( وفي الحياة وليس على الورق ) منها بالأمس. ولا بد لنا أن نكتفي، إلى حد كبير في هذا المجال، بما هو قابل لأن يقع تحت النظر. والفارق بين المرحلة الراهنة ومرحلة ما قبل الثورة هو أن نزاعات ومآسي الأسرة العمالية كانت في الماضي لا تلفت انتباه أحد، حتى لدى جمهور العمال نفسه، في حين أن حياة عدد كبير من العمال الطليعيين الذين يحتلون مناصب مسؤولية أضحت اليوم عرضة لأنظار الجميع، الأمر الذي جعل من كل مأساة عائلية موضوع أحكام، بل موضوع ثرثرة وأقاويل بكل بساطة.

لكن على الرغم من هذا التحفظ الهام يبقى أن العائلة، بما فيها العائلة البروليتارية، قد تعرضت لهزة قوية. هذا الواقع، الذي جرى التنويه به بوضوح خلال اجتماع محرضي موسكو، لم ينف من قبل أي كان. وقد طرحت المشكلة على نحو مختلف خلال النقاش : بعضهم تحدث عنها بضيق وقلق، وبعضهم بتحفظ، وبعضهم الآخر بحيرة وتردد. على كل حال، كان واضحا بالنسبة إلى الجميع أننا هنا بصدد سيرورة خطيرة، سديمية تماما، وأشكالها مرَضية أحيانا، ومنفرة أحيانا أخرى، مضحكة تارة ومأساوية طورا، سيرورة لم تفسح في المجال بعد أمام إمكانيات النظام العائلي الجديد التي تنطوي عليها. والصحافة من جهتها نادرا ما تتعرض لظاهرة تفكك الأسرة. وقد طالعت ذات مرة مقالة جاء فيها أنه ينبغي أن نرى في تدهور الأسرة العمالية ظاهرة ” تأثير البورجوازية على البروليتاريا “. إن تفسيرا كهذا خاطئ كليا. فالمشكلة أكثر عمقا وأكثر تعقيدا. صحيح أن التأثير الماضي والحاضر للبورجوازية واضح جلي. لكن السيرورة الأساسية تكمن في تطور مَرَضي للأسرة البروليتارية التي تواجه وضعا متأزما، ونحن نشهد اليوم الظواهر الفوضوية الأولى لهذه السيرورة.

الجميع يعلم دور الحرب الهدام بالنسبة إلى الأسرة.

إن فعل الحرب في هذا المجال ميكانيكي صرف، فهي تفرق بين الناس لفترة طويلة من الزمن أو تجمع بينهم عن طريق الصدفة. وقد أطالت الثورة تأثير الحرب وعززته. وقد هزت الحرب بشكل عام ركائز كل ما كان صامدا بقوة عطالة التاريخ، أي النظام القيصري والإمتيازات الطبقية، والعائلة القديمة. وقد شيدت الثورة دولة جديدة، وحلت بالتالي المشكلة الأكثر إلحاحا والأكثر بساطة. أما على الصعيد الاقتصادي، فإن الأمور كانت أكثر تعقيدا. فالحرب كانت قد هزت دعائم النظام الاقتصادي القديم، فجاءت الثورة لتطيح به. ونحن اليوم نشيد شيئا جديدا – انطلاقا من الماضي حاليا، ولكن من ماض أعدنا تنظيمه على نحو جديد. والواقع أننا، في مضمار الاقتصاد، لم نتجاوز إلا منذ فترة وجيزة مرحلة الدمار لنبدأ بالإزدهار. ونجاحاتنا ما تزال ضئيلة، والطريق أمامنا ما تزال طويلة لبلوغ أشكال الاقتصاد الاشتراكي الجديد. بيد أننا خرجنا من مرحلة الخراب والدمار. وأكثر المراحل صعوبة وإحراجا كانت خلال عامي 1920 و 1921.

وفيما يتعلق بنمط الحياة العائلي، فإن مرحلة الهدم لم تنته بعد، إذ مازلنا في قلب فترة التفكك والتصدع. ويجب أن نعي بوضوح تام هذه الظاهرة، فعلى صعيد العلاقات العائلية، نحن لانزال، إن صح التعبير، في عامي 1920 و 1921، وليس على الإطلاق في عام 1923. إن نمط الحياة أكثر محافظة من الاقتصاد، ولهذا السبب بالذات يصعب فهمه. ففي السياسة والاقتصاد تتحرك الطبقة العاملة ككل. لهذا السبب تبوئ طليعتها – الحزب الشيوعي – المرتبة الأولى، وتحقق من خلاله مهامها التاريخية. أما في مضمار نمط الحياة، فإن الطبقة العاملة تتجزأ إلى خلايا عائلية صغيرة. إن تحول السلطة، وأيضا تحول النظام الاقتصادي ( تملك الشغيلة للمصانع والمعامل ) يؤثران طبعا على الأسرة، وإنما من الخارج فقط، وعلى نحو ملتو، دون زعزعة عاداتها الموروثة مباشرة عن الماضي. إن تغيير نمط الحياة والأسرة يقتضي من الطبقة العاملة برمتها وعيا حادا للمشاكل وللجهود المطلوبة، وهذا التغيير يفترض، من الطبقة العاملة نفسها، عملا تثقيفيا ضخما. فعلى المحراث أن يفلح الأرض عميقا. فأن نحقق المساواة السياسية بين المرأة والرجل في الدولة السوفياتية، فهذه مشكلة من أبسط المشكلات. وأن نحقق المساواة الاقتصادية بين الشغيل والشغيلة في المعمل والمصنع والنقابة. فهذه مشكلة أصعب بكثير. أما أن نحقق المساواة الفعلية للرجل والمرأة داخل الأسرة، فهذا ما هو في غاية التعقيد، وهذا ما يقتضي بذل جهود هائلة لقلب نمط حياة رأسا على عقب. مع ذلك، فإنه لمن الواضح أننا لا نستطيع الكلام جديا عن مساواة الرجل والمرأة في الإنتاج، ولا حتى على الصعيد السياسي، إن لم تتحقق هذه المساواة في الأسرة، ذلك أن المرأة التي تستعبدها الأسرة، والمطبخ، والغسيل، والخياطة، تجد قدراتها على العمل في الحياة الاجتماعية وفي التأثير على حياة الدولة قد تضاءلت وتقلصت إلى أبعد الحدود.

لقد كان الإستيلاء على السلطة أسهل الأمور وأبسطها. بيد أنه شغل قوانا كافة خلال مرحلة الثورة. وقد اقتضى منا تضحيات جسيمة. كذلك استلزمت الحرب الأهلية اجراءات تقشف صارمة. وقد أدانت العقول المبتذلة والبورجوازية الصغيرة وحشية الطبائع والسلوك، والفساد الدموي للبروليتاريا، إلخ. لكن البروليتاريا في الواقع، ومن خلال الإجراءات القسرية التي كانت تفرضها عليها الثورة، كانت تكافح من أجل ثقافة جديدة، من أجل أخلاق انسانية جديدة. وعلى الصعيد الاقتصادي، عرفنا خلال السنوات الأربع أو الخمس الأولى من العهد، مرحلة تدمير وتراجع تام في الإنتاج. وقد رآى أعداؤنا في ذلك، أو بالأحرى أرادوا أن يروا في ذلك، تفسخ النظام السوفياتي. لكن كل ما في الأمر الواقع أننا كنا نمر بمرحلة التدمير التي لا مناص منها لأشكال الاقتصاد القديمة، وبمرحلة المحاولات الواهنة الأولى لخلق بديل لها.

وفي مضمار الأسرة ونمط الحياة، ثمة مرحلة ضرورية أيضا يتم فيها تصديع سائر الأشكال القديمة، التقليدية، الموروثة عن الماضي. غير أن فترة الأزمة والتدمير هذه تأتي متأخرة أكثر، وتدوم أطول، وتكون أشق وأصعب، مع أن أشكالها، المجزأة إلى أقصى حدود التجزئة، لا تبدو دوما مرئية لمن يتفحصها على نحو سطحي. يجب أن نعي بوضوح هذه الصدوع في ميدان السياسة والاقتصاد، وأيضا في مضمار نمط الحياة، وذلك حتى لا تخيفنا الظواهر التي نلمسها، وحتى نقدرها على العكس حق قدرها، أي نفهم لماذا تظهر لدى الطبقة العاملة، وحتى نؤثر عليها على نحو واع ومدرك وباتجاه تشريك أشكال نمط الحياة.

لكن حذار أن نفقد صوابنا، وإن كانت أصوات فزعة قد بدأت ترتفع هنا وهناك. خلال اجتماع محرضي موسكو، أشار بعض الرفاق، بقلق له ما يبرره، إلى السهولة الفائقة التي باتت تتفكك بها أواصر الأسرة القديمة وتنعقد أواصر جديدة لا تفوق الأولى صلابة ومتانة. والأم و الأولاد هم الذين يكابدون بالدرجة الأولى من ذلك. من جهة أخرى، من منا لم يسمع ذلك النغم المكرر حول ” انحطاط ” أخلاق الشبيبة السوفياتية، ولا سيما شبيبة الكومسومول؟[1] صحيح أن هذه الشكاوي ليست مجرد تخريف، فهي لا تخلو من أساس من الصحة. ونحن إذا ما نظرنا إلى الأمور من منظار نسبي، وجدنا أنه لا بد من النضال من أجل تنمية ثقافة الفرد وشخصيته. لكن لو طرحنا المشكلة على نحو سليم، دون أن ننجر وراء نزعة أخلاقية رجعية أو سوداوية عاطفية لوجدنا أنه ينبغي، قبل أي شيء آخر، أن نعرف الواقع و أن نفهم ما يجري.

كما سبق وذكرنا، إن أحداثا بالغة الخطورة – الحرب والثورة – قد قلبت أوضاع نمط الحياة العائلي. وقد حملت معها الفكر النقدي، وإعادة التنظيم الواعية لعلاقات الأسرة ولنمط الحياة اليومي وتقييما جديدا لها. إن تضافر القوة الميكانيكية لهذه الأحداث الكبرى مع قوة الفكر النقدية هو، على وجه التحديد، ما يفسر في ميدان الأسرة مرحلة التدمير التي نعرفها اليوم. فالعامل الروسي بدأ اليوم فقط، بعد استيلائه على السلطة، يخطو خطواته الأولى على درب الثقافة. وتحت تأثير هزات عنيفة انعتقت شخصيته للمرة الأولى من الأشكال والعلاقات التي يفرضها الروتين، والتقاليد، والكنيسة. فهل من المستغرب أن تأخد بادئ الأمر ثورته الفردية على النظام القديم أشكالا فوضوية، أو بتعبير أكثر فظاظة، أشكالا جامحة، فالتة العنان؟ لقد لاحظنا الشيء نفسه في السياسة، في الاقتصاد وفي الجيش : فوضوية – فردية، تطرف يساري من كل الأنواع، تعصب حزبي، هوس المهرجانات الخطابية. هل من المستغرب أخيرا أن تجد هذه السيرورة تعبيرها الأكثر حميمية، وبالتالي الأكثر إيلاما، في الأسرة؟ هنا تضطر الشخصية المتحررة، الراغبة في بناء حياتها على نحو جديد وليس على نحو تقليدي، تضطر إلى التأكيد على ذاتها عن طريق ” الفجور ” و ” الرذيلة ” وغيرها من الآفات التي أشير إليها خلال اجتماع موسكو.

فالزوج الذي تنتزعه التعبئة العامة من شروط حياته المألوفة، يصبح في الجبهة مواطنا ثوريا. إنه يعيش ثورة داخلية عارمة. ويتوسيع أفقه وتسمو متطلباته الروحية وتصبح أكثر تعقيدا. وها هوذا قد أصبح إنسانا آخر. ويعود إلى أسرته. فإذا بكل شيء فيها قد بقي على حاله. فتضمحل الوحدة العائلية القديمة، لكن دون أن تقوم مكانها وحدة جديدة. ويتحول الإستغراب والذهول من الطرفين إلى استياء، والإستياء إلى غضب، والغضب يؤدي إلى الإنفصال.

الزوج، الشيوعي، يعيش حياة اجتماعية نشطة، فيتقدم ويجد فيها معنى حياته الشخصية. بيد أن الزوجة، الشيوعية هي الأخرى، تود بدورها المساهمة في عمل الجماعة، فتشارك في الاجتماعات، وتعمل في السوفييت أو في النقابة. وتضمحل الأسرة شيئا فشيئا، أو تزول العلاقة العائلية الحميمة وتتزايد الخلافات، الأمر الذي يثير سخطا مشتركا ينتهي إلى الطلاق.

وقد يكون الزوج شيوعيا، والزوجة لاحزبية. عندها ينشغل الزوج كليا بعمله الحزبي، في حين تبقى الزوجة، كما في الماضي، أسيرة الدائرة العائلية. العلاقات بينهما تكون “مسالمة”، أي قائمة على أساس من اللامبالاة المتبادلة. لكن قد يتقرر، داخل الخلية، أن يتخلص الرفاق من الأيقونات التي هي في بيوتهم. ويعتبر الزوج أن الأمر مفروغ منه. غير أن المسألة قد تتحول إلى دراما حقيقية بالنسبة إلى الزوجة. وتأتي هذه المشكلة الفجائية لتكشف عن الهوة الفكرية الشاسعة التي تفصل الزوج عن الزوجة. فتتأزم علاقتهما وينتهيان إلى الإنفصال.

لنتصور الآن أسرة غير حديثة العهد، تجمع بين الزوجين فيها حياة مشتركة تتراوح بين عشرة وخمسة عشر عاما. الزوج عامل مجد، ووالد طيب القلب، والزوجة تحب بيتها وتتفانى من أجل ذويها. وقد تشاء المصادفة أن تتسل بمنظمة نسائية. وعندئذ ينفتح عالم جديد أمامها وتجد فيه مجال عمل أرحب بكثير لإنفاق طاقاتها. لكن في العائلة، يكون الإنهيار. فالزوج يغضب، والزوجة تعتبر نفسها قد أهينت في كرامتها كمواطنة. وينتهي الأمر إلى الطلاق.

نستطيع أن نضاعف إلى ما لا نهاية عدد المآسي العائلية هذه التي تؤدي دوما إلى النتيجة إياها – إلى الطلاق. بيد أننا اكتفينا هنا بالإشارة إلى الأمثلة الأكثر رواجا. والقاسم المشترك بينها هو خط الفصل ذاك بين العناصر الشيوعية والعناصر اللاحزبية. غير أن انحطاط الأسرة ( الأسرة القديمة ) لا ينحصر فقط بالعناصر الطليعية للطبقة العاملة، الأكثر تحسسا بالظروف الجديدة، فهو يذهب إلى أعمق من ذلك بكثير. كل ما في الأمر أن الطليعة الشيوعية تجرب قبل غيرها، وعلى نحو أكثر حدة، ما ستعاني منه بهذا القدر أو ذاك من الحتمية الطبقة برمتها. وهذه الظواهر – إعادة النظر في الحياة الشخصية، متطلبات جديدة على صعيد الأسرة – تتجاوز طبعا حدود مجال اتصال الحزب الشيوعي بالطبقة العاملة. وما كان اقرار الزواج المدني إلا ليسدد ضربة قاصمة للأسرة القديمة المكرسة من قبل الكنيسة، والتي لم تكن أكثر من واجهة. وكلما كانت العلاقات واهنة، كانت وحدة الأسرة تقتصر على المظهر الخارجي، اليومي، والطقسي إلى حد ما، لتلك العلاقات. وبالقضاء على الطقوس، تم في الوقت نفسه تسديد ضربة قاسية إلى الأسرة. فالطقوسية، الخالية من كل مضمون موضوعي، والمفتقرة إلى اعتراف الدولة بها، ما عادت تحافظ على نفسها إلا بقوة عطالتها، وهي تستخدم كعكاز للأسرة التقليدية. لكن إن لم تتوفر العلاقات المتينة داخل الأسرة نفسها، وإن كان تماسك هذه الأخيرة لا يعتمد إلا على قوة العطالة والجمود، فإن كل ضربة توجه إليها من الخارج قادرة على تحطيمها بالقضاء على طابعها الطقسي. والواقع أن الضربات التي تتلقاها الأسرة في عصرنا هذا قد فاقت كل ما نالته حتى الآن. لهذا نراها تترنح، ولهذا نراها تتصدع وتتساقط، ولهذا نراها تعيد تكوينها من جديد لتتفكك مرة أخرى ومن جديد. وقد خضع نمط الحياة لتجربة قاسية نتيجة هذا النقد الصارم والمؤلم للأسرة. لكن ” لا يمكن صنع عجة من دون كسر البيض ” كما يقول المثل.

هل نشهد ظهور عناصر أسرة من طراز جديد ؟ دون أدنى شك.

بيد أنه يجب أن نكون لأنفسنا فكرة واضحة عن طبيعة هذه العناصر وطريقة تكونها. وينبغي أن نميز هنا، إسوة بما نفعل في ميادين أخرى، بين الشروط المادية والشروط النفسية، أو بالأحرى الشروط الذاتية. على الصعيد النفسي، فإن ظهور أسرة من طراز جديد وعلاقات إنسانية جديدة يساوي بالنسبة إلينا، بشكل عام، التقدم الثقافي للطبقة العاملة، وتطور شخصيتها، وتحسن حاجاتها وانضباطها الداخلي. ومن وجهة النظر هذه فإن الثورة تشكل، بحد ذاتها، خطوة جبارة إلى الأمام، والظواهر المكدرة لتفكك الأسرة ليست سوى تعبير مؤلم عن يقظة الطبقة العاملة وتفتحها. لذا فإن مجمل عملنا الثقافي – العمل الذي نقوم به، وبخاصة الذي يتوجب علينا القيام به – يجب أن يخدم قضية إقامة أسرة وعلاقات من طراز جديد. لكن هذه الأسرة الجديدة العليا، لن ترى النور ما لم يتم تحسين السوية الثقافية الفردية للعامل وللعاملة، ذلك أنه في هذا المجال لا بد من الإعتماد على الإنضباط الداخلي وحده، إذ ليس ثمة مكان للإكراه الخارجي. وتتحدد قوة هذا الإنضباط الشخصي بالحياة التي يعيشها الزوجان داخل نطاق الأسرة، وبمجمل العلاقات التي تجمع بينهما، وبطبيعتها. مرة أخرى نعود فنقول أن شروط ظهور نمط حياة جديد وأسرة من الطراز الجديد لا يمكن أن تنفصل عن مهمة البناء العام للاشتراكية. لذا ينبغي أن تغتني الحكومة العمالية حتى يصبح في مقدورها أن تنظم، على نحو جدي ومتكامل، تربية الأطفال الجماعية، وأن تحرر الأسرة من الطبخ والغسيل. وتشريك الاقتصاد العائلي وتربية الأطفال يبقى غير وارد ما لم يغتن اقتصادنا برمته. فنحن بحاجة إلى التراكم الاشتراكي. بهذا الشرط فقط نستطيع أن نحرر الأسرة من الوظائف والمشاغل التي ترهقها وتحطمها. الغسيل مثلا يجب أن يرسل إلى مغسل جماعي. ووجبات الطعام يجب أن تؤخذ في مطعم جماعي جيد. والثياب يجب أن تفصل في ورشة عمل. أما الأولاد فيشرف على تربيتهم أخصائيون ممتازون ينحصر عملهم في ذلك. عندها لن يعيق علاقات الزوج والزوجة ما هو خارجي عنها، ما هو زائد وفائض، وعابر. ويكف كل واحد منهما عن تنغيص حياة الآخر. عندها فقط نشهذ ظهور مساواة فعلية في الحقوق. وتمسي الروابط متحددة بالإنجذاب المتبادل فقط. ولهذا السبب بالذات تصبح هذه الروابط أكثر متانة، مختلفة طبعا بالنسبة للزوجين، ولكن لا أثر للإكراه فيها.

ثمة طريقة مزدوجة إذن تقود إلى الأسرة الجديدة : أ- تربية الطبقة وتربية الفرد في الطبقة، ب- الإغتناء المادي للطبقة التي تشكل الدولة. وهاتان الأواليتان وثيقتا الإرتباط فيما بينهما.

إن ما تقدم قوله لا يعني على الإطلاق أنه في لحظة محددة من التطور المادي ستظهر إلى حيز الوجود على نحو مفاجئ وفوري هذه الأسرة الجديدة. كلا، فتكوّن العائلة الجديدة ممكن منذ الآن. صحيح أن الدولة لا تستطيع بعد التعهد بتربية الأطفال الجماعية، وبإنشاء مطابخ جماعية تكون أفضل من المطابخ العائلية، وبإيجاد مغاسل جماعية لا يتعرض فيها الغسيل للتمزيق والسرقة. لكن هذا لايمنع الأسر الأكثر تقدمية من أن تبادر إلى التجمع منذ الآن على أساس جماعي. لا ريب في أن تجارب كهذه لا بد أن تتم بحذر شديد كي تتناسب الوسائل التقنية للتنظيم الجماعي مع مصالح ومتطلبات المجموعة، وكي تتحقق لسائر أعضائها فوائد واضحة، وإن تكن ضئيلة في المراحل الأولى.

حول إعادة بناء نمط حياتنا العائلي، كان الرفيق سماشكو[2] قد كتب قبل فترة من الزمن: ” يجب أن نقرن الكلمة بالفعل، إذ لن نحصل على شيء يذكر فيما لو اكتفينا بتسجيل المواقف أو بالعمل الدعائي. فإن برهانا واحدا، تجربة واحدة، يمارسان تأثيرا أقوى من ألف كراس مثقن الكتابة، والوسيلة المثلى لإنجاح هذه الدعاية هي استخدام تلك الطريقة التي يطلقون عليها إسم “إعادة الزرع ” في ميدان العمل الجراحي. فعندما ينسلخ الجلد عن مساحة كبيرة من الجسم ( نتيجة جرح أو حرق ) وعندما يتلاشى الأمل في أن يغطي الجلد من جديد هذه المساحة، يلجأ الجراحون إلى قص قطع من الجلد من موضع سليم من الجسد و إلى إلصاقها بالموضع المسلوخ، وينزرع الجلد وتمتد رقعه الصغيرة وتكبر إلى أن تغطي تماما المساحة المنزوع جلدها .

” وسوف تتم الأمور على نحو مماثل مع هذه الدعاية الإثباتية : فإذا ما جرى تبني نمط الحياة الشيوعي في معمل أو مصنع ما، فإن منشآت أخرى ستسير على هذا المنوال “. (أخبار اللجنة المركزية، العدد رقم 8، 4 نيسان 1923. ن. سماشكو: الميت يقبض على الحي).

إن تجربة هذه الجماعيات العائلية التي تشكل محاولة تقرب أولية، وإن ناقصة، من نمط الحياة الشيوعي، يجب أن تخضع لدراسة ولتحليل دقيقين. والسلطة مطالبة، قبل سائر المجالس والمؤسسات الاقتصادية، بتقديم دعمها لهذه المبادرات الجزئية. فبناء المساكن مثلا – ذلك أنه لا بد أن نباشر أخيرا ببناء البيوت! – يجب أن يخطط له وفق مقتضيات المجمعات العائلية. فالنجاحات الأولى، الواضحة والأكيدة، في هذا المجال من شأنها أن تحفز لا محالة شرائح أوسع على تنطيم نفسها على نحو مماثل. أما في ما يتعلق بمبادرة مخطط لها وآتية من فوق، فإن الأمور لم تنضج بعد بما فيه الكفاية، لا من حيث طاقات الدولة المادية، ولا من حيث استعداد البروليتاريا نفسها. وحاليا لا يمكن لهذه القضية أن تنطلق إلا بإنشاء مجمعات تجريبية. فالثقة بالنفس لن تأتينا إلا بالتدريج، أي دون أن نجازف بالإندفاع إلى أبعد مما ينبغي وبالسقوط بين براتن البيروقراطية العجيبة الغريبة. أما الدولة فستتكفل بهذه القضايا عندما يحين الأوان، بواسطة المجالس المحلية، والتعاونيات،إلخ، فتعمم العمل الذي يكون قد تم إنجازه وتطوره وتعمقه. بهذه الطريقة ستنتقل البشرية، كما يقول إنجلز، ” من ملكوت الضرورة إلى ملكوت الحرية”.

[1] منظمة الشباب في الإتحاد السوفياتي.(م)

[2] سماشكو نيقولا ألكسندروفيتش (1874-1949) : مفوض الشعب الأول للصحة العامة. طور الطب الوقائي وسياسة الدفاع عن الأم والطفل (م).

شارك المقالة

اقرأ أيضا