ألف باء النضال وتقنياته

أصل الورقة خلاصات نقاش ورشة نظمت في إطار أسبوع تواصلي لـ”حركة معطلي كليميم”.

ليس النضال مجرد احتجاج في الشارع، اختزال النضال إلى مجرد وقفات ومسيرات أمر شائع في ثقافة الاحتجاج لكنه منظور خاطئ ويجب على الحركات المناضلة تجاوزه إن كانت تريد أن يكون احتجاجها مثمرا.

غاية الورشة الاستئناس وحفز النقاش، وليست وصفة جاهزة وصالحة للتطبيق في كل زمان ومكان. كما أن الورشة ليست مقطوعة عن ظروف النضال الملموسة، بل وسيلة لكسر الروتين السائد في أشكال النضال وانعدام أي نقاش لها. ففي معمعان النضال نناقش كل شيء إلا النضال نفسه.

الغاية الأساسية في هذا النقاش، لا علاقة لها بالأمور التقنية المحضة بل غاية سياسية واضحة وهي إبطال إمكان تلاعب البيروقراطيين والانتهازيين والراديكاليين المزيفين بنضالات الكادحين.. الغاية النهائية هي تملك الجماهير لحق تقرير مصير نضالها بنفسها وإرساء قواعد الديمقراطية المباشرة والعمل الجماعي.

“يقول الحمقى، إنهم لا يتعلمون إلا من تجاربهم الخاصة، أما أنا فأفضل الإفادة من تجارب الآخرين”. هذه المقولة الخالدة لبسمارك تصدق كثيرا على النضال.. فالحركة النضالية الأكثر نجاحا هي التي تتفادى الوقوع في أخطاء سابقاتها بينما تستفيد من نقاط قوتها.

النضال صراع داخل المجتمع.. حرب مفتوحة بين طالب الحق وبين منتهكه. وبما أن النضال صراع فإنه بشكل نسبي تحكمه نفس القوانين العامة للحرب العسكرية.

يقول كلاوزفيتز “إن الحرب استمرار للسياسة بوسائل أخرى”، وبإمكاننا قلب الصيغة وتبقى مع ذلك صحيحة نسبيا؛ “السياسة استمرار للحرب ولكن بوسائل أخرى”. لذلك فإن مفاهيم التكتيك والإستراتيجية انتقلت من ميدان الاستخدام العسكري إلى السياسة.

التكتيك: هو طرائق عمل معينة لكسب هدف آني معين وملموس في ظرفية سياسية معينة.. أي السلوك النضالي أو السياسي الميداني إزاء مهام ومطالب محددة.

الاستراتيجية: هي الاهتمام بتوافق التكتيك مع مجمل الشروط الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للمجتمع، وتحديد اتجاه الوسائط النضالية وتأمين توافقها مع الوسائط الأخرى، الاقتصادية والسياسية والمعنوية.

باختصار التكتيك طريقة لربح المعركة بينما الإستراتيجية تكثف مجمل الخطة العامة لربح الحرب.

النضال لمنع إجراء مبارة توظيف وإقناع المعطلين بلا جدوى المباريات ذات المناصب المحدودة يدخل من باب التكتيك، بينما مجمل النضال العام من أجل الوظيفة العمومية يعتبر إستراتيجية حركات النضال ضد البطالة.

مبادئ عامة

تحليل ميزان القوى:

• من نحن؟

الإلمام بما نمثله اجتماعيا ووضعنا الطبقي هو النقطة الرئيسية في كل نضال، فالطبقة العاملة (اليدوية والذهنية) تتحكم في مفاصل الإنتاج والجهاز الإداري للدولة لذلك تمتلك سلاح الإضراب لوقف هذا الإنتاج ووقف تدفق الأرباح..

وسيلة الضغط الفعالة هذه لا يملكها المعطل مثلا، فهو على هامش الإنتاج.. ولا يستطيع وقف عجلة الإنتاج ومنع عمل جهاز الدولة الإداري.

لذلك يحتل ربط نضال المعطلين بنضال الطبقة العاملة وتنظيماتها (نقابات، أحزاب اليسار، المنظمات الحقوقية..) أمرا مفصليا في النضال ضد البطالة وكل شرور المجتمع الرأسمالي.

يبقى مع ذلك لهذا الموقع نقاط قوة إيجابية من الناحية المعنوية، وهي أن المعطل ليس لديه ما يخسره في هذا المجتمع سوى قيود البطالة وبؤسها، ليربح من وراء نضاله حياة كريمة وعيشا لائقا. • كم نحن عدديا: لا يمكن أن نخوض نضالا ونحن أقلية داخل المجتمع، لذلك يعتبر كسب الجماهير لصالح القضية أولى النقاط البرنامجية المطروحة على أي حركة نضالية.

تقرير مسيرة نضالية مثلا وقاعدتنا لا تتعدى العشرات يعتبر أمرا غير معقول، فلكي تكون مسيرة احتجاجية ذات ضغط يجب أن تكون بأعداد كبيرة، وإلا ستكون خطوة قزمة قد تعطي مؤشرات الضعف بدلا تحولها إلى شكل للضغط.

لا يعني هذا تقديسا للمعيار الكمي على المعيار الكيفي، لكن الأفراد المتميزين والواعين والممتلكين شجاعة وإقداما ووعيا متقدما لا يمكن أن يكونوا فعالين إلا إذا كانوا منغرسين في طبقتهم وتتبعهم الجماهير. الهدف الرئيسي هو جعل نضالنا مرتكزا لإطلاق المارد الشعبي والعمالي من القمقم المحبوس فيه لعقود.

• تحليل الظرفية السياسية:

مثلا اقتراب الانتخابات السياسية التي تدفع السلطات العمومية إلى تفادي النزاعات، وتعتبر أمثل الظروف لخوض نضال اجتماعي مع إمكانيات تفادي نقاط قوة النظام وتقليل احتمالات القمع.

على المناضل أن يقيم الظرفية السياسية جيدا، ويعرف بدقة لحظة الهجوم ولحظة الانسحاب.. أن يميز ظرفية التصعيد من الظرفية التي تحتم الأشكال النضالية الأقل تصعيدا، وهذا مرتبط أشد الارتباط بتحليل الظرفية السياسية وبالدرجة الأولى ما يتعلق منها بمستوى النضال الجماهيري (جزر أم مد) ومعنويات الجماهير.

المناخ السياسي العام، الإقليمي منه والدولي رافعة أساسية للنضال؛ المكاسب الكبرى للأطر العليا كانت بسبب تضافر نضالها مع الظرفية الثورية التي عمت دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط.

• تحليل مستوى استياء الرأي العام:

ويتناول ذلك مراقبة أثر التعاطف أو النفور من النضال من قبل الحركات المناضلة الأخرى، ومن قبل السكان. يجب أن يسعى النضال إلى الحصول على تواطؤ السكان ودعمهم.. فالرأي العام مهم ويمتلك ضغطا يجب استغلاله لتقوية نضالنا وتعزيزه.

لو لم يكن للرأي العام الشعبي/ الجماهيري ثقله، لما رأينا الاستبداد يصرف الملايين على إعلام همه اليومي إفساد وعي الجماهير تأبيد وضع التخلف الفكري للشعب وإبعاد اهتمامهم عن الأمور الأساسية في المجتمع.

يجب مراقبة الحركات المناضلة المتواجدة إلى جنبنا، إن كانت متعاطفة يجب العمل على تعميق ذلك وتطويره نحو التعاون النضالي، وإن كانت عكس ذلك يجب العمل على تصحيحه أو على الأقل تحييدها، فإن لم نستطع جعلها حليفة يجب أن نتفادى تحويلها إلى عدو.

يجب تفادي الفئوية والعصبوية، أكثر الأمراض المستشرية في حركات النضال (ضد البطالة بالخصوص)، فما يظهر على أنه أقرب الطرق للحصول على المطلب (الطابع الاستثنائي للملف كما هو شائع وسط فئات الأطر العليا بالخصوص) يتبدى على أنه أقرب الطرق إلى الهزيمة.

إن أكبر قوة بيد الاستبداد هي سياسة فرق تسد حيث يخدعنا بأن ملف كل فئة لها امتياز تحقيقه إن تم استثناؤه عن ملفات الفئات الأخرى، وقد يستجيب لبعض هذه المطالب الفئوية لتكريس هذا المنظور، وهو فخ لا يجب أن نقع فيه. نحن جماهير واحدة… مصير واحد… مطلب واحد… نضال واحد… وفي الاتحاد قوة.

• الإكراهات المالية:

أي الوسائل المالية لمواصلة النضال، فالمجتمع الرأسمالي يلقي بضغوطه على المناضلين، لذلك يجب العمل على توفير الإمكانيات المادية لتوفير لوازم النضال (لافتات، مكبرات الصوت، مطبوعات.. الخ).

ويشكل التمويل الذاتي عصب القضية هنا، إذ يضمن لكل حركة الحفاظ على استقلاليتها، ومع ذلك يجب العمل على تنظيم جمع تبرعات ودعم مالي داخل الوسط المناضل والمتعاطفين مع إبلاغ الرأي العام بكيفية إنفاقها (تقارير مالية دورية).

البيع النضالي للمنتوجات الأدبية ونشرات النضال والأشرطة يعتبر أحسن وسيلة لجمع الاكتتابات المالية.

• الاقتصاد في القوى:

وفق هذا المبدأ يجب العمل على تفادي إنهاك القوى، فالنضالات القاسية من البداية قد تكون ضعفا، ولا جدوى من استعمال الوسائل الكبيرة في رهان صغير.

مثال: إذا كان البيان السياسي أو البلاغ الصحفي كافيا لإيصال موقف معين (تعاطف مع نضال جاري، التنديد بقمع البوليس لنضال ما..)، فمن الخطأ القيام بوقفة احتجاجية مثلا، ما دام البيان والبلاغ كفيلا بإيصال الموقف.

النضال المثمر هو الذي يحصل على أقصى النتائج بأقل المجهودات.. لا يجب أن نبذر مجهودات ضخمة وقاسية كي نحصل على نتائج تافهة.

يجب أن نقيم التناسب بين الأهداف المسطرة وقوانا الحقيقية، أي يجب أن تتوافق قدراتنا الذاتية مع المعطيات الموضوعية. وبدون وضوح الهدف سنتيه في غياهب نضالات قاسية بدون موجه واضح.

يلزم التدرج في الانتقال إلى نضالات جذرية أكثر. يلزم الإبقاء دوما على الضغط والانطلاق تصاعديا لأن انطلاقة قوية متبوعة بتراجع تدل على ضعف سيعرف الخصم كيف يحلله ويستغله.

لا يجب مثلا البدء باعتصام مفتوح ما دام بالإمكان البدء بوقفات تعبوية تليها مسيرات واعتصامات مؤقتة.. فالاعتصام المفتوح يفترض تعاطفا واسعا من السكان وروحا معنوية عالية وإمكانات مالية كافية، وإلا سيتحول مع طول المدة دون الاستجابة للمطلب إلى مأزق يصعب التخلص منه، مع اليأس والإحباط الذي يدب في صفوف قاعدة المناضلين.

البدء بأشكال النضال الأكثر جذرية يعتبر حرقا لأوراق النضال التي لا يجب إشهارها هكذا مرة واحدة، ويصعب معها استئناف النضال من جديد إن لم يتحقق المطلب.

يجب أن نعرف توقيت وقف معركة، مع تفادي القصوية عندما نكون في وضع ليس في صالحنا. فمواصلة اعتصام أقلية في ظروف غير مواتية قد تؤدي على الهزيمة.

القدرة على تمييز ظرفية الهجوم عن توقيت الدفاع، ضرورية مع مراقبة الوضع لالتقاط فرصة القيام بهجوم مضاد بعد دفاع ناجح. أسوء المناضلين هو من يتصرف في لحظة الجزر بنفسية من يوجد في لحظة المد والعكس بالعكس، فما أبأس ” القائد العسكري الذي يدخل المعركة ليقوم بدور الحارس بدلا من أن يقوم بدور المهاجم”. (الاستراتيجية وتاريخها في العالم ج. ل. ليدل هارت، دار الطليعة بيروت).

منطق كل شيء أو لا شيء مدمر للنضال، يجب أن نتقن قبول مكتسبات جزئية تحصلت بالنضال، ستكون رافعة للتعبئة وحفز الاستعداد النضالي من جديد.

الملف المطلبي لا يتم تسطيره بشكل جزافي، بل بناء على مستوى الوعي الشعبي.. يجب الانطلاق من الحاجيات الحقيقية للجماهير وليس مما يبدو لنا ضروريا، فما هو بديهي للمناضلين المتقدمين ليس كذلك بالضرورة بالنسبة للجماهير.

على المناضلين الحذر من الراديكاليين المزيفين، وتحليل مدى صدق الداعين إلى التجذر، بغض النظر عما إن كانوا على صواب أو خطأ في اللحظة.

إن الذين يقترحون خطوات نضالية مغالية في التجدر ويدفعوننا نحو صراع قاس غير ملائم، إما أنهم يحاولون إبراز الصلابة للالتحام بالمضربين لنيل ثقتهم وخنق النضال لاحقا، أو أنهم يدركون أن الفشل مضمون ويريدون استثمار التعاطف المحقق انتخابيا. وان كانوا عملاء للخصم، يفجرون صراعا قاسيا مفضيا إلى فشل سيكون له اثر بالغ عندما يكون هجوم الخصم قاسيا ولن يتيح ذلك إعادة استئناف الصراع. (تقنيات النضال، مناضل نقابي لاسلطوي، من مطبوعات الكنفدرالية الوطنية للشغل-الجمعية الأممية للعمال CNT-AIT، تعريب المناضل-ة، العدد 7).

اتقاء القمع بحماية هوية الحركيين ومهامهم واجتماعاتهم، مع العمل على اتخاذ القرارات في آخر لحظة لتفادي وصول معلوماتها إلى الخصم.

لا يعني هذا حصر القرار في يد أقلية، بل يجب أن يكون القرار بيد القاعدة الواسعة للحركة المناضلة، أما التفاصيل التقنية (مكان الوقفة، توقيتها، حامل اللافتة، أعضاء لجنة الحوار واليقظة..)، فيستحسن سترها في لحظات توقع قمع شرس.

الجماهير.. الجماهير.. الجماهير…

إن الدرس الأكثر أهمية الممكن استقاؤه من قرنين من نضال الجماهير هو أن “تحرر الجماهير بيد الجماهير نفسها”، لا نضال بالوصاية.. لا احتجاج بالنيابة عن الجماهير صاحبة القضية والمطلب. فالنضال فرض عين وليس فرض كفاية.

مهما بلغت قناعة الأفراد واستعداداتهم النضالية وقتاليتهم في الشارع فلا يمكن أن يحلوا محل الجماهير في النضال.. يسهل كثيرا على جهاز الدولة القمعي هزيمة أفراد مهما بلغت شجاعتهم ومهما وصل وعيهم.

لا خير في نضال تقوده أقلية، النضال يكون بالجماهير أو لا يكون.. النضال المثمر يبدأ حين تحتل الجماهير الشوارع وتقتحم ميدان الاحتجاج بالآلاف والملايين وليس بالعشرات أو حتى المئات.

لذلك يشتمل تسعة أعشار فن قيادة النضال، في أحرج اللحظات، على معرفة استجلاء صوت الجماهير وإرادتها… مع الانتباه لمعنوياتها، فلا يمكن الدخول في أشكال نضالية بينما معنويات الجماهير في الحضيض، كما يقول نابليون: “تمتاز المعنويات في الحرب، على القوة المادية، بنسبة ثلاثة إلى واحد”.

هذا لا يعني أن نسير خلف الجماهير بل أن نسير في مقدمتها، فهذه الأخيرة قد تكون رجعية وهي أصلا متأثرة بنفس الوعي السائد داخل المجتمع، أشكال الوعي المستمدة من إعلام الاستبداد وأيديولوجيته.

التركيز على دور الجماهير الرئيسي لا يلغي دور الأفراد، إلا أنه يجب علينا النظر إلى ذلك الدور بمنظور نسبي.. فطبيعي أن يظهر أفراد أكثر نضالية وأكثر وعيا يحتلون مقعد القيادة داخل أي حركة.. إلا أن بروز القادة ليس إلا عرضا فرديا لطلب جماعي؛ أي أن نشوء حركة نضالية هي التي استوجبت ظهور الفرد القائد وليس العكس.

يروج أحيانا أن حركة نضالية تراجعت بمجرد انسحاب فرد منها أو اعتقاله.. وذلك صحيح ولكن بشكل نسبي، فجذور نضال الجماهير كامنة في وضع الاستغلال الاقتصادي والإقصاء الاجتماعي وليس الفرد مهما بلغت مكانته النضالية.

إن الفرد يتراجع وينكفئ بسبب تراجع النضال وليس العكس، وإلا سنقع في جريرة إسباغ طباع أسطورية وعجائبية وسحرية على ذلك الفرد.

نفس الشيء ينطبق على العلاقة بين الشجاعة والجبن في الوسط المناضل، فلا يجب تضخيم تلك الأمور.. لا علاقة ميكانيكية لشجاعة المناضل بتقدم النضال، فأكثر العمال جبنا يتحول إلى أكثر المضربين إقداما في لحظات الوحدة العمالية، بينما قد يتحول أكثرهم إقداما إلى رعديد يبحث عن مساومات لوقف النضال.

“الشجاعة جبن مروض” كما قال محمد بن عمر الحرش الثوري المغربي في جيش هوشي منه، كتب نابليون إلى الجنرال برتييه ما يلي: “ليس هناك رجل أكثر جبنا مني عندما أضع خطة حربية. إذ أضخم لنفسي تقدير كل الأخطاء وكل المآسي الممكنة… وعندما أتخذ قراري أنسى كل شيء فيما عدا ما يمكن أن يصنع النجاح”.

المعرفة… المعرفة… المعرفة

لا ممارسة نضالية بدون نظرية نضالية، النضال بدون موجه نظري وبدون نبراس برنامجي ليس إلا خبط عشواء. فالمعرفة سلطة.. ومن احتكر المعرفة احتكر السلطة.

لا يمكن النضال ضد البطالة ومن أجل حق الشغل دون الإلمام النظري بأسباب البطالة الجماهيرية وجذورها في المجتمع الرأسمالي وربط ذلك بسياسة الدولة في كافة القطاعات، ولن يتأتى ذلك دون الاهتمام بالجانب النظري.

يجب تربية الدماغ قبل تقوية الذراع، إتقان مخاطبة القلب قبل إتقان استعمال الضرب.

إلا أنه لا يجب المغالاة في الجانب النظري، فنظرية لا يتم تجريبها على واقع النضال ستتحول إلى مقولات مجردة وباهتة لا روح فيها، فـ”روح صراع الطبقات، لا تعيش في مختبراتنا الأدبية، بل في غبار الصراعات السياسية وحماها” كما قال تروتسكي.

كما لا ننكر دور التجربة في توعية الجماهير التي لا تملك كلها قدرة الاستنباط المنطقي ولا قدرة القراءة ومطالعة الكتب، فالتربية السياسية لا تأتي أكلها إلا ببطء شديد، بينما تكفي تجربة نضال في الشارع لتسهيل إقناع الجماهير بأمور يصعب إقناعها بها في زمن الجزر النضالي.

التنظيم… التنظيم… التنظيم

“لا وجود للجماهير خارج تنظيماتها” كارل ماركس.

النضال دون تنظيم ليس إلا ردود فعل غير محسوبة دون هدف واضح، ويسهل هزمها ودفع الجماهير إلى تمثل تلك الهزيمة بشكل سلبي.. فانتفاضات جماهيرية من حجم انتفاضة 1965 بالدار البيضاء هزمها الاستبداد بسبب كونها مجرد أعمال عفوية لتنفيس استياء وغضب جماهير بلغ فيها اليأس مبلغه، دون تصور واضح لمطلبها ودون أفق سياسي. لذلك فإن تجاوز العفوية والأعمال غير المنظمة يعتبر مهمة أولية عند كل حركة مناضلة، مع الحرص على تطبيق الديمقراطية المباشرة في الجموع العامة ذات السيادة لتفادي سيطرة أقلية على المعركة لغايات غير التي قررها الجمع العام.

يقوم التنظيم إذا كان ديمقراطيا بتصليب النضالات وبرسملة التجارب ومنع تبديدها.. فأكبر نقطة ضعف هو انقطاع خيط التراكم، فيضطر كل جيل على حدة إلى بدء التجربة من جديد. إن التنظيم هو السلاح الأمضى لمنع تشتيت النضالات.. على التنظيم أن يكون صلبا وليس متصلبا حتى يتمكن من مواجهة ضربات القمع وإتقان استغلال لحظات ضعف الخصم، كما على التنظيم أن يكون مرنا وليس مائعا كي يتفادى محاولات الاحتواء ويتكيف مع التغيرات المفاجئة في الظرفية السياسية.

استغلال كل ثغرة قد يقدمها القانون

على الحركات المناضلة استغلال أي إمكانية يضمنها القانون وتكفلها “الشرعية” وبالتالي ضمان تفادي مشاكل قمع محتمل.

لكن يجب ملاحظة أن القانون والشرعية وضعا لحماية مصالح الحكام وليس المحكومين، لضمان مصالح البرجوازية وليس مصالح الكادحين.

استغلال الإمكانيات التي يكفلها القانون- رغم ضآلتها- تتماشى مع المستوى المتدني لوعي الجماهير التي تتخوف من أي خطوة قد تستثير قمع جهاز الدولة؛ يجب العمل لإظهار الخطوات النضالية على أنها مستمدة من نصوص القانون ويكفلها لتشجيع المترددين في الالتحاق بصفوف النضال.

لكن يجب الانتباه إلى أن القانون يتلاءم بشكل سيء مع مصالحنا. بسرعة تضطر الحركات المناضلة، لتحقيق أهدافها، إلى التصرف خارج الشرعية والقانون؛ مسيرات في الشوارع، سد الطرق الرئيسية، احتلال مقرات العمل والدولة…

وحتى في اللحظات الحرجة للصراع الطبقي “ميز الاتجاه لإخفاء الأعمال الأولى للتمرد تحت مظاهر الشرعية الدينية أو المدنية في كل الأزمان صراع كل طبقة ثورية حتى اللحظة التي تجمع فيها هذه الطبقة بعض قوتها وثقتها لقطع حبل السرة الذي يربطها بالمجتمع القديم”. (ليون تروتسكي، تاريخ الثورة الروسية).

سلمية النضال

سلمية… سلمية.. كان شعار الثورات التي اجتاحت المنطقة العربية والمغاربية، وكان الهاجس وراء التركيز على سلمية النضال التخوف من تحول الثورات إلى مستنقع عنف يضر بنضال الجماهير.

المناضلون أنصار عالم بلا عنف وبلا سلاح ، ذلك هدفهم. لكن هذا لا يعني أن ندين العنف الذي قد يتولد عن دفاع الجماهير عن نفسها أمام قمع شرس من طرف جهاز الدولة، يجب نلاحظ أن مقاومة الجماهير الشرسة والنشيطة شرعية أمام عنف البرجوازية: قمع، اعتقال، اختطافات، اغتيالات… الخ.

يجب الرقي بنضال الجماهير سياسيا بدل الإدانة السياسية لأعمال العنف التي قد تصاحب نضالها، فالجماهير في المجتمع الرأسمالي لا تتلقى تربية “بوسائل حضارية”، كي تكون ردود فعلها حضارية.

يجب الحذر من العنف وممن يحث عليه، قد يحدث أن تدفع الدولة بعملائها الاستفزازيين داخل نضالات الجماهير قصد افتعال أحداث العنف لتبرير القمع.

اختيار وسائل النضال العنيفة أو السلمية ليست مسألة اختيار مبدئي، قد يكون الاثنان صحيحان وذلك راجع للتقدير السليم للظروف. تارة يكون نزاع غير عنيف وحازم فعالا وتارة العكس، إن مسيرة جماهيرية جيدة وهادئة قد تكون فعالة، لكن مظاهرة عنيفة قد تكون لها نفس الفعالية.

“ليس الثوري الحقيقي متطرفا، وهو لا يسعى إلى بلوغ أهدافه بواسطة القوة، بل بالإقناع”. فيدل كاسترو

مسائل تفصيلية

تحيلنا النقطة السابقة حول السلمية أو العنف، إلى مبادئ أساسية في مواجهة جهاز الدولة وإستراتيجية وتكتيك النضال بشكل عام.

ضبط النفس خاصية أساسية في النضال، لا يجب علينا أن ننجر إلى ردود فعل “نفسية” غير محسوبة تكون عواقبها كارثية على مستقبل النضال.

حتى في مواجهة جهاز الدولة القمعي يبقى الهدف الأول للنضال هو روح وعاطفة رجال القمع لا أجسادهم. حتى في حالة الحرب يبقى الهدف هو إضعاف مقاومة العدو قبل محاولة قهره والتغلب عليه. وأفضل عمل يؤدي لهذا الغرض هو جذبه خارج نطاق دفاعاته.

إن عدونا الحقيقي ليس رجل الشرطة أو فرد القوات المساعدة، بل مجتمع الظلم الاجتماعي الذي وضع في أيديهم الهراوة بدل الطبشور لتعليم أطفالنا، مجتمع الاستغلال الاقتصادي الذي ألبسهم بزة الجلاد بدل بذلة الطبيب.

يجب علينا تفادي الاصطدام بنقاط قوة جهاز الدولة، مع التركيز على توجيه ضربات قاسية إلى نقاط ضعفه، العمل على توجيه ضربات أكثر مما قد يصيبنا منه، لا بل تصويب ضربات إليه يعجز عن ردها، فأفضل الأعمال هي تحطيم مقاومة العدو دون قتال.

“كما في الحرب الحيلة أساس النضال. لذا ينبغي التظاهر بالعجز، عندما تتوفر القدرة على الهجوم. والتظاهر بعدم العمل، عند الرغبة في استخدام الجيوش. وإقناع العدو بأننا بعيدون، عندما نكون على مقربة منه، وبأننا قريبون، ونحن بعيدون عنه. استخدموا الفخ لجذب العدو، وتظاهروا بالفوضى ثم اسحقوه.

“اظهروا في بعض النقاط ليسرع العدو للدفاع عنها ثم سيروا بسرعة إلى نقاط لا ينتظركم فيها. امتنعوا عن ملاقاة عدو يرفع أعلامه وراياته بكل نظام. وتجنبوا مهاجمة الجيش المنتشر بنظام وثقة فوق مواقعه. فهذا هو فن دراسة الظروف”.

“السرعة روح الحرب: استفيدوا من عدم استعداد العدو، واستخدموا طرقا غير متوقعة، وهاجموا المواقع التي لا تحرس”. (هذه النصائح الموجودة بين مزدوجتين مأخوذة من كتاب الإستراتيجية وتاريخها في العالم، ج. ل. ليدل هارت، دار الطليعة بيروت).

إنها مبادئ عامة ولا تصلح لكل زمان ومكان، ويبقى استعمال أي وسيلة في النضال لتقدير الظروف المحيطة بكل نضال، الظروف التي قد تختلف من منطقة إلى أخرى، ومن زمان إلى آخر.

العلاقات الرفاقية

العلاقات الرفاقية والأخوية بين المناضلين هي الإسمنت الرئيسي للنضال، وبدونها ستكون كل الخطط المقترحة وكل البرامج المقررة حبرا على ورق.

تحتل الثقة المتبادلة المرتبة الأولى في مضمار العلاقات الرفاقية داخل أي حركة مناضلة، فبدون الثقة ستنهار المعنويات وستدب الإشاعات التي تعمل الدولة على إشاعتها في وسط المناضلين.

النقد الرفاقي غير الجارح: يجب أن يكون هدف النقد مساعدة الرفيق المخطئ على إصلاح خطئه وليس إهانته أمام رفاقه.. والنقد البناء يكون بمساعدة الرفيق المخطئ على استنتاج خطئه بنفسه وليس مواجهته بشكل مباشر. فمن المؤكد انه لا يمكن اجتناب الأخطاء، لكنه يمكن أن نأمل دائما بجعل هذه الأخطاء بناءة.

يجب تشجيع المناضلين- المبتدئين بالخصوص- على تولي المسؤوليات، لتفادي احتكار المسؤوليات، فهذا هو التربة التي يتغذى منها البيروقراطيون والانتهازيون.

يجب مساعدة الرفاق على كتابة التقارير وتلاوتها في التجمعات العامة، ليس علينا الاهتمام بموقف الآخرين من الذي يلقي كلمة باسمنا، فما يهمنا هو تربية مناضلين وليس تزويق صورتنا أمام الغير.

علينا تجنب الإشاعة والنميمة داخل الأوساط المناضلة، فالإشاعة هي الأسيد/ الحامض الذي يتأكل روابط المناضلين بينما الثقة هي الإسمنت الذي يربطها جيدا..

يجب تجنب نشر اتهامات العمالة للبوليس والتخوين لأنه يخلق جوا من انعدام الأمان وفقدان الثقة وينفر المناضلين أكثر مما يقوي قناعاتهم..

الوسط النضالي يجب أن يكون محميا من الأمراض المستشرية بالمجتمع، يجب أن يكون الوسط النضالي بذرة المجتمع المنشود لا نسخة باهتة لنفس المجتمع الذي نناضل ضده. أمراض مثل احتقار الإناث والتحرش الجنسي لا مكان في الحركات المناضلة.

حس التضامن يجب أن يكون مبنيا على معايير طبقية بصفتنا كادحين، لا على معايير مستمدة من انتماءات ما قبل رأسمالية مثل القومية أو الثقافة أو الدين أو اللغة. حيثما يوجد المظلوم فثمة وطني كما قال تشي غيفارا، أو كما قال مارسيل خليفة “كل قلوب الناس جنسيتي فأسقطوا عني جواز السفر”.

أشكال الاحتجاج

* الاحتجاج الكلامي: وهو أبسط أشكال النضال.

* عريضة التوقيعات.

* السلاسل البشرية: التي قد تمتد مئات الأمتار مع حمل لافتات لإيصال موقف معين (نموذج: سلاسل الحرية في مصر)

* الوقفات الاحتجاجية.

* الاعتصامات المحدودة والمفتوحة.

* المسيرة بالمدينة: تكشف الصراع ، وتضفي الشعبية على النضال، وتحافظ على الضغط، وتتيح تقييم ميزان القوى.

* المسيرة الوطنية: وهي أعلى أشكال التنسيق وتعتبر رفعا لتحدي النضال في وجه المؤسسات ا لمركزية للدولة المسؤولة عن السياسة العامة.

* العصيان المدني: رفض تطبيق قوانين الدولة والخضوع لها. مثلا: عدم أداء الضريبة، رفض تقديم أوراق الهوية، أو رفض الجندية، الخ

* الإضراب العام: حيث توضع السلطة في الرهان ويتم امتحان من يتحكم في المجتمع بكافة قطاعاته؛ هل هو جهاز الدولة أم الجماهير المضربة بتنظيماتها.

يجب تفادي أشكال النضال الفردية وذات طابع التضحية الفردية القصوى، مثل الإضرابات القاسية عن الطعام أو أشكال الانتحار (إحراق الذات، أو تناول السم..).

لا يجب إعدام أي وسيلة نضالية مهما بدت لنا تافهة أو أنها بدون ضغط، مثل الفن (الغناء، الشعر، المسرح..)، كلها وسائل للنضال.. وقد يكون لأغنية حماسية تأثير كبير على جمهور واسع لن يستطيع بيان سياسي أو مسيرة إحداثها.

يبقى الإعلام المناضل أهم وسيلة للوصول إلى جماهير الشعب، ويحتل المنشور السياسي مرتبة أساسية في أدوات العمل الإعلامي.. إضافة إلى كافة أنواع المنشورات النضالية (بيانات، بلاغات، مجلات دورية، أشرطة فيديو..).

إن عقب أخيل نظام الاستبداد هي أماكن تواجد الجماهير؛ أماكن سكنها ومقرات عملها.. يجب أن نركز قوة تعبئاتنا في هذه الأماكن ونجر قوات القمع ليس للتصادم معنا كحركات منعزلة بل كفيلق ضمن الجيش الجبار والذي تكونه جماهير الشعب.

النمري

شارك المقالة

اقرأ أيضا