الانقلابُ العسكري في السودان: محاولةٌ أخرى لتصفية الثّورة السودانية

سياسة29 أكتوبر، 2021

بقلم: أحمد أنور

قام الجيش السوداني بانقلاب عسكري ثانٍ في أقل من سنتين، وتخلص من رئيسه عمر البشير عندما تأكد لديه أن الثورة الشعبية تهدد باستئصال أركان النظام الحاكم، فأزاح البشير ليحافظ على نظامه، تماما كما حصل في مصر والجزائر. أبعد من ذلك إنه درسُ التّاريخ، فالمصالح الطبقية هي أساس الحكم، والفرد سواءٌ كان رئيسا أو ملكا، مدنيا أو عسكريا، يؤدي دوره في خدمة تلك المصالح. وكل ثورة ابتلعت طعم الخديعة باكتفائها بإسقاط الديكتاتور، ستتعرض للقصاص الشديد من أركان النظام الذي هزته الثورة دون أن تغيره من الجذور.

الجيش رأس حربة الثورة المضادة

أعلن البرهان رئيسُ مجلس السيادة حالة الطوارئ في جميع أنحاء السودان، وحل المجلس السيادي الانتقالي والحكومة، وعلق العمل ببعض بنود الوثيقة الدستورية الانتقالية، وجمد لجنة “إزالة التمكين”، دون أن يغفل عن المعهود في كل الانقلابات العسكرية من خداع التعهد بتسليم الحكم للمدنيين عبر انتخابات تنظم مطلع 2024 وتشكيل حكومة كفاءات وطنية، وتنصيب مجلس التشريع والمحكمة الدستورية قبل الانتخابات.

وفق الإعلان الدستوري المؤقت يتولى الجيش والمدنيون قيادة الفترة الانتقالية (مدتها 53 شهرا) الممهدة لانتخابات عامة تسفر عن مؤسسات تشريعية وتنفيذية مدنية على أن يتولى الجيش قيادة المرحلة الأولى التي تنتهي في نونبر القادم… إنه تراجع مأساوي عن النقطة التي توقفت فيها ثورة ديسمبر 2019.

فمع اقتراب موعد تسليم العسكريين قيادة مجلس السيادة الانتقالي للمدنيين تصاعدت مؤشرات عديدة تدل أن قبول قيادة الجيش، التي تمثل عصب النظام، بانمحاء نظامها المستبد والفاسد طواعية مجرد سراب مستحيل التحقق، وإن كان هذا السراب قد غذى لمُدة أوهام من كان يعول عليه.

على غرار ما وقع في مصر قبل انقلاب السيسي، مهد قادة الجيش لانقلابهم بتصريحات تُحمل الحكومة المدنية مسؤولية الصعوبات الاقتصادية واضطراب التموين بالخبز والمحروقات وندرة المواد الغذائية وغلائها، وحرض قبائل الشرق على اغلاق بورتسودان المَنفذ الرئيسي لتموين البلد، واغلق الطرقات بداع مطالب أقاليمية محلية، دون إغفال مطلب اسقاط الحكومة المدنية وتولي الجيش السلطة. واستقدم الجيش بمساندة فصائل من حزب عمر البشير وأحزاب حليفة له محتجين اعتصموا ضد الحكومة المدنية وطالبوا بإسقاطها وتولى الجيش السلطة لوحده. وقبل ذلك حديثٌ عن مواجهات مع مجموعة إرهابية وإعلان عن احباط محاولة انقلابية في صفوف الجيش، كل تلك المناورات كان هدفها تأزيم الأوضاع وإثارة البلبلة للتغطية على الانقلاب الحالي.

قال “ياسر عرمان” مستشار رئيس الوزراء حمدوك أن قادة الجيش “لديهم مخاوف وطموحات ومصالح”، لكن ما لم يقله أن الثورة عليها القضاء على طموحاتهم ومُصادرة مصالحهم، وعليهم فعلا الخوف من حتمية محاسبتهم على جرائمهم.

يُسيطر الجيش على عدة شركات اقتصادية ويحتكر إنتاج وتصدير الذهب في مناجم عديدة، واستحوذ على عدة شركات كانت في ملكية عائلة عمر البشير، كما أن قادته متورطون في عمليات تجنيد المرتزقة للقتال في عدة مناطق كاليمن وليبيا. وقادة الجيش الحالي هم جزء من نظام عمر البشير، وهم الأداة التي نفذت كل الجرائم ضد الانسانية المرتكبة ضد الشعب السوداني. فأي عاقل يظن أنهم سيعودون إلى ثكناتهم وهم على يقين أنهم لن يبقوا سالمين بسبب ماضيهم العفن، إنهم سيناورون وسيقاتلون حتى تلحق بهم الهزيمة ويُجرون بالسلاسل إلى محكمة الشعب أو ينتصروا ليستمروا في استبدادهم وفسادهم.

وأبعد من الحرص على مصالحهم، هناك تحدي الثورة الشعبية القادمة من الأعماق، والتي تنظمت ذاتيا عبر لجان المُقاومة الشعبية. فالجيش هو المؤسسة القمعية القادرة لوحدها على رد تلك الثورة على أعقابها، ومن هنا محاولات التوافق العديدة التي يدافع عنها قسم مهم من قوى “الحرية والتغيير”، بينما يراهن القسم الآخر على استعمال تلك الثورة في حدود الضغط على الجيش دون الوصول على إسقاطه.

الثورة الشعبية حية لكنها في حاجة إلى أن تتخلص من ترددها

شن الجيش فجر الاثنين حملة اعتقالات شملت وزراء ووالي الخرطوم وقيادات سياسية ومنظمات مناضلة. انتشر الجيش والشرطة بالعاصمة وبمختلف المدن وأغلقت الجسور وثم قطع الانترنيت والهاتف والكهرباء عن أجزاء العاصمة.

جاء رد الشعب السوداني على الانقلاب العسكري قويا، نزل الآلاف إلى الشارع وتحركت لجان الأحياء وأقيمت المتاريس، تدفقت مسيرات حاشدة وبرز دور النساء والشباب في طليعة تنظيم المقاومة الشعبية، وتوجهت الجماهير صوب القيادة العامة للجيش رغم تحذيرات بتجنب ذلك، وتجاوزوا الحواجز وأمطرهم “الجانجويد” بالرصاص الحي، وسقط ما لا يقل عن 10 شهداء وعشرات الجرحى. كما شهدت باقي المدن نضالات شعبية مقاومة للانقلاب.

أعلن “تجمع نداء الحرية والتغيير” و”تجمع المهنيين السودانيين” و”نقابات قطاعية” و”لجان الأحياء” تنديدها بالانقلاب، ودعت إلى العصيان المدني حتى إسقاطه. كما دعى الحزب الشيوعي إلى الإضراب السياسي والعصيان المدني حتى هزم الانقلاب. لكنّ المُعضلة القائمة هي ما بعد الإضراب السياسي وإسقاط الانقلاب. لا يتقدم الدّاعون إلى هذا الإضراب والإسقاط إلى أي نموذج محدد من السلطة، ويظلون في حدود نفس الشعارات السياسية التي أوصلت الثورة إلى مأزقها الحالي: دولة مدنية ديمقراطية، ما سيفتح الباب من جديد لأوهام وسراب “التوافق” مع قسم من السلطة العسكرية، ما دام الحرص على المؤسسة العسكرية بُنْدَ إيمان عند جميع القوى الثورية بالبلد.

أبان الشعب السوداني عن قوة شكيمة العزيمة، وإصرار قوي على تحقيق ثورته باستئصال جُذور ديكتاتورية البشير بمدنييه وعسكرييه، وإقامة نظام آخر يلبي طموحاته؛ في السيادة وتأميم ثرواته الوطنية والقطع مع الاضطهاد القومي والديني والمجالي وحماية الحريات الديمقراطية.

هناك قضيتين رئيسيتين تستدعيان الحسم والحزم من جانب قوى الثورة التي تعي أن تلبية مطالب الشعب السوداني مستحيلة دونها:

– الأولى الجيش كمؤسسة تعكس التراتبية التي تحكم المجتمع. فالقادة العسكريون هم جزء من نظام الثورة المضادة وكل سعي للتوافق معهم سيؤدي حتما إلى عودة الثورة المضادة على ظهر الدبابة أو ببذلة المدنيين، وبالتالي فان قادة الجيش هم أشد أعداء الثورة السودانية، وعلى الثوار مخاطبة وإفهام إخوانهم من صغار الجنود أن قادتهم يأمرونهم بقتل إخوتهم دفاعا عن مصالحهم الخاصة، لا دفاعا عن شعارات وطنية كاذبة. يجب نقل الصراع إلى مؤسسة الجيش لعزل القادة من قبل جنود القاعدة وهذا أفضل خيار لحماية الثورة من بنادق الجيش بدل السعي للتوافق معها.

– الثانية هي الخيارات الاقتصادية الكبرى التي تُطبقها الثورة. فالإمبريالية العالمية تتربص بثروات الشعب السوداني وتتحضر للقفز لنيل الحصص وتخوض تنافسا شرسا بينها. السودان بلد كبير وغني بالثروات لكن سيكون مجرد بقرة حلوب للمصالح الرأسمالية إذا قبِل أن يخضع لإملاءات المؤسسات الإمبريالية. ولن يحصد الشعب السّوداني سوى ما تحصده شعوب قارتنا، التي تُستنزف بشراسة -وتشبّع بلدان الشمال وشعوبها- وتموت من الجوع وتُمول بنوك الإمبريالية، وهي غارقة في الديون وتمدّها بالمواد الأولية ببخس الثمن وتشتريها مصنعة بالغالي، وأصبحت أراضيها تحتضن القواعد العسكرية وتنهشها الصراعات المسلحة. يجب على الثورة السودانية أن تحذر من صداقة الذئاب الإمبريالية، وأن تحرص على ألا تذهب تضحيات شعبها هدرا فالثورة المضادة العالمية المتربصة أشد خطرا.

فقط حكومة ثورية قادرة على تحقيق مطالب الثورة، ودرء مخاطر الثورة المضادة، والمدعومة من الرجعية الإقليمية والإمبريالية العالمية. ولن يتأتى تشكيل مثل هذه الحكومة بناء على توافقات وحلول وسطى مع رأس حربة الثورة المضادة. المهمة ذات الأولوية أمام الثورة السودانية هي المركزة السياسية والتنظيمية للجان المقاومة الشعبية تصعيدا من أسفل، للوصول إلى عقد مؤتمر وطني لتلك اللجان عبر الانتخاب من أماكن العمل والأحياء السكنية والثكنات بالنسبة للجنود وصغار التجار. هذا المؤتمر الوطني الذي سيشكل أول جمعية وطنية منتخَبة في تاريخ السودان والتي تمتلك الحق الحصري في تشكيل حكومة الثورة، وستفكك النظام القديم ويتملّك الشّعب عبرها خيراته، لتكون السودان عبر هذا المسار فاتحة استئناف السيرورة الثورية العربية والمغاربية التي لا زالت متقدة رغم عنف الثورة المضادة وأزمة جائحة كوفيد.

 

 

 

شارك المقالة

اقرأ أيضا