“المنظمات الجماهيرية العمالية في ضوء فكر غرامشي”

الثورة, الحزب7 نوفمبر، 2021

– كمال عباس

 

المجالس العمالية والظرف الثوري في إيطاليا

عندما نتعرض لتجربة المجالس العمالية في إيطاليا فإننا لا نحاكم فكرة غرامشي بقدر ما نحاول التعرف على تجربة ثورية لنتعرف على خصائصها والظروف التي أنتجتها وأدت إلى ولادتها، وطبيعة العلاقة بينها وبين تنظيمات الطبقة العاملة الأخرى (الحزب، النقابة) لكي نعي درس التاريخ ونتمكن من فهم ما هو قائم من تنظيمات الطبقة وتلبيته لاحتياجاتها، وما يمكن أن تنتجه الطبقة من أشكال تنظيمية تلبي احتياجات حركتها في الظروف المختلفة.

مما لا شك فيه أن تجربة المجالس العمالية قد وُلدت في إيطاليا في ظرف له خصائصه الثورية الأصيلة، ففي سبتمبر 1919 كانت الطبقة العاملة الإيطالية تعيش حالة من المد الثوري التي ساعد على شحذها انتصار الثورة الروسية، [وفي الواقع كانت البلاد كلها تبدو مشرفة على الثورة][1]، وبينما تخلف الحزب الاشتراكي الإيطالي عن القيادة الثورية للمعركة في اتجاه الحسم الاستراتيجي لمسألة السلطة، أخذت البرجوازية الإيطالية تعيد تنظيم نفسها، وتجيش صفوفها بزيادة أجهزتها القمعية (الكارابينييري) و”الحرس الملكي”،[2] وإقامة “الاتحاد العام للصناعة” المسمى اختارا “كونفيندوستريا” أما النقابات فقد بقيت في ظل هذا الظرف الثوري على إصرارها على القيام بدورها الطبيعي المعتاد فقط في الدفاع عن تحسين ظروف وشروط العمل.

وهكذا كانت الأوضاع في إيطاليا 1919: الطبقة [العاملة] تعيش لحظة ثورية بينما تنظيماتها الموجودة تاريخيا متخلفة عن الاستجابة لمقتضيات هذه اللحظة (النقابة المصرة على عدم التخلي عن دورها الطبيعي الاقتصادي، والحزب الواقع تحت تأثير وقيادة الإصلاحية) ولهذا فإن عدم اندلاع الثورة فيما بعد “لم تؤد إلى الإحباط بل إلى خيبة أمل عنيفة لدى العمال، وحرص الصناعيين الذين كانوا ضعيفي الإرادة في السابق على بدء نضال الهدف منه تحطيم قوة النقابات”[3].

واستنادا إلى هذا الوضع رأى غرامشي [أنه لا بد من خلق مؤسسة جديدة يمكنها أن تنظم البروليتاريا” لتثقيف نفسها وتجميع الخبرات واكتساب الوعي المسؤول للواجبات المترتبة على الطبقات التي تمسك بسلطة الدولة، وكان على المؤسسات الجديدة أن تضم، في ذاتها، نموذج الدولة البروليتارية، وكانت السوفييتات بالطريقة التي نشأت بها في روسيا قد لبت هذين المطلبين كليهما][4].

إن فكرة غرامشي عن المجالس العمالية لم تكن مجرد إعمال للذهن، ولكنها كانت استجابة مبدعة لظرف له خصائصه الثورية، واحتياجا أصيلا للطبقة طرحه هذا الشرط التاريخي، وهو ما برهن عليه الصدى القوي والمباشر لدعوتها داخل صفوف الطبقة العاملة الإيطالية، ويتضح في استجابة عمال “تورينو” الفورية للفكرة بمجرد كتابة غرامشي عنها “النظام الجديد”، فالطبقة العاملة عندما تشتبك في حالة المواجهة الجماعية تطرح الشكل الملائم لهذه المواجهة، فإذا كانت تواجه الطبقة البرجوازية من أجل السلطة السياسية فإنها تنتج منظمات ثورية مثل السوفييتات، والمجاس العمالية في إيطاليا.

النقابات والظرف الثوري

في أوضع التأزم الثوري التي كانت إيطاليا تعيشها غداة الحرب العالمية الأولى، ومع حالة المد الثوري للطبقة العاملة التي برهن عليها عمال “تورينو” لم تكن النقابات بطبيعتها قادرة على استيعاب وتنظيم الطاقات الثورية للطبقة في هذه اللحظة، فهي لا تستطيع أن تقودها لأبعد من النضال الاقتصادي لتحسين ظروف وشروط عملها.

وقد رأى غرامشي أن النقابة [بالرغم من كونها أداة للصراع الطبقي أو “التنافس الطبقي”] فإنها لم تحقق أية انتصارات ذات مغزى على مؤسسات الملكية الخاصة والربح، والوعي المبكر بأن القضاء على الرأسمالية أبعد مما تقوى عليه (وهذا يعود طبعا إلى أصل النقابة ومفهومها للعامل) سرعان ما أدى بالنقابة إلى توجيه كل جهودها إلى الهدف الفوري الذي يتلخص في رفع مستوى معيشة العمال عن طريق المطالبة بأجور أعلى، وساعات عمل أقل، وهيكل للتشريع الاجتماعي”[5].

لقد وُلدت النقابة في ظل شروط تاريخية كانت تطرح على الطبقة العاملة ضرورة تنظيم نفسها من أجل تحسين شروط عملها، فكانت النقابات المدرسةَ الأولى التي يتعلم فيها العمال النضال الجماعي، وتوحيد الصفوف، وتتلمس فيها الطبقة الطريق إلى وعيها بذاتها، ونحن لا يمكننا أن نتهم النقابات بالاقتصادية لأن النضال الاقتصادي هو دورها الطبيعي، ومبرر وجودها ا لتاريخي. أما من يُتهم بالاقتصادية فهو الحزب، الطليعة، عندما تتخلى عن دورها في القيادة السياسية لطبقة، وتعجز عن فهم اللحظات المختلفة في تطورها وعن التقاط مبادراتها، والأشكال التي تفرزها من خلال نضالها الجماعي وتطويرها بصورة خلاقة ومبدعة لتكون ملائمة لاستيعاب طاقاتها وتنظيمها، والاستجابة لاحتياجاتها ومقتضيات نضالها.

لقد قال غرامشي أنه “من الطفولية القول بأن النقابة تحمل في نفسها قوة رمزية تجاوز الرأسمالية”[6]. فقد طرحت اللحظة الثورية التي عاشتها روسيا عشية ثورة أكتوبر [1917]، وفي إيطاليا [1919]، والعديد من البلدان الأوروبية الاحتياج الملح لمنظمات عمالية جماهيرية ثورية تتلقى فيها الطبقة العاملة التربية السياسية الثورية، وتنتظم طاقاتها حول مهمة الاستيلاء على السلطة، والاستعداد لمهماتها. وقد أثبتت هذه الفترة التاريخية وخبرتها الغنية أن النقابات لا يمكنها بحكم طبيعتها أن تكون هذه المنظمات الأكثر تطورا والتي تتصدى للمهمة التاريخية الكبرى.

ولقد [كانت النقابات لا تتحدث إلا باسم أعضاء مهن معينة وكان لها في كل الأحوال أهداف محدودة مثل تحسين الأجور وساعات العمل][7].

ولم تكن هذه الأهداف المحدودة للنقابات هي المشكلة في تلك الفترة الخصبة من حياة الطبقة العاملة الروسية والأوروبية، وإنما كانت المشكلة في المواقف الإصلاحية التي اتخذها قادة النقابات البيروقراطيون في ذلك الوقت. فالاتحاد الدولي الذي أُسس في عام 1901 وعُرف باسم “أممية أمستردام” اتخذ موقفا معاديا من الحركة الشيوعية، وعمل على “تحطيم روحية القتال عند الجماهير”، وفي إنجلترا نجد “أن قادة النقابات… بتخليهم عن حق الإضراب ولجوئهم إلى التعاون، بشروط، مع الحكومة وأرباب العمل، تخلوا عن قوتهم وسلطتهم لقيادة سياسية نضالية لرفع مستوى الأجور أو للدفاع عن المطالب النقابية[8]. وهكذا جاء تحقيق المكاسب الاقتصادية اليومية للطبقة العاملة الإنجليزية على حساب تطوير النضال الطبقي في اتجاه المواجهة الاستراتيجية مع البرجوازية الإنجليزية[9].

إن الدور الرجعي الذي لعبته هذه النقابات في ذلك الوقت لا يعود إلى طبيعة النقابات ذاتها وإنما إلى هؤلاء كما قال غرامشي “لم يفهموا أبدا روحية المرحلة التي نمر بها في النضال الطبقي. لم يفهموا أن النضال الطبقي يمكنه، بفعل أي محرض، وفي أي وقت، أن ينقلب إلى حرب مكشوفة لا تنتهي إلا باستيلاء البروليتاريا على السلطة”[10].

ولا شك أن هذه اللحظة التي يتحدث عنها غرامشي والتي يتصاعد فيها النضال الطبقي حتى يصبح استيلاء البروليتاريا على السلطة قيد التحقق، يتراجع فيها دور النقابات (المدرسة الأولى للنضال الطبقي) إلى الوراء، وتصبح الأشكال التنظيمية الأرقى والأكثر ثورية للطبقة العاملة والقادرة على التصدي لهذه المهمة هي الأكثر إلحاحا وحيوية وضرورة لتطوير النضال. يقول غرامشي: “في اللحظة التي يقترب فيها الصراع من لحظته الحاسمة يجب على هذا الجيش أن يفكر في أن يخلق، من بين صفوفهن قادة المؤسسات التي تنظم هذه الصفوف استعدادا للمعركة الكبرى”[11].

ولكن، هذا التراجع لدور النقابات الذي تفترضه اللحظة الحربية الحاسمة عشية الاستيلاء على السلطة، لا يمكنه أن ينال من الدور التاريخي الحاسم للنقابات في حياة الطبقة العاملة، ولا يعني انتهاء هذا الدور بعد الثورة الاشتراكية، والسيطرة على السلطة، فالمبرر التاريخي لوجود النقابات لا ينتفي بعد ذلك، والتناقضات التي لا يزال المجتمع الجديد منطويا عليها تطرح احتياج الطبقة العاملة لمنظماتها التي تدافع عن مصالحها المباشرة وتعبر عنها.

لقد نظر غرامشي [إلى المهمات المحددة للنقابة والمجلس باعتبارها متعارضة كليا في المبدأ، وأكد أولوية دور المجلس. ولكن هذه الأولوية لم تكن تعني أن دور النقابات قد انتهى. وما دام المجتمع مبنيا على الملكية الخاصة، فإن الحركة العمالية ستستمر في المساومة مع موظفيها. وحتى في الدول الاشتراكية، سيكون على النقابات أن تسيطر على التثقيف التقني لكل العمال في مهنة معينة أو عملية صناعية معينة][12].

وهكذا فإن غرامشي لا يرى انتهاء النقابات في الدولة الاشتراكية، ولكنه يرى أن دورها ينحصر في التثقيف التقني، والإعداد لتحمل مهام الإنتاج، وتسيير عجلته، وهو ما يعني من الناحية الفعلية انتفاء دورها وصفتها كنقابات. وقد ذكر غرامشي نفسه أممية أمستردام وقد استندت إلى هذا التصور عن دور النقابات في الدولة الاشتراكية حيث “يجب على العمال والفلاحين أن يأخذوا في اعتبارهم مشكلة الإنتاج كمشكلة أساسية في حياتهم ومركزية لعمل أجهزتهم”[13]. وروجت له في ظل الرأسمالية وفي خطتها الرامية إلى تدعيم “العالم الاقتصادي للرأسماليين” فـ”النقابات ستحاول تحويل نفسها منذ الآن إلى مؤسسات للإنتاج، لمساعدة البرجوازيين في عملية الإنقاذ”[14].

وإذا كانت أممية أمستردام الإصلاحية قد وقعت في النظرة النقابوية الضيقة التي تقتصر النضال الطبقي للطبقة العاملة على النضال الاقتصادي وتقطع الطريق على إمكانيات تطوير هذا النضال إلى معركة كبرى حاسمة حول السلطة السياسية، وهو ما وصل بها في النهاية إلى تدعيم حصون الرأسمالية نفسها تحت دعاوي إنقاذ الاقتصاد المتهاوي بعد الحرب، فإننا لا يمكن أن نفصل هذا التردي الإصلاحي عن سيطرة البيروقراطيين على النقابات، “فالنقابة- في الواقع- تعبر عن نفسها بشكلين اثنين، في الجمعية العمومية لأعضائها، وفي البيروقراطية القائدة”[15].

إن الفكرة القائلة بأن مهمة النقابة في الدولة الاشتراكية تتحول إلى التثقيف التقني لم تؤد في الواقع لغير التصفية الفعلية للنقابات في الاتحاد السوفييتي ودول أوروبا الشرقية وإخضاع المنظمات العمالية لسيطرة البيروقراطية وبضتها الحديدية وشل فاعلية جماهير العمال وقطع الطريق على حركتها ومبادرتها وممارسة نفوذها في الواقع.

استقلالية النقابات… ودرس التاريخ

إن إفقاد التنظيم النقابي لاستقلاليته في “المجتمع الاشتراكي” لا تكمن خطورته فقط في كونه موقفا خاطئا ومعاديا للنقابات، وإنما في ما يعنيه ذلك فعليا من تغييب للعمال عن مؤسساتهم الاقتصادية بل والسياسية، وهو ما لا يسمح لهم بممارسة نفوذهم والقيام بدورهم القيادي في المجتمع، ويساوي في المقابل سيطرة البيروقراطية والتكنوقراطية على أجهزة السلطة السياسية والإدارية.

لقد فرض الوقف المواجه للنقابات نفسه عشية الثورة، ثم استطال بعد انتصارها في الاتحاد السوفيتي، فإذا كانت النقابات قد وقفت بحكم طبيعتها ووظيفتها عاجزة عن القيادة والفعل الثوري في لحظة ثورية لها طابع حربي، فإن ذلك لم يكن يعني انتفاء دورها عند انتصار الثورة وتدعيم السلطة الجديدة. إن إلغاء دور النقابات وافتراض أن الحاجة الموضوعية إليه قد انتفت لأنه لم يعد هناك صاحب عمل قد انطوى على مغالطة كبيرة، وأغفل أن العمال في ظل أي سلطة يظل لديهم احتياجا ملحا لتنظيم يعبر عن مصالحهم الاقتصادية المباشرة. فالمجتمع الجديد لا يخلو من التناقضات، وهو ما زال طبقيا، ولا يمكن لسلطته أيا ما كانت أن تعبر بصفاء كامل عن مصالح الطبقة العاملة، كما أن الطبقة العاملة نفسها لا يمكن لها أن تتحول في يوم وليلة إلى كل منسجم لا يخلو من التناقضات والتباينات (بين الشرائح والفئات، وعمال الصناعات المختلفة).

لقد أدى هذا الموقف إلى فقدان التنظيم النقابي لديمقراطيته واستقلاليته وسهل من سيطرة البيروقراطية، ولم يكن من قبيل الصدفة أن تقويض سلطة الحزب الشيوعي في بولندا قد بدأ على يد نقابة “تضامن”، وأن يتصدر مطالبَ عمال ألمانيا الشرقية مطلب إسقاط رئيسة اتحاد العمال الألماني بعد سقوط هونيكر.

لقد اتضح بعد “البيرسترويكا” أن العمال راغبين بشدة في أعادة الاستقلالية والديمقراطية والحيوية لتنظيمهم النقابي، وفي إضراب عمال الفحم في “سيبيريا” كوَّن العمال لجنة للإضراب للتفاوض باسمهم مع ممثلي السلطة، وقد رفضوا تمثيل التنظيم النقابي لهم.

وقد اتضح أن النقابات في الاتحاد السوفييتي يمثل المديرون %60 من مراكزها القيادية!!… وهكذا، فإن العمال أصبحوا يعيشون حالة من الاغتراب عن هذه الدول ومؤسساتها، وافتقدت النقابات غير المستقلة فاعليتها وحيويتها ليس فقط في أداء دورها الطبيعي في الدفاع عن المصالح الاقتصادية للعمال، بل أيضا في قدرتها على القيام بهذا الدور القسري الذي فُرض عليها وهو التثقيف التقني للعمال ودعم الانتاج!!

استقلالية النقابات وديمقراطيتها… في تاريخ الحركة العمالية المصرية

لقد تم الترويج لهذا المفهوم الخاطئ عن دور النقابات في العمل مع الإدارة من أجل رفع القدرة الإنتاجية والذهنية للعامل، حيث أدى إلى افتقاد النقابة لدورها الأصيل في الدفاع عن العمال من أجل تحسين ظروف وشروط عملهم، وافتقادها لاستقلاليتها وديمقراطيتها.

وتم استدعاء هذا المفهوم إلى مصر، فقد كان مناسبا لأهداف مصادرة الحركة العمالية، والإجهاز على استقلالية النقابات وديمقراطيتها.

لقد خاضت الحركة العمالية في مصر ومنذ إرهاصاتها الأولى نضالا طويلا من أجل تنظيمها النقابي الديمقراطي المستقل، واستطاعت عبر هذا النضال انتزاع النقابات التي كانت عضويتها اختيارية، وتأتي قياداتها عن طريق الانتخاب الحر المباشر، كما كانت تضع لوائحها بنفسها، وقد خاضت معارك بطولية ضد المحاولات المختلفة لفرض الوصاية عليها، بداية من رفضها الاتحاد العام للنقابات الخاضع لسيطرة حزب الوفد الذي وضع على رأسه أحد قياداته البارزين (عبد الرحمن باشا فهمي)، ومرورا برفض وصاية النبيل عباس حليم الذي نزل إلى الحلبة في بداية الثلاثينيات كزعيم لاتحاد نقابات العمال، حيث قام العمال بتكوين “لجنة تنظيم الحركة النقابية” التي نجحت في مواجهة محاولات الوصاية وتحرير النقابات من سطوتها، كما مجد القادة النقابيين في الأربعينيات يرفضون الانضمام إلى رابطة عمال القاهرة التي أصر فؤاد سراج الدين (وزير الداخلية والشؤون الاجتماعية في ذلك الوقت) أن يكون زعيما لها مدى الحياة فماتت الرابطة في مهدها.

وبرغم محاولة الدولة والسلطة للنقابات في ذلك الوقت، عن طريق اضطهاد النقابيين وتشريدهم ومحاربتهم في رزقهم، وأحيانا المداهمات البوليسية للمقرات وإغلاقها، إلا أن النقابات كانت لا تخضع إلا لجماهير العمال أنفسهم، وظل الاعتراف بشرعية النقابات على رأس المطالب التي ناضلت من أجلها الحركة العمالية طويلا، إلى أن صدر أول قانون يعترف بالنقابات وهو القانون رقم 85 لسنة 1942، إلا أنه لم يكن خاتمة المطاف. فقد حرص هذا القانون على أن يحرم بعض الفئات من تكوين نقاباته مثل الفلاحين وعمال الحكومة وعمال وموظفي الخدمات وخدم المنازل، كما حرم الطبقة العامة من حقها في تكوين اتحاد عام للنقابات. وهكذا واصلت الحركة النقابية نضالها من أجل استكمال حقوقها والدفاع عن استقلاليتها حيث كان أخطر ما في القانون هو فرضه السيطرة الإدارية على تكوين النقابات، بحرمانها من ممارسة نشاطها إلا بعد إيداع أوراقها في مصلحة العمل وموافقة المصلحة على تسجيلها. وكانت الطبقة العاملة تسعى إلى انتزاع حقوقها المعطلة في القانون بممارستها فعليا في الواقع وبالتحايل على القانون الجائر، فالفئات المحرومة من حقها في تكوين نقاباتها، كانت تكوِّن منظماتها تحت أسماء الروابط والمؤتمرات التي كانت تسجل كجمعيات خيرية ولكنها كانت تقوم بتحركات كفاحية مثل إضراب الممرضين واحتلالهم لمستشفى القصر العيني، واعتصام عمال السكك الحديدية والتلغراف.

وجاءت سلطة يوليو [الضباط الأحرار] لتعيد صياغة دور التنظيم النقابي في ظل رأسمالية الدولة ليصبح واحدا من مؤسساتها وأجهزتها الحكومية وقد عبر الميثاق عن ذلك المفهوم بقوله [إن النقابات لم تعد طرفا مقابلا للإدارة وعليها الاهتمام برفع الكفاية الإنتاجية للعامل وتنظيم الاستفادة الجسدية صحيا ونفسيا وفكريا].

والواقع أن هذه الصياغة لم تأت إلا تتويجا لممارسات سلطة يوليو في ضرب الحركة العمالية ومحاولة السيطرة على تنظيمها النقابي والتي بدأت مع أيامها الأولى بالتصدي الفاشي لأحداث فكر الدوار والحكم بالإعدام على القائدين العماليين خميس والبقري.

ومنذ البداية… رفضت السلطة الجديدة تكون اتحاد عام للعمال، وعندما وافقت عليه- تحت تأثير الحركة في الأوساط العربية والعالمية- قامت بتعيينه من رجالها المخلصين في يناير 1957. وقبل أن يمضي العام قامت بإصدار القانون رقم 7 لسنة 1958 والذي اشترط في من يتقدم للترشيح لمجالس إدارات المنظمات النقابية أن يكون عضوا عاملا في الاتحاد القومي (التنظيم السياسي الحكومي الذي أصبح الاتحاد الاشتراكي بعد ذلك).

وبينما كان العشرات من القادة النقابيين في السجن، تم إصدار القانون رقم 91 لسنة 1959، والذي دشن تحويل التنظيم النقابي إلى جهاز ملحق بالإدارة والحكومة. فقد أخذ بنظام النقابات العامة وألغى الشخصية الاعتبارية لنقابة المصنع أو المنشأة، تحقيقا لإحكام القبضة والسيطرة على النقابات. فبدلا من حوالي 1400 نقابة مصنع كانت قائمة في ذلك الوقت، أصبحت هناك 59 نقابة عامة، وأصبحت عضوية العامل في هذه النقابة العامة، واشتراكه المقتطَع منه يسدَّد لها وليس لنقابة مصنعه التي لم يبق منها سوى لجنة نقابية تمثل عمال المصنع في النقابة العامة، وقد افتقدت شخصيتها الاعتبارية. فمنذ ذلك الوقت لم يعد لها الحق في إقامة الدعاوي الجماعية والفردية، كما أُلغيت فعليا الجمعية العمومية لنقابة المصنع أو المنشأة التي أصبح دورها مقتصرا على الانتخابات. وهكذا لم يعد ممكنا للعمال أن يُخضعوا التنظيم النقابي لإرادتهم، فحتى بفرض نجاح بعض العناصر الشريفة في الوصول إلى اللجنة النقابية، فإن هذه اللجنة تفتقد القدرة على العمل دون الرجوع للنقابة العامة.

ثم توالت القوانين، فجاء قانون رقم 62 لسنة 1964 الذي اعتبر النقابات جزءا من النظام الاشتراكي وجعل دورها فيه زيادة الإنتاج وتخفيض التكلفة وترشيد الاستهلاك. ولمزيد من إحكام القبضة قام القانون بإلغاء النقابات الفرعية في بعض المحافظات، وقام بتخفيض عدد النقابات العامة من 59 إلى 27[16]، وأخيرا القانون الحالي رقم 35 لسنة 1976 وتعديلاته بالقانون رقم 1 لسنة 1981 التي أضفت المزيد من القيود وضاعفت من صلاحيات النقابة العامة على حساب الشخصية الاعتبارية للجنة النقابية.

لقد توافقت هذه القوانين التي حولت التنظيم النقابي إلى جهاز حكومي مع التغير الذي طرأ على قوام الطبقة العاملة المصرية، حيث أدى التوسع الكبير في الهيكل الصناعي إلى انضمام أعداد واسعة جديدة إلى صفوفها، وبطبيعة الحال جاءت هذه العمالة الجديدة من أصول ريفية مفتقدة للخبرة التاريخية الطويلة التي راكمتها الحركة العمالية، بينما كان التحاقها بالعمل في المصانع على أرض المكاسب العملية التي أقرتها قوانين يوليو (مثل تحديد ساعات العمل، وإلغاء الفصل التعسفي، والتأمينات الاجتماعية والإجازات مدفوعة الأجر، وتمثيل العمال في مجالس الإدارات). وبالرغم من أن هذه المكاسب لم تكن إلا ثمرة النضال الطويل الذي خاضته الطبقة العاملة المصرية وقدمت خلاله عشرات الشهداء، إلا أن القادمين الجدد الذين التحقوا بصفوف الطبقة العاملة في المصانع الجديدة، وفي غياب الحركة العمالية المستقلة التي تمت مصادرتها، كانوا مقطوعي الصلة بهذا التراث النضالي العظيم، وكانوا كمن وُلد على حجر السلطة، لم يعرفوا غير سلطة الدولة كسلطة وحيدة تمنح وتمنع، ولم يعرفوا عن التنظيم النقابي سوى أنه جهاز ملحق بالإدارة ينضم إليه العامل إجباريا بمجرد دخوله المصنع (وبمقتضى القانون 319 لسنة 1952 والذي قضت مادته الخامسة على أنه إذا انضم ثلاثة أخماس العمال في مصنع ما إلى النقابة فإن باقي العمال يصبحون من أعضائها بقوة القانون)ز وهكذا فقد التنظيم النقابي مبررات وجوده وأصبح شكلا معزولا يفتقد لأبسط الأشكال الديمقراطية ولا يرتبط العامل به سوى من خلال استقطاع اشتراكه الشهري إجباريا من مرتبه، وعزز ذلك من صعود وتربع مجموعة من النقابيين السلطويين على قمة هذا التنظيم.

لقد كانت مصادرة الحركة العمالية والسيطرة على تنظيمها النقابي عملية معقدة امتزجت فيها المكاسب التي تمكنت الطبقة العاملة من الحصول عليها بعد نضال طويل- والتي قدمتها السلطة الجديدة كما لو كانت منحة منها- بالقمع الشديد منذ اليوم الأول لكل حركة عمالية، وتمت فيها مصادرة الحريات الديمقراطية والحركة المستقلة للطبقة العاملة وسائر الطبقات الشعبية، بينما كانت هذه الطبقات يجري حشدها خلف السلطة التي تميزت بعدائها للاستعمار، وبمشروعها الوطني الطموح لبناء مصر عصرية.

لقد أصبح التنظيم النقابي في مصر “كبيرا” من حيث أعداد العمال المُنْضَمِّينَ إليه والذين يبلغون مليونين و913 ألف عاملا متواجدين في 2642 لجنة نقابية مجمعة في 23 نقابة عامة[17] واتحاد عام للعمال يسيطر على عدد من المؤسسات (جامعة عمالية مؤسسة ثقافية- بنك العمال)، إلا أن هذا كله ليس إلا جهازا ملحقا بالسلطة تسيطر عليه من خلال القوانين واللوائح والقيادات الحكومية، بل لقد أصبح هذا التنظيم قوة تقف في مواجهة أي تحرك عمالي، وقد بدا ذلك جليا في مختلف التحركات التي شهدتها السنوات الماضية. ففي إضراب قاطرات السكك الحديد قاد التحركَ العمالي رابطةُ عمال السكك الحديد (وهي تنظيم اجتماعي) في مواجهة الإدارة واللجنة النقابية معا، وكان قادة الإضراب هم قيادة الرابطة. أما النقابة فقد راحت تحرض السلطة على الضرب بيد من حديد على أيد المخربين[18]!!! وفي إضراب النقل الخفيف الذي جاءت أحداثه مع مطلع عام 1987 قامت اللجنة النقابية بحل نفسها حتى تمكن السلطة من التنكيل باثنين من قيادات الإضراب اللذين كانا عضوين باللجنة النقابية.

أما أحداث الحديد والصلب فقد وقفت فيها اللجنة النقابية- المدعومة من النقابة العامة للصناعات الهندسية- في مواجهة العمال وقادتهم مما جعل العمال يقومون بسحب الثقة منها، ثم كان الاقتحام الوحشي للمصنع على إثر إضراب العمال، ومقتل الشهيد عبد الحي محمد السيد سليمان والقبض على المئات من عمال الحديد والصلب حيث وقفت مختلف القوى الديمقراطية معهم في مواجهة القمع البوليسي. أما اتحاد العمال فقد وقف ف معاداة الحركة وراح- كعادته- يكيل لها الاتهامات ويمارس التشهير بها مدعيا أن كل من قاموا بها هم مجرد قلة منحرفة من خارج التنظيم النقابي[19].

والحقيقة أن أحداث الحديد والصلب التي تعتبر أهم أحداث الطبقة العاملة خلال عشر السنوات الماضية قد دلت بوضوح أن الطقة العاملة المصرية أصبحت ترفض هذا الشكل من التنظيم النقابي، كما أنها ترفض كافة أشكال التدخل الحكومي، وهذا ما دعا عمال الحديد والصلب لاعتصام في 1 غشت 1989- بالرغم من تحقيق مطالبهم الاقتصادية- ضد تدخل وزير الصناعة [وإحالته عضوي مجلس الإدارة المنتخبين للتحقيق ووقفهم عن ممارسة عملهم كممثلين للعمال في مجلس الإدارة] متمسكين بحقهم في الدفاع عن ممثليهم المنتخبين الذين عبروا عن مطالبهم داخل المجلس، ومطالبين في اعتصامهم بالتصديق على سحب الثقة من اللجنة النقابية وقبول استقالتها وبضرورة إجراء انتخابات جديدة ومطالبين بعودة نظام المندوبين النقابيين.

إن ما يجعل حركة الحديد والصلب تعكس لحظة جديدة في تطور الحركة العمالية في سنواتها الأخيرة، هو امتدادها لأكثر من شهرين، مارس العمال خلالهما كافة حقوقهم الديمقراطية بدءا من سحب الثقة من اللجنة النقابية، وإرغامها على تقديم استقالتها، وانتهاء بممارسة حق الاعتصام مرتين متتاليتين في أقل من الشهر.

وقد تمكنت الحركة من إثارة ردود فعل واسعة داخل المجتمع المصري، حيث أدت الطريقة التي تمت مواجهتها بها إلى موجة الرفض والاستفزاز، ولأول مرة تنجح الطبقة العاملة المصرية في أن تفرض قضاياها بهذا المستوى من الحدة والاتساع على الساحة السياسية في مصر، وأن تصبغ قضية الديمقراطية بصبغتها المتميزة وتمحورها حول حق الإضراب ومختلف الحوق الديمقراطية للطبقة العاملة، وتتمكن من جذب مختلف القوى الديمقراطية خلفها وفي معركتها.

المندوبون النقابيون

مهما كانت أشكال القهر والوصاية التي تتعرض لها الطبقة العاملة، ومهما كانت محاولات المصادرة لحركتها، فإنها لا يمكن لها أن تصادر صفاتها الثورية الأًصيلة، حيث يكون بوسعها أن تجدد من طاقاتها النضالية، وأن تقوم من خلال نضالها الجماعي بإبداع الأشكال التنظيمية الملائمة لتطوير إمكانياتها وقدرتها على الحركة والمواجهة.

في بدايات السبعينيات ومع اهتزاز الصيغة الناصرية وعدم استقرار المجتمع تحت تأثير هزيمة يونيو 1967، والشعارات الديمقراطية التي بدأ السادات في رفعها ممالئة للجماهير والقوى السياسية المختلفة، جعلت الحركة العمالية تبحث عن طريقة تدفع بها التنظيم النقابي لكي يلعب دوره في التعبير عن مطالبها الاقتصادية، وعن شكل يمكنها من استعادة سيطرتها عليه، فاسترجعت فكرة المندوبين النقابيين التي مارستها في الأربعينيات من أجل جمهرة العمال حول اللجنة النقابية وربطهم بها بشكل يومي في مواجهة صاحب العمل.

وهكذا استعاد العمال المندوبين النقابيين لك يقوموا بدور جديد في ظل ظروف وشروط جديدة، فأصبحوا يأتون بالانتخاب الحر المباشر ليكوِّنوا مجلس المندوبين النقابيين الذي يعمل على توسيع قاعدة العمل النقابي داخل المصنع، ودفع اللجنة النقابية للاهتمام بالبرنامج المطلبي الذي يشتمل على مطالب العمل من أجل تحسين ظروف وشروط عملهم داخل المصنع، ومراقبة عملها على تحقيق هذه المطالب.

وقد عاود تنظيم المندوبين النقابيين الظهور مرة أخرى في بداية السبعينيات في شركة الغزل والنسيج بحلوان (الحرير) حيث كان عمال كل صف ينتخبون مندوبا نقابيا عنهم، ثم يقوم هؤلاء المندوبون بانتخاب أمين لمجلس المندوبين، وكانت مهمة المندوب النقابي تتلخص في العمل على حل المشاكل الفردية مع الإدارة ورفع المشاكل ذات الصبغة الجماعية إلى اللجنة النقابية ومتابعتها.

ثم تحول مطلب إنشاء تنظيم المندوبين النقابيين إلى أحد المطالب الثابتة في البرامج الانتخابية للنقابات وخاصة براج المرشحين اليساريين، وجرى العمل به في مصنع الكوك بحلوان في سنة 1975، وتطبيقه في الحديد والصلب بعد ذلك، وف هذه التجارب كلها كان المندوبون النقابيون يأتون عن طريق الانتخاب الحر المباشر وإن اختلفت أشكال التمثيل فبينما كان عمال الحرير ينتخبون مندوبا عن كل صنف. اختلف الأمر في الحديد والصلب حيث كان مائة عامل من ورشة واحدة ينتخبون مندوبا واحدا، أما إذا زاد عدد الورشة عن مائة، فإنها تنتخب أكثر من مندوب نقابي تبعا لعددها. وقد بلغ عدد المندوبين النقابيين في شركة الحديد والصلب 203 مندوبا كانوا يمارسون نفس مهام المندوب في شركة الحرير. وتطور الأمر فأصبح هناك مؤتمر للمندوبين ينعقد مرة كل شهر ويضم كل المندوبين النقابيين [203] مع اللجنة النقابية لوضع البرنامج المطلبي والعمل على تنفيذه. كما أصبح ممثلو العمال في لجان الإنتاج والأمن الصناعي يختارون من بين المندوبين، وقام المندوبون ببعض المهام في مجال الخدمات الاجتماعية والترفيهية وأعادوا توزيعها على نحو عادل بعد أن كان أعضاء اللجنة النقابية يسيطرون عليها ويسيرونها وفق أهوائهم ومصالحهم الشخصية.

المندوبون النقابيون والتنظيم النقابي

اضطرت اللجان النقابية في المصانع التي أقام بها العمال تنظيم المندوبين النقابيين إلى الاعتراف بالمندوبين والتعامل معهم ولم يكن ذلك إلا نوعا من الرضوخ للأمر الواقع. فقد كان موقف التنظيم النقابي القائم من لجان المندوبين هو العمل على عرقلة عملها، وتحيُّن الفرصة إذا ما سنحت من أجل الإجهاز عليها، وهو ما كان يحدث عادة مع تراجع الحركة العمالية في هذه المصانع. وقد أشار قانون النقابات رقم 35 لسنة 1976 المعدَّل إلى المندوبين النقابيين حيث خول اللجنة النقابية الحق في وضع قواعد وإجراءات اختيارهم وكذلك اختصاصهم كجزء من نظامها الأساسي الذي يلتزم باللائحة النموذجية التي يضعها الاتحاد العام للنقابات. وغني عن الذكر أن هذه الإشارة التي تفضل بها القانون لم يقصد بها الإقرار بشرعية لجان المندوبين وإنما تقييدها بقواعد صارمة بعد أن فرضتها الحركة العمالية.

لم تتمكن تجربة المندوبين التي شهدتها السبعينيات من الامتداد إلى الكثير من المواقع، بل انحسرت في مواقعها القديمة، فالقمع الذي تواجَه به الحركة العمالية لقتل مبادراتها وأشكالها التنظيمية، لا يترك الفرصة لاستمرار هذه الأشكال ونموها حيث أن القدرة على هذا الاستمرار والنمو بمستوى الحركة، ولا يعني ذلك أن نظام المندوبين النقابيين قد انتهى دوره، فقد كان ولا زال واحدا من أهم مطالب الحركة العمالية على طريق دمقرطة التنظيم النقابي.

الأشكال التمثيلية في الإدارة

واستكمالا للصيغة القائلة بأن النقابة والإدارة ليست إحداهما في تضاد مع الأخرى، وأنهما تعملان مشتركتين من أجل الإنتاج ورفع الكفاية الإنتاجية للعامل، جاء تمثيل العمال في مجالس الإدارات ولجان الإنتاج ولجان الأمن الصناعي.

(1) لجان الإنتاج الصناعي:

ولا يمكن لأحد أن يعارض في وجود مثل هذه الأشكال التمثيلية التي يتواجد بها العمال وكان من المفترض أن يشاركوا في الإدارة من خلالها، ولكنها لم تأتِ إلا كأشكال بيروقراطية مفتقِدة للديمقراطية. فالإدارة واللجنة النقابية هما اللتان تتوليان اختيار أعضاء هذه اللجان، وهي فضلا عن ذلك لا تمتلك حق إصدار القرار بحكم قانون إنشائها الذي  قصر دورها في رفع التوصيات لرئيس مجلس الإدارة الذي يمتلك حق الأخذ بها أو رفضها.

وبطبيعة الحال فإن هذه اللجان التي استُلِبت منها- منذ إنشائها- مبررات وجودها قد افتقدت حيويتها أيضا في ظل حركة عمالية مصادَرة، فلم يعد لها من مهمة سوى عقد اجتماعاتها بشكل روتيني، ولا يرتبط بها العمال حتى من قبل متابعة أخبارها، وكان ممثلو الإدارة يتولون رئاسة هذه اللجان التي بمرور الوقت- أصبحت لا تنتظم حتى في اجتماعاتها ولا يكون لذلك أية ردود فع في صفوف العمال.

(2) تمثيل العمال في مجالس الإدارة:

وقد كان مطلب اشتراك العمال في مجالس الإدارة من المطالب التي قامت الطبقة العاملة المصرية برفعها منذ عام 1921 حرصا منها على وجود العمال في غرفة إصدار القرار وهو الأمر الذي تتزايد أهميته مع تطور الصناعة وارتفاع المستوى التقني للعمال وفي ظل الإشكاليات الإدارية التي أحدثتها التشريعات المتعاقبة للعاملين.

ورغم أن قانون تمثيل العمال في مجالس الإدارة قد نص على أن يتم هذا التمثيل بأربعة أعضاء يكون نصفهم على الأقل من العمال حيث يتكون مجلس الإدارة منهم ومن أربعة أعضاء ممثلين للإدارة، إلا أن هذا القانون قد وضع الضوابط اللازمة لتحجيم هذه التجربة حيث جعل صوت رئيس مجلس الإدارة مُرجِّحا لكفة التصويت، كما أعطى وزير الصناعة الحق في إقالة بعض أو كل أعضاء المجلس وإحالتهم للتحقيق، أو وقفهم عن ممارسة وظيفتهم التمثيلية في المجلس، وفضلا عن ذلك أعطاه الحق في حل المجلس بأكمله وتعيين مفوض لإدارة الشركة.

وفي الواقع يختلف تمثيل العمال في مجلس الإدارة عن تمثيلهم في لجان الإنتاج ولجان الأمن الصناعي، فبينما تتكون الأخيرة بالاختيار المشترك للإدارة واللجنة النقابية، يكون تمثيل العمال في مجال الإدارة عن طريق الانتخاب. لذلك فإنه كثيرا ما يحدث في فترات المد للحركة العمالية، حيث يقومون بتبنيها وهو الأمر الذي يدفع اللجنة النقابية إلى التناقض معهم، ولذلك يسعى اتحاد العمال لتدارك هذا الأمر ومحاصرة هذا الشكل التمثيلي للعمال بإخضاعه للتنظيم النقابي.

ويتضح ذلك من خلال التناقض الذي رأيناه بين الإدارة واللجنة النقابية من جهة، وأعضاء مجلس الإدارة المنتخبَين من ناحية أخرى في العديد من الأحداث العمالية والحالات الكثيرة التي تعرض فيها أعضاء مجالس الإدارة للوقف والإقالة، بل والنقل من شركاتهم مثلما حدث في سماد طلخا والنقل الخفيف والحديد والصلب.

وربما يتصور من يلقي النظرة الأولى على هذه الأشكال التمثيلية وجود مشاركة عمالية في الإدارة والإنتاج، غير أنها ليست إلا أشكالا بيروقراطية لا ترتبط بأية رقابة عمالية حقيقية على الإنتاج لكل الأسباب التي أوردناها. فالسلطة قد قننت لهذه الأشكال على الصورة التي تتلاءم مع وجهة نظرها، ولم تسمح بها إلا في الوقت الذي تسيطر فيه على التنظيم النقابي، وحيث قامت بمصادرة الحركة العمالية المستقلة، وهكذا تختلف هذه الأشكال التي تصنعها السلطة عن الأشكال التمثيلية التي تبدعها الطبقة وتخلقها بمبادراتها ومن خلال حركتها الحية.

الحرة العمالية… المأزق والحل

سيجد القارئ لتاريخ الحركة النقابية المصرية وما آلت إليه الآن، وفي السنوات الأخيرة التي شهدت عددا من التحركات العمالية المتميزة بدرجة من النضج النسبي، أنه أمام حالة تثير الانزعاج حقا قد تردت إليها الحركة النقابية في بلادنا، حيث الفكرة النقابية ذاتها قد فقدت مصداقيتها لدى العمال، ومن ذا الذي يستطيع أن يقنع العامل بأن مثل هذه النقابات قد وُجدت لتدافع عن مصالحه، وهو لا يرى فيها غير أنها مؤسسات حكومية ملحقة بالإدارة وتعمل دائما معها وتستند إلى سلطة الدولة، وغير كل هذا الفساد المستشري فيها؟!!

لذلك، كان من الطبيعي أن تردد الهتافات المعادية للنقابة ورموزها في أحداث السكة الحديد والنقل الخفيف وإسكو والحديد والصلب.

وكان من الطبيعي أن تأتي جميع الحركات الاحتجاجية العمالية التي حدثت في السنوات الأخيرة من خارج التنظيم النقابي وأغلبها في مواجهته.

والآن… أصبحت في مصر حركة عمالية لها ملامحها المميزة، وبرنامجها المطلبي، وقياداتها ورموزها، هذه القيادات المؤيَّدة من العمال والتي تقف السلطة لها بالمرصاد لمنعها من دخول التنظيم النقابة مستخدمة سلاح التزوير، أو قانون المدعي الاشتراكي الذي يتم مقتضاه عرض أسماء المرشحين لانتخابات مجلس إدارات اللجان النقابية عليه للاعتراض على من يشاء منها، وفضلا عن %20 من عدد أعضاء مجالس إدارات الجان النقابية، بينما يتم قسرا ضم جميع حملة دبلوم المدارس الثانوية الصناعية إلى نقابة التطبيقين التي توصف بأنها نقابية مهنية!! وهي النقابة التي كان من أهم أسباب إنشائها شق الطبقة العاملة بتصنيفها إلى فنيين وغير فنيين.

وعلى الجان الآخر نجد التنظيم النقابي المعزول الذي يسيطر عليه اتحاد العمال من خلال 23 نقابة عامة تتربع علها منذ زمن بعيد القيادات الحكومية، وتفتقد لجانه النقابية في المواقع لأية شخصية اعتبارية طبقا لنصوص قانون النقابات رقم 35 لسنة 1967 وتعديلاته بالقانون رقم 1 لسنة 1981، وهي ليست الإشكالية الوحيدة لهذا القانون الذي لا تقوم فلسفته على الرغبة في تحديد العلاقة بين النقابات والدولة، وإنما على السعي إلى إحكام سيطرة الدولة على هذه النقابات.

إن مختلف الثغرات الديمقراطية التي أمكن فتحها في النظام السياسي والشمولي وسمحت بهامش من الحريات السياسية لم تنل منها الطبقة العاملة شيئا حتى الآن، فالحقوق الديمقراطية لهذه الطبقة لا زالت مصادَرة بالكامل، وعلى الرغم من ذلك، لا تجد هذه الحقوق مكانها في برامج الأحزاب والقوى السياسية المختلفة أو في المعارك الديمقراطية التي تخوضها هذه القوى، اللهم في ذيلها أو على هوامشها.

إن الحقوق الديمقراطية للطبقة العاملة (حقها في تنظيمها النقابي المستقل، وحزبها السياسي، وحقوق الإضراب والاعتصام والتظاهر) هي المحور الحقيقي والجوهري لي مجتمع ديمقراطي حقا، وبدونها تفتقد الديمقراطية مضمونها ومغزاها، وتظل مجموعة من الديكورات والكرنفالات، أو هايد بارك ربما عالي الصوت ولكنه ضيق الإطار منحصر في صفوف النخبة.

فنحن لا نعتقد أن هناك مجتمعا ديمقراطيا لا تتمتع فيه النقابات باستقلاليتها وتمارس نشاطها بفاعلية في الدفاع عن المصالح اليومية للعمال.

ولا يمكن لاستقلالية الحركة النقابية أن تتحقق بغير إلغاء القانون المفروض عليها من الدولة، حيث ينحصر القانون في النص على شرعية العمل النقابي والإقرار بحق العمال في تكوين منظماتهم النقابية، ثم يقوم العمال بعد ذلك بوضع اللواح الخاصة بنقاباتهم بأنفسهم وعن طريق جمعياتها العمومية.

ديمقراطية التنظيم النقابي

تبدأ ديمقراطية التنظيم النقابي من الحق الاختياري للعمال في الانضمام للنقابة وحقهم غير المقيد في تشكيل التنظيم النقابي الذي يعبر عن مصالحهم وحق هذا التنظيم في بناء الشكل الهرمي الذي يناسبه ووضع أسسه وطريقة انتخابه، فضلا عن الإقرار القانوني بحق العمال في الإضراب والاعتصام وحق النقابات في عمل عقود العمل الجماعية.

وهناك وجهة نظر في الحركة العمالية تختلف مع فكرة حرية تشكيل النقابات وتنظر إلى المطالبة بها بانزعاج شديد باعتبارها تؤدي عمليا إلى انهيار التنظيم النقابي الذي ترى في وجوده بهذا الشكل الممركز مكسبا كبيرا وتعتقد أن دورنا ينحصر في العمل على إدخال بعض التعديلات الديمقراطية عليه.

ونحن نختلف مع هؤلاء ونقول لهم أن الدعوة للاستقلالية لا يمكن لها أن تكون غير الدعوة لاستقلالية تنظيم ديمقراطي، وأن ديمقراطية التنظيم لا تعني في المحل الأول سوى الحق الاختياري للعمال ف الانضمام للنقابات وهو ما يعني الحق في التعددية.

إن فكرة الحق في التعددية قد تبدو لبعض خطوة للخلف. ولكنها بالتأكيد الطريق إلى تنظيم نقابي يقوم بدوره الطبيعي في تنظيم العمال، والعمل على تحسين ظروف وشروط علمهم، وإلى استعادة ثقة العمال في الفكرة النقابية التي أهدرها التنظيم الممركز الذي لم يستطع- رغم ضمه العمال إجباريا- أن يضم أكثر من [%é” من إجمالي العاملين في مصر تحت سيطرته، ولا تجري الانتخابات في أكثر من %40 من قواعده والباقي %60 تتم بالتزكية][20].

كما لم يستطع هذا التنظيم أن يحقق أي مكسب اقتصادي للطبقة، بل إن المكاسب الاقتصادية الجزئية التي تم الحصول عليها في السنوات الأخيرة جاءت في أعقاب ونتيجة التحركات العمالية التي جاءت من خارج هذا التنظيم، الذي تحول إلى مؤسسة للخدمات الاجتماعية ودفن الموتى في أحسن الأحوال.

إن هؤلاء الذين يدافعون عن التنظيم الممركز الحالي معتقدين أنهم يدافعون عن وحدة الطبقة العاملة يتجاهلون أن وحدة الطبقة العاملة لا يمكن لها اكتسابها إلا في سياق حركتها ومن خلال منظماتها الجماهيرية التي تبدعها استجابة لشروطها المختلفة.

ولا شك أن فاتقاد الطبقة العاملة لتنظيماتها هو المأزق الراهن للحركة العمالية التي يرتهن تطورها باكتسابها لحقوقها الديمقراطية، وهو ليس مأزقها وحدها بل إنه مأزق المجتمع بأسره، فوعي العمال بكونهم طبقة اجتماعية لها دورها القيادي في حركة المجتمع، وقدرة الحركة العمالية على أن تلعب دورا طليعيا مع القوى الديمقراطية، هو شرط حاسم لتغيير الطابع الشمولي للدولة في مجتمعنا، ولفتح الطريق المسدود.

 

 

مساهمة ضمن كتاب  “غرامشي وقضايا المجتمع المدني”،

 ندوة القاهرة 1990، مركز البحوث العربية،

دار كنفان للدراسات والنشر، دمشق- سوريا، الطبعة الأولى 1991

 

 

 

 

[1] – الفقرة من ص 160 كتاب “غرامشي، حياته وأعماله”.

[2] – “الكارابينييري” تعني الدرك

[3] – تقرير “الاتحاد العام للعمل، فيما بعد من كتاب “غرامشي، حياته وأعماله”.

[4] – الفقرة من ص 111 نفس المصدر.

[5] – الفقرة من ص 119 نفس المصدر.

[6] – الجماهير والزعماء، مقال نُشر بلا توقيع في صحيفة “النظام الجديد” بتاريخ 30 أيلول (سبتمبر) 1921.

[7] – الفقرة من ص 111 من كتاب “غرامشي، حياته وأعماله”.

[8] – ص 106 من نفس المصدر.

[9] – تمكنت الرأسمالية في هذه البلدان من تقديم بعض التنازلات للطبقة العاملة حيث كان تزايد تكاليف الإنتاج الصناعي يحول إلى كاهل جماهير المستعمرات، أو كاهل شريحة واسعة من السكان في الدول المستغلة الأكثر تخفا.

[10] – اشتراكيون وشيوعيون، مقال نُشر بلا توقيع في صحيفة “النظام الجديد”، بتاريخ 12 آذار (مارس) 1921.

[11] – الإشراف العمالي في مجلس العمل، مقال نشر بلا توقيع في صحيفة “النظام الجديد” بتاريخ 13 آذار (مارس) 1921.

[12] – الفقرة من ص 121، كتاب “غرامشي، حياته وأعماله”.

[13] – خطة أمستردام، مقال نشر بلا توقيع في صحيفة “النظام الجديد”، بتاريخ 8 حزيران (يونيو) 1921.

[14] – نفس المصدر.

[15] – مقال “الجماهير والزعماء، المصدر السابق.

[16] – إمعانا في مركزة التنظيم النقابي ضمانا لأقصى درجات السيطرة عليه أخذ بنظام النقابات العامة، وليس نقابات الصناعات، حيث تضم النقابة العامة عمال أكثر من صناعة، ومما ينتج عنه خلل واضح حيث تتعامل النقابة الواحدة مع أكثر من مؤسسة عامة

[17]. انظر كراسة كفاح عمال السكة الحديد، من كراسات صوت العامل.

[18] – في البيان الذي أصدره رئيس الاتحاد إبان الأحداث ذكر أن من قاموا بها من خارج التنظيم النقابي، وكأن التنظيم النقابي يقف عند حدود مجالس إدارة اللجان النقابية، أما أعضاء الجمعيات العمومية الذين تستقطع منهم الاشتراكات فيبدو أن مظلة التنظيم لا تشملهم!!!

[19] – قضايا فكرية- العدد الخامس، أيار (مايو) 1987، ص 243.

شارك المقالة

اقرأ أيضا