لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية

هذا المقال صدر ضمن ملف ” الإنتفاضات العربية، عقدٌ من النضالات”، أعده المعهد الدولي (Transnational Institute (TNI بتعاون مع مؤسسة روزا لكسمبورغ (مكتب شمال إفريقيا). نعيد نشره في سياق الإضرابات الجماهيرية  والمسيرات الإحتجاجية التي اجتاحت معظم المدن السودانية، عقب استيلاء الجنرالات على السلطة في 25 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي. (الملف كاملا pdf).

بقلم: مزن النّيل*

في بدايات ديسمبر/كانون الأوّل من العام 2018 اندلعت الاحتجاجات في المدن السودانية وتواصلت حتى إسقاط الرئيس عمر البشير، وذلك بعد أسبوع من اعتصام المطالبين بمغادرته حول مقرات القيادة العامة للجيش السوداني في عدد من المدن السودانية في أبريل/نيسان 2019. وكان ذلك قبل حوالي شهرين من إكمال عامه الثلاثين في الحكم. استمر اعتصام الثوريات والثوريين السودانيين حول مباني الجيش لأسابيع بعدها، مؤكدين تمسكهم بأدوات النضال السلمي حتى تحقيق كامل مطالبهم وتقديم ضمانات على إحداث التغيير الذي ينشدون. فضت القوات الأمنية الاعتصامات حول مباني القوات المسلحة في 14 مدينة سودانية عبر مجزرة وحشية بُثّت على الهواء مباشرةً تابعها العالم في 3 يونيو 2019، في ليلة 29 رمضان. تبع ذلك توقيع اتفاق على صيغة “شراكة في الحكم” بين المجلس العسكري –الذي أعلن تشكيل نفسه من مكونات اللجنة الأمنية لنظام عمر البشير بعد إقالته وقاد البلاد منذ لحظتها– وقيادة تحالف المعارضة –الذي أطلق على نفسه اسم “قوى إعلان الحرية والتغيير“–.

تكوّنت حكومة الشراكة بين المدنيين والعسكريين وفق الاتفاق الموقع بينهما لتحكم السودان لفترة انتقالية مدّتها 3 سنوات. وشهد السودان نتيجة ذلك عددًا من التغييرات السياسية والاقتصادية في البلاد من ضمنها توقيع اتفاق سلام بين الحكومة الانتقالية وعدد من الحركات المسلحة، ورَفْع اسم السودان من القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب، وإجازة قوانين وتعديل أخرى، وتبني سياسات والتخلي عن غيرها. في المقابل، وعلى مر حوالي سنتين منذ إعلان الحكومة الانتقالية، نَدُر مرور أسبوعين على البلاد من دون اندلاع احتجاجات في إحدى مدنها على الأقل. تواصلت الاحتجاجات إذًا وتعددت أسبابها وأصبح من المعتاد أن يعبّر السودانيون عن رفضهم لأوضاع بلادهم الحالية بترديد عبارة “لم تسقط بعد”. تأتي هذه العبارة امتدادًا لهتاف المحتجين في بدايات هبّتهم في ديسمبر 2018 بأن “تسقط بس” (والتي تعني “فلتسقط تمامًا”، أو “فلتسقط في كل الأحوال” وتُترجم “Just fall”) تعبيرًا عن رفضهم التام لنظام الحكم وقتها، وهتافهم من داخل الاعتصامات منذ إعلان إقالة البشير بأن “سقطت، ما سقطت، صابنها” أي (“سواء دلّت إقالة البشير على سقوط النظام أو كانت مناورة من النظام الذي لم يسقط فنحن باقون هنا”)، معبّرين عن تصميمهم على البقاء في أرض اعتصاماتهم وثورتهم. “لم تسقط بعد” عبارة تتزايد وتيرة ترديدها في الواقع السوداني بشكل يومي.

كما تتردد في صيغتها المهتوفة “لسّاها ما سقطت، لسّه الحكم عسكر في المواكب المستمرة بعد ما يزيد عن سنتين منذ بداية ثورة ديسمبر/كانون الأوّل 2019. لفهم هذا الوضع علينا أن نفهم أولًا لماذا يرى السودانيون أن النظام الذي خرجوا لإسقاطه لم يسقط بعد. وتتطلب الإجابة على هذا السؤال: 1) أن نستوعب لماذا ثار السودانيون والسودانيات وما الذي أرادوا إسقاطه حين هتفوا “تسقط بس”. ومن ثمّ 2) قراءة الواقع الحالي للسلطة في السودان وأيلولاتها المنطقية مقارنةً بأهداف الثورة المستخلصة من النقطة الأولى. ومن ثم يحتم علينا انحيازنا نحو تحقيق حلم العدالة الاقتصادية والاجتماعية أن نفكر في 3) الكيفية التي تتمكّن الثورة السودانية فيها ويتوجّب عليها أن تستمر عبرها نحو تحقيق أهدافها في وجه حصار الثورة المضادة.

تشكّل هذه النقاط الثلاث الأسئلة الرئيسية التي تحاول هذه الكتابة التطرق إليها بشكل يُرجى أن يساهم في إغناء الحوار الثوري الأممي عن الدروس المستقاة من الثورة السودانية، لتصبّ في تعلّمها الذاتي وتحقيقها لأهدافها كما في إغناء الإرث النضالي العالمي، أي وقودنا نحو الانتقال إلى واقع أقرب إلى العدالة.

لماذا ثار السودانيون والسودانيات؟

تختلف القراءات في تسجيل صافرة بداية ثورة ديسمبر 2018 في السودان، فالاحتجاجات الغاضبة كانت تتكرر في مدن سودانية مختلفة منذ بداية الشهر. كان المناخ العام مشحونًا بالغضب تجاه الوضع الاقتصادي القاتم والمتمثل في صفوف الباحثين عن الخبز أمام الأفران وصفوف الباحثين عن الوقود أمام محطاته. استفحلت آثار الانهيار الاقتصادي وقتها حتى كانت آخر مظاهرها أزمة حادة في توفر العملة نفسها. وسط هذا المناخ سجلت مدينة عطبرة الحدث الاحتجاجي الأبرز في تلك الفترة والذي ابتدأ بتظاهرة طلاب مدرسة عطبرة الصناعية احتجاجًا على ارتفاع سعر سندويتش الطعميّة عقب ارتفاع أسعار الخبز. بات ذلك السندويتش منخفض الجودة والمحتوى –-الذي يفترض أنه الإفطار الارخص والأكثر انتشارًا بين جموع السودانيين المفقرين– خارج نطاق استطاعتهم المادية. فخرجوا إلى الشوارع يهتفون غضبهم. امتدت تلك التظاهرات حتى إحراق دار الحزب الحاكم في المدينة. انتشرت صور حريق دار حزب المؤتمر الوطني[1] بين السودانيين وعلى منصاتهم الإلكترونية المختلفة. شابهت الدار في معمارها جميع دور الحزب الحاكم المنتشرة في البلاد، بلونها الأخضر وبذخها المستفز مقارنةً بما يحيطها من فقر وغياب للتنمية. ولكنه كان يحترق. فأصبحت احتمالية إسقاط الحكومة أكثر واقعية، ممكنة رغم ترسانة الأجهزة الأمنية ووحشيتها في التصدي للمتظاهرين.

تواصلت التظاهرات في المدن السودانية المختلفة هاتفةً بـ”حكومة الجوع، تسقط بس، حكومة الفقر، تسقط بس”. وخرجت مدن أخرى احتجاجًا على عنف الدولة في التصدي للمظاهرات في سابقاتها فدخل السودان في حلقة احتجاج تغذّي نفسها وتؤجّجها ردود فعل الدولة من قتل وعنف واعتقالات وإغلاق لشبكات التواصل الاجتماعي وفرض لأشكال مختلفة من التضييق وحظر التجول. تأسّست هذه الانتهاكات جميعها على العنف الاقتصادي المستمر متمثلًا في تواصل التضخم وانسحاب الخدمات والدعم الذي يجب أن يُقدّم للمواطنين لمواجهة هذا الظرف.

لم يكن الظرف الاقتصادي محل غضب السودانيين وليد العام 2018. بل كان في الحقيقة امتدادًا لنتاج السياسات الاقتصادية لنظام الإنقاذ الوطني –حكومة عمر البشير– وسياسات أنظمة سبقته. كانت حكومة الإنقاذ –منذ أتت نتيجة انقلابها في 30 يونيو/حزيران 1989– قد تبنّت سياسات التحرير الاقتصادي والخصخصة وانسحاب الدولة من تقديم الخدمات. وكانت في ذات الوقت تعادي “الدول العظمى” من منطلق الخلفية الإسلامية للحزب الحاكم. فسارت الدولة نحو تطبيق سياسات اقتصادية نيوليبرالية دون المساعدات المتواضعة التي كان يمكن أن تقدمها لها مؤسسات التمويل العالمية لولا العلاقات العدائية بين الحكومة السودانية والحكومات الغربية. كانت سياسات التحرير الاقتصادي حينها منفذًا نحو التّمكين الاقتصادي لكوادر الحركة الاسلامية عبر فتح الفرص لهم للتجارة في مجالات الخدمات العامة التي انسحبت منها الدولة كالتعليم والصحة، فتمكّن النظام بذلك من إعادة توجيه إيرادات مختلف القطاعات من الخزينة العامّة إلى مراكمة ثروات كوادره. يمكن أن نسرد تطور حكومة الإنقاذ الوطني عبر مسلسل سياساتها الاقتصادية الفاشلة وقراراتها قصيرة النظر في التعامل مع نتائج فشلها. فبيع الأصول الحكومية والانسحاب من تقديم الخدمات وفتح باب خصخصة الصحة والتعليم لم يتمكن من دعم بقاء النظام طويلًا وواجه احتجاجات جماهيرية ومعارضة سياسية استمرت طيلة التسعينيّات رغم القمع. اتجه النظام في نهاية التسعينيّات نحو الشركات الصينية للبدء في عمليات التنقيب عن النفط مدفوعًا بمقاطعة الشركات الأمريكية والأوروبية ضمن نطاق الحظر الاقتصادي الأمريكي المفروض على السودان منذ العام 1998. أنتج هذا الواقع عقودَ واتفاقيات تنقيب بشروط مجحفة بحق السودان مازالت -رسميًا- سرية ومخفاة عن الشعب السوداني. اجتهد النظام في ذات الوقت في محاولة العودة إلى النظام المالي العالمي وبدأت مفاوضته مع الحكومات الأمريكية حول رفع الحظر الاقتصادي فقبل ضمن ذلك التفاوض مع الحركة الشعبية لتحرير السودان منهيًا الحرب الأهلية الأطول في القارة في جنوب السودان.[2] أسفر التفاوض عن اتفاق السلام الشامل والذي افتتح فترة انتقالية مدّتها 5 سنوات ابتداءً من العام 2005 بصيغة شراكة في الحكم بين طرفي التفاوض وأحزاب معارضة أخرى، لتُختَتم بانتخابات رئاسية واستفتاء تقرير مصير لمواطني جنوب السودان. شهدت هذه الفترة ازدهارًا اقتصاديًا نتيجة لضخ النفط من أراضي الجنوب الغنية به. وظهر هذا الازدهار في استقرار العملة وتكاثر مشاريع البناء والإنشاءات، بما في ذلك مشاريع البنى التحتية والشوارع التي طالما صاحب إنشاؤها فضائحَ فساد واختفاء الأموال العامة. كانت فترة اتفاقية السلام الشامل، اقتصاديًّا إذًا، فترة إعادة توجيه للأموال العامة ومِنح التنمية نحو شركات الإنشاء والمقاولات والأعمال المرتبطة بها – سودانية كانت أم أجنبية. فتكاثرت شركات الإنشاءات وشركات خدمات قطاع النفط المملوكة لقيادات الحزب الحاكم والموالين لهم. في المقابل لم تشهد البلاد أي تطور مماثل في تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين او انتشار للمرافق العامة أو أي مشاريع تنموية أو تشغيلية كبرى. انتهجت الحكومة في هذه الفترة أيضًا منهج إنشاء الشركات الحكومية التابعة لرئاسة الجمهورية مباشرةً، فتمادت بذلك في إخراج الموارد العامة من نطاق سيطرة الوزارات وركّزت السلطة في يد الرئيس ومقرّبيه.

في نهاية فترة اتفاقية السلام الشامل، صوّت مواطنو جنوب السودان في يناير 2011 لصالح الانفصال. كانت نتيجةً منطقية لاستحالة تحقيق شعار “الوحدة الجاذبة” تحت النظام القائم. مارس نظام البشير حروب تطهير عرقي ضد شعب جنوب السودان وجنّد لها الشماليين عبر خطاب جهادي استمر طيلة فترة التسعينيات، وتشابه بذلك مع أنظمة سودانية سابقة. ولم تشهد الفترة الانتقالية أي محاولات جادة لإقامة مشاريع تنموية أو خدمية في الجنوب أو لتقديم مشروع وطني يحقق العدالة الاقتصادية والاجتماعية المفقودة. وفي المقابل تكاثرت مشاريع التنقيب عن النفط في الجنوب وأنابيب ضخّه نحو ميناء بورتسودان المطلّ على البحر الأحمر في شمال شرق البلاد. هذا الأسلوب في التعامل بين الحكومة وأقاليم السودان -عبر استنزاف مواردها والامتناع عن تقديم التنمية والخدمات- لم يكن بغريب على الحكومات السودانية، والّذي عهدته منذ استقلال البلاد. يأتي هذا التوجه امتدادًا لشكل الاحتلال الإنجليزي المصري في السودان -1889 إلى 1956- والذي قام على مبدأ تأمين الحدود الجنوبية لمصر ومنابع النيل والصادرات الزراعية الرخيصة من السودان وتقليل الخدمات المقدمة للمواطنين إلى الحد الأدنى واقتصار رقعة انتشارها على مناطق إدارة الموارد مركزيًّا لا مناطق صنع الثروة. هكذا تركزت خدمات التعليم والصحة منذ ما قبل الاستقلال -في عام 1956- وحتى الآن في الخرطوم، عاصمة الإدارة المركزية وما جاورها، حتى باتت للسودان شبكة طرق تبدو كنجمة مركزها العاصمة السياسية الخرطوم، مع شبه انعدام للطرق الرابطة بين المدن دون المرور بالعاصمة. شبكة الكهرباء وغيرها من الخدمات لا تختلف عن شبكة الطرق كثيرًا أيضاً. استمرت حكومات ما بعد الاستقلال في هذا النهج الاستعماري والذي صرح به أحد وزراء مالية حكومة الإنقاذ “عبد الرحيم حمدي” في أحد مؤتمراتهم الاقتصادية. طرح حمدي في هذا المؤتمر مقترح تركيز التنمية في المنطقة المحدودة بين مدن دنقلا في الشمال وسنار في الوسط وكردفان في غرب السودان. وبرّر ذلك بكونها المناطق الأكثر ارتباطًا بالهوية العروبية الإسلامية وعليه لن تنفصل عن الخرطوم –كما طالب الجنوب وقتها– أو تنحاز لاستخدام حق تقرير المصير –كما هو الحال الآن في جبال النوبة أو غيرها–. ونتج عن هذه الورقة تسمية المنطقة المصطفاة بمثلث حمدي. هذا التبرير الهوياتي الذي قدمه الوزير زائف، سواء بعلمه أم بغيره. فهو يستثني مثلًا منطقة شرق السودان حيث القبائل ذات الارتباط التاريخي الأقوى بالشعوب العربية، والتي تُعدّ مناطقها ضمن الأقل تنمية في البلاد. رغم محاولة صبغ الأمر بأبعاد قبلية جغرافية أو هوياتية تبقى مركزية الدولة السودانية عملية تحويل للموارد نحو النخبة الاقتصادية والسياسية –التي ورثت مكان المستعمِر في إدارة البلاد مركزيًا–. ويثبت ذلك في امتناع النظام عن تقديم الخدمات الأساسية للأغلبية الأفقر من سكان المركز كذلك. ضمن هذا الوضع الظالم ليس من المستغرب أن يختار جنوب السودان –أو أي إقليم آخر– الاستقلال عن سلطة الخرطوم الاستعمارية.

أُعلِن استقلال جنوب السودان إذاً في يوليو/تمّوز 2011. واتضحت عدم جاهزية الحكومة للواقع الجديد. أدت خسارتها للسيطرة على بترول الجنوب إلى انهيار اقتصادي بدأ منذ العام 2012 حيث فقدت العملة الوطنية نصف قيمتها في ظرف سنة واحدة. اتجهت الحكومة فورًا نحو السياسات التقشفية معلنةً رفع الدعم عن المحروقات. خرجت تظاهرات رافضة للقرار كان مركزها الجامعات ومؤسسات التعليم العالي. استلهمت هذه التظاهرات أدوات الربيع العربي من مظاهرات أسبوعية وتوظيف لمواقع التواصل الاجتماعي، إلا أن العنف والاعتقالات التي جوبهت بها أدت إلى انحسارها بعد شهرين. في العام التالي ومع تواصل الانهيار الاقتصادي وانهيار العملة السودانية انخفضت القيمة الفعلية لأسعار المحروقات رغم ثبات قيمتها بالأرقام. توجهت الحكومة إلى معالجة فشلها الاقتصادي عبر إعلان رفع الدعم للمرة الثانية، هذه المرة بعد إعلان إجازة للجامعات والمدارس لتحجيم تظاهرات الطلبة. فخرجت التظاهرات من أطراف العاصمة وواجهت مستوى مختلفًا من العنف حيث أُطلق الرصاص الحي لأول مرة على المتظاهرين في العاصمة في سبتمبر/أيلول 2013 وسقط ما يزيد على 100 شهيد في ظرف ثلاثة أيام. وكان ذلك أول ظهور لقوات الجنجويد داخل الخرطوم. اشتهرت قوات الجنجويد بوحشيتها التي ظهرت في مجازر الإبادة في دارفور منذ العام 2003.[3] والجنجويد مليشيا شبه حكومية شاركت في تكوينها قيادات الجيش السوداني وجهاز الأمن الوطني تحت إشراف القيادة السياسية للبلاد والحزب الحاكم. وقد ساعد ظهور الذهب كمورد اقتصادي جديد في بدايات العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين في تمويل هذه المليشيا وغيرها.

كان لظهور الذهب دور محدود في دعم بقاء النظام مقارنةً بالنفط. فقد أدّت عمليات استخراج الذهب –التي تعتمد على تقنيات أقل مركزية من تقنيات التنقيب عن النفط– إلى توسيع وتفكيك شبكة المستفيدين من مردوداته مقارنة بالنفط.[4] كان نظام الإنقاذ في أضعف حالاته الاقتصادية فسارع إلى منح امتيازات تنقيب عن الذهب لشركات أجنبية بشروط لا تمنحه أي سيطرة على الذهب المستخرج وبشراكات بين المستثمرين الأجانب والأجهزة الأمنية.

ووجهت حكومة البشير في العام 2013 باحتجاجات ضد السياسات التقشفية وضعف اقتصادي لا تملك القدرة على معالجته، فتوجهت نحو البحث عن تحالفات سياسية تطيل بقاءها. فدعا البشير في يناير/كانون الثّاني 2014 إلى حوار وطني حسب مقترح المبعوث الأمريكي للسودان وقتها برينستون ليمان. قدم هذا المقترح رؤية لتحالف بين النظام والمعارضة وتخلي الأخيرة عن إسقاط النظام مقابل الشراكة في الحكم. سمي هذا التوجه في السياسة السودانية بـ”الهبوط الناعم”. لم ينجح مقترح ليمان لعدم جدّيّة المشاركين فيه بما فيهم النظام الحاكم المتهاوي نفسه. وتواصل التدهور الاقتصادي وتوجُّه الحكومة نحو رأس المال الخليجي والذي التقت حوجته للأراضي الزراعية لتأمين الاكتفاء الغذائي في دول الخليج مع حوجة النظام السوداني إلى الدعم الاقتصادي. أدى ذلك إلى تمليك مساحات واسعة من الأراضي السودانية المنزوعة من سكانها الأصليين لرأس المال الخليجي. وتطورت تبعية السودان للحكومات الخليجية حتى وصلت مرحلة المشاركة في حروب الإمارات والسعودية في اليمن عبر تقديم الجنود السودانيين مقابل المساعدات الخليجية. تواصلت كذلك احتجاجات السودانيين ومنها تظاهرات طلبة جامعة الخرطوم احتجاجًا على مخططات بيع أراضي الجامعة في 2014 وإضراب اليومين في 2016 رفضًا لرفع الدعم عن الدواء، وإضراب الصحفيين احتجاجًا على مصادرة الصحف في 2017. ظهرت أيضًا التجمعات والتنسيقيات المطلبية الرافضة لعمليات بيع الأراضي للمستثمرين في ولاية نهر النيل وشرق السودان والعاصمة الخرطوم وغيرها. كما ظهرت أجسام مقاومة للآثار البيئية للتنقيب عن الذهب والبترول في كردفان ودارفور والولاية الشمالية، حيث مناطق استخراج الثروات والتي تجد الحظ الأقل من الخدمات الأساسية الشحيحة.

ترسم الفقرات السابقة صورة للوضع الاقتصادي الذي دخله السودان عام 2018. كما تتطرّق إلى بعض جذوره ومسبباته وأشكال مقاومة السودانيين المستمرة له. كان هذا هو الوضع في السودان إذًا، نظام حكم يعمل على تحويل ثروات البلاد إلى حلفائه الداخليين والخارجيين عبر مشاريع الاستثمار الاستنزافي والصادرات الرخيصة. ويمتنع ذات النظام عن تقديم الخدمات الأساسية من صحة وتعليم لمواطنيه صانعي الثروة. بل وشهد السودان تكرّر توجه ذات النظام نحو السياسات التقشفية والاعتماد على المواطن في معالجة فشل الدولة الاقتصادي. تؤكد هبّات السودانيات والسودانيين ضد مختلف أشكال السياسات التقشفية في السنوات العشر السابقة لثورة ديسمبر 2018 أنّ غياب العدالة الاقتصادية كان ومازال المحرك الأساسي للثورة السودانية. على هذا ثار السودانيون والسودانيات إذاً، على الخصخصة ورفع الدعم وغياب الخدمات وزيادة سعر الرغيف الذي أخرج طلاب مدرسة عطبرة الصناعية في 19 ديسمبر/كانون الأول 2018.

كيف نقرأ واقع السودان اليوم؟

بعد استكشاف جوانب أساسية من دوافع ثورة السودانيات والسودانيين، سنحاول أن نجاوب على سؤالنا الأساسي “لماذا لم تسقط بعد؟” وتتطلب الإجابة منّا قراءة واقع السودان اليوم لمقارنته بدوافع الثورة وأهدافها. كما يتطلب فهم الواقع السوداني وتوجهات السلطة الحاكمة حاليًا –المتمثلة في الحكومة الانتقالية– فهم مكوناتها وطريقة تكوينها. بدأ هذا التكوين في شكله الأحدث موازيًا للنّشاط الثّوري الجماهيري ومتداخلًا فيه من ديسمبر/كانون الأوّل 2018 وحتى الآن.

خرجت تظاهرات السودانيين كما ذكرنا في مختلف المدن السودانية تحت شعار “تسقط بس” في رفض تام لأي شكل من المساومة مع النظام القائم. كان تجمع المهنيين السودانيين قد أعلن نفسه في يوليو 2018 جسمًا نقابيًّا مكوّنًا من نقابات موازية معارضة للنقابات الرسمية التي يسيطر عليها النظام الحاكم. تكوّن التجمع من أجسام الصحفيين والمعلمين والأطباء والقانونيين والمهندسين. في أغسطس/آب 2018 دعا هذا التجمع لموكب احتجاجي نحو البرلمان للمطالبة برفع الحد الأدنى للأجور بتاريخ 25 ديسمبر من ذات العام. إلّا أن اندلاع الاحتجاجات وارتفاع وتيرتها في بداية ديسمبر دفع بالتجمع نحو تغيير وجهة موكبه المحدد من البرلمان إلى القصر الجمهوري وتحويل مطلبه من زيادة الأجور إلى إسقاط النظام. في الأول من يناير/كانون الثّاني 2019 قدّم تجمع المهنيين عبر “إعلان الحرية والتغيير” مطالب خاطب الشعب السوداني لتبنيها وتفعيل أشكال النضال السلمي لتحقيقها. شملت المطالب التنحي الفوري للبشير ونظامه بالإضافة إلى تشكيل حكومة انتقالية موكلة بتسع مهام تشمل إصلاحات اقتصادية وسياسية وقانونية. صدر الإعلان بتوقيع تجمّع المهنيين وأربعة أجسام أخرى تمثل تحالفات أحزاب المعارضة السودانية الأكبر، ونشرَه التجمع فاتحًا باب التوقيع والانضمام لتحالف الاعلان. لاقى التجمع قبولًا واسعا من جموع المتظاهرين المتشوقين لقيادة جديدة والذين ما كانوا ليلبّوا نداء الموكب لو كان صدر عن بقية الأحزاب الموقّعة على الإعلان وحسب. تجلّى رفض السودانيين للأحزاب السياسية القائمة في ردود فعلهم الغاضبة والمشكّكة في مشاركات القيادات الحزبية التاريخية وكذلك في حماسهم لظهور الوجوه الشابة الممثلة لتجمع المهنيين. تجسّد هذا التوجه أحيانًا في رفضه “للعجائز” المسيطرين على السياسة السودانية منذ الاستقلال ومطالبته للأحزاب بتصعيد شبابها وفي أحيان أخرى في رفضه للأحزاب السياسية كافّةً ورفضه لفكرة الجسم القائم على أيديولوجيا وتوجهات سياسية. انطلق في المقابل تشجيع جماهير السودانيين لأشكال التنظيم الأخرى –من لجان مقاومة في الأحياء وتنظيمات مهنية– من ابتعادها عن التنظيم الأيديولوجي لصالح التنظيم على أساس جغرافي أو مهني. كان من الطبيعي أن يصدِر هذا الخطاب أفكارًا تدعو إلى تشكيل حكومة “تكنوقراطية” و”حكومة الكفاءات” والابتعاد عن السياسة التي باتت الجماهير تراها كلمةً فاسدة مرتبطة بالأحزاب الفاسدة. أتى هذا الانحراف في الرؤية الثورية نتيجة لغياب الحزب الثوري القادر على تقديم التنظير الثوري وتوفير الخطاب المضاد. فعداء الجماهير السودانية للأحزاب السياسية القائمة منطقي ومبرر سواء في تاريخها القديم أو القريب الّذي تكررت فيها مساوماتها وتحالفاتها مع الأنظمة الاستبدادية التي تدّعي معارضتها والعمل على إسقاطها. وقد تكرّر فشلها في تحقيق أي هدف ادّعت بخصوصه أنّ المساومة هي طريق الوصول إليه. لا تُعدّ هذه الصفات الجامعة للأحزاب السودانية الكبرى –وإن تفاوتت درجات وجسامة تنازلاتها– ملازمةً للعمل السياسي كما انتشر في الثقافة السياسية السودانية، بل هي متأصّلة في هذا الشكل من السياسة والذي يمارسه هذا الشكل من الأحزاب. أسفر غياب الحزب الثوري إذًا عن تعميم الجماهير السودانية لصفات الأحزاب البرجوازية وسياساتها على تصورهم للعمل السياسي والحزبي ككلّ.

فَرَض شكل التنمية المركزية وغير المتوازنة على السودانيين تفاوتًا فظيعًا في مستويات التعليم والمشاركة والقوة السياسية بين مراكز إدارة الثروة والأقاليم. وأتت الأحزاب السودانية ممثلةً للنّخب التي أنتجها هذا الواقع فتشكّلت أحزاب رأس المال الزراعي والتجاري وأحزاب الأفندية[5] المتعلمين. رغم طرح بعضها نظريًا لتوجهات مناصِرة للطبقات العاملة مثل الحزب الشيوعي السوداني، إلّا أنّ أثر ذلك لم يتجاوز فرق الدرجة بينه وبين أحزاب رأس المال في أساليبها النخبوية في ممارسة السياسة. فدخل الحزب الشيوعي السوداني في تحالفات “حد أدنى” متعددة مع أحزاب ما سمّاه برأس المال الوطني مساومًا على مصالح الطبقة العاملة. تظهر الطبيعة النخبوية الأبوية المحافظة أيضًا في تكوين الغالبية العظمى من قيادات هذه الأحزاب من الرجال كبار السن والمنتمين لمراكز إدارة الموارد. وأخيرًا ظهرت هذه الطبيعة النخبوية أيضًا في تعامل هذه الأحزاب مع حلفائها في ثورة ديسمبر/كانون الأوّل 2018.

وقّع أكثر من عشرين جسم نقابي مطلبي وفئوي على “إعلان الحرية والتغيير” في ذات يوم صدوره في 1 يناير/كانون الثّاني 2019، وتزايدت التوقيعات لتصل إلى ما يفوق المائة جسم في الأسابيع التالية. رغم ذلك بقيت قرارات قوى “إعلان الحرية والتغيير” –قائدة الحراك المعارض– رهينةً بتصويت وقرار الأجسام الأربعة الأولى (تجمّع المهنيين وتحالفات أحزاب المعارضة الكبرى).[6] لم يتمكن تجمع المهنيين من لعب دوره الثوري –الّذي انتظره الثوريات والثوريون السودانيون– في تحرير القرار السياسي من يد النخبة. وقد يعود ذلك لتكوّنه من مجموعات أصحاب الياقات البيضاء وهيمنة مصالح هذه المجموعات وخياراتها الطبقية. ظهرت أصوات قليلة مشككة في هذا التوجه النخبوي إلا أن موجة الاحتجاجات في الشارع ما كانت لتتوقف في تلك اللحظة لمراجعة التحالف والقيادة. نستشعر ابتداءً من هذا المنعطف أثرَ غياب الحزب الثوري المنظّم الذي يعمل على تمليك الحقائق للجماهير كحق أصيل مثل حقهم في الثروة. في الشهور التالية تواصلت المواكب في مدن وقرى السودان مطالبةً بإسقاط النظام. ولفتت سيطرة النساء والفتيات السودانيات على المشهد نظر المتابعين. يمثّل ذلك دليلًا آخر على جوهرية الدافع الاقتصادي في إشعال الثورة، فتضاعف أثر السياسات التقشفية على النساء واقع حقيقي سواء في فقدان فرص العمل أو في تحملهنّ أثر انسحاب الدولة من تقديم الخدمات.

دعا التجمع إلى تكوين لجان مقاومة في الأحياء والتي تشكّلت تطويرًا لفكرة مشابهة بخصوص لجان قاعدية، والتي بدأ تكوينها مع تظاهرات عام 2013. أصبحت اللجان بطل الثورة الأول بمواكبها المفاجئة خارج الجدول المعلن من تجمع المهنيين وبياناتها التي تعلن بها قبول دعوات التجمع لتفعيل أشكال الاحتجاج المختلفة. كما دعا التجمع قبيل إعلان إضراب اليوم الواحد في مارس/آذار 2019 إلى تكوين لجان إضراب أو لجان مقاومة في المؤسسات. ولكن بقيت مساحة حركة اللجان محصورة في المقاومة الميدانية وانتشر توافق جماهيري ضمني على أن دور اللجان هو العمل في الشارع لإسقاط النظام بينما تتفرغ القيادة السياسية لتحضير حكومة وترتيبات ما بعد السقوط.

في 6 أبريل/نيسان 2019 توجهت مواكب الثورة المعلنة نحو محيط مقرات القيادة العامة للجيش السوداني في العاصمة والولايات وأعلنت اعتصامات القيادة العامة – الّتي استمرت حتى إعلان إسقاط الرئيس عمر البشير وما بعد ذلك. كان يوم السقوط (13 أبريل/نيسان 2019) بداية لمرحلة جديدة افترض المعتصمون ضمنيًا استعداد قوى “إعلان الحرية والتغيير” لها. وابتدأت الاجتماعات بين قوى “إعلان الحرية والتغيير” ولجنة البشير الأمنية التي أسمت نفسها “المجلس العسكري” وتولّت رئاسة البلاد بعد انقلابها على رئيسها السابق. أقيمت هذه الاجتماعات حين بدأت تحت عنوان مباحثات تسليم السلطة، وتحوّرت سريعا في الأيام التالية لاجتماعات “تفاوض”. تجلّى دعم حكومتي السعودية والإمارات لحكومة المجلس العسكري في تغطيات قنواتهم الإعلامية ومحاولاتها لغسل سمعة عضوية المجلس. فقد جمع المجلس قيادة القوات المسلحة –بتاريخها في قصف وقتل السودانيين– وقيادة جهاز الأمن والداخلية –أدوات قمع النظام– وقيادة “قوات الدعم السريع” –الاسم الجديد للجنجويد–.

لا يُستغرب إذًا رفض المعتصمون لحكم هذا المجلس. تواصل التفاوض بين الطرفين وبذلت حكومات الخليج دعمها للعساكر عبر المنح والتسهيلات في استيراد الوقود والسلع الاستراتيجية وعبر الدعم الإعلامي. وأيّد سفراء الدول الغربية في السودان مسيرة “الانتقال السلمي عبر التفاوض” الّذي نظَّرت له المراكز الاستشارية الأوروبية والأمريكية، وغابت عبارات تسليم السلطة عن المشهد لفترة. في المقابل رأى المعتصمون أنّ قوة مفاوضيهم تنبع من تمسكهم بالاعتصام وبكافة أشكال المقاومة والاحتجاج. فسيّروا المواكب داخل المدن وعبرها وأغلقوا الشوارع كلما تلكّأ المجلس العسكري في التفاوض أو أصرّ على شروط يرفضونها. لم تسلم ساحات الاعتصامات من تعديات القوى الأمنية أثناء فترة التفاوض هذه. فتوالت محاولاتهم لفض الاعتصامات أو تحجيم مساحاتها وفعالياتها في مختلف المدن. وسقط ضحية هذا العنف غير المبرّر جرحى وشهداء. كان هجوم القوات الأمنية على اعتصام القيادة العامة في الخرطوم في 13 مايو 2019 الموافق 8 رمضان أول ما سمي بالمجزرة ضمن أحداث الثورة. أججت مجزرة الثامن من رمضان غضب الشارع ورفضه للمجلس العسكري فتصاعدت هتافات “مدنية 100%” في مقابل مقترحات التفاوض حينئذ بصيغة حكم مشتركة بين العساكر والمدنيين. وظهرت دعوات لإضراب سياسي عام لإجبار العساكر على تسليم السلطة. تباطأت القيادة السياسية في الاستجابة لدعوات الإضراب وتبنيها. بل وصرّح بعضها برفض الإضراب إمعانًا في الإصرار على مسار التفاوض والمساومة. تحققت مخاوف الشارع هنا من إدمان الأحزاب النخبوية على المساومة وتخوفها من التغيير الجذري. تزامن ذلك مع لقاءات قيادات أحزاب “إعلان الحرية والتغيير” مع ممثلي الاتحاد الأوروبي والحكومة الأمريكية وتكررت زيارات عدد من قيادات هذه الأحزاب -وبشكل خاص قيادات تحالف نداء السودان والمؤتمر السوداني- إلى الامارات العربية المتحدة. انعكس رفض المعتصمين لهذه الانحيازات الدولية المشبوهة في هتافاتهم وأغانيهم ومساءلتهم لممثلي القيادة السياسية في ساحة الاعتصام وعلى منصاته. فظهرت في أرض الاعتصام لافتات سُطِر عليها “رز الخليج مسموم ما بيخدع الخرطوم” وردد المعتصمون غناءهم “اي دكتاتور، اختونا[7] بس، ناس بن سلمان، كلب امريكان، اختونا بس، ياناس بن زايد، السرقوا المينا،[8] اختونا بس، تميم الكوز،[9] ناس اردوغان، اختونا بس”.[10] كان الحزب الشيوعي السوداني وقتها قد تمكن من جمع رصيد مقبول من ثقة الجماهير نتيجة لمواقفه المقاومة للتفاوض، على الأقل مقارنةً بالإمعان في المساومة الذي تظهره بقية أحزاب تحالف الإعلان. إلا أن الحزب الشيوعي لم يتمكن من الانفلات من جوهره النخبوي وسياساته غير الثورية فكان يقدم محافظته على حلف قيادة المعارضة على انحيازه للثورة وحمايتها من تنازلات المساومين.

جاءت دعوة تجمّع المهنيين للإضراب السياسي رسميًّا بعد أسابيع من دفع التنظيمات القاعدية للمقترح، وذلك عبر إصدار بيانات استعدادها للإضراب متى ما أعلنه تجمع المهنيين[11] وعبر المخاطبات الداعية للإضراب في ساحات الاعتصامات. مثّل الإضراب السياسي اشتداد المواجهة بين المعتصمين والمجلس العسكري. فاعتقل المجلس المضربين وهدّد باستبدالهم وتصاعد الدعم الخليجي المالي والإعلامي له. في المقابل توحّد المضربون خلف مطلب الحكم المدني الكامل ونفّذوا إضرابًا شلّ البلاد تمامًا يومي 28 و29 مايو/أيّار 2019، بمطاراتها وموانيها ومؤسساتها وأسواقها.

رد المجلس العسكري عليه بعد أسبوع بمجازر فض الاعتصامات في الثالث من يونيو/حزيران 2019 حيث هجمت قوة مُشكّلة من الأجهزة الأمنية على الاعتصامات بشكل متزامن في 14 مدينة سودانية بالتّزامن. توثّق شهادات الناجين مشاهد وحشية من اغتصاب وتعذيب للمعتصمين ناهيك عن القتل وإلقاء الجثث والأحياء في مجرى النيل بعد ربطهم بالحجارة. خلفت المجزرة ما يفوق المئة شهيد ومئات الجرحى وضحايا الاغتصاب وما زال البحث جاريًا عن المفقودين. أعلن المجلس العسكري بعدها التراجع عن جميع مخرجات التفاوض والعمل نحو انتخابات بعد ستّة أشهر كما أوقف خدمات الاتصال بالإنترنت في جميع انحاء البلاد. لم يوقف ذلك عمل لجان المقاومة في الأحياء السودانية فنشطت للترتيب لمسيرة مليونية رافضة لحكم المجلس العسكري. خرج ما يتجاوز السّبعة مليون سودانية وسوداني في معسكرات النزوح والمدن والقرى في يوم الـ30 من يونيو/حزيران 2019 منادين بالحكم المدني مرة أخرى. ونشط السودانيون في الخارج في نشر أخبار المجزرة وما بعدها في ظل التعتيم الإعلامي الذي فرضه المجلس العسكري على البلاد. كان لمليونية 30 يونيو/حزيران والدعم العالمي الذي لاقته الثورة السودانية الفضل في تراجع العساكر بعد أن ظنّوا أنهم فرضوا سيطرتهم وقتلوا منابع الثورة.

إلا أن العساكر وجدوا في المقابل دعمًا سخيًا من خارج الحدود. أعلنت حكومات الإمارات والسعودية المنح والقروض لدعم المجلس العسكري وأرسل الاتحاد الافريقي كذلك وسطاءه للدعوة لحوار بين قيادة المعارضة والمجلس العسكري قائد المجزرة. ظهر التنسيق بين الدول ذات الاستثمارات والمصالح في السودان عبر اجتماعات ما سمي بمجموعة أصدقاء السودان والتي انطلقت في مايو/أيّار 2019 في واشنطن وتواصلت في برلين في يونيو/حزيران وفي بروكسل في يوليو/تمّوز وتتابعت عبر ما تلاها من أشهر. ضمّت هذه المجموعة الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا والاتحاد الأوروبي وقطر والسعودية والإمارات وأثيوبيا.[12] نجد التوصيف الأفضل لهذه المجموعة في كونها مجموعة المستثمرين في السودان –اقتصاديًا أو أمنيًا– وبعض حلفائهم. دعمت الدول المكونة لهذه المجموعة التوجه نحو صيغة تقاسم السلطة بين القيادة المدنية والمجلس العسكري. لذا من المنطقي أن تدفع هذه المجموعة بالسودان نحو “الشراكة المدنية العسكرية” لضمان نظام يحافظ على استثماراتها الحالية بالإضافة إلى استغلال هوامش التغيير لفتح مساحات “استثمار” كانت مغلقة أمامهم إما نتيجةً للحظر الاقتصادي الأمريكي على السودان أو نتيجة لعدم تحصيل نظام البشير الدعم السياسي الكافي لتنفيذ التحرير الاقتصادي الكامل. لا تختلف مواقف هذه الدول نحو السودان في جوهرها عن مواقف مشابهة اتخذتها اتجاه حركات التغيير في الإقليم –سواء في مصر أو تونس أو الجزائر أو غيرها– ويجوز تسميتها بدول الثورة المضادة في المنطقة. وُجّه الضغط الخارجي الرسمي إذًا نحو تعزيز التوجهات السياسية والاقتصادية التي ثار عليها السودانيات والسودانيون. أما صوت الشارع فخذله غياب الحزب الثوري الذي وجب عليه العمل على تمليكه الحقائق وتنظيمه خلف مصالح الجماهير في استراتيجية موحّدة. وأصبح الخطاب الموجِّه للشارع يقتصر على تبرير الشراكة مع العسكر بأهمية حقن الدماء وإيقاف العنف وأصبحت صيغ الاتفاق وترتيبات الانتقال تخرج للجماهير مسرّبةً لا عبر بيانات جماهيرية. وفاقت اجتماعات الأحزاب مع السفراء والمبعوثين والوسطاء خطاباتهم للشارع. أدى غياب القيادة الثورية إذًا إلى تبديد ثمار صمود الثوار أمام عنف المجلس العسكري وتحديهم لقمع ما بعد المجزرة. وأدى غياب الخطاب الثوري إلى انتشار خطاب ساذج عن الاعتماد على البوصلة الأخلاقية “للدول الديمقراطية العظمى” والتي يجب تباعًا أن تدعم حق السودانيين في تحقيق الانتقال الديمقراطي. وانتشرت كذلك دعوات لتكوين حكومة تكنوقراط ذات كفاءات رفضًا للأحزاب السياسية الخائنة. وقد سوّقت الجهات الانتهازية بين قيادات أحزاب الشراكة –من بينها قيادات حزب الأمّة والمؤتمر السوداني والمشاركة حاليًا في الحكومة الانتقالية– لهذه الخطابات لتعطيل التحليل في تناول مواقفها المساومة أو مصالح حلفائها في المجتمع الدولي.

ليس من المستغرب أن يُنتِج هذا المناخ الحكومةَ الحالية، أي حكومة الشراكة بين العسكر والمدنيين برعاية إماراتية وسعودية غير مخفاة وقيادة تكنوقراطية من موظفي مؤسسات التمويل والتنمية الدولية، معبّرًا بذلك عن الثورة المضادة بشطريها الاقتصادي والسياسي. ذكر أول وزراء مالية الحكومة الانتقالية في أوائل أحاديثه الجماهيرية[13] أن الهدف الاقتصادي للثورة السودانية كان الخروج بالسودان من مأزق الدولة المثقَلة بالديون. أنبأ هذا التصريح بتحوّل تام لأهداف الثورة السودانية وتحويرها والتي انطلقت بالدعوة إلى تحقيق العدالة الاقتصادية للأغلبية الأفقر من السودانيين ورفض السياسات التقشفية. أصبح دفع الديون الهدف الأسمى والمبرِّر الأول لسياسات الحكومة الانتقالية الاقتصادية. فعادت مخططات رفع الدعم وتعويم العملة والاستثمارات الخارجية بشكل لا يختلف عن سياسات البشير في سنيه الأخيرة إلّا في توفّر الدعم العالمي المبذول للحكومة الراهنة. قدّمت الحكومة الانتقالية للشعب السوداني مختلف قراراتها المخالفة لمسار الثورة ضمن تبرير شروط العودة إلى السوق العالمي وما سيتبعه من رفاه متخيًّل. وشمل ذلك تطبيع العلاقات مع الاحتلال الصهيوني بضغط أمريكي/إماراتي. ارتبك الشارع السوداني في التعامل مع أخبار التطبيع نتيجة لتاريخ طويل من استخدام حكومة عمر البشير للقضية الفلسطينية في حشد الجماهير حول الخطاب الجهادي. وكان اليسار السوداني قد انسحب في المقابل من تقديم قراءة تقدّميّة للموقف من القضية الفلسطينية عبر هذه السنوات حيث تعامل معها كقضية تخصّ الإسلاميين. فرغم رفض الحزب الشيوعي السوداني للتطبيع –وقد صرح بذلك مرارًا– إلا أنه دائمًا ما يميل إلى الابتعاد عن القضية، ومثال ذلك محتوى بيانه الرافض للقاء الفريق أول عبد الفتاح البرهان –رئيس مجلس السيادة الانتقالي– وبنيامين نتنياهو –رئيس وزراء كيان الاحتلال الإسرائيلي– في فبراير 2020 حيث اختار الشيوعي التركيز على صلاحيات البرهان وعدم قانونية اللقاء وخرق الوثيقة الدستورية أكثر من تركيزه على تقديم المنظور الثوري للقضية الفلسطينية. يتكرر هنا ظهور تبعات غياب الحزب الثوري في صياغة خطاب تقدمي بخصوص قضايا السياسة الداخلية والخارجية. يظهر ذلك أيضًا بوضوح في قدرة الحكومة الانتقالية الحالية على تقديم أخبار المنح التنموية وإعفاءات الديون بصفتها انتصارات اقتصادية ثورية، وذلك رغم آثار شروطها النيولبرالية الساحقة على حياة معظم السودانيين. يحاول الحزب الشيوعي السوداني أن يطرح خطابًا رافضًا لسياسات التحرير الاقتصادي إلا أنه غير قادر على التأثير على الجماهير الّتي فقدت الثقة فيه نتيجة تذبذب مواقفه وإصراره على التحالف مع الأحزاب الرجعية تزامنًا مع بذله البيانات في هجاء مواقفها. وضعت هذه الاستراتيجية الحزب الشيوعي في المخيال الجماهيري في دور المخرّب كثير الحديث قليل الحلول وفاقد الجدية، فيما تطرح لجان المقاومة في الأحياء –عبر تنسيقياتها وتحالفاتها المختلفة– بيانات ومواقف رافضة لسياسات التحرير لكنّها مدموغة بنقص الخبرة السياسية وأولوية الحفاظ على الحكومة. وقد تكررت عبارات “إصلاح مسار الثورة لا إسقاط الحكومة المدنية” في شعارات لجان المقاومة في محاولة منها لقطع الطريق أمام العساكر إذا ما حاولوا ركوب موجة الاحتجاج، وهو توجه يغذّيه التخوف من السيناريو المصري بوضوح. إلا أن هذا الموقف الداعم للحكومة المدنية يتراجع باستمرار نتيجة قراراتها المضادة للثورة في المجال الاقتصادي وغيره.

هذا هو الوضع الحالي للحكومة الانتقالية إذًا. تعمل مجموعات من موظفي المؤسسات الدولية السابقين وقيادات النخبة السياسية بمختلف أطيافها المدنية والمسلحة -تحت قيادة المجلس العسكري- على تنفيذ مجموعة من المصالح الاستثمارية وعمليات تحويل الموارد لصالح رؤوس الأموال الخليجية والعالمية. قدمت هذه الحكومة الانتقالية قانون الاستثمار وقانون شراكة القطاع العام والخاص بينما تجاهلت إصلاح قانون العمل وتجريم الفصل التعسفي أو مراجعة قوانين ملكية الأرض لضمان تمليك المزارعات أراضيهنّ. ووطّدت علاقتها مع “اتحاد أصحاب العمل السوداني”، وهو الجسم الممثل لرؤوس الأموال السودانية والذي بات مشاركًا ثابتًا في معظم لجان الإصلاح ووضع القوانين. ومن المتوقع أن تحتفل الحكومة الانتقالية عبر ما تبقى من عمرها[14] باتفاقيات استثمارية تعمل على تحويل إيرادات الموارد السودانية القومية لصالح شركات وحكومات أصدقاء السودان. تُظهِر أولويات الحكومة الانتقالية انحيازها –كسابقتها– لرؤوس الأموال من المستثمرين السودانيين والأجانب وتراجعها عن حماية الطبقة العاملة السودانية والغالبية الأفقر من الشعب السوداني. نجد في ذلك دليلًا واضحا على عدم إمكانية تحقّق أهداف العدالة الاقتصادية التي نشدتها الثورة السودانية عبر هذه الحكومة وعلى تمثيل الحكومة الانتقالية لتوجهات الثورة المضادة أو –كما صاغتها جماهير السودان ببساطة– على أنّها “لم تسقط بعد!”

كيف تستمر الثورة السودانية؟

في ظل الواقع السوداني الراهن، لا مناص من استمرار الثورة في سبيل إيقاف العنف الاقتصادي الموجَّه نحو الجماهير الأفقر من السودانيات والسودانيين. يتطلب ذلك استصحاب دروس الثورة السودانية في نجاحاتها كما في مواضع التقصير والفشل، ونشاهد تطبيقات مختلفة له يوميّة ومتزايدة. من أمثلة ذلك الضغط الجماهيري الذي نفذته لجان المقاومة في المؤسسات رفضها أول قانون ميزانية طرحته الحكومة الانتقالية والذي احتوى على رفع تام للدعم على المحروقات. ضغطت هذه اللجان لإيقاف العمل بالميزانية منذ إعلانها في ديسمبر/كانون الأوّل 2019 واستمرت في الضغط نحو إقامة مؤتمر اقتصادي لمناقشة السياسات والأولويات الاقتصادية كما استمرت نشاطاتها أثناء التحضير للمؤتمر الاقتصادي في سبتمبر/أيلول 2020 لوضع تصور لسياسة اقتصادية بديلة فصنعت شبكة جمعت اللجان بالوزارات والمؤسسات الحكومية والخبراء الاقتصاديين ولجان المقاومة بالأحياء. لا يمكن قراءة هذا الفعل المقاوم دون استصحاب دروس إقصاء الجماهير عن طاولة القرار السياسي أثناء التفاوض بصفته دافع أساسي لإصرار اللجان على صيغة ديمقراطية أكثر في اتخاذ القرار الاقتصادي. نشهد ذلك أيضًا في التنسيق المستمر بين لجان المقاومة، وذلك لتسيير المواكب المطالِبة بتحقيق العدالة لشهداء مجازر فض الاعتصام. فالسودان مازال –بعد سنتين من “المجزرة المبثوثة على الهواء مباشرة”–[15] يتنظر نتائج لجنة التحقيق. تخبرنا المواكب والحملات المتعاقبة للمطالبة بالعدالة أنّ الأجسام الثورية السودانية لم تستكن لفكرة الإشراف المحايد والموضوعي لحكومة الكفاءات ولجان تحقيقها. بل على العكس، تدل هذه المواكب على استصحاب الثوريات والثوريين السودانيين لدروس علاقات القوى والمصالح التي تجعل الحكومة الانتقالية تميل إلى عدم تجريم قيادات المجلس العسكري في محاولة منها للحفاظ على الاستقرار المشجّع للاستثمار. إذًا تُعدّ هذه الحملات والمواكب محاولات فعليّة لإعادة وزن الواقع لصالح أهداف الثورة.

تخللت شهور الفترة الانتقالية منذ بدايتها في أغسطس/آب 2019 محاولات تزداد جديتها مرة بعد مرة لتكوين تحالفات منظّمة بين مجموعات مختلفة للجان المقاومة في الأحياء ولجان المقاومة في المؤسسات والأجسام المطلبية والفئوية المتضررة من السياسات الاقتصادية التي تتبعها الحكومة الانتقالية. لم يكن ليتبلور هذا الإصرار والعمل المتواصل –-نحو تكوين تحالفات أصحاب الحق– من دون الدروس المستقاة من التاريخ القريب لقرارات القيادات السياسية النخبوية وانحيازاتها. وتشمل أشكال التحالف مواثيق لجان المقاومة على التمسك بقضايا العدالة ومؤتمرات الأجسام المناهضة لآثار التعدين لإجبار الحكومة على حماية سكان مناطق الذهب من ممارسات الشركات، كما تشمل التحالفات النسوية من أجل حماية حقوق المرأة الشخصية والاقتصادية والسياسية وتحالفات الرعاة المطالبة بحصّتهم العادلة من التنمية وتحالفات العمال الزراعيين وغيرها من أشكال التحالف والعمل المشترك.

تشكّل هذه التحالفات الطريق الأوضح –إلى جانب التنظيم الداخلي لأجسام المقاومة– لخلق جبهة مبدئية في مواجهة سياسات الثورة المضادة. قد ينتج من تفاعلها بناء الحزب الثوري أو لعب جزء من دوره عبر التنظيم والحراك المستمر. إلا أن هذا السيناريو المبشّر لاستمرار الثورة السودانية نحو أهدافها يجب ألّا ينسينا الخطر الماثل في التحالفات العالمية للثورة المضادة. فلن يكون الضغط الجماهيري الداخلي الرافض لسياساته الاقتصادية كافيًا في مواجهة هذا العدو القوي. من المؤكد أن إسقاط نظام مبني على تحالفات عالمية عابرة للحدود لا يتحقق إلا عبر مقاومة عالمية عابرة للحدود. وعلينا في السودان استصحاب ذلك في انحيازاتنا ومواقفنا. يشمل ذلك تعزيز التضامن العالمي وخلق قنوات تواصل مع المجتمعات المتضررة من سياسات اقتصادية مشابهة للسياسات النيوليبرالية قيد التطبيق في السودان. كما يشمل دعم مختلف أشكال مقاومة الأنظمة الاستبدادية وخاصةً تلك ذات التدخلات الاقتصادية المباشرة في السودان والّتي تمثّل رؤوس الأموال المستثمرة في موارده وعلى رأسها دول الخليج الّتي تحظى بنصيب الأسد من التدخلات المضادة للثورات. لا يختلف مشروع التضامن العابر للحدود في جوهره عن مشاريع التضامن “الوطنية”، فكما يصنع سكان مناطق تعدين الذهب في السودان تحالفات مع سكان مناطق التنقيب عن النفط –خلف مطلبهم المشترك في حماية بيئتهم من الآثار البيئية للصناعات الاستخراجية على مناطقهم وصحتهم- من الممكن والواجب التّضافر مع المصالح المشتركة لعمال المناجم في المغرب –المطالبين بظروف عمل آمنة– والناشطين البيئيين ضدّ آثار التعدين في جنوب أفريقيا. من الممكن والواجب كذلك توطيد التواصل والعمل المشترك بين كيانات الجبهة الرافضة لسياسات التحرير الاقتصادي في المنطقة والتي تضم لجان المقاومة في السودان وجموع المتظاهرين في لبنان وتونس. من الممكن والواجب رفض السياسات الاستعمارية التي تقصي السكان الأصليين –قضية تجمع السودانيين– الذين انتزعت أراضيهم لصالح الاستثمارات الخليجية والإسرائيلية والمتظاهرين في مالي –ضد التدخلات الاستعمارية الفرنسيّة– والفلسطينيين –المقاومين للاحتلال الاسرائيلي وأذرعه في السلطة الفلسطينية والحكومات المطبّعة–. تشكل هذه الأمثلة –عن المصالح المشتركة للشعوب– جزءًا من الأجندة التحررية الإقليمية والعالمية التي سينتجها العمل والتنظيم العابر للحدود. ويستلزم التعريف الواعي لهذه الأجندة التحررية الثورية استحضارًا دائمًا لتحليلٍ اقتصادي يشمل مصالح جميع الجهات المؤثرة في الإقليم.

يتطلّب الطريق نحو استكمال أهداف الثورة السودانية إذًا بناء تنظيمات الطبقة العاملة السودانية -–صاحبة المصلحة الأصيلة في تحقيق أهداف الثورة– كما يتطلب تحالفًا استراتيجيًّا مع أجسام المقاومة المعادية للإمبريالية التي تشاركها الهدف داخل وخارج حدود السودان. حينها سـ”تسقط بس”.

—–

*مزن النّيل كاتبة ومحاضِرة بتخصّصات مهنيّة وأكاديمية متقاطعة (في الهندسة وعلم الاقتصاد الاجتماعي والسياسات العامة). مزن إحدى مؤسِّسي “استناد” وهو مركز لأبحاث الابتكار والعلوم والتكنلوجيا يهتم بالتنمية المتمركزة حول الإنسان في السودان. هي زميلة غير مقيمة في “مؤسّسة التحرير لسياسات الشرق الأوسط” حيث تبحث في توجّه اقتصادي وصناعي وبيئي يرتكز على النّاس في السودان. تتطوّع كذلك في “مركز الأبحاث والاستشارات الصناعية” في السودان بصفتها مستشارة في السياسات الصناعية.

——

هوامش:

قراءات إضافية

  • تيسير محمد أحمد علي. (1994) “زراعة الجوع فى السودان“، ترجمة محمد علي جادين. القاهرة: مركز الدراسات السودانية.
  • د. محمد سليمان محمد. (2000) “السودان: حروب الموارد والهوية“. الخرطوم: دار عزة للنشر.
  • محمد صلاح عبد الرحمن. (2018) “سعر الذهب – التكلفة البيئية والاجتماعية للتعدين“. القاهرة: مكتبة جزيرة الورد.
  • Magdi el Gizouli. (2020) Mobilization and Resistance in Sudan’s Uprising. January 2020 http://riftvalley.net/publication/mobilization-and-resistance-sudans-uprising
  • Magdi el Gizouli and Edward Thomas. (2020) ‘‘We are with the hakuma’: a revolution on the asphalt’. 30 June 2020. https://roape.net/2020/06/03/we-are-with-the-hakuma-a-revolution-on-the-asphalt/
  • Anne Alexander (2020). ‘Class, power and revolution in Sudan’, International Socialism (166). 28 March 2020 http://isj.org.uk/class-power-and-revolution-in-sudan/

[1] حزب المؤتمر الوطني هو الحزب الذي أعلن تكوينه النظام الحاكم في السودان عام 1998. تأسس الحزب من عناصر الجبهة الإسلامية التي قادت الانقلاب الذي حكم السودان منذ 30 يونيو/حزيران 1989 وحتى إقالة الرئيس البشير في 11 ابريل/نيسان 2019.

[2] دارت الحرب الأهلية في جنوب السودان بين الشمال الحاكم وجنوب السودان حيث طالب الجنوبيون –تحت راية الحركة الشعبية لتحرير السودان– بمزيد من سلطات الحكم المحلي. استمرت الحرب في جزئها الأول منذ عام 1955 إلى عام 1972 حيث انتهت بتوقيع اتفاق أديس أبابا بين الحكومة والحركة الشعبية الذي نصّ على حكم ذاتي إقليمي لإقليم جنوب السودان. واجهت الاتفاقية عدة تحديات منها مسألة دمج القوات “المتمردة” بالجيش القومي واكتشاف النفط في الإقليم الجنوبي في عام 1979 والخلاف حول إدارته. اندلعت الحرب مرة أخرى في عام 1983 واستمرت حتى توقيع اتفاقية السلام الشامل (اتفاقية نيفاشا) عام 2005.

[3] بدأت حرب دارفور عام 2003 حيث تشكلت حركات متمردة قادت صراعًا ضد حكومة الخرطوم اعتراضًا على اضطهاد وتهميش الحكومة لسكان المنطقة. سلّحت الحكومة بعض قبائل دارفور للقتال نيابةً عنها وسُميت هذه المليشيات بمليشيات الجنجويد. عُرف الجنجويد بوحشيتهم أثناء حرب دارفور ووثقت منظمات عالمية ارتكابهم جرائم حرب من ضمنها الإبادات الجماعية والاغتصاب وغيرها. تقدّر الأمم المتّحدة أعداد قتلى الإبادة في دارفور بين 80,000 إلى 500,000 بينما صرّح الرئيس عمر البشير أنّ عدد القتلى لا يتجاوز 10,000.

[4] محمد صلاح عبد الرحمن. (2018) “سعر الذهب – التكلفة البيئية والاجتماعية للتعدين“. القاهرة: مكتبة جزيرة الورد.

[5] أفندية ومفردها أفندي هي كلمة استخدمت في الدولة العثمانية لمخاطبة موظفي الحكومة. تستخدم في السودان للدلالة على مجموعات المتعلمين الذين شكلوا كادر موظفي الدولة في نهايات الاستعمار الإنجليزي المصري وما بعدها. حظيت هذه المجموعات بامتيازات وفرص وشكلت الجزء الأكبر من الطبقة الوسطى العليا في البلاد وما يتبع ذلك من تمتّع بفرص التمثيل السياسي ومحاباة الأنظمة المتعاقبة.

[6] كانت تحالفات المعارضة الموقّعة على “إعلان الحرية والتغيير” –عند صدوره– إلى جانب تجمع المهنيين قوى الإجماع الوطني والذي يجمع عدّة أحزاب معارضة أبرزها الحزب الشيوعي السوداني وحزب المؤتمر السوداني والحزب الناصري وغيرها. وقوى نداء السودان تجمع أحزاب معارضة أبرزها حزب الأمة وتنظيمات تحالف “الجبهة الثورية” المسلحة ومنها حركة العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم وحركة تحرير السودان، والتجمع الاتحادي المعارض المكوّن من عدة أحزاب منشقة عن “الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل” المتحالف حينها مع حكومة البشير.

[7] اختونا: اتركونا.

[8] في إشارة الى تسريبات عن تفاوض البشير على صفقة بيع أجزاء من ميناء بورتسودان إلى استثمارات تتبع للحكومة الإماراتية.

[9] كوز هو الاسم الذي يطلقه السودانيين على أعضاء الجبهة الإسلامية أو تنظيم الإخوان المسلمين بشكل عام وعلى عضوية أحزاب الجبهة الإسلامية في السودان بشكل خاص (المؤتمر الوطني، المؤتمر الشعبي). يصف الهتاف أمير قطر تميم بن حمد بالكوز لعلاقة قطر مع تنظيمات الإخوان المسلمين في المنطقة ومنها حكومة البشير في السودان.

[10] يخاطب الهتاف الدكتاتوريات الّتي رأى المحتجون أنّ لها أثر وقرار في السياسة السودانية مطالبين إياها بالابتعاد عن السودانيين وتركهم وشأنهم. يعدّد الهتاف حكام السعودية والإمارات وقطر ومصر وتركيا وروسيا وسوريا والتي كانت وجهة آخر زيارة خارجية قام بها الرئيس السوداني عمر البشير في ديسمبر 2018 إبان بداية التظاهرات التي أدت إلى سقوطه.

[11] في هذه المرحلة من الثورة السودانية –أبريل-مايو/نيسان-أيّار 2019– صعد “شق الصف” إلى مصاف الخطايا الكبرى وعليه لم تتمكّن التنظيمات القاعدية من طرح أي رؤى مخالفة لرؤية قيادة الحراك والمتمثلة -بالنسبة للجماهير- في “تجمع المهنيين السودانيين”. لذا وجهت الأجسام الداعمة للإضراب دعواها للتجمع لإعلان الإضراب عبر تصريحها بالاستعداد له متى ما جاءت الدعوة “من القيادة”.

[12] رغم مشاركة مصر الواضحة والدائمة في صنع السياسات المضادة للثورة في السودان –من ضمن ذلك زيارة البرهان لمصر قبل المجزرة مباشرةً– ورغم مشاركتها في اجتماعات مجموعة أصدقاء السودان بين الحين والآخر إلّا أنها لا تتبع رسميًا لعضوية المجموعة. أي تجوز رؤيتها ضمن تعقيدات الصراع المصري الإثيوبي على قيادة الإقليم وتبوء مكانة الذراع الأول للإمارات فيه.

[13] وزير المالية والتخطيط الاقتصادي د. إبراهيم البدوي، في ملتقى الرؤية المشتركة بين القطاع الخاص والحكومة الانتقالية والّتي نظّمها “تجمع اتحاد أصحاب العمل السودانيين” في قاعة الصداقة يوم 7 ديسمبر/كانون الأوّل 2019.

[14] وفق الوثيقة الدستورية الموقّعة بين المجلس العسكري و”قوى إعلان الحرية والتغيير” في أغسطس/آب 2019 تُحدّد الفترة الانتقاليّة بمدة 39 شهرًا. إلّا أنّ الفترة الانتقالية مُددت بـ 14 شهرًا اضافيًا ضمن “اتفاق جوبا” الموقّع بين الحكومة الانتقالية وبعض الحركات المسلحة. عليه يتوقع أن تنتهي الفترة الانتقالية في بدايات عام 2024. ومن الجدير بالذكر أن بنود التفاوض الجاري حاليًا بين الحكومة الانتقالية وحركة تحرير السودان بقيادة عبد العزيز الحلو تشمل مقترحات بتمديد الفترة الانتقالية مرة اخرى.

[15] كما أسمتها البي بي سي في تقريرٍ لها عن المجزرة بتاريخ 11 يوليو/تمّوز 2019.

 

 

شارك المقالة

اقرأ أيضا