في تهافت تبرير اتفاق 18 يناير 2022 في قطاع التعليم

بقلم: م.ب

أذاعت قيادة النقابة الوطنية للتعليم- ك. د. ش  بيانا يوم 24 يناير 2022، أي بعد أقل من أسبوع من مشاركتها في توقيع اتفاق مع وزارة التعليم بشأن مطالب شغيلة القطاع. هذه أول مرة في تاريخ ن. و. ت- ك. د. ش، تصدر القيادة توضيحا لمبررات توقيع اتفاق حول المطالب.

جلي أن البيان أملاه ضغط موجة سخط عارمة، عز نظيرها، في قواعد قطاع التعليم، إذ لم يسبق فعلا النزول إلى هذا المستوى من هزالة نتائج التفاوض في وجه حدة الهجوم. وقد ساق البيان جملة تبريرات، منها سياق الاتفاق، وطبيعته، ودعمها  برسم آفاق، وختم بتأكيد نوايا التشبث بثوابت نضالية لنقابة تعليم ك. د. ش.

ولأن بيان قيادة ن. و. ت ختم بالتحذير مما وصفه بـ”منطق تبخيس المكتسبات والتشكيك عبر تأويلات غير دقيقة”، يلزم التحذير من منطق شيطنة كل اعتراض، وكل رأي مغاير بمسوغات “التشكيك” و”التأويل” وحتى “استهداف النقابة”. هذا علما أن ما معظم ما راج من انتقادات لحصيلة الحوار راوح حدودا فئوية، ولم يرْق بعد إلى جوهر خط القيادات القائم على  ما يسمى “الشراكة الاجتماعية” مع البرجوازية ودولتها، وهو الخط الذي أكده الاتفاق: الحرص على “السلم الاجتماعي” لدرجة التكتم  على فحوى المداولات.

ضاق صدر القيادة حتى على الملاحظات المحكومة بالفئوية، فيما النقابة جسم حي يتفاعل، وينطوي على تنوع في الرؤى، لابد أن ينتج نقدا ومعارضة… بل الغريبُ أن حدثا بأهمية اتفاق 18 يناير 2022 لم يثر تباينا في التقييم داخل القيادة نفسها، المتنوعة سياسيا، وهذا مؤشر سلبي على الحالة الصحية للديمقراطية الداخلية.

فما هي مبررات بيان التوضيح، وما مدى متانتها؟

  1. حجة سياق الاتفاق:

اعتبر البيان أن الدافع إلى توقيع 18 يناير2022 كان “انقطاع الحوار طيلة سنتين رغم مختلف النضالات التي خيضت”. فهل يُقصد أن النضال استنفذ طاقته ولم يبق غير توقيع ما تيسر؟ هذا منطق استسلام واستبطان للهزيمة. فالمطلوب في منظمة نقابية هو تقييم الخطوات النضالية: لماذا لم يكن الإضراب ضاغطا لدرجة تجبر الخصم على التنازل؟ أيُّ نوع من الإضراب خيض؟ ما مدته؟ وبأي تعبئة؟ حجم مشاركة المعنيين/ات؟ هل من تسيير ديمقراطي يحفز المشاركة، أم دعوة فوقية بات انترنت يعفي من توزيع مناشيرها، مما يبطل مفعولها؟ مدى قدرة المطالب على توحيد الشغيلة؟ ما هي مساعي العمل المشترك مع باقي النقابات، ومع تنسيقية المفروض عليهم- هن التعاقد؟ لا شيء من هذا، ببساطة لأنه ليس من تقاليد التوجه المهيمن في جهاز النقابة. لم يشهد تاريخ النقابة طيلة عقود تناولا للنضال بهذا المنطق في أدبيات المؤتمرات وباقي وثائق النقابة، بل تمارس شتى ضروب إسكات الرأي المغاير وإقصاء أصحابه.

فهل تتعمد القيادة افراغَ الخطوات النضالية من اي محتوى كفاحي، كي تستنتج لا جدوى النضال لتبرير توقيع اتفاقات كارثية؟

ثم إن زعم عقم النضال ليس صحيحا إطلاقا. فقد أفلحت نضالات شغيلة التعاقد المفروض في تلطيف ظروف الاستغلال وتحسين شروط النضال: تعديل الأنظمة الأساسية لأطر الأكاديميات، الإلحاق بصندوق المغربي للتقاعد، الحركة الانتقالية للأزواج… وفي سياق نضال سنة 2019 تمكنت فئات من تسوية وضعيتها بخصوص الترقيات (الزنزانة 9، وضحايا النظامين).

أما حجة الفقرة الثانية من كلام السياق، ومؤداها “إرادة الوزير في فتح مرحلة جديدة في التعامل مع المطالب… وأن النقابة انخرطت لإنجاح الحوار المفضي إلى انكباب على إصلاح المدرسة العمومية التي تشكو من اختلالات بنيوية… وأن ن. و. ت تفاعلت ايجابيا لانتزاع الممكن في شرط وطني سياسيا واجتماعيا انتهت هندسته بانتهاء المسلسل الانتخابي بكل حلقاته…”، هذه الحجة خاوية.

إرادة الوزير ليست هي الكلام المنمق والجمل المتحايلة وفق ما يقتضيه إتقان “فن التفاوض”، بل إرادة الدولة المعبر عنها جهارا بوثائق رسمية في مواصلة تدمير خدمة التعليم العمومية من جهة، ومن جهة أخرى التنكيل بشغيلة التعليم بنقل تقنيات تدبير “الموارد البشرية” المطبقة في القطاع الخاص إلى الوظيفة العمومية. فهل قيادتنا ساذجة لتثق في كلام الخصم؟

أما ادعاء أن “الحوار” سيفضي إلى إصلاح المدرسة العمومية، فلا ينم عن جهل (تجاهل مقصود) لما في الوثائق الرسمية من تفاصيل الهجوم الرأسمالي النيوليبرالي على التعليم العمومي وعلى شغيلته وحسب، بل حتى عن تعامٍ عما يجري في الواقع اليومي منذ إعلان ما يسمى “الميثاق الوطني للتربية والتكوين”.

أما السعي إلى انتزاع الممكن في ظل ميزان القوى القائم (ما سماه البيان “شرطا وطنيا سياسيا واجتماعيا انتهت هندسته بانتهاء المسلسل الانتخابي بكل حلقاته”)، فيندرج في منطق الاستسلام واستبطان الهزيمة المشار اليه أعلاه. فإن مال ميزان القوى لصالح العدو، لا نرفع الراية البيضاء ونوقع أي شيء، بل نعمل لتعديل ميزان القوى باستنهاض قوى طبقتنا وفق خطة نضال متدرجة ومنسقة ووحدوية تفضي إلى إضراب عام وطني، لا يقتصر على قطاع التعليم.

  1. في طبيعة الاتفاق:

عادت القيادة إلى وصف الاتفاق بالمرحلي. هذا النعت لا يبرر شيئا لأن كل اتفاق نقابي هو مرحلي بطبيعته. هذا النعت وعدٌ فارغ بأن ثمة مكاسب قادمة في مرحلة أخرى. إن قبول أي شيء، مهما هزُل، بمبرر أن ثمة قادم أفضل إنما يعطي نتائج عكسية: إنه يشيع السلبية والاتكالية بداية، ثم الإحباط في القاعدة النقابية ويدمر الثقة في الذات ويستتبع ردود فعل سلبية تبدأ بشتم النقابة وتنتهي بمغادرتها.

فما الذي تنتظر قيادتنا في مرحلة قادمة؟ يقول بيان التوضيح: “نراهن على معالجة العديد من مطالب الفئات التي لحقها الحيف عبر نظام أساسي عادل ومنصف وموحد…”، والحال أن النظام الأساسي القادم سيكون أشد الضربات عنفا. فالمراسيم المستجدة في السنوات الأخيرة ذات الصلة بوضعية أجير- ة التعليم نذير شؤم على محتوى النظام الأساسي الموعود. فلن يكون غير تطبيق دقيق لآليات سحق “الموارد البشرية” بإحكام الرقابة عليها (المردودية والاستحقاق…) واستعمال التقنيات الحديثة لفرط استغلالها. وإن نالت هذه الفئة أو تلك تحسينا ما فلتسهيل تمرير النظام الأساسي الخطير الذي سيعصف بمكاسب تاريخية. [انظر- ي هنا: https://www.almounadila.info/archives/9176].

  1. في الثوابت:

خَتَم بيانُ التوضيح بكون الالتزام بالثوابت مبررُ وجود النقابة. مؤكدا أن “المدرسة العمومية وحاجة المغرب إلى الإصلاح الشامل قضية مركزية مرتبطة بحقوق الشغيلة ومكاسبهم والدفاع عن الحريات وبمقدمتها الإضراب المكفول دستوريا، وبأفق النضال من اجل الديمقراطية”.

يبدو تأكيد الثوابت هذا ردا على تشكيك ما في النوايا. إن ما يؤخذ به هو الممارسة وليس النوايا. أيدت النقابة ما يسمى ميثاقا وطنيا للتربية والتكوين، أي الفلسفة العامة للهجوم النيوليبرالي على التعليم العمومي: وفيه توسيع لتجارة التعليم وتشديد استغلال “الموارد البشرية”. وكان مجمل ما عبرت عنه ن. و. ت- كدش نقدا من داخل منطق الميثاق. والحال أن التعليم لا يعاني اختلالات بنيوية قابلة للإصلاح كما يصفها البيان، بل الحاجة قائمة إلى تعليم مغاير جذريا: تعليم عمومي مجاني ممول بما يكفي لجعله جيدا، ومتحررا من منطق خدمة المقاولات المدمر لمحتواه المعرفي بتغليب مهارات مهنية مجزأة ، وهذا بحد ذاته سيؤدي الى انتفاء تجارة التعليم.

جوهر الأمر أن النقابة، المفترض أنها أداة طبقة الشغيلة لا تنتقد المنطق الرأسمالي التي تعمل به الدولة في التعليم وفي غيره من الخدمات العمومية، ما يفقدها أي بديل حقيقي على أي صعيد.

و الأمر شبيه فيما يخص ما يسميه البيان “افق النضال من أجل الديمقراطية”. فبدل منظور ديمقراطي كامل، ظلت ن. و. ت- كدش تسير تاريخيا في ركب قوى غير عمالية، قوى سياسية ناقصة النزعة الديمقراطية، أي تلك التي راهنت على “التوافق مع الملكية”، ولم تجن غير الهزائم وترسيخ الاستبداد. وهذه القوى المنتمية لصنف تاريخي من اليسار تتلاشى من جراء ذلك. وقد كان امتحان النضال من أجل الديمقراطية هو الموقف من حراك 20 فبراير ومن النضال الشعبي (ايفني، الريف، جرادة …)…وقد سقطت فيه سقوطا مدويا.

إن وفاء النقابة لعلة وجودها يكمن في صون هويتها الطبقية (الطبقة العاملة في مواجهة الطبقة البرجوازية ودولتها) باستقلال تام، ودفاع لا يلين عن المصالح الآنية والتاريخية لطبقة الأجراء. وكما تحتاج الحركة النقابية المغربية إلى إعادة بناء على هذه الأسس، ثمة حاجة إلى بناء يسار عمالي مناهض للرأسمالية مؤسَّس على منظور شامل للمغرب الآخر حيث سيتحقق العمل والحياة اللائقين بدك نظام الاستغلال والقهر الرأسمالي.

على هذا الطريق سيسير المناضلون- ت النقابيون- ت الكفاحيون- ت داخل ن.و.ت-كدش وفي مجمل الساحة النقابية.

م.ب

شارك المقالة

اقرأ أيضا