الامتيازات المادية، أحد أساسات البيروقراطية النقابية (مثال تعويضات النقابين بمؤسسات الدولة)

بقلم مصطفى البحري

صدر بالجريدة الرسمية، يوم 7 مارس 2022 ، مرسومٌ يحدد لائحة النقابات الأكثرِ تمثيلا للأجراء المؤهلةِ لاقتراح ممثليها في المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، وعددَ الأعضاء المخصصَ لكل منها. و الأمر كما يلي:

الاتحاد المغربي للشغل: 11 عضوا ( قطاع عام، و 6 قطاع خاص).

الاتحاد العام للشغالين بالمغرب: 8 أعضاء (3 قطاع عام، و 5 قطاع خاص).

الكونفدرالية الديمقراطية للشغل :5 أعضاء (2 قطاع عام، و 3 قطاع خاص).

 

المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي وتعويضاته المادية السخية

هذا المجلس مؤسسة نصبها الملك يوم 21 فبراير 2011، بعد أن ظلت حبرا على ورقِ الدستور الممنوح طيلة زهاء 20 سنة. وجليٌّ أن في الأمر “تنازلا” ضمن تدابير الاحتماء من الموجة الثورية التي هزت المنطقة وأسقطت رؤوسا مُتَوَّجَةً عديدةً.

مهامُ المجلس استشارية، تتعلق حسب تعريفه الرسمي، بـــــــ” الاختيارات التنموية الكبرى، والسياساتِ العمومية في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والتنمية المستدامة والجهوية المتقدمة”. ويتألف المجلسُ من الرئيس، و105 أعضاء، موزعين على خمس فئات: ممثلي النقابات، والمهنيين، والمجتمع المدني، والخبراء، والشخصيات التي تمثل الهيئات المعينة بالصفة.

تدوم العضوية 5 سنوات قابلةٌ للتجديد مرة واحدةً، باستثناء أعضاء فئة الشخصيات التي تمثل الهيئات والمؤسسات المعينة.

وإذ يَزعمُ مهندسو هذه المؤسسة أن من غاياتها “إشراكُ القوى الحية في وضع السياسات العمومية”، فالأمر لا يعدو أن يكون مجرد تضليل، هو عنصر في منظومة سياسية كاملة لتمويه الاستبداد. فسياسة البلد لا تضعها المؤسسات، حتى “المنتخبة” منها، بل الحاكمون الفعليون، الخادمون مصلحةَ البرجوازية، بتعاون مع حليفهم الرأسمال العالمي المتدخل بمؤسساته الإقليمية (الاتحاد الاوربي) و العالمية(البنك العالمي، صندوق النقد الدولي…).

بعد توضيح حقيقة هذا المجلس، نأتي إلى ما يهمنا في مرسوم 7 مارس 2022 بالجريدة الرسمية المنوه به أعلاه.

فالمسؤولون النقابيون الأربعة والعشرون، الذي سيدخلون المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، من باب تمثيل الطبقة العاملة، سيحظون بامتياز تعويضات مادية سخية، سيكون لها ولا شك أثر على مكانتهم في الحركة العمالية النقابية ودورهم فيها.

التعويضات المادية: مساعدة على القيام بأدوار نافعة لطبقة الأجراء، أم إفساد واستقطاب؟

يتقاضى أعضاء المجلس الاقتصادي والاجتماعي تعويضا عن المهام تحدد مقاديره على النحو التالي :
أ) التعويض الجزافي الخام برسم المساهمة في أشغال الجمعية العامة للمجلس ، يحدد مقداره في 12.900 درهم يؤدى مرة في كل شهر ؛
ب) التعويض الجزافي الخام الخاص بأعضاء المكتب بمن فيهم رؤساء اللجان الدائمة ، يحدد مقداره في 3.600 درهم عن كل يوم عمل ؛
ج) التعويض الجزافي الخام الممنوح لفائدة مقرري اللجان الدائمة ونواب رؤسائها ومقرريها ومنسقي اللجان المؤقتة ومجموعات العمل الخاصة والمحدد مقداره في 2.900 درهم عن كل يوم عمل ؛
د) التعويض الجزافي الخام برسم المساهمة في أشغال اللجان الدائمة والمؤقتة ومجموعات العمل الخاصة ويحدد مقداره في 2.200 درهم عن كل يوم عمل ؛
تتم الاستفادة من التعويضات المشار إليها في البنود (ب) و(ج) و(د) في حدود مرتين كل أسبوع كحد أقصى ، مهما كان عدد اجتماعات المكتب أو اللجان الدائمة أو المؤقتة أو مجموعات العمل الخاصة.
ولا يمكن لأعضاء المكتب واللجان الدائمة والمؤقتة ومجموعات العمل الخاصة الجمع بين التعويضات المشار إليها في البنود (ب) و(ج) و(د) خلال يوم واحد.
و) التعويض الجزافي الخام الخاص بتحرير التقارير التي يعدها عضو من أعضاء المجلس لا يحمل صفة عضو بالمكتب من أجل تقديمها إلى الجمعية العامة للمجلس ، في حدود مقدار أقصاه 32.300 درهم عن كل تقرير ، شريطة المصادقة عليه من طرف الجمعية العامة.
ولا يصرف هذا التعويض لنفس العضو إلا مرة واحدة كل ثلاثة أشهر

يستفيد أعضاء المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي أثناء سفرهم في مأمورية من تعويض يومي قدره 2.500 درهم (ألفين وخمسمائة درهم) بالنسبة للمأموريات إلى الخارج و1.000 درهم (ألف درهم) بالنسبة للمأموريات داخل المغرب.

تتحمل ميزانية المجلس مصاريف الإقامة بالنسبة للأعضاء الذين تبعد إقامتهم الرئيسية عن الرباط بأكثر من 100 كيلومتر بمناسبة حضورهم للمشاركة في أشغال المجلس ، بمن فيهم الأعضاء المقيمين خارج المغرب.
ويستفيدون كذلك من تحمل ميزانية المجلس لمصاريف التنقل أو من التعويضات الكيلومترية حسب النصوص الجاري بها العمل.

يمكن للقارئ/ة، إن شاء، أن يصرفَ بعض الوقت في حساب مجمل الدخل الإضافي الذي سيستفيد منه نقابيون بصفة العضوية في المجلس، فلهم أصلا دخل يعيشون منه، ما يجعل النعمة الجديدة ترقيا اجتماعيا لا ريب فيه.

ولا ريب أيضاً أن فرصة الاغتناء هذه إحدى تفسيرات ما يبذل من جهود، وينفق من أموال، في حملة انتخابات مندوبي الأجراء و اللجن الثنائية.

الإغراء المالي وهجر مصالح الطبقة العاملة

إن لهذا النوع من النقابيين مصلحة تميزه عن مجمل طبقة الأجراء، انه الوضع المادي البعيد جدا عن وضع  عاملة المصنع التي تعيش وأسرتها بالحد الأدنى للأجور ، وعن وضع المعلم أو الممرض الذين يقاتلان هما أيضا ليرسو مركب ميزانية الأسرة في بر أمان متم الشهر بأجور تقضمها فوائد القروض.

الامتيازات المالية التي يحصل عليها نقابيون تخلق النزوع إلى الحفاظ عليها وتطويرها، ما يجعل المستفيدين منها، ومن امتيازات أخرى مادية ومعنوية، شريحة خاصة داخل الطبقة العاملة تكون محافظة، ميالة إلى تفادي المواجهات الطبقية وتجذر النضالات، لا بل يبلغ الأمر بها مستوى التعاون مع أرباب العمل والدولة لإنجاح الخطط المعادية للطبقة العاملة.

إنها ظاهرة شهدتها الحركة العمالية، عبر العالم، وعبر تاريخها. وقد فصَّل المناضل عمر بنجلون سيرورة تشكلها في حالة الحركة النقابية المغربية [راجع أمراء النزعة الانحرافية العمالية]. وطيلة عقود تجلت الآثار السلبية لتوطد هذه الشريحة في الحركة النقابية على المسار النضالي للشغيلة المغاربة (إعدام الديمقراطية الداخلية، خيانة مصالح للأجراء/ات الآنية، وما بالك بمصالحهم التاريخية). وتنامت مراكمة الامتيازات المادية بقدر الإيغال في سياسة تعاون القيادات النقابية مع أرباب العمل والدولة (ما يسمى شراكة اجتماعية)، وامتدت العدوى إلى الكونفدرالية الديمقراطية للشغل بعدما كان مرتعها في الاتحاد المغربي للشغل.

وقد تفجرت فضائحُ عديدة أبرزتْ للعموم حجم المصالح المادية التي راكمتها البيروقراطية النقابية، بكل تنويعات انتماءاتها. وكثُـر القال والقيل عن أملاك بعض النقابيين، وعن أنشطتهم الربحية عبر شركات، لهم ولأقاربهم. وتروج الصحافة المعادية للعمال/ات الكثير عن فساد مسؤولين نقابيين. تعلق الأمر مرارا باستغلال مواقع تسيير مؤسسات عمالية كالتعاضديات، ومؤسسات الأعمال الاجتماعية، وحتى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي (حالة محمد عبد الرزاق نائب بن الصديق على رأس الاتحاد المغربي للشغل). ودخلت تاريخ الخمج البيروقراطي أسماء من قبيل عبد الرزاق أفيلال، محمد عبد الرزاق،  محماد الفراع، عبد المومني عبد المولى، واللائحة مفتوحة كما دلت الاتهامات المتبادلة بين البرلماني النقابي السابق رشيد المنياري وخصمه في قيادة إ.م.ش في العام 2019.

طبعا ليس ما تروجه الصحافة البرجوازية عن اغتناء قادة نقابيين حرصا منها على الصحة النضالية لمنظمات الطبقة العاملة، بل إحدى أسلحة الحرب ضد التنظيم العمالي. فالغاية نسف ثقة الشغيلة في العمل الجماعي الرامي إلى تحسين الأوضاع وتغييرها.

وأكثر من ذلك، يتعمد أرباب العمل والدولة إتاحة فرص اغتناء للقادة النقابيين لجرهم إلى سياسة تناقض مصالح الطبقة العاملة. فقد تغاضت الدولة عن تصرفات مسؤولين نقابيين غير النزيهة في ميزانية الصناديق العمالية ( تعاضديات، وضمان اجتماعي، وصناديق الشؤون الاجتماعية،…) سنوات طوال، كي تستعمل ما ارتكبوا من اختلاسات وتلاعبات شتى وسيلة ضغط عليهم كي ينهجوا السياسات التي تريدها الدولة.  ويعلم البيروقراطيون الفاسدون، على كل المستويات، علم اليقين أن أي موقف منهم متمسك بمصلحة الشغيلة، سياسيا كان او نقابيا، سيفتح عليهم باب جهنم المتابعات القضائية.

 الموقف النضالي من الظاهرة

لا حديث في الأوساط النقابية عن موضوع اغتناء القادة النقابيين سوى عند صراع بين بيروقراطيين يتفاضحون. لكنه حديث  مكتوم، خارج التنظيم. فانعدام الديمقراطية يهدد كل متجرئ/ة على إثارة الموضوع للطرد، بمبرر “استهداف النقابة”.

كما أن صمت قسم من المسؤولين في الهياكل التنظيمية، المحلية والوطنية، يجد تفسيرا فيما يربطهم، من منافع، بالبيروقراطيين. حيث يبني هؤلاء شبكة من الأتباع لتوطيد مكانتهم بالجهاز لتأمين استمرار الظفر بالامتيازات.

يؤدي عدم معالجة الأمر داخل النقابات إلى ترك القاعدة العمالية ضحية الاستعمال المغرض الذي تقوم به الصحافة البرجوازية لأخبار الاغتناء “النقابي”. يقتنع العامل/ة بالقاعدة العمالية أن قادة النقابة فاسدون، يستغلون النقابة  لأغراض ترقٍّ اجتماعيٍّ. ويتعزز هذا الاقتناع بالنهاية الكارثية للكثير من النضالات. وهذا طبعا يفضي إلى هجر العمال/ات للنقابة نهائيا، أو البقاء فيها لمجرد قضاء أغراض شخصية وصون مكاسب طفيفة حتى بمنطق “لا يهمني أن يغتني البيروقراطي، المهم أن يقضي لي غرضي متى احتاج”. وهذا ما يفرغ النقابة من كل مضمون نضالي.

وجود ظاهرة اغتناء القادة النقابيين، بأموال تعطيها الدولة و/أو بأخرى تتغاضى عن السطو عليها في مؤسسات عمالية، وسلبية التعامل مع الظاهرة، عنصران يضعفان الحركة النقابية. ويتطلبان بفعل ذلك  رؤية بديلة.

ما العمل؟

ليست مسألة الامتيازات المادية ،وما تجر من ابتعاد القادة عن  هموم القاعدة العمالية، وحتى انتقالهم الواعي إلى الصف الآخر، غير أحد جوانب الحالة المؤسية للحركة النقابية بالمغرب. وإذ يُلاحظ أن مشاعر القلق من وضع الحركة النقابية، المتنامية منذ سنوات ، لا توازيها جهود للفهم والنقاش والبحث عن حلول، فمن أول واجبات مناضلي الطبقة العاملة الأوفياء عدم التغاضي عن هذا المشكل.

فالنزوع القطاعي، والفئوي، والانطواء داخل المركزية التي ينتمي إليها المناضل النقابي، كلها تحدو به إلى عدم الاكتراث بالمشاكل الكبرى للحركة النقابية، مقتصرا على مطالبه الآنية المباشرة .  وهذا، والحق يقال، موقف ليس نقابيا بعدُ بمعنى الكلمة الكامل. فالانتماء الى مركزية نقابية ليس مجرد مظلة  قانونية، بل إطار غايته توحيد الجهود  لبناء تنظيم على صعيد وطني، قادر على النهوض بمهمة الذود عن مصالح الطبقة ككل، وليس المنظمين فقط، فهذا هو معنى التضامن الطبقي. ومن جملة جوانب بناء التنظيم وطنيا الحرص على التحكم في الميول الى التبقرط الملازمة  لأي تنظيم عمالي، نقابيا كان أو سياسيا [أنظر بهذا الصدد كراسة ارنست ماندل عن البيروقراطية ]، ومن جملة عوامل هذا التبقرط الامتيازات المادية.

يتطلب الوضع الحالي جهودا لضبط التسيير المالي للنقابة، والرؤية النضالية البديلة تشمل كل جوانب المعضلة البيروقراطية، لا بل كل أوجه بناء الخط الكفاحي الطبقي الديمقراطي. سنكتفي هنا بأفكار تتعلق بالامتيازات المادية المترتبة عن وجود مسؤولين نقابيين في مؤسسات رسمية  مُجزيَّة.

يتطلب وقف الضرر الناتج عن  ترقي القادة النقابيين اجتماعيا بأموال مؤسسات الدولة أن تخصص تلك الأموال للنقابة و ليس لممثليها.  ففي الحالة الملموسة التي نحن بصددها، يجب ان تذهب تعويضات المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، وما شابه من هيئات رسمية، الى مالية النقابة مباشرة. وتقوم النقابة بعدها بتغطية مصاريف تنقل وإقامة النقابيين القائمين بمهام في تلك المؤسسات [طبيعة دورهم النقابي في تلك المؤسسات موضوع آخر، لا يتسع له المجال هنا].

هذا هو منطق النضال في هذه الحالة، لا يعني حلا تاما لمعضلة الامتيازات المادية، المؤسسة ضمن  عوامل أخرى للبيروقراطية النقابية، لكنه يلغى واحدا من تلك الامتيازات.

واجبنا تثقيف المناضلين/ ات بهذا المنطق، وادراج معضلة البيروقراطية ضمن المنظور العام الكفاحي الذي يستدعيه بناء النقابة العمالية الوفية لعلة وجودها.

 

 

شارك المقالة

اقرأ أيضا