الماركسية والحزب والاستراتيجية الاشتراكية

بقلم: جلبير الأشقر

ترجمة: يزن الحاج

المصدر: مجلة بدايات

ننشر فيما يلي ترجمةً للنصف الأوّل من دراسةٍ كتبها جلبير الأشقر بما هي فصلٌ من فصول كتاب أكسفورد عن كارل ماركس (The Oxford Handbook of Karl Marx) الذي سيصدر قريباً عن منشورات جامعة أكسفورد. وسننشر النّصف الثّاني من الدّراسة في عدد بدايات الآتي.

 

ننشر هنا نصّ محاضرة بعنوان «الماركسية والاستراتيجية الاشتراكية والحزب» قدّمها جلبير الأشقر في إطار مبادرة جنوب إفريقيا «حوارات في سبيل مستقبل مناهض للرأسمالية». فرّغ التسجيل موقع «ذي تمبست» الماركسي الأميركي وقد حرّر جلبير الأشقر النص. يستعرض النص مفاهيم الحزب، من ماركس إلى زمننا الحاضر، وآثارها على الاستراتيجية الثورية اليوم. وقد تمت مراجعة هذه الترجمة وتحريرها وإتمامها من قبل الكاتب.

أشكركم على دعوتي للحديث في هذا الاجتماع الذي يشكّل فرصة ممتازة لي كي أناقش هذه القضايا مع رفاق من أفريقيا، القارة التي ولدتُ فيها وترعرعت، إذ إنني من مواليد السنغال.

إن الموضوع الذي حدّده المنظمون واسع جدًّا: «الماركسية والاستراتيجية الاشتراكية والحزب». وردت كل هذه الموضوعات بصيغة المفرد، برغم تغطيتها لعدد كبير من الحالات ولطيف متنوّع من المواقف. ثمة العديد من أصناف «الماركسية»، كما يعلم الجميع، يعتقد كل صنف منها أنه التعبير الحقيقي والأصيل الأوحد عن الماركسية. كما يوجد بالتأكيد العديد من الاستراتيجيات الاشتراكية الممكنة، إذ تجري صياغة الاستراتيجيات عادةً وفق الشروط الملموسة لكل بلد. فلا يمكن أن توجد استراتيجية اشتراكية عالمية تبقى هي ذاتها في كل مكان. كذلك، أودّ أن أبيّن أنه لا يوجد مفهوم واحد للحزب يصلح لكل زمان وبلد، ذلك أن القضايا الاستراتيجية والتنظيمية لا بدّ من أن ترتبط بالظروف المحلية، وإلّا سينتهي بنا المطاف إلى ما أحسن ليون تروتسكي تسميته «الأممية المجرّدة بشكل بيروقراطي»، وتلك دائمًا صيغة عقيمة. فلنبقِ هذا في بالنا.

سأناقش بعض المفاهيم التي تم تطويرها في سياق تاريخ الماركسية، إذ إن نقاشنا يجري في إطار ماركسي، وسأحاول أن أصل إلى بعض الاستنتاجات مستخلصًا بعض الدروس من تجربة الماركسية التي باتت طويلة.

«البيان الشيوعي» والأممية الأولى

يمكن أن نؤرخ ولادة الماركسية كتوجّه سياسي يجمع النظري والعملي بالعودة إلى بيان الحزب الشيوعي الذي صدر عام ١٨٤٨. فهو تاريخ طويل يحتّم علينا التأمّل في التغيير العظيم الذي شهدته الظروف بين واقعنا في القرن الحادي والعشرين وبين زمن نشوء الماركسية. والحال أن ماركس وإنغلز أظهرا منذ البداية الكثير من المرونة، بدءًا بتلك الوثيقة التأسيسية للماركسية كحركة سياسية. إن القسم الخاص بعلاقة الشيوعيين بأحزاب الطبقة العاملة الأخرى في البيان الشيوعي معروفٌ ومهم جدًّا، فهو مثير للاهتمام لأنه يرسم إطار التفكير السياسي المرتبط بالنظرية الماركسية الناشئة، التي كانت لا تزال في مرحلتها الأولية. إن البيان تعبير أوّلي عن المنظور الماركسي، وهو لذلك ليس معصومًا بالتأكيد، إلا أنه يشكّل وثيقة تاريخية مهمة للغاية في رسم منظور سياسي عالمي جديد. وهو وثيق الصلة بالعمل إذ صِيغ بصفة «بيان» سياسي.

نقرأ فيه هذه السطور الشهيرة: «ما هي علاقة الشيوعيين بالبروليتاريين عمومًا؟ إنّ الشيوعيين ليسوا حزبًا منفصلاً في مواجهة الأحزاب العمالية الأخرى». هذا بالطبع لا يعني أن الشيوعيين لا يشكلون حزبًا خاصًّا بهم، والحال أن عنوان الوثيقة هو بيان الحزب الشيوعي. وفي الواقع، فإن ترجمةً أدق عن النصّ الأصلي باللغة الألمانية تأتي كالآتي: «ليس الشيوعيون حزبًا خاصًّا مقارنةً بالأحزاب العمالية الأخرى». المؤكد هنا أن الحزب الشيوعي لا يختلف عن أحزاب الطبقة العاملة الأخرى. أما المقصود بعبارة «الأحزاب العمالية الأخرى»، فهو موضّح بعد بضعة أسطر، لكنّ فكرة كون الشيوعيين ليسوا «في مواجهة» هذه الأحزاب مشروحة في هذا الاقتباس المباشر. «ليست لهم [أي للشيوعيين] مصالح منفصلة عن مصالح عموم البروليتاريا». وبعبارة أخرى، لا يشكّل الشيوعيون جماعة عصبوية مميزة بأجندتها الخاصة، بل يناضلون من أجل مصالح الطبقة البروليتارية بأكملها، فهم جزء لا يتجزأ من البروليتاريا ويناضلون من أجل مصالحها الطبقية، لا من أجل مصالح خاصة بهم. هذه مسألة مهمة للغاية، لأننا نعلم من التاريخ أن العديد من أحزاب الطبقة العاملة غدت منفصلة عن الطبقة بأكملها، بوصفها كتلاً ذات مصالح متميّزة، والتاريخ يغصّ بأمثلة عن ذلك.

إذًا، ليس للشيوعيين مصالح منفصلة عن مصالح البروليتاريا بأسرها. ليس لهم مبادئ عصبوية خاصة بهم، تكون منفصلة عن تطلعات الطبقة. فما الذي يميّز الشيوعيين إذًا؟ «إن الشيوعيين لا يتميّزون عن الأحزاب البروليتارية الأخرى إلا في أنهم»:

المنظور الأممي أي الإدراك أن الشيوعيين «يُبرزون المصالح المشتركة ويُغلّبونها في النضالات القومية للبروليتاريين في مختلف البلدان»، ففكرة كون البروليتاريا طبقة عالمية ذات مصالح مستقلة عن الجنسية هي سمة مميّزة للشيوعيين في البيان.
السعي إلى تحقيق الهدف النهائي لنضال الطبقة العاملة الذي هو تغيير المجتمع وإلغاء الرأسمالية والانقسام الطبقي. يمثّل الشيوعيون هذا المنظور طويل الأمد في مختلف مراحل النضال ضد البرجوازية، إذ إنهم يضعون الهدف النهائي نصب أعينهم على الدوام، ولا يحيدون أبدًا بالتورّط في نضالات فئوية أو مطالب جزئية.

هاتان هما السمتان المميّزتان للشيوعيين بوصفهم قسمًا من الطبقة العاملة، يشكّلون جماعة أو حزبًا ضمن الطبقة العاملة، تكافح من أجل مصالح الطبقة بأسرها. وتترتّب على ذلك نتائج عملية ونظرية. فعلى المستوى العملي، يشكّل الشيوعيون «القسم الأكثر تقدمًا وحزمًا من أحزاب الطبقة العاملة في كل بلد». هم الأشدّ حزمًا على مستوى الممارسة السياسية في دفعهم الدائم بالحركة إلى الأمام، نحو المزيد من الجذرية. أما على المستوى النظري، فيتمتّع الشيوعيون، بفضل منظورهم التحليلي، بفهم واسع وشامل للنضالات المختلفة. هذا، على الأقل، هو الدور الذي يرغبون في لعبه.

«والهدف الأول للشيوعيين هو الهدف نفسه لكل الأحزاب البروليتارية الأخرى». إن هذا التوكيد المتجدّد على القواسم المشتركة مهمّ، وهو الفكرة التي مفادها أننا كشيوعيين — هذا ما كتبه ماركس وإنغلز هنا — لسنا سوى أحد الأحزاب البروليتارية، ولسنا الحزب البروليتاري الوحيد. فإن الادّعاء العصبوي باحتكار صفة حزب الطبقة العاملة، وبأن ما من حزب آخر يمثّل الطبقة، ليس قطعًا المفهوم الذي يتبنّياه هنا.

وما هو الهدف المباشر للشيوعيين الذي يتشاركون به مع الأحزاب البروليتارية الأخرى؟ هذا مؤشر جيّد على ما عناه ماركس وإنغلز بالأحزاب البروليتارية الأخرى. الهدف هو «تشكّل البروليتاريا في طبقة، وإسقاط هيمنة البرجوازية، واستيلاء البروليتاريا على السلطة السياسية». تحدّد هذه الأهداف ما قصده المؤلفان بالأحزاب البروليتارية، وتُوضّح الجملة السابقة التي تقول إن «الشيوعيين ليسوا حزبًا منفصلًا في مواجهة الأحزاب العمالية الأخرى» (أو حزبًا خاصًّا مقارنة بالآخرين). بإشارتهما لأحزاب الطبقة العاملة، قصد ماركس وإنغلز جميع الأحزاب التي تناضل لأجل هذه الأهداف: التشكّل السياسي للطبقة، والإطاحة بالحكم البرجوازي، واستيلاء البروليتاريا على السلطة السياسية.

فضلاً عن ذلك، فإن سيرة ماركس وإنغلز السياسية وكتاباتهما تُظهر بوضوح أنه لم تكن لديهما نظرية عامة عن الحزب، ولم يهتمّا بوضع مثل هذه النظرية العامة. أعتقد أن سبب ذلك يكمن في النقطة التي بدأت بها: إن الحزب أداة للنضال الطبقي، وللنضال الثوري، ولا بدّ لهذه الأداة من أن تتكيّف مع الظروف المختلفة. لا يمكن أن يوجد تصوّر عام للحزب صالح في كل زمان ومكان. إن الحزب الطبقي ليس شيعة دينية مقولبة على نفس النموذج في جميع أنحاء العالم، بل هو أداة للعمل لا بدّ من أن تتلاءم مع الظروف الملموسة لكل زمان ومكان.

والحال أن التكيّف مع الظروف الفعلية استمرّ على الدوام طوال مسار ماركس وإنغلز السياسي، بدءًا من انضمامهما السياسي المبكّر إلى جماعة سرعان ما وجدا أنها عصبوية للغاية — كانت أقرب إلى المنظور البلانكي — وصولاً إلى المنظور الأكثر تعقيدًا الذي عبّرا عنه عام ١٨٥٠ في ضوء الموجة الثورية التي شهدتها أوروبا عام ١٨٤٨. ففي نصّ شهير ركّز على ألمانيا، هو «بيان المجلس المركزي إلى عصبة الشيوعيين»، وصف الصديقان الشيوعيين بأنهم يطبّقون بحذافيره النهج الذي حدّداه في البيان الشيوعي، جاهدين لدفع العملية الثورية قُدمًا والدعوة إلى تنظيم البروليتاريا بشكل منفصل عن الطبقات الأخرى.

ولتحقيق هذه الغاية، دعوا إلى تأسيس نوادٍ عمّالية، وقد وضعا نصب أعينهما تجربة الثورة الفرنسية، حيث كانت النوادي السياسية، مثل نادي اليعاقبة، من أبرز الجهات الفاعلة. وقد دعا ماركس وإنغلز إلى توجّه مماثل في ألمانيا عام ١٨٥٠، ولكن هذه المرة كأندية بروليتارية (تشكّل ما نسمّيه اليوم حزبًا جماهيريًّا) ينبغي لتكتيكها أن يتمثل في المزايدة المستمرة على الديموقراطيين البرجوازيين أو البرجوازيين الصغار. على الحزب البروليتاري أن يضطلع بذلك الدور من أجل الدفع بالعملية الثورية إلى الأمام وتحويلها إلى سيرورة مستمرة أو «ثورة دائمة»، وهو المصطلح الذي استخدماه في تلك الوثيقة الشهيرة.

قضى ماركس وإنغلز بعد ذلك عدة سنوات من دون أن ينخرطا في منظمة سياسية بشكل رسمي، إلى حين تأسيس الأممية الأولى عام ١٨٦٤. فقد تمثّل الدور الذي رأياه لنفسيهما بذلك الوقت في العمل مباشرةً على المستوى الدولي، بدلاً من الانخراط في منظمة وطنية. وقد جمعت الأممية الأولى طيفًا واسعًا من التيارات، وكانت أبعد ما يمكن عن أحادية الرأي، متضمنة من قد نسمّيهم اليوم إصلاحيين يساريين، جنبًا إلى جنب مع أناركيين، وبالطبع الماركسيين. وانقسم الأناركيون بدورهم إلى تيّارين رئيسيين: أتباع برودون الفرنسي وأتباع باكونين الروسي. هكذا انضمّ طيف متنوع من التيّارات والمنظمات العمّالية إلى الأممية الأولى، التي كان اسمها الرسمي «جمعية الشغّيلة العالمية» بلغة ذلك الزمن.

بلغت الأممية الأولى ذروتها مع «كومونة باريس». احتفلنا في العام ٢٠٢١ بالذكرى السنوية المئة والخمسين لكومونة باريس، وهي انتفاضة جماهير الشغيلة في باريس، عمالاً وبرجوازيين صغار، التي بدأت في ١٨ آذار/مارس ١٨٧١ وانتهت بقمع دموي بعد حوالي شهرين ونصف الشهر. أدّت هذه النتيجة المأساوية إلى إنهاء الأممية بعد زيادة حادة في نزاعات التكتلات داخلها، كما يحدث غالبًا في أوقات الانتكاس والتقهقر.

    الأممية الثانية، الاشتراكية الديموقراطية،
    لينين، لوكسمبورغ

تمثلت المرحلة التالية بظهور الاشتراكية الديموقراطية الألمانية، التي تابعها ماركس وإنغلز عن كثب من إنكلترا. إن أحد نصوص ماركس الشهيرة هو «نقد برنامج غوتا»، الذي يعلّق فيه على مشروع برنامج حزب العمال الاشتراكي الألماني قبل مؤتمره التأسيسي في عام ١٨٧٥.

لاحقًا، وبعد وفاة ماركس عام ١٨٨٣، تأسّست الأممية الثانية في ١٨٨٩، وهو عام الذكرى المئوية الأولى للثورة الفرنسية. كان إنغلز لا يزال نشطًا، وقد توفّي بعد ستة أعوام. وبهذا يكون ماركس وإنغلز قد ساهما في أصناف متنوّعة جدًّا من التنظيم خلال حياتهما. والفرق عظيم بين الأمميّتين الأولى والثانية، حيث ضمّت الثانية أحزابًا عمّالية جماهيرية مختلفة تمامًا عن الجماعات المنتسبة إلى الأممية الأولى، التي اشتملت على نطاق أضيق من الآراء السياسية. فعلى الرغم من كونها مفتوحة جدًّا على النقاش، لم ترحّب الأممية بالأناركيين في صفوفها. كانت الأممية الثانية قائمة على أحزاب عمّالية جماهيرية منخرطة في شتّى أشكال النضال الطبقي، من النقابات العمّالية إلى الانتخابات، وهي نضالات تضاعفت إمكانية خوضها بشكل قانوني في معظم البلدان الأوروبية بحلول نهاية القرن التاسع عشر.

ظهرت هذه الأحزاب العمّالية المنخرطة في النضال الجماهيري على خلفية نقد البلانكية، وهي الفكرة القائلة إن جماعة صغيرة من الثوّار المستنيرين قادرة على الاستيلاء على السلطة بالقوة، بواسطة انقلاب، وعلى إعادة تثقيف الجماهير بعد مسكها بزمام الحكم. هذا المنظور، الذي انبثق عن أحد التيارات الجذرية التي نتجت من الثورة الفرنسية، تعرّض إلى انتقادات شديدة من قبل ماركس وإنغلز باعتباره موهومًا ومتعارضًا مع مفهومهما الديموقراطي جدًّا للتغيير الثوري.

    نظرية الحزب اللينينية

تمظهرت الماركسية منذ زمن ماركس وإنغلز بصور عديدة، كما نعلم، إلّا أن الصنف الذي طغى في القرن العشرين هو الروسي بلا شك، وتحديدًا الصنف الذي طوّره الجناح البلشفي لحزب العمال الاشتراكي الديموقراطي الروسي، وهو أحد فروع الأممية الثانية. وبعد انشقاق الحزب عام ١٩١٢، ظلّ الجناحان، البلشفي والمنشفي، تابعين للأممية التي سرعان ما دخلت في أزمة مع اندلاع الحرب العالمية الأولى عام ١٩١٤.

بطبيعة الحال، كانت الظروف الروسية استثنائية للغاية مقارنة بظروف فرنسا أو ألمانيا أو معظم البلدان الأخرى حيث وُجدت فروع كبيرة من الأممية. كانت روسيا تحت حكم القياصرة، دولة موغلة في القمع لم تفسح مجالاً لحريات سياسية إلّا لفترات وجيزة. وكان على الثوار الروس العمل في الخفاء معظم الوقت، بعيدًا عن أعين الشرطة السياسية.

علينا إذًا أن ننظر إلى نشأة نظرية الحزب اللينينية في ضوء هذه الظروف الخصوصية للغاية. وُلدت نظرية التنظيم اللينينية في بداية القرن الماضي، وكانت أولى وثائقها الرئيسية كتاب لينين ما العمل؟ (١٩٠٢). قدّم هذا الكتاب تصوّرًا عن التنظيم والنضال هو إلى حد بعيد نتاج الظروف التي ذكرتُها: الحزب السرّي للثوريين المحترفين الذين ينشطون بطريقة «تآمرية»، وهي الطريقة الوحيدة التي أتيحت لنشاط الثوار في ظروف ذلك الزمن في روسيا.

ومع ذلك، عندما ننظر إلى تطوّر فكر لينين في هذا الشأن، نرى أنه عدّل منظوره بعد ثورة ١٩٠٥ نحو تقدير أفضل لطاقة التجذّر العفوي لدى جماهير الطبقة العاملة. فبعدما كان قد أصرّ في البداية على أن نزعة العمّال العفوية محكومة بالبقاء ضمن حدود المنظور النقابي العمّالي، أدرك بعد عام ١٩٠٥ أن جماهير الطبقة العاملة قادرة في بعض الأوقات على أن تصبح أكثر ثورية من أي منظمة أخرى، بما فيها حزبه هو!

إلا أن ذلك لم يحلّ الخلاف الذي نشب قبل عام ١٩٠٥ بين المناشفة والبلاشفة حول مفهوم الحزب: ما مدى سعة عضوية الحزب؟ ماذا ينبغي أن تكون شروط العضوية؟ هل يجب أن يشارك جميع أعضاء الحزب بشكل كامل في النشاط السياسي اليومي، أم تشمل العضوية مناصرين يدفعون المستحقّات، بصرف النظر عن مستوى مشاركتهم النشطة؟ تأجج هذا النقاش عام ١٩٠٣، لكن عندما انقسم الحزب بعد ذلك بسنوات في عام ١٩١٢، كان الخلاف الأخطر خلافًا سياسيًّا — الموقف من البرجوازية الليبرالية — وليس تنظيميًّا. هذا ما يفسّر موقف شخص مثل تروتسكي الذي كان شديد النقد لمفهوم الحزب كما ورد في كتاب لينين ما العمل؟ فيما كان أقرب سياسيًّا إلى البلاشفة، ومن هنا أتى موقفه التوفيقي تجاه كلا الجناحين بعد عام ١٩١٢، حيث وافق واختلف مع كل منهما في قضايا مختلفة.

    نقد روزا لوكسمبورغ

خلال تلك الفترة نفسها، كانت روزا لوكسمبورغ في الواقع أكثر انتقادًا من لينين للحزب الاشتراكي الديموقراطي الألماني. ففي حين اعتبره لينين نموذجًا وملهمًا أساسيًّا، كانت لوكسمبورغ أبرز ناقدة يسارية لقيادة الحزب. وكانت هي أيضًا ناقدة لمفهوم لينين للحزب، لأنها كانت تؤمن بشكل جوهري بالطاقة الثورية لدى جماهير الطبقة العاملة وبقدرتها على تخطّي قيادة الحزب الاشتراكي الديموقراطي في الأوقات الثورية.

تكفي هذه اللمحة الموجزة والجزئية كي تُظهر وجود مجموعة متنوعة ومعقّدة من التصوّرات لحزب العمّال ودوره. ويزيد هذا الأمر من أهمية النظر في الظروف المختلفة للبلدان المختلفة التي عمل فيها أصحاب هذه الآراء. وقد تحوّل الحزب البلشفي إلى حزب جماهيري كبير في عام ١٩١٧. ففي سياق تجذّر السيرورة الثورية في ذلك العام، جذب الحزب قطاعًا كبيرًا من الطبقة العاملة في روسيا وسائر مكوّنات القاعدة الاجتماعية للثورة الروسية، من جنود وفلاحين وغيرهم. ولكي يمتصّ الحزب التجذّر الجماهيري الذي كان جاريًا، فتح صفوفه على نطاق واسع. فنشهد هنا مرونة الشكل التنظيمي الضرورية للتكيّف مع الظروف المتغيرة.

    المركزية الديموقراطية

إن صيغة «المركزية الديموقراطية» التي تُنسب عادةً إلى اللينينية، لم تأتِ في الواقع من لينين، بل تلخّص الأداء التنظيمي للاشتراكية الديموقراطية الألمانية، مشيرةً إلى الجمع بين الديموقراطية في النقاش والمركزية في العمل. ولم يُقصد منها منع الحوار، بل على العكس، كان التشديد على النصف الديموقراطي من التعبير. فحتى في ظل الظروف القاسية لروسيا القيصرية، انتشر الحوار والجدال المفتوح على الدوام وبكثافة، وأُنشئت تكتلات تنظيمية داخل كل من جناحي حزب العمال الاشتراكي الديموقراطي في روسيا. وقد انتقلت المناقشات إلى العلن داخل روسيا عندما تغيرت الظروف عام ١٩١٧.

لاحقًا فقط، في عام ١٩٢١ وفي ظل الظروف الصعبة الناجمة عن الحرب الأهلية، حُظرت التكتلات في الحزب الشيوعي (وهو وريث الجناح البلشفي لحزب العمّال الاشتراكي الديموقراطي)، وقد ثبت أن ذلك القرار كان خطأ فادحًا، إذ لم يحلّ أي مشكلة، بل استُخدم من قبل إحدى كِتَل الحزب، التي تشكّلت في قيادته، بهدف السيطرة الكاملة على الحزب والتخلّص من أي معارضة. كانت تلك بداية الطفرة الستالينية.

في عام ١٩٢٤، أعاد ستالين تعريف اللينينية وكرّسها في مجموعة من العقائد الدوغماتية، شملت مفهومًا للحزب في غاية المركزية واللاديموقراطية: عبادة الحزب وقيادته، الانضباط الحديدي، حظر التكتلات، وبالتالي حظر النقاش المنظم داخل الحزب. برز هنا مفهوم الحزب بوصفه أداة «ديكتاتورية البروليتاريا»، وهي فكرة ليست بعيدة عن ماركس وإنغلز فحسب، بل بعيدة أيضًا عن كتاب مثل كتاب لينين عن الدولة والثورة (١٩١٧) حيث لا يوجد حتى ذكرٌ للحزب في تعريف تلك الديكتاتورية (وتلك، نوعًا ما، مشكلة في الحقيقة، إذ كان ينبغي أن يناقش الكتاب حقوق الأحزاب بعد الثورة ودورها). لكن النقطة الجوهرية هنا أن فكرة تجسيد الحزب لديكتاتورية البروليتاريا غدت أيضًا جزءًا مما ساد اعتباره مكونًا من مكوّنات اللينينية في ذلك الزمن.

    غرامشي، حرب المواقع وحرب الحركة

ومثلما ظهر العديد من أصناف الماركسية، ظهرت أصناف مختلفة من اللينينية: لينينية الستالينيين التي وصفتها للتو، ولينينيات أخرى، لاسيما ضمن الجماعات التي تصف نفسها بالتروتسكية. بعض هذه الجماعات كان قريبًا جدًّا من النموذج الستاليني في الواقع. ونجد على الجانب الآخر شخصًا مثل أرنست ماندل، الماركسي البلجيكي، الذي تقترب نزعته اللينينية إلى حد كبير من منظور روزا لوكسمبورغ.

إن فكرًا مثيرًا جدًّا للاهتمام تطوّر بعد الثورة الروسية هو فكر أنطونيو غرامشي، الماركسي الإيطالي الشهير. في تأمله بالأحداث التي وقعت في أوروبا، شدّد غرامشي على الاختلاف بين ظروف روسيا وظروف أوروبا الغربية. نعود هنا مجددًا إلى نقطة البداية المتمثلة في الظروف والأوضاع الملموسة لكل بلد ومنطقة. كانت الديموقراطية الليبرالية في أوروبا الغربية تتماشى مع «الهيمنة» البرجوازية، أي أن البرجوازية لم تعتمد في حكمها على القوة وحدها، بل اعتمدت أيضًا على موافقة الغالبية الشعبية.

ولا بدّ من أخذ هذا الاختلاف الرئيسي في الاعتبار، عوضًا عن الاكتفاء بنسخ التجربة الروسية. ففي ظل الظروف الغربية النمطية، ينبغي على حزب العمّال أن يسعى إلى بناء هيمنة مضادة، أي أن يكسب دعم الأغلبية في التحرر من الهيمنة الأيديولوجية البرجوازية، وعليه أن يشنّ حرب مواقع في ظروف ديموقراطية ليبرالية تسمح للحزب باحتلال مواقع في الدولة البرجوازية ذاتها عبر الانتخابات. تشكّل حربُ المواقع تلك مقدمة لحرب الحركة، وهو تمييز مستعار من الاستراتيجية العسكرية. ففي حرب المواقع، تترسخ القوة المسلحة في مواقع ومعاقل، أما في حرب الحركة، فتتحرك الحركة الثورية لاحتلال أراضي العدو وتحطيم قوّته المسلحة. هكذا ينبغي على حزب العمّال في ظروف غربية نمطية أن يتطلّع إلى حرب مواقع طويلة الأمد مع استعداده للانتقال إلى حرب حركة عندما يحين الوقت.

    مفهوم مادي للحزب، الإنترنت

دعوني أضيف إلى ما ذكرت ما أودّ أن أسمّيه تصوّرًا ماديًّا للحزب. فالمادية التاريخية هي نقطة البداية في تقدير الماركسيين للظروف الاجتماعية والسياسية، حيث ترى أن أشكال تنظيم المجتمع تنزع إلى التناسب مع وسائله التكنولوجية. ويمكن تطبيق هذه القاعدة البديهية على جميع أشكال التنظيم، إذ تتكيّف عادة مع الشروط المادية. هذا بالفعل حال أنماط إدارة الشركات الرأسمالية. وينطبق الأمر نفسه على التنظيم الثوري، فإن نوعه وشكله يعتمدان إلى حد بعيد على الوسائل التي يستخدمها لإنتاج أدبياته، وهي وسائل تحددها بدورها التكنولوجيا المتاحة والحريات السياسية. فإذا اعتمد حزبٌ بشكل أساسي على المطبعة السرّية، فهو بالضرورة منظمة تآمرية تتطلب درجة عالية من المركزية والسرّية. أما إذا كان قادرًا على طباعة أدبياته بشكل علني وقانوني، فبإمكانه أن يكون منظمة ديموقراطية منفتحة (ولو اختار أن يكون تآمريًّا من دون حاجة إلى ذلك، يرجّح أن يكون أقرب إلى الجماعة العصبوية منه إلى الحزب). يقودنا هذا إلى الإنترنت بوصفه ثورة تكنولوجية كبرى في التواصل، فالاعتقاد أن هذا التغيير التكنولوجي ينبغي ألّا يؤثر على تصوّر الحزب إنما هو دلالة لا لبس فيها على تحوّل الحزب إلى منظمة عقائدية شبه دينية.

صارت جميع أشكال التنظيم في الزمن الراهن مشروطة إلى حد بعيد بوجود الإنترنت، لذا صار التنظيم الشبكي شكلاً تنظيميًّا أكثر انتشارًا مما أمكن في أي وقت مضى. ويستطيع التشبيك بفضل الشبكات الافتراضية، مثل وسائل التواصل الاجتماعي، أن يسهّل أيضًا تشكيل الشبكات الفعلية. وقد أتاحت الإنترنت وجود طريقة أكثر ديموقراطية لعمل التنظيم، سواء في مشاركة المعلومات أو اتخاذ القرار. فلا حاجة إلى إحضار أشخاص من مسافات طويلة جدًّا للقاء وجهًا لوجه في كل مرّة تدعو الحاجة إلى إجراء حوار ديموقراطي واتخاذ قرار.

إن إمكانات شبكة الإنترنت عظيمة، وما زلنا في بداية استخدامها. وهي تعزّز النفور الشديد القائم في أوساط الجيل الجديد إزاء المركزية وعبادة الزعماء. إن وجود هذا العصيان في أوساط الجيل الجديد يشكّل في رأيي ظاهرة صحّية بالمقارنة مع الأنماط التي سادت في القرن العشرين.

إن التشبيك روح عصرنا هذا، فقد بدأ مبكّرًا مع أنصار «جيش زاباتيستا» في المكسيك الذين دعوا إلى مثل هذا النوع من التنظيم في التسعينيات. وتشكّل اليوم حركة «حياة السود مهمّة» تجسيدًا هامًّا للتشبيك، إذ بدأت قبل بضع سنوات بصورة رئيسية كشبكة تشكّلت حول منصّة على الإنترنت ومجموعة من المبادئ المشتركة. ولا تلتزم الفروع المحلّية سوى بالمبادئ العامة للحركة التي ليس لها هيكل مركزي، بل تقوم على تشبيك أفقي من دون مركز قيادي، ومن دون هرمية أو عمودية، فهي نتاج عصرنا بامتياز وما كانت ممكنة على هذا النطاق قبل انتشار التكنولوجيا الحديثة، لذا توفّر مثالًا جيّدًا عن المفهوم المادي للتنظيم.

ويتجلّى التشبيك أيضًا في تطوّر هام جديد جرى في القارة الأفريقية. في السودان، شهدت الثورة السودانية التي انطلقت في كانون الأول/ ديسمبر ٢٠١٨ تشكيل «لجان مقاومة»، وهي منظمات محلّية تنشط بغالبيتها في أحياء المدن، ويضمّ كل منها مئات الأعضاء، معظمهم من الشباب. يوجد العشرات من هذه اللجان في كل المدن الكبرى، ويضم كل منها مئات المشاركين. فينتظم عشرات الآلاف من الشباب بهذه الطريقة في المدن الرئيسية، ويعملون بما يشبه حركة «حياة السود مهمة»: مبادئ مشتركة، أهداف مشتركة، لا قيادة مركزية، واستخدام مكثّف لوسائل التواصل الاجتماعي. إلّا أنهم لم يستقوا إلهامهم من «حياة السود مهمة»، فهم بالأحرى نتاج العصر ونتاج النفور سابق الذكر من التجارب المركزية التي شهدها الماضي ونتائجها المحزنة، فضلًا عن وجود التكنولوجيا الجديدة.

كل هذا لا يلغي الحاجة إلى التنظيم السياسي للأشخاص المتقاربين فكريًّا، وللناس الذين، على غرار الشيوعيين في البيان الشيوعي، يتشاركون آراء محددة ويريدون إشاعتها. لكنّ النوع الأرقى من الديموقراطية التنظيمية الذي تتيحه التكنولوجيا الحديثة ينطبق بالمثل على الأحزاب التي تضم المتقاربين فكريًّا.

    التنظيم رهن الزمان والمكان

في الختام، أعود إلى النقطة الجوهرية التي أشرت إليها في البداية، وهي أن نوع التنظيم يعتمد على الظروف الملموسة لمكان نشأته. فالزمان والمكان حاسمان، بالإضافة إلى البُعد التكنولوجي. من المهم للغاية تجنّب الوقوع في عصبوية الجماعات التي تُسمّي نفسها «أحزابًا طليعية»، فالطليعة مكانة يجب اكتسابها بالممارسة ولا تُزعم، ولكي تكون جماعة ما طليعة بالفعل، لا بدّ من أن تنظر الجماهير إليها على أنها طليعة.

على الثوريين الماركسيين الذين يرغبون في بناء حزب طليعي أن يعتبروا أنفسهم — كما في البيان الشيوعي — جزءًا من الحركة الطبقية الأوسع التي تضم منظمات أخرى من شتى الأنواع. عليهم أن يسعوا إلى بناء حزب جماهيري في صفوف الطبقة العاملة وإلى قيادته في نهاية المطاف، إذا استطاعوا أن يُقنعوا الغالبية بوجهات نظرهم. ولهذا السبب أيضًا، عليهم أن ينضمّوا إلى الأحزاب العمّالية الجماهيرية المناهضة للرأسمالية حيثما وُجدت، أو أن يساهموا في بنائها. لا يُبنى الحزب الجماهيري بتأسيس حزب يزعم أنه «طليعي» وبتجنيد الأعضاء في صفوفه واحدًا تلو الآخر. ليس هذا هو السبيل. علاوة على ذلك، لا يمكن للاشتراكية سوى أن تكون ديموقراطية. هذا من نافل القول، غير أن المقصود هو أننا لا نستطيع أن نغيّر المجتمع للأفضل من دون أغلبية اجتماعية مؤيدة للتغيير، وإلّا ينتهي بنا المطاف — كما أظهر التاريخ بكل مأساوية — إلى إنتاج السلطوية والديكتاتورية، وثمن ذلك باهظ.

تتعلق نقطتي الأخيرة بضرورة اليقظة الديموقراطية ضد الآثار المُفسِدة للمؤسسات البرجوازية والنزعات البيروقراطية. في معظم دول العالم — لكن ليس في كلها بالتأكيد — يمكن حاليًّا خوض حرب المواقع التي وصفها غرامشي، والتي تتضمن نضالاً داخل المؤسسات المنتخبة للدولة البرجوازية. ولا بدّ من أن يقترن ذلك بنضال من الخارج بالتأكيد، عبر النقابات العمّالية وشتى أشكال النضال الطبقي، مثل الإضرابات والاعتصامات، والاحتلالات، والمظاهرات، وهلمّ جرّا.

وفي خوضهم لحرب المواقع، يواجه الثوريون الآثار المُفسِدة للمؤسسات البرجوازية، لأن المسؤولين المنتخبين يمكنهم أن يتأثروا بقدرة الرأسمالية على الإفساد. وينطبق الأمر نفسه على قدرة البيروقراطية المُفسِدة، التي تسري في النقابات العمّالية ومؤسسات الطبقة العاملة الأخرى. يجب أن يظل الثوار متيقّظين في مواجهة هذه المخاطر التي لا مفرّ منها، وأن يفكّروا في طرق جديدة لمنع تفشّي هذا التأثير المُفسِد. هذا أيضًا جزء أساسي من دروس التاريخ التي يجب أن تبقى في بالنا.

شارك المقالة

اقرأ أيضا