ربيع جديد، خريطة انتفاضات شمال أفريقيا وغرب آسيا (2018-2020) -مقدمة الكتاب

بقلم جاد صعب (+)

منذ 2019، شهدت بلدان مختلفة في”الشرق الأوسط”(غرب آسيا وشمال أفريقيا) انتفاضات سعت إلى إزاحة الطبقات الحاكمة بكل منها. أطلق البعض على هذه السلسلة من الانتفاضات تسمية “الربيع العربي الثاني”، في إشارة إلى هذه السلسلة من الانتفاضات التي اندلعت قبل ثماني سنوات وانتشرت في تونس، مصر، لیبیا، سوريا، واليمن. وإلى جانب تلك الانتفاضات، وقعت كذلك حركات احتجاجية في البحرين، المملكة العربية السعودية، المغرب، والأردن. عندما بدأ “الربيع العربي” وقع تقديمه للعالم من خلال العدسات الاستشراقية. تم النظر إلى هذا الحدث، الذي استقطب تغطية إعلامية عالمية، على أنه انبعاث للعالم العربي المتخلف.

أخيرًا إذًا وصلت الديمقراطية إلى المنطقة. كادت مشاهد الشوارع المكتظة بالحشود التائقة إلى إسقاط المُستبدين تغطي على حقيقة أن هؤلاء الطغاة كانوا مفضَّلين ومحافَظًا عليهم من قِبَلِ الحكومات الغربية كشركاء مناسبين في الاستغلال الرأسمالي، والنهب والسيطرة الإمبريالية على شعوبهم. أكثر من ذلك، قدَّمت الانتفاضات فرصة للدفع أيضًا بسردية استشراقية مفادها أن غزو العراق في 2003 قد أعطى ثماره في نهاية المطاف.

أتاح تبرير الغزو ارتجاعيًّا التذرع بأن كل ما كانت تحتاجه الديمقراطية بالمنطقة هو دفعة في شكل احتلال غير قانوني ومقتل مليون مدني. موَّه ذلك على الظروف المتشعبة التي أفضت للانتفاضات في تلك البلدان، كما غذی سردية رجعية إقليمية مفادها أن هذه الانتفاضات لا تعدو أن تكون مؤامرات أجنبية (اقرأ غربية) تهدف إلى زعزعة المنطقة. تعززت كلتا السرديتين بالتدخلات العسكرية في ليبيا، وسوريا، واليمن. بررت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها هذه التدخلات بالوقوف إلى جانب الديمقراطية، بينما اتخذها الرجعيون الإقليميون دليلا على أن “الغرب” يسعی للإطاحة بأنظمتهم الشرعية المعادية للإمبريالية. بالنتيجة، انتهت البلدان التي شهدت تدخلات عسكرية إلى الحروب الأهلية. تم كذلك تخريب الثورة المصرية من خلال “الدولة العميقة”، وما زالت تونس المثال الناجح نسبيًّا، تواجه صراعات اقتصادية رهيبة.

بسرعة تحول الأمل الذي أزهر مع “الربيع العربي” إلى انهزامية، وإلى ذريعة ملائمة لبقية الطبقات الحاكمة في المنطقة للتشكيك بأي هبَّةٍ شعبية. حالما بدأت الحناجر تصدح بهتاف “الشعب يريد إسقاط النظام” في شوارع لبنان، العراق، البحرين، وغيرها، كانت الطبقات الحاكمة مستعدة بالرد: “هل تريدون أن نصير إلى سوريا أخرى؟”. ازداد تبرير الحُكم غير الديمقراطي، وسعدت الدول الغربية باستقرار الطغاة الذين اعتادت على التعامل معهم.

قللت التغطية المثيرة لـ “الربيع العربي” في 2011 كذلك من دور النضالات الوطنية السابقة والتواريخ المركبة التي نجمت عنها. وقع التعاطي مع الانتفاضات وقتئذ، كما هو الحال الآن، كأحداث عفوية لا تاريخية مرتكزة على نظريات الحرمان و”طنجرة الضغط” التي تجاوزها الزمن. ليس ذلك بمفاجئ عندما نرى أن نشرات الأخبار لا تتناول أوضاع المنطقة إلا بمفردات توازنات القوى الدولية وأجندات التدخل الخارجي، مهملة دراسة الفاعلين الداخليين المنخرطين بأحداثها.

تمثل هذه التشكيلة من المقالات محاولة للتصدي لتلك النظرة الاختزالية والمتجاهلة. إذ تسبر نصوص هذا الكتاب أغوار الانتفاضات الأحدث بالمنطقة، السودان، الجزائر، العراق، لبنان، وإيران. من خلال مقاربة ثنائية تاريخية من جهة، وتحليلية للحراكات بذاتها من جهة ثانية، تسعى هذه المقالات إلى إبراز المجموعات الأساسية التي قادت التحركات، أهدافها، نقائصها الكامنة، وممكناتها.

كتب أغلب مقالات هذه التشكيلة من قبل أعضاء تحالف اشتراكيي الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. انطلق هذا التحالف في مارس (آذار) 2016 باشتراكيين من سوريا وإيران من خلال موقع إلكتروني بثلاث لغات (إنجليزية / عربية / فارسية) من أجل المساهمة في التعبير عن تطلعات “الشرق الأوسط الآخر”، ولتوفير تحاليل حول القضايا الحساسة وحوارات جديدة ولمد جسور التضامن بين السوريين والإيرانيين المعارضِين لنظاميهما المتسلطين. ومنذ ذلك الحين، نما التحالف؛ ليضم أعضاءً جدد من كل البلدان التي شملها هذا الكتاب وأكثر، مع استمراره بمهمته في تقديم وتبليغ وجهات النظر الاشتراكية الصادرة من المنطقة.

ليس القصد من هذه التشكيلة تقديم دراسة مقارنة، رغم أنه من المفيد ملاحظة أن معظم بلدان المنطقة تحتل موقعًا متشابهًا في النظام الرأسمالي العالمي. بناءً عليه، يجب النظر إلى هذه الانتفاضات كنتيجة لأزمات ناجمة عن الإخفاقات السياسية والاقتصادية بالمنطقة، للقمع السياسي، الأبوية، الشوفينية والطائفية التي تترافق مع تعزيز النظام الرأسمالي.

لهذا السبب تجاوزت مطالب مختلف الانتفاضات سقف تغيير القيادة السياسية. إذ تشاركت جميعها تصورًا قائما على الحاجة إلى إعادة هيكلة المجتمعات بشكل جوهري. اشتمل ذلك على مطالب بإعادة توزيع الثروة، إلى جانب المناداة بتغييرات جذرية في العلاقات الاجتماعية. نجم عن تلك النضالات أوضاع ثورية في كافة هذه البلدان، على الرغم من أنه ما زال من غير الواضح ما إذا كانت ستقود إلى نتائج ثورية، خاصة وأن بعض هذه الانتفاضات لم تبلغ بعد خواتمها.

أفضت الوضعيات الهشة لتلك الحِراكات الجماهيرية إلى جدال صحي حول سؤال: هل يجدر وصفها بالانتفاضات أم بالثورات؟ يقدم كل مقال بهذا الكتاب الحالة الخاصة ببلده، ويشرح أي وصف يفضل لما يجري فيه، ولماذا. اتسمت كل هذه الحراكات بمطالب سلبية-لفظ مختلف العصابات الأوليغارشية والديكتاتوريات العسكرية التي تحكم دول المنطقة-وليس ببرنامج سياسي إيجابي محدد. هذا التكتيك لم يكن مقصودًا تمامًا. اذ تشترك أغلب هذه البلدان في واقع أن قوى المقاومة بها قد سُحقت سلفًا. وعليه، فقد افتقدت هذه الحراكات الشعبية للحركة العمالية القوية أو الأحزاب السياسية المعارضة التي تؤطر عادةً مختلف التحركات وتوحد مطالبها. يجدر النظر إلى هياكل المقاومة التي تقدمها هذه الحراكات كبقايا لهياكل سابقة، أو كأخرى جديدة لم تتطور بعد.

يغلب النمط الريعي أو رأسمالية الدولة على الاقتصاد السياسي للمنطقة، اعتماد مفرط على استخراج النفط والغاز الطبيعي، قطاعات صناعية غير متطورة، قطاعات خدمات فائقة التطور، تغذية أشكال مختلفة من الاستثمار المضارب مثل المقاولات والبنوك، في الدول الوراثية الريعية، كنظام آل الأسد في سوريا، تتركز السلطة بين أيدي عائلة واحدة وحاشيتها. تَعتبر العائلاتُ الحاكمة الدولةَ ملكية خاصة وتستعمل كل سلطتها القمعية لحماية حكمها.

تعد دول أخرى مثل مصر، الجزائر، والسودان ذات أنظمة وراثية جديدة. في هذه الدول تمسك المؤسسة العسكرية، لا عائلة واحدة، بالحكم. يخالج إيران، باقتصادها الدولاتي الريعي، طموح تحويل نزعتها التوسعية الثيوقراطية-العسكرية إلى مصدر للتربح في المستقبل.

تختلف البنى في كل من لبنان والعراق “الديمقراطيين” عن القوالب المذكورة أعلاه. تقدم المنظومات الطائفية هناك آلية لـ “تقاسم السلطة”، يتم تبريرها كوسيلة وحيدة للحفاظ على التوازنات الداخلية الهشة. بيد أنهما يعكسان على نحو أدق الصراع على السلطة بين أجنحة الطبقة الحاكمة حول المناطق الإقليمية والمواقع الرسمية بالدولة. وكلاهما يبين الطرق التي يمكن من خلالها شفط موارد الدولة والتمويل الخارجي، وكيف يقع إسناد مشاريع التنمية المربحة إلى شركات خاصة مرتبطة بالطبقة الأوليغارشية الحاكمة. وفي حال حاق تهديد ما بهذا النمط الاستخراجي، يتحول الأعداء فجأة إلى حلفاء.

تمثل الاختلافات بين طبائع هذه الأنظمة مدخلاً رئيسيًّا لشرح المسارات المختلفة التي سلكتها الانتفاضات الشعبية بالمنطقة. اتسمت الأنظمة الوراثية بمرونة أقل واحتاجت لاستعمال القمع المحض، كما حصل مثلاً في إيران، بينما استطاعت الأنظمة الوراثية الجديدة التخلص من الحكام المكروهين مقابل الحفاظ على النظام القائم. أما الأنظمة الطائفية فقد نجحت في المزج بين القمع والتخويف من زعزعة الاستقرار والانحناء أمام الأطراف الطائفية الأخرى. وهو تكتيك ساعد من قبل في إبقاء الشعب منقسما.

لم يقتصر تأثير هذه الأنظمة، من خلال دورها في الاقتصاد العالمي كدول تابعة توفر يدًا عاملة رخيصة وموارد وسوق للدول المصنعة، على اقتصاداتها الوطنية، بل أعاق كذلك تطور المنطقة ككل. أنتج هذا الوضع بالنسبة للعمال اليوميين، المحرومين من هذه الغنائم، هجرة اليد العاملة المؤهلة إلى خارج المنطقة، ونسبًا عالية من البطالة والعمالة الناقصة، خاصة بين الشباب.

وهكذا إذًا خلق الاقتصاد السياسي للمنطقة حالة قابلية للثورة. اجتمع غياب الأداة السياسية مع الإفقار المتزايد للجماهير، في ظل مناخ من الفساد واللامساواة الاجتماعية، إلى جانب قهر النساء والتمييز ضد الأقليات المضطهدة، ليمهد الأرضية لاندلاع تمردات شعبية لم تكن تحتاج لأكثر من شرارة.

تشترك هذه البلدان كذلك في عوائق تحول دون بلوغها أهدافها التحررية. الدَّين القومي المنهِك يعني أن للممولين الأجانب مصلحة راسخة في الحفاظ على” الاستقرار” بالمنطقة. وقد اتضح ذلك عندما رفضت العواصم الغربية سحب دعمها لمختلف الطبقات الحاكمة في المنطقة، خلافًا لما وقع خلال “الربيع العربي” في 2011، حتى عندما بلغت حدة الاحتجاجات مستويات مماثلة. ولم يُقْدِموا على ذلك في بعض البلدان، إلا بعد أن ضمنوا تأمين مصالحهم. وهكذا، حتى لو افترضنا أن الانتفاضات كانت قادرة على تحقيق أهدافها، رغم القمع الداخلي والمقاومة الدولية فإن مسألة “موازنة الحسابات” المالية تظل تحديًا سيحتاج أي شاغلين جدد لجهاز الدولة إلى مغالبته. وتمثل تونس ما بعد الثورة التجسيد الملموس لهذه المعضلة، حيث ما زالت النيوليبرالية سيدة الموقف بما يهدد ما تحقق من مكاسب ثورية.

ويتحمّل العديد من المجموعات الناشطة في الانتفاضات الأحدث مسؤولية هذا الإغفال؛ لافتراضهم أن إنهاء الفساد سيكون كافيا لتصحيح المسار. بالمقابل هناك مجموعات أكثر جذرية تعي أهمية هذا الأمر وتثير بنشاط الحاجة إلى تحقيق المزيد لكن من غير الواضح مدى تأثيرها على الحِراكات.

تُبرز مسألة الديون الخارجية أهمية التضامن الإقليمي في مواجهة القوى المالية الدولية. عبَّرت مختلف الانتفاضات عن حركات تضامن رمزية عبر الإنترنت أو من خلال الهتافات الشعبية، لكن التعاون الملموس لم يحصل بعد. من السهل إرجاع ذلك إلى حداثة تجربة الجماعات النشِطة داخل مختلف الانتفاضات. فقيادة ثورة في بلد واحد ومواجهة القمع الغاشم بنجاح هي مهمة صعبة بما فيه الكفاية. ومع ذلك، يتبين أن مقدارًا مماثلا من الضرر قد ينجم عن الإخفاق في التفكير جديًّا بالمستقبل المُراد بناؤه إثر النجاح المفترض.

لا يجب أن تحجب مساحات التشابه بالمنطقة ما يكتنفها من اختلافات وصراعات. يفتح الحديث عن “المنطقة” مساحة للخطأ حيث تضيع الأبعاد السياسية والاقتصادية داخل المنطقة ذاتها، وهي أبعاد تقف عائقًا في طريق تطوير التضامن المطلوب. وما يشكل المنطقة بحد ذاته هو ادعاء مثير للجدل، مثل تسميات “الشرق الأوسط” و”شمال إفريقيا” التي تعزز انقسامات لا تتوافق مع أي اختلافات ملموسة أو قد تعبر عن اختلافات لا تتعدى تلك الموجودة داخل البلدان التي تتكون منها المنطقة.

تمثل النزعة المغامراتية العسكرية الإيرانية في العراق، سوريا، اليمن، ولبنان مثالاً على تلك العوائق. كذلك، أدى اصطفاف العربية السعودية وراء الولايات المتحدة إضافة إلى ما يبدو من نفاذها غير المحدود للنفط، إلى تعزيز دورها الإقليمي. وكما حصل في 2011، لعبت السعودية دورًا نشطا في قمع الانتفاضات في السودان والجزائر، لكن هذه المرة بشكل ألين. ما زالت الثروة النفطية لدول الخليج تمثل مصدرًا للرخاء بالنسبة للبلدان المجاورة الفقيرة نفطيًّا، بالنظر لاعتماد اقتصاداتها على التحويلات المالية، المنح، أو السيولة النقديّة في قطاعاتها المصرفية. وبالتالي ما زالت التوجهات السياسية والظروف الاقتصادية لدول الخليج تؤثر بشكل ملموس على باقي بلدان المنطقة.

تعتمد أيضًا معظم دول المنطقة على حضور كثيف للعمال المهاجرين من البلدان المجاورة أو من جنوب آسيا. وهو خلق ما يشبه سوق عمل بتراتبية طائفية ومشحونة بالعنصرية والتطرف القومي. يساهم تواجد لاجئين في العديد من هذه البلدان في تغذية هذه الدينامية. كما أنه كثيرًا ما يتم تجاهل التطلعات القومية للشعب الكردي خاصة من قبل القوميين العرب الذي يرون في الاستقلال الكردي انتهاكًا لحرمة الوحدة العربية. للأسف، يتجاوز نقاش هذا النوع من الحركات ضمن الحِراكات موضع البحث حدود هذا الكتاب. إذ تكتفي المقالات المختارة بعرض هذه الاختلافات بقدر صلتها بالحِراكات الشاملة داخل كل بلد.

يجدُر تخصیص نقطة أخيرة لمناقشة دور التضامن الدولي، أو بالأحرى ضعفه، مع هذه النضالات. للأسف، ما زالت بعض المجموعات الاشتراكية حول العالم تبدو تحت تأثير القطبية الثنائية للحرب الباردة. وبناءً على ذلك، يساندون أنظمة استبدادية قمعية كما هو الحال في سوريا أو إيران على قاعدة مواقفها المفترضة في “معاداة الإمبريالية”، وهو ما يتجاهل الوظيفة الأيديولوجية لهذا الخطاب “المعادي للإمبريالية” داخل تلك البلدان، كما يتغاضى عن الأدوار الإمبريالية الإقليمية للبعض منها.

تقدم المقالات جداول زمنية تتضمن الأحداث الرئيسة قبل وخلال الانتفاضات، تسهيلا للرجوع إليها عند الحاجة. يستعرض المقال الأول، بقلم عزة مصطفی وسارة عباس، انتفاضة السودان الذي نجح في التخلص من طاغيته، لكنه ما زال يتعايش مع ما يمكن وصفه بشكل من الحكم الثنائي تتقاسمه القوى المدنية والعسكرية. نجحت الانتفاضة السودانية في بناء شبكة مثيرة للإعجاب من مواقع المقاومة محليا، جهويا ووطنيًا، اشتملت على لجان المقاومة والتغيير المحلية وحركة عمالية مستقلة وموحدة في إطار تجمع المهنيين السودانيين، لعب التجمع دور رأس الحربة بالنسبة للحراك الاحتجاجي. إذ جمَّع وألَّف مطالبه، حدد مواعيد الاحتجاجات الجماهيرية ولعب لاحقا دورا فعالا في تحالف قوى الحرية والتغيير، الذي ينظر إليه الآن على أنه الهيئة المفاوضة باسم الانتفاضة.

أما حمزة حموشان وسلمى العمري فيربطان في مقالهما عن الثورة الجزائرية بين الحراك الحالي والتاريخ طويل الأمد لمناهضة الاستعمار ونيل الاستقلال. يقدم هذا النص تبصرًا جيدًا في الكيفية التي قادت بها “إخفاقات” سياسات فك الارتباط، محاولات الدولة الاشتراكية تحقيق السيادة الاقتصادية، إلى صعود الإسلام السياسي، ومن ثمة ردة الفعل عليه من خلال القمع العسكري، وهو نموذج مألوف في المنطقة. وكما في السودان، نجح الجزائريون في خلق انقسام بين العسكر وزعيمهم المتسلط عبد العزيز بوتفليقة، لكنهم ما زالوا يتعاطون مع حكم عسكري يختفي وراء ستار انتخابات تم رفضها ومقاطعتها من قِبَل الحراك. وللصراع الدائر في الجزائر جوانب بيئية وثقافية هامة، ما أكسب الحراك أبعادا إضافية.

من جهته كتب زيْدون الكناني عن الانتفاضة في العراق، حيث قادت هياكل السلطة الطائفية، التي أقيمت بعد الغزو الأمريكي في 2003، إلى نزاع دموي وإلى انتشار تنظيم “داعش”. أما الميليشيات التي شُكِّلَت إثر الغزو، إلى جانب نموها كنتيجة للنزاع الداخلي وللصراع مع داعش، فقد أمست الآن قوى القمع المسيطرة وتعمل كقنوات للمصالح الأجنبية في البلاد. وبالتالي، يحمل الحراك الاحتجاجي في العراق خاصية مزدوجة: الصراع ضد الفساد الذي يسر سبله النظام المذهبي الطائفي، وضد تدخل القوى الأجنبية. يشرح هذا المقال كذلك أثر التطلعات الكردية للاستقلال التي ترجمت من خلال لامبالاة نسبية تجاه الحراك الجماهيري.

وفيما يخص لبنان، قام جاد صعب وجوي أيوب بتحطيم الأساطير المؤسسة حول استقلال البلد وكيف تجبر الانتفاضة المحتجين على مواجهتهَا. ترجمت الديون المشكلة والظروف الاقتصادية المتدهورة منذ 2011 في تبلور بطيء لقوى المعارضة. وإنه ما زالت هذه القوى بصدد إعادة التشكل بالنظر إلى استمرار توسع نطاق ما تحتج عليه الانتفاضة. يسلط المقال الضوء على دور النظام الطائفي وكيف يتسرب إلى الحياة اليومية جاعلاً من العدسة الطائفية شرطًا إجباريًا في عملية إعادة إنتاج الطبقة الحاكمة. كذلك ناقش الكاتبان موقع حزب الله وقدرته على احتكار دور المقاومة المعادية للإمبريالية، فيما يعملُ كقوة رجعية في البلاد والمنطقة.

أخيرا، تشرح فريدا عفاري في مقالها حول إيران، الاقتصاد السياسي الثيوقراطي، الدولاني والعسكري للدولة الإيرانية والطموحات التي تحرك إمبرياليتها الإقليمية. يبين المقال كيف أن النظام الإيراني ما زال يواجه، رغم قمعه الوحشي، مقاومة صلبة وبطولية من العمال، النسويات، الأقليات المضطهدة والنضالات الشبابية. كما يناقش كيف ساعدت الاحتجاجات خلال السنتين الأخيرتين ضد التدخل الإيراني في سوريا ولبنان والعراق على بناء حس تضامني بالمنطقة. يوضح النص كذلك الخطر البالغ لبعض تيارات اليسار التي تساند الأنظمة الاستبدادية لأجل معاداتها المفترضة للإمبريالية.

وكما سبق ذكره، لم يبلغ العديد من هذه الانتفاضات منتهاه. وقد بدأ مشروع هذا الكتاب قبيل انتشار جائحة كوفيد 19. وقد فرضت هذه الجائحة توقفًا مفاجئًا على كل الحِراكات، التي إما انسحبت طوعًا أو أُجبرت على ذلك بسبب الإغلاقات التي فرضها الجيش. ومع ذلك، ما زلنا نرى فورات احتجاجية من حين لآخر، مما يثبت أن هذه الحِراكات لم تنته بعد. إن التداعيات الاقتصادية والاجتماعية للوباء، إلى جانب الانخفاض الحاد لأسعار النفط، ستؤدي لا محالة إلى تأجيج لهيب الثورة فيما يثبت أنه مسار ثوري طويل الأمد سيمتد إلى المنطقة بأسرها.

شكر وامتنان

أود أن أشكر تحالف اشتراكيي الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، الذين من دونهم لم يكن ممكنا لهذا المشروع أن يبصر النور. كذلك أود شكر المعهد الدولي الذي مول بسخاء هذه التشكيلة من المقالات، بما في ذلك ترجمتها إلى العربية. أخيرًا، أدين بالامتنان إلى جوزيف ضاهر الذي تكرم وسمح لي بإعادة استعمال بعضًا من عمله في هذه المقدمة.

حزيران (يونيو) 2020

==

(+) جاد صعب: كاتب لبناني كندي، ناشط، بصدد انهاء الدكتوراه في جامعة غلاسكو حول الأيديولوجيا ومسار الثورة الاشتراكية. وهو كذلك منظم إقليمي ضمن الاتحاد العالمي للعمال الصناعيين.

الكتاب صادر عن دار صفصافة للنشر والتوزيع والدراسات-مصر

طبعة 2021.

 

شارك المقالة

اقرأ أيضا