الثورة الجزائرية: الكفاح من أجل إنهاء الاستعمار متواصل

بلا حدود, غير مصنف18 يوليو، 2022

طوى الزلزال الثوري الذي هز منطقة شمال افريقيا والشرق الاوسط عقده الأول، ولا زال هديره يُدوي بقوة في السودان، وتحاول الثورة المضادة اخماده بأساليب ديكتاتورية شديدة القسوة كما في سوريا ومصر وإيران والبحرين…الخ، كما تلجأ في مناطق أخرى إلى المزاوجة بين تنازلات من فوق مع قمع انتقائي.

لازالت الظروف الموضوعية المفجرة للسيرورة الثورية قائمة، بل إن عقدا من الزمن عمق الأزمة متعددة الأبعاد، وأتى الدليل ان لا علاج لأمراض النظام الرأسمالي التابع المستبد غير اطاحته والاستعاضة عنها ببديل جذري يعالج من الأعماق قضايا النهب الامبريالي والتبعية والتخلف والاستغلال الطبقي والاستبداد السياسي.

ان دراسة وتقييم نقدي لموجة السيرورة الثورية مهمة مركزية على جدول كل أنصار التغيير الثوري بمنطقتنا، تحضيرا للاندفاعات الثورية القادمة لا محالة، تلك الاندفاعة التي لن تفلح الثورة المضادة بخنقها بعنفها الدموي ولا بمناورات خداعها، لأنها ستكون أكثر قوة وأنضج من تجربة العقد الماضي.

في هدا الإطار تنشر المناضل- ة مقالا للمناضلين حمزة حموشان وسلمى عماري وهو مساهمة منهما في مؤلف جماعي صدر باللغة العربية، عن دار صفصافة بمصر، سنة 2022 بعنوان:

ربيع جديد، خريطة انتفاضات شمال أفريقيا وغرب آسيا (2018-2020)

[المناضل-ة]

………

بقلم: حمزة حموشان وسلمى عماري

بداية الاستعمار الاستيطاني الفرنسي القائم على الإبادة الجماعية 5 جويلية 1830
بداية الحرب الجزائرية بسلسلة هجومات عُرِفت بِـ “توسان الأحمر”  

1 نوفمبر 1954

نيْل الجزائر استقلالها من المحتل الفرنسي 5 جويلية 1962
اندلاع أحداث ” الربيع الأمازيغي” في منطقة القبائل، مُطالبة بالاعتراف الثقافي والانفتاح الديمقراطي أفريل 1980
 انتفاضة الشباب ضد اللاعدالة الاجتماعية والفساد والاستبداد تنهي حقبة دولة الحزب الواحد أكتوبر 1988
انقلابٌ عسكريّ:

أدّى الانقلاب إلى حرب أهلية دامية أسفرت عن 200000 قتيل و10000 حالة اختفاء

12 جانفي 1992
انتخاب بوتفليقة رئيسا للبلاد 27 أفريل 1999
اندلاع المظاهرات في عدّة مدن من البلاد ضد العهدة الخامسة المُزمَعَة لبوتفليقة 22 فيفري 2019
مشاركة واسعة بالإضراب العام الذي أُعْلِنَ، دون أسماء معروفة وراءه، عبر شبكات التواصل الاجتماعي 10 مارس 2019
 

إعلان بوتفليقة عدم ترشّحه لعهدة خامسة، مع نيّته تمديد عهدته الرابعة لمدة عام

11 مارس 2019
استقالة بوتفليقة بعد ستة أسابيع من الاحتجاجات وإنذارٌ من رئيس أركان القيادة العليا العسكرية 2 أفريل 2019
اعتقال سعيد بوتفليقة شقيق الرئيس المخلوع واثنان من رؤساء المخابرات (أحدهما سابقًا) 4 ماي 2019
انطلاق حملة اعتقالات قمعية تستهدف بشكل خاصّ أولئك الذين يلوّحون بالعلم الثقافي الأمازيغي / البربري جوان 2019
إجْراء الانتخابات، رغم المخالفات والمقاطعة الواسعة، وانتخاب تبّون رئيسًا جديدًا للبلاد 12 ديسمبر 2019
قرار الحركة الشعبية الجزائرية “الحِراك” وقف احتجاجاتها الأسبوعية بسبب جائحة كوفيد 19 17 مارس 2020

 

 

 

تمرّ الجزائر بمرحلة ثورية. استمرت الانتفاضة ـ واسعة النطاق ـ التي انطلقت في فيفري 2019، لأكثر من عام وأظهرت صمودًا رائعًا. فقد جاب ملايين الناس الشوارع في مظاهرات أسبوعية ضخمة كل ثلاثاء وجمعة، وأحيانا كلّ سبتٍ وأحد، مُطالبين بتغيير ديمقراطي جذري وإلغاء الطابع العسكري للجمهورية.

الأحداث في الجزائر حقًّا تاريخية. لقد انتصر الشعب في المعركة الأولى من نضاله لأجل تغيير النظام جذْرِيًّا. أجْبَرَت الحشود المتظاهرة طيلة أكثر من ستة أسابيع الرئيس عبد العزيز بوتفليقة على التنحّي بعد عشرين عامًا في سدّة الحكم.  وذلك بعد أن أعاد  الشارع خلط الأوراق في بيت النظام وتسبّب في قطيعة بين مؤسسة الرئاسة وقيادة أركان الجيش.

منذ الثاني والعشرين من فيفري 2019، جاب كلّ جُمعة ملايينٌ من البشر، كبارًا وصغارًا نساءً ورجالاً ومن مختلف الطبقات الاجتماعية، أنحاء البلاد في لحظة ثورية جامعة، مُسترجعين الفضاء العامّ المُصادَرِ لسنين طويلة. وآزرت الاحتجاجات القطاعية مسيرات الجُمعة مُوّحِدَةً النّاس في رفضهم النظام الحاكم ومطالبتهم بتغيير ديمقراطي جذري.

“يتنحاو ڨاع” و” البلاد بلادنا وانديروا راينا” شعاران يرمزان للتطوّر الجذري للحراك الشعبي السلمي، الذي انطلق إثر إعلان بوتفليقة ترشحه لولاية خامسة على الرغم من عجزه وفقدانه القدرة على الكلام. والذي يجدرُ التذكير بأنّه لم يُلقِ أيّ خطاب، أو يجري أيّ لقاء صحفي، منذ سنة 2013.

ثلاثُ ميزات تجعل هذا الحراك حقا فريدا من نوعه: حجمه الضخم وطابعه السلمي وانتشاره الوطني. إذ شمل الجنوب المُهَمَّش وشهد مشاركة واسعة للنساء، وخاصة للشباب الذين يشكلون أغلبية سكان الجزائر. وهو أمر لم تشهده الجزائر في تاريخها المعاصر، باستثناء سنة 1962 حين خرج الجزائريون للشارع احتفالا باستقلال دفعوا ثمنه باهظا.

في 22 فيفري 2020 إحياءً للذكرى السنوية الأولى لظهور الحركة الشعبية على الساحة السياسية، جدَّد ملايين الناس إيمانهم بالثورة وعبّروا عن تصميمهم على مواصلة النضال من خلال تنظيم مسيرات ضخمة في أنحاء مختلفة من البلاد.

ورداً على إعلان الرئيس الحالي تبّون تاريخ 22 فيفري يوماً وطنياً “للتلاحم بين الشعب والجيش”، هتف المحتجّون “لم نأت للاحتفال؛ جئنا لطردك! “. أعاد الناس تأكيد مطالبهم بدولة مدنية في شعار قوي أصبح رمزًا لهدف الانتفاضة الأساسي، خاصة منذ المهزلة الانتخابية في ديسمبر 2019: “تبّون رئيس زائف. لقد فُرِض من قبل الجيش وليست له شرعيّة … لقد تحرّر الشعب ولا زالوا هم المُقرّرين … نُريد دولة مدنية الآن! ”

سيبحث التحليل في هذا الفصل بالضرورة في بُنَى السلطة العالمية والإقليمية الحالية، التي يجسدها الاقتصاد السياسي الدولي والمتجذرة في الإرث التاريخي للاستعمار والاستعمار الجديد، خاصة في بلدان الجنوب العالمي.

إنّ الرؤية طويلة الأمد ليست تمرينًا اعتباطيًّا، في ظلّ ما أوضحته الانتفاضة بجلاء من ارتباطها بمسار إنهاء الاستعمار الذي انزاح عن سكّته قبل بضعة عقود.

الفترة الاستعمارية (1830 ـ 1962)

مثّل الكفاح الجزائري التحرّري ضد الاستعمار الفرنسي إحدى أكثر الثورات المعادية للإمبريالية إلهامًا خلال القرن العشرين. اذ كان جزءًا من موجة إنهاء الاستعمار/ التحرر التي بدأت بُعيْد الحرب العالمية الثانية في الهند والصين وكوبا وفيتنام وبلدان كثيرة أخرى في إفريقيا. لقد أدْرجت الثورة نفسها في روح مؤتمر “باندونغ” وعصر “استفاقة الجنوب”؛ جنوبٌ ظلَّ لعقودٍ (وفي بعض الحالات لأكثر من قرنٍ) خاضِعًا للهيمنة الإمبريالية والرأسمالية تحت عدّة أشكال: من المحميّات إلى المستعمَرات الاستيطانية كما كان الحال مع الجزائر.

صادر الاحتلال الفرنسي للجزائر وسائل الإنتاج الأساسية والأرض من الفلاحين الأصليين ثُمّ أعاد توزيعها على المستوطنين، مُطلقًا بذلك العنان لتدهور اقتصاد الكفاف الريفي[1]. إلّا أنّ الفلّاحين لم يستسلموا، فصمدوا وقاوموا بطرق مُنظمّة طيلة عُقودٍ من الزمن. قاتلت الجماهير الريفية زحف الجيش الاستعماري حتى سنة 1884، لكنّ قلب المقاومة الجزائرية الريفية دُمِّرَ سنة 1871 حين سُحِق التّمرد السياسي الزراعي الكبير المُنتشر على ثلاثة أرباع البلاد. تشير التقديرات إلى مقتل عدّة ملايين بين سنتي1830 و1870[2].

يُمكن تلخيص الفترة الاستعماريّة بالآتي: مُصادرة ملكية وبلتَرَة وتوطينٌ قسريّ واستغلالٌ مَحض وعنفٌ وحشيّ. يصِفُ فرانز فانون ذلك بدِقّة في كتابه المُمَيَّز “مُعذَّبو الأرض”، وهو نصّ مُعتمَد حول نضال شعوب العالم الثالث ضد الاستعمار وآليات العنف التي وضعها هذا الأخير لإخضاع المضطهدين. اذ يقول: “الاستعمار ليس آلة تفكير ولا هو هيئة تتمتع بملكَات تفكير… هو العنف في حالته الطبيعية…” بالنسبة لفانون، العالم الاستعماري هو عالم مانَوِيّ. وهذا ما يدفع المُستعْمِرَ إلى نهاية استنتاجه المنطقيّ ويجعله ” يجرّد الساكن الأصلي من انسانيته، أو للحديث بصراحة: يحوّله إلى حيوان”[3].

بأثر رجعي، كان الاستعمار الفرنسي للجزائر فريدًا، لأنه جعل من البلاد مستوطَنة. وهي أوّل دولة ناطقة بالعربية يتم ضمّها من قبل الغرب وواحدة من أوائل البلدان الافريقية التي خضعت لإمبراطورية غربية، قبل حتّى مؤتمر برلين عام 1884، عندما اجتمعت إمبراطوريات أوروبية مختلفة (بريطانية وفرنسية وألمانية وبلجيكية وإيطالية وإسبانية وبرتغالية …) لتقسيم القارّة فيما بينها.

في عام 1881 أُديرت الجزائر لأول مرة كجزء لا يتجزأ من فرنسا. استمرّ الحكم الفرنسي في الجزائر لمدة 132 سنة، مقابل 75 سنة في تونس و44 سنة في المغرب. أيْ أنّ الامر يتعلّق بتجربة استعمارية عميقة استغرقت فترة طويلة وجعلت من الحالة الجزائرية حالةً فريدة من نوعها داخل إفريقيا والعالم العربي.

ما أعقب إعلان حرب الاستقلال في 1 نوفمبر 1954، كان أحد أطول حروب إنهاء الاستعمار وأكثرها دموية. شهدت الحربُ انخراطًا هائلاً للفقراء الريفيّين والطبقات الشعبية الحضرية، مع مشاركة ملحوظة من النساء اللاتي رأيْن في التحرر الوطني طريقة لتحقيق مكانة متساوية مع الرجال.

تزعم التقديرات الرسمية أنّ مليون ونصف جزائري قُتلوا في حرب الثماني سنوات التي انتهت عام 1962، وهي الحرب التي أصبحت أساس السياسات الجزائرية الحديثة.

نظرًا للطبيعة المسلَّحة للنضال الجزائري ضد الاستعمار كانت القوة المنظمة الوحيدة في المجتمع، لحظة الاستقلال، هي جيش التحرير الوطني الذي تمّ الاستيلاء على قيادته من قبل مجموعة من الضباط المُتمركزين على الحدود عشيّة الاستقلال.

أَبعَدت هذه المجموعة من الضبّاط القيادة التي أدَارَت النضال داخل البلاد، كما أطاحت بعنف بالحكومة المدنية (الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية أو GPRA)، وذلك بالتواطؤ النشط لبعض القادة المدنيين، مثل أحمد بن بلّة، أول رئيس جزائري بعد الاستعمار.[4]

صاغَت هذه الأحداث الحمض النووي للدولة الوليدة على نحوِ مأسَسَ لأسبقية الضبّاط العسكريين على الساسة المدنيين، ممّا تسبّب لاحقًا في الحدّ من إمكانات السياسات الديمقراطية.

 

الاستقلال و”مكّة الثوّار” (1962 ـ 1978)

سنة 1962، لم يحتفل الجزائريون بالسيادة التي حصلوا عليها حديثا فحسب، بل عبّروا عن أحلامهم وتطلّعاتهم إلى مجتمع مُختلفٍ، أكثر عدالة ومساواة. خلال الستينات والسبعينات، أي خلال فترتي بن بلّة وبومدين، شكَّل رأس المال الثوري المكتَسَب في سياق النضال ضد الاستعمار، إلى جانب صعود الحركات العالمثالثيّة والقومية العربية، أفعال الدولة الناشئة وسلوكياتها.

لعب نشاط الدولة الجزائرية على الساحة الدولية، بما في ذلك دعم الحركات المناهضة للاستعمار بجميع أنحاء القارة الأفريقية وخارجها، دورًا رئيسيًا في تعزيز الدور القيادي للجزائر في حركة عدم الانحياز، حيث يتمّ الدفاع عن المعايير الدولية مثل السيادة وتقرير المصير.

تقاطع دور الجزائر في العالم الثالث دوليًا مع سياسات اجتماعية تقدمية داخليًا، مثل تأميم المحروقات وإعادة توزيع الأراضي وبدء ثورة زراعية وتعميم الرعاية الصحية والتعليم. كانت السياسات المذكورة أعلاه جزءًا لا يتجزأ من المشروع التنموي الرأسمالي للدولة الذي يهدف إلى ما يصفه سمير أمين بـ “فصل” الاقتصاد الوطني عن النظام الرأسمالي الإمبريالي العالمي[5].

ومع ذلك، لم يكن هذا المشروع مُحَصَّنًا ضد التناقضات الداخلية، اذ “أعاد إنتاج… الرأسمالية على المستوى المحلي، جزئياً بالاشتراك مع رأس المال الدولي، وجدّد مكانة الجزائر ضمن التقسيم الدولي للعمل.” اتَّسم هذا الموقف بالاعتماد الكبير للبلاد على صادرات النفط والغاز، وهو ما يجعلها عرضة لتقلبات الأسعار الدوريّة[6].

شكّل التصنيع جانباً رئيسياً من مشروع التطوير هذا، والذي كان مدفوعاً ممّن يشير إليها بِلَّلُوفي بـ”كتلة اجتماعية مهيمنة” تقودها برجوازيّة دولة ناشئة. رسّخ التحالف بين الجيش والتكنوقراط من أجل مشروعهم الطموح للتنمية الصناعية هيمنة هذه الشرائح الطبقيّة خلال العقدَيْن التاليَيْن للاستقلال[7].

الانفتاح النيوليبرالي وانتفاضة أكتوبر (1978ـ 1989)

بحلول منتصف الثمانينيات، ومع انخفاض أسعار النفط وتغيّر السياق الإقليمي والدولي، اُعتبر برنامج التنمية الوطنية الجزائري فاشلاً، وتم إيقاف محاولته لفكّ الارتباط عن النظام الرأسمالي العالمي واستبداله باقتصاد السوق. استلزم هذا التوجّه الجديد تفكيك الصناعة وتفكيك وخصخصة الشركات العامّة وإعادة هيكلة الاقتصاد على نطاق أوسع. ونتيجة لذلك، ترافقت الإجراءات المذكورة بتعديل للتحالفات بين المكونات الرئيسية للكتلة الاجتماعية المهيمنة، دشّن نهاية التحالف بين الجيش والتكنوقراط واستبداله بعلاقة عسكرية – أوليغارشية مدعومة بسياق عالمي تميّز بعقيدة نيوليبرالية صاعدة[8].

دفع تخلّي الدّولة عن توفير خدمات عامّة وفشل الحركة الوطنية العلمانيّة، المتصورة أو الحقيقية، في تحقيق الازدهار والاستقلال الموعوديْن إلى صعود الحركة الإسلامية لسطح المشهد السياسي الجزائري، مستفيدة من جاذبية الثورة الإيرانية. بلغت الحركة الإسلاميّة ذروة شعبيتها خلال الثمانينات، وكانت لها قاعدة وأنصار من البروليتاريا والبروليتاريا الرّثة والطبقات الفقيرة. استفادت هذه الحركة، المعتمدة على العمل الخيري والوعظ الديني، من بعض السياسات الاجتماعية الرجعيّة للدولة. وعلى الرغم من المقاومة الشعبية، سنّت الطبقة الحاكمة سنة 1984 قانون الأسرة الرجعي الذي وضع النساء تحت وصاية الرجال.

كانت هذه انتكاسة كبيرة للديناميكيات التحرّرية التي دفعتها مشاركة المرأة في حركة التحرير الوطنية. علاوة على ذلك، تمّ تجاهل التنوع الثقافي لصالح مفهوم ضيّق للهوية الجزائرية، فهُمِّش البعد الأمازيغي / البربري للتراث الثقافي الجزائري واُختُزل في مظاهر فولكلورية. انخرط “لوبوفوار” Le pouvoir (هكذا ينادي الجزائريون من يمسكون بالسلطة) في سياسة تعريب متعجّلة ومتصلّبة، كما طوّر تأويلًا محافِظا للدين.

حافظت انتفاضة أكتوبر 1988 على وعود السياسات التحررّية: توزيع متساوي للثروة، حريات ديمقراطية، اعتراف بالثقافة الأمازيغية وكذلك حقوق متساوية للنساء. لكنّ الجيش سحق هذه الانتفاضة وأغرقها بالدماء، من خلال حملة اعتقالات كبيرة وقتل أكثر من 500 شخص. على الرغم من القمع الوحشي، فتحت انتفاضة أكتوبر 1988 الطريق أمام التحرّر السياسي والتخلي عن نظام الحزب الواحد. إذْ اضطُّر هذا الأخير إلى السماح بإنشاء أحزاب سياسية جديدة وصحافة مستقلة.

عندما اندلعت حرب الخليج سنة 1990، أفاد هذا السياق الحركة الإسلامية، في وقت كانت فيه المشاعر المعادية للإمبريالية والمشاعر القوميّة العربية في تصاعد من خلال المظاهرات الضخمة. بدا أن الإسلاميين يقدّمون إجابة على أسئلة الفساد ويملؤون خانة الهوية المُرْتبكة التي ما تزال مشبوكة في التراث الثقافي الفرنسي.

عشريّة سوداء فظيعة وعلاجٌ بالصدمة (1991 ـ 1999)

فتح الانقلاب العسكري على نتائج الانتخابات البرلمانية لسنة 1992، والتي كانت جبهة الإنقاذ الإسلاميّة تتجه للفوز فيها بأغلبية ساحقة، أبواب جهنّم على الجزائريين. فأعاد العنف تجاه المدنيين إلى الذاكرة فترة الاستعمار الفرنسي، كما أدّى إلى أزمة حادّة للنظام الذي حاول جاهدا كسب قبول ورضا العواصم الغربية، كتعويض عن مشروعيّته شبه المفقودة، مُعتمدَا في ذلك على سياسة فتح الأسواق. حينها ـ أيْ التسعينات ـ تركّزت اهتمامات الغرب الجيوسياسية في الخوف من إيرانٍ جديدة في شمال إفريقيا، وهو ما وفّر دعمًا غربيًا ضمنيا للنظام الجزائري حتى في أكثر السنوات دمويّة.

.

لم تقتصر التجربة الجزائرية في التسعينات على حرب أهليّة مُروّعة، بلْ رافقتها عملية لبرَلَة اقتصادية قسريّة إذعانا من النّظام لإملاءات صندوق النقد الدولي والبنك العالمي. حان دور الجزائر آنذاك لخوض تجربة “عقيدة الصدمة” من خلال تطبيق سياسات مؤلمة ومثيرة للجدل. مسار اقتضى تفكيك الشركات العمومية والاقتراض من صندوق النقد والتحضير لاقتصاد الاستيراد، علاوة على إخضاع الجزائريين لسياسة تقشف قاسية ومزيد التفريط في السيادة الوطنيّة.[9]

هكذا إذن فتحت الجزائر أبوابها للأسواق العالمية من جديد؛ فخفّفت من القيود القانونية والمُنظِّمة لقطاعات الطّاقة المُهمة، مُسهِّلة بذلك سباق النفوذ والاستحواذ على الغاز والنّفط. وقّعت الشركات الغربية سلسلة من العقود الربحية التي ضمنت لها حصةَ معتبرة من موارد البلاد الثمينة. ساهمت عمليّة إعادة ربط الاقتصاد الوطني برأس المال العالمي في تحويل النخب الحاكمة إلى برجوازية كمبرادورية من خلال ربط مصالحها، ورهن المصالح الوطنيّة، بمصالح رأس المال العالمي.

مهدّت هذه الخطوات الطريق إلى المزيد من “الانفتاح” (اللبرلَة الاقتصاديّة) والتحكم الخارجي. بحلول منتصف تسعينات القرن الماضي، خضع النظام الجزائري، اليائس من الحصول على الائتمان الدولي، إلى البنك العالمي وصندوق النقد الدولي. ومن أجل جذب المستثمرين المحتملين، أنشأت الحكومة منطقة عازلة خاصّة حول حقول النفط والغاز جنوب البلاد.

وهكذا، في 23 ديسمبر 1995، أبرمت شركة البترول البريطانية (BP) عقدًا بقيمة 3 مليارات دولار، ممّا منحها الحقّ في استغلال مخزون الغاز في عين صالح في الصحراء طيلة السنوات الثلاثين التالية. أتمّت توتال صفقة مماثلة بقيمة 1.5 مليار دولار بعد شهر واحد، وفي 16 فبراير 1996، أمضَت الشركة الأمريكية أركو عقدًا لمشروع مشترك للتنقيب في حقل رورد البا ڨل النفطي.

في نوفمبر 1996، تم افتتاح خطّ أنابيب جديد لتزويد الاتحاد الأوروبي بالغاز، يمرُّ خط أنابيب “المغرب-أوروبا” عبر إسبانيا والبرتغال[10]. لا شك أن هذه العقود ساندت النظام خلال عزلته الدولية حين مارس العنف المُمَنهَج في جميع أنحاء البلاد. كان لهذه الشركات المُرتبطة بالجزائر من خلال الاستثمارات الضخمة والاتحاد الأوروبي مصلحة واضحة في ضمان عدم سقوط النظام القمعي. مكنّت عائدات النفط والغاز من عسكرة شديدة كما دعمت عمليات الشرطة وأجهزة المخابرات القمعية.

عهد بوتفليقة (1999 ـ 2019)

ومع ذلك، أدَّت حرب النظام القذرة إلى عزلته الديبلوماسيّة في نهاية التسعينات. ليست صدفة أنّ الرئيس الجديد الذي أتى به العسكر سنة 1999 (بوتفليقة) كان وزير خارجية خلال رئاسة بومدين للبلاد. بالاعتماد على تجربته الدبلوماسية وعلى مهاراته في المناورة السياسية، استطاع بوتفليقة أن يتمايز وينأى بنفسه عن همجيّة العسكر أمام الرأي العام الوطني والعالمي، كما استغلَّ الوضع ودفع نحو اتفاق سلام تضمّن عفوًا شاملًا للجيش والأجهزة الأمنية والإسلاميين الذين شاركوا في المذابح والقتل والاختفاء القسري.

لم تتعلّق المُصالحة والعفو لا بالعدالة ولا بالحقيقة، بل بالأحرى بحماية النظام العسكري الفاقد للمصداقيّة وإعطائه فرصة جديدة للحياة رغم العزلة الدولية. مُحِيَت الجرائم والفظائع التي ارتُكبَت خلال التسعينات ولم تُفتح لحدّ الساعة أيّ تحقيقات جديّة.

مثّل إعلان الإدارة الأمريكية “حربا عالمية على الإرهاب” بعد هجمات 11 سبتمبر فُرصة مثالية لحُكّام الجزائر للحصول على دعم غربي جديد (أمريكي على وجه الخصوص). تحت عنوان “صديق في الجزائر” نشرت صحيفة “واشنطن تايمز” رسالة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة بتاريخ 25 نوفمبر 2002 تعهّد فيها بتعاون استخباراتي كامل وتوفير أمن طاقي للولايات المُتحدّة[11] وهو ما ساعد على شراء قبول الأمريكيين. مُقابل دعمها، تلقّت الحكومات والشركات الغربية امتيازات غير مسبوقة. اقتصاديا وعلى سبيل الذكر لا الحصر، تم منح عقود تُقدّر بعديد المليارات إلى شركات هاليبرتون، رينو، آس آن سي لافالان، سايبام، آلستوم، جنرال الكتريك وغيرها.

سياسيًّا، دفع النظام ثمن الدعم الخارجي عبر فتح المجال الجوي أمام فرنسا لمهاجمة مالي، وتشارك المعلومات الاستخباراتية بلا قيود. فضلاً عن غضّ الطرف عن القضايا التي يعتبرها جزء كبير من شعب الجزائر عادلة مثل: القضية الفلسطينيّة، برنامج إيران النووي، غزو العراق وإلخ.

في أوائل عقد الـ 2000، تمحورت كلّ خُطَب بوتفليقة حول إعادة الجزائريين إلى العمل. اذ انتقد الجزائريين في إحدى التجمّعات قائِلًا: ” أنتم كسالى وتعتمدون بشكل كبير على الدولة. لقد انتهت دولة الرعاية الاجتماعية، كفاكم قيلولةً!” كانت السنوات الخمسة عشرة الأولى من حكم بوتفليقة عبارة عن رخاء بتروليّ، فقد سمحت أسعار النفط والغاز للنظام بشراء سلم اجتماعيّ داخليّ وضمان القبول الدوليٍّ.

شجّع بوتفليقة الاستثمار الخاص وساعد في إفساح الطريق لطبقة الأثرياء الجدد من خلال منحهم عقودًا ضخمة لتشييد البنية التحتية من الطرق السريعة إلى مشاريع الإسكان، في جميع أنحاء البلاد. ساعده هذا التمشي في تعزيز شبكة المُنتفعين المحيطة به وفي صراعه ضدّ بعض الجنرالات ورؤساء الأجهزة الأمنيّة.

اعتمد النّظام الجزائري خلال العقدين المواليَين لانقلاب 1992 على الخارج كبديل عن الشرعية الشعبية، وتحوّل ذلك إلى أسلوب عمله بامتياز.

 

الجذور السياسية والاقتصادية للحراك

كُثرٌ هم من فاجأهم الحراك؛ فقد اتسم المناخ السياسي في بداية شهر فيفري 2019 بنوع من اليأس والعُزوف عن الانتخابات التي كانت السلطة تُّعِدُ لها وتعتزم عقدها في أفريل الموالي (حيث كان من المقرر أن يترشح بوتفليقة لولاية خامسة). وهو ما يمكننا تفسيره كنتيجة لإفراغ الساحة السياسية من أيّ معارضة حقيقية، إضافة إلى قمع أو تدجين الاتحادات العمالية ومختلف مكونات المجتمع المدني؛ ما أدّى إلى غلق المجال في وجه أيّ مشروع بديل وخَلَقَ في المقابل مناخا سياسيا قاحلا في عمومه. بدأت التظاهرات الحاشدة في أواخر فيفري، فأربكت الوضع القائم وفتحت بابَيْ التغيير والمقاومة على مصراعيهما. إذ تشير الحناجر الصادحة “أحنا صحينا وباصيتوا بينا” إلى اكتشاف هذه الجماهير إرادتها السياسية.

تُبشّر الصحوة الشعبية والوعي السياسي المتعاظم المرافق لها منذ فيفري 2019 بأشياء جيّدة، كما تُنذر بأيّامٍ عاصفة للفئة الحاكمة، ولداعميها الأجانب، التي استغلت موقعها لتُثريَ بطريقة فاضحة.  في خضم ارتفاع معدلات الفقر والبطالة والضغط على الانفاق العام من خلال تدابير التقشف، وفي ظلّ نهب الموارد والتنمية غير المتوازنة أساسا وانتشار الفساد، تُصبح أسباب الثورة والتّمرد الراهنَيْن واضحة ومنطقية.

الحراك كنتيجة لتراكم عقودٍ من النضال

علينا في البداية أن نُنوّه إلى أنّ حالة الغليان هذه لم تأت من العدم ولم تسقط من السماء. بل هي نتيجة لتراكم نضالات تعود لثمانيات القرن المنصرم. كان “الربيع البربري” أوَّلَ تحدٍ سياسي واسع النطاق للنظام منذ أوائل الستينيات، اذ عَبّر البربر / الأمازيغ في منطقة القبائل عن شكاويهم ضد استبداد النظام وازدرائه للهوية الأمازيغية / البربرية الثقافية واللغوية الثريّة، وكذلك إهماله لاقتصاد المنطقة.

ألهَمَت هذه الحركة الجماهيرية الديمقراطية الحقيقية عقدًا من الصراع والثورات المستمرة. اذ مثّل انفجار المظاهرات الضخمة في الشوارع في أكتوبر 1988، بالتزامن مع الإضرابات في القطاع العام، مثالاً آخر عبّر فيه آلاف الشباب عن رفضهم للنظام إلى أن أجبروه على الانفتاح وإقرار التعدّدية السياسية.

 

بعد “العشريّة السوداء” (في إشارة إلى الحرب الأهلية في التسعينيات) وفي مطلع عقد الـ 2000، شهدنا ازدهارًا للسياسات غير المُؤسَّسِيَّة. وتجسّدت في الإضرابات المستمرّة المترافقة مع إنشاء نقابات مستقلة، إحياء الحركة النسوية، إحياء ثقافي، فضلا عن التمرّد القويّ للشباب ضدّ وحشيّة الشرطة سنة 2001.

في أفريل من ذلك العام، اندلعت انتفاضة في منطقة القبائل. خلال سنة ونصف، احتلت حركة شعبية قوية صفوف المشهد السياسي وأعادت مسألة الديمقراطية إلى جدول الأعمال. نظّمت هذه الحركة في 14 جوان مسيرة مهيبَة بالجزائر العاصمة وألهمت العديد من المواطنين في غير مناطق الانتفاض ضد الحُـڤْرَة (الإذلال والظلم الاجتماعي)

على الرغم من وحشية القمع، وصعوبة إعادة تنشيط الضغط الاجتماعي من الأسفل، حُصِّلت مكاسب ثمينة للمستقبل، من بينها تضامن وطني أكبر والاعتراف بالجذور الأمازيغية للبلاد حتَّى من قِبَل الدولة؛ إذْ تمّ الاعتراف بالأمازيغية كلغة “وطنية” وأصبحت لغة رسمية سنة 2011، كجزء من الإجراءات الساعية لاسترضاء المخالفين في خضم السياق الثوري الإقليمي.

ساعدت هذه المكاسب المتأتّية من النشاطويّة الاجتماعيّة والثقافيّة مزيدًا من الجزائريين على تعريف أنفسهم كأمازيغ. كما ساهم التضامن بين مناطق متنوعة؛ من شرق الشاوية إلى جنوب زناتة أو الطوارڨ، في إزالة التهميش عن هذه الثقافة وإبرازها على نطاق أوسع. صار من الحسّ السليم اليوم اعتبار أنّ الثقافة الأمازيغية ليست محصورة بمنطقة واحدة، بل تهُمُّ هويّات عبر وطنية أوسع.

يُنظر الآن إلى كلّ المناطق، بما في ذلك الصحراء الجزائرية المُهَمَّشة التي طالما نُبذَت بسبب العنصرية المعادية للسود، على أنها جزء من مصير مشترك. في 2015، أثارت الحركة المناهضة لاستخراج الغاز الصخري الإعجاب، وذلك لنجاح عدّة مناطق في الجنوب تفصل بينها آلاف الكيلومترات وتختلف تمامًا عن بعضها البعض، في التنسيق سوية ومنع خطط التكسير. لم تقَابَل انتفاضة الغاز الصخري واحتجاجات المفتقدين للعمل منذ عام 2012 بالتضامن العالمي فحسب، بل أمسَت أيضًا مصادر إلهام للمستقبل.

أثارت الحركة المناهضة للغاز الصخري مخاطر التضحية بمورد طبيعي حيوي، ألا وهو الماء، باسم جذب رأس المال الدولي. يعني التكسير تشريد الناس ومحو تاريخ يعود لآلاف السنين، فضلاً عن إضعاف المنظومة البيئيّة الصحراويّة عبر النمط الاستخراجي. بالتالي، لم يكن الأمر يتعلّق بالتشغيل فحسب، بل بوجود هذه المجتمعات نفسها، وهو ما يُفسّر المشاركة الكثيفة للنساء وسلميّة الاحتجاجات والمظاهرات في الشوارع.

تمكّنت الحركات النسائية من الحصول على إصلاحات حول قانون الأسرة. لقد تغلبنّ على ما حدث من انقسام حول مسألة الحجاب خلال الحرب الأهلية. وقد وقعت مسألة الحجاب وقتئذ في فخّ الرؤية الاستعماريّة، اذ نظّم جنرالات فرنسيون حملاتٍ لنزع الحجاب قسريًّا في الفضاء العام أثناء حرب التحرير بهدفِ إذلال الجزائريين.

من ناحية أخرى، كان هناك هجوم إسلاموي في الثمانينيات سعى لاستخدام هذا الإرث الاستعماري في دعوته للعودة إلى تقليد “محتجب”. مثّلت حقوق المرأة احدى جبهات الصراع الرئيسية خلال الحرب الأهلية، لأنّ مثل هذه الخطابات كانت شديدة الاستقطاب بين الجماعات المتعارضة.

لعبت الدولة على كلتا الحجّتين: من جهة الاعتماد على قانون الأسرة للدعوة إلى الحفاظ على التقاليد، ومن جهة ثانية دعم الشخصيات العلمانية النسائية حتى تظهر كبطل مدافعٍ عن حقوق المرأة ضد الإسلاميين في محاولة منها لفرض وصايتها على الحركة النسويّة.

وصلت نفس المكونات التي وُجِدت في التجارب المتراكمة منذ سنة 1980، من حقوق المرأة إلى الحقوق الثقافية والديمقراطية وكذلك إعادة التوزيع الاجتماعي للثروة، إلى الأجيال الجديدة من متظاهري وثُوّار الحراك.

 

الموجة الثانية من مسار ثوري اقليمي

ينبغي تحليل الانتفاضة الجزائرية في سياق المسار الثوري المتواصل الذي اجتاح في العقد الأخير شمال افريقيا وغرب آسيا، بداية من تونس ومصر مُنتشرًا ببقية الأقطار. من الواضح أنّ هذا المسار مُثقَل بتناقضات وتقلّبات ومكاسب ونكسات. على سبيل الذكر، تجسّدت هذه الأخيرة في تونس بانتقال ديمقراطي ليبرالي، وثورات مضادّة دموية وتّدخلات إمبريالية سافرة في بقية البلدان التي شهدت انتفاضات شعبيّة. في التسع السنوات الماضية قُدّمت الجزائر “كاستثناء”، وبدت منيعة أمام رياح الثورة رغم احتوائها على نفس أسباب الانتفاض.

اقتصر خطاب الحكومة آنذاك على أنّ الجزائر قد شهدت “ربيعها” الخاصّ قبل عشرين سنة من بداية ما سُميَّ بـ”الربيع العربي”. وذلك في إشارة ضمنية إلى فترة الانتقال الديمقراطي القصيرة الموالية لأسابيع من المظاهرات في أكتوبر1988، والتي أجبرت حينها النظام على افساح المجال لتعددية سياسية وصحافة مستقلة.

غير أنّ هذه المكاسب في الحريات المدنية و”الانتقال الديمقراطي” قد أُجهِضَت بانقلاب عسكري وحربٍ على المدنيين في التسعينيّات. ويمكن تفسير فشل الانتفاضة في ترسيخ جذورها في الجزائر خلال الفترة 2010-2011 بشبح الحرب الأهلية المُخيّم على الذاكرة الجماعية: مئات الآلاف من القتلى وعنف وحشي من الدولة للقضاء على المعارضة الإسلامية فيما يُعرف بالعشرية السّوداء، إضافةَ إلى تواصل مختلف أشكال القمع. تعزّزت هذه المخاوف بالتدّخل في ليبيا ونجاح الثورة المُضادّة في مصر وأخبار المجازر من سوريا والتدخلات الأجنبية فيها.

كذلك استعمل النظام عائدات النفط والغاز لشراء سلم اجتماعي داخلي ولضمان قبول دولي. ساهم الرخاء البترولي محلّيا في “تهدئة” المواطنين وفي منع أيّ غضب شعبي من التحول إلى حراك جذري، على الأقلّ حتى انخفاض أسعار المحروقات في 2014. أمّا خارجيا، ولكوْن البلد أكبر ثالث مُصدّر للغاز نحو الاتحاد الأوروبي، بعد روسيا والنّرويج، ونظرا لتضاؤل انتاج بحر الشمال والأزمة الأوكرانيّة، أمَل النظام في استغلال الموقف للعب دور أكثر أهمية في تأمين احتياجات الاتحاد من الطاقة، وبالتالي ضمان الموافقة والتواطؤ الغربيَّيْن.

رغم خصوصية الأحداث الجارية في الجزائر إلاّ أنّها ليست الوحيدة أو الأولى في تاريخ النضالات والثورات. لذا من الضّروري استخلاص الدروس من التجارب السابقة، ومن الدول المجاورة كتونس ومصر.

أزمة اقتصادية وصراع قوى داخلي

تشهد الجزائر منذ فترة أزمة حادّة متعددة الأبعاد.  فقد عاشت البلاد على وقع أزمة سياسية امتدت لعقود، خاصة في الفترة الموالية للانقلاب العسكري سنة 1992 وما أعقبه من حرب شنيعة على المدنيين. تعود جذور الأزمة إلى فترة الاستعمار الفرنسي، رغم كون أحدثَ مظاهرها هو نَتيجةٌ مباشرة لسياسة التّراكم الطّفيلي وترسيخ الفساد: طغمة من الجنرالات والأوليغاركيّين ترفض حق الشعب الجزائري في تقرير مصيره والتحكّم في ثرواته وتستبدل الشرعية الشعبية بدعم رأس المال المحلي والدّولي.  ساهمت عدّة أسباب في تفاقم الأزمة؛ منها مرض الرئيس عبد العزيز بوتفليقة وغيابه عن المجال العام منذ سنة 2013. مأزق كبير، زاد الصّراع الداخلي لنخبته الحاكمة الطّين بلّة وقد بلغ ذروته سنة 2015 مع سقوط الرجل القوي، الجنرال توفيق، رئيس وكالة الاستخبارات العسكرية. يُضاف إلى ذلك فضيحة الكوكايين سنة 2018 (تمّ ضبط 701 كلغ من الكوكايين في ميناء وهران، غرب الجزائر) التي أوْدت بمنصب قائد الشرطة وبعض الجنرالات وموظفين سامين من وازرة الدّفاع.

حين قدم بوتفليقة لمساعدة الدولة، لم يقبل بأن يكون “ثلاثة أرباع رئيس” على حدّ تعبيره. بدأت تظهر بعض الشقوق في هيكل الدولة كنتيجة لجهوده في سحب السلطة ونقل ثِقَلِها بعيدا عن الجيش، وخاصة عن أجهزة المخابرات.

 

غيّر الحراك الشعبي شكل العلاقة بين صُنّاع القرار الجزائريين. فبعد تحالف مؤسستيْ الرئاسة ورئاسة الأركان وانفصالهما التدريجي عن المخابرات العسكرية سنوات 2008 ــ 2015 (بسبب اعتراض الأخيرة على التعديل الدّستوري الذي خوّل لبوتفليقة الترشح لولاية ثالثة وكشفها سلسلة فضائح فساد، تلتها إقالة مدير المخابرات العسكرية)، تغيّر المشهد تماما في 2019 باقتحام الشعب الحاسم للساحة السياسية. اذ أحدث ذلك في البداية تصدّعًا بين مؤسسة الرئاسة وقيادة الأركان، ثُمّ سرعان ما تعمّق ليتحوّل في غضون أسابيع إلى انفصال. فلا يَخْفى على أحدٍ أنّ تدخّل المؤسسة العسكرية لوضع حدٍّ لحكم بوتفليقة كان من أجل الحفاظ على النّظام. وإنْ دلّ هذا على شيء فهو يدلّ على عمق التناقضات وعدم الاستقرار داخل الكتلة الحاكمة وصراع الهيمنة داخلها، ما فتح مجالات جديدة للمقاومة.

في سياق فشل المعارضة المؤسسّية والحركات الاجتماعية في صياغة بديلٍ واقعي، كان مُتوقًّعا منذ سنة 2016 أنّ “تدهور أسعار النفط سيدقّ المسمار الأخير في نعش اقتصاد ريعي غير مُنتج وغير مُصَنّعٍ ومُعتمدٍ أساسا على عائدات النفط والغاز كمصادر أساسية للعملة الصّعبة… فمَع انخفاض أسعار النّفط واحتياطي عملة صعبة (قُدَّر بـ 179 مليار دولار نهاية سنة 2014) مرشّح للانخفاض بعد 2016ـ2017، تُظهِرُ هكذا مُعطيات سهولة تكرار أزمة 1988 وإمكانية تفاقُمها، مُؤديةً إلى انفجارٍ كامل مُهدّدٍ لأمن البلاد القومي وسلامة أراضيه”[12]

تأتي الأحداث الأخيرة في وقت تُعاني فيه البلاد من أزمة اقتصاديّة خانقة ــ من أبرز مظاهرها سياسة تقشفٍ ناتجة عن تراجع عائدات النّفط والغاز ــ تزامنت مع اشتداد الخلافات والانقسامات وسط النّخبة الحاكمة حول ترشح بوتفليقة من عدمه لعُهدةٍ خامسة.

إنّ نظرة حذرة للاقتصاد الجزائري خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وخاصة تحت حُكم بوتفليقة، تُظهرُ سيطرة بورجوازية لاوطنية عقيمة وغير مُنتجة على شؤون الدّولة وعلى تحديد خياراتها الاقتصادية. لم تتوقف هذه الطغمة “الأوليغارشية الكمبرادورية” الحاكمة عن بيع البلاد لرأس المال الأجنبي وللشركات مُتعددة الجنسيات. تُمثّل هذه النخبة التابعة لنظام الهيمنة الاقتصادية والسياسية والعسكرية العالمي الوكيل الفعليّ للإمبريالية وأداتها النّاجعة. مثال آخر على نزعتهم تلك: سيُعطي قانون المحروقات الجديد، الذي دخل حيز التنفيذ في جانفي 2020، الشركات مُتعددة الجنسيات حوافزًا أكثر (اقرأ امتيازات) وسيفتح الطريق لمشاريع مُدمِّرة كاستغلالِ الغاز الصخري في الصحراء والموارد البحرية في البحر الأبيض المتوسط.

 

الحراك: حركة شعبية تاريخيّة

منذ الثاني والعشرين من فيفري 2019، يخوض شعب الجزائر ثورة ملهمة ضد النظام الديكتاتوري وسياساته الرأسمالية المحسوبية. بعد أن أنزلت المظاهرات الضخمة ضدّ استمرار بوتفليقة في الحكم الملايين إلى الشوارع، سرعان ما تشكلّت حركة شعبية (الحراك) أطاحت به في أوائل أفريل 2019. تواصلت منذ ذلك الحين المظاهرات معارضَةً للجيش الذي حافظ على السلطة الفعلية.

أحبطت المظاهرات الأسبوعية الضخمة والتهديدات بالعصيان المدني مساعي السلطة لإجراء انتخابات سابقة لأوانها صيف 2019، لكنْ ظلّ الحراك مُحتاطًا من رئيس أركان الجيش قايد صالح حتى وفاته في ديسمبر من نفس السنة. تحدّى الحراك درجات حرارة الصيف الحارقة فواصل ضغطه الأسبوعي حتّى توقفه في مارس 2020 بسبب الجائحة العالميّة. قبل ذلك جاب ملايين الجزائريين شوارع البلاد كلّ يوم جمعة مُطالبين بتغيير ديمقراطي جذري. كذلك نظّمت الحركة الطلابية احتجاجات ومسيرات كلّ ثلاثاء.

مثلما بيّنته شعاراتهم، أصرّ الجزائريون على مواصلة ثورتهم ووضع حدٍّ لحِيَل وألاعيب قوى الثورة المضادّة التي أدارتها القيادة العسكرية العليا (ق.ع.ع.)، وخاصّة الجنرال قايد صالح. كانت الشعارات واضحة وصريحة: ” دولة مدنيّة لا دولة عسكرية”، “جمهورية لا ثكنة عسكرية”، “قايد صالح مع الخونة”، علاوة على شعارات أخرى مُعادية لقايد صالح وإصراره على إجراء انتخابات رئاسية في أقرب فرصة. فهم الجزائريون أنّ انتخابات دون فترة انتقالية تعني عودةً إلى الوضع السابق وانتصارًا للثورة المضادّة.

الدور الرجعي للعسكر

للجيش مكانة خاصة في الحياة السياسية الجزائرية منذ الاستقلال سنة 1962. حكم البلادَ دومًا نظامٌ عسكريٌّ، سواء بطريقة مباشرة أو عبر واجهة مدنية، أو عبر تحالف مع المدنيين مثلما حصل خلال عهد بوتفليقة. لا تزال المؤسسة العسكرية مُحتفظةً بِنوع من المشروعيّة في المخيال الشعبي كـ “سليل مباشر” لجيش التحرير الوطني الذي حارب ضدّ المحتل الفرنسي. إلّا أنّ الواقع أكثر تعقيدًا بكثير، كما طعنت تأويلات أخرى في الوقائع التاريخية للحرب وما بعدها في هذه السردية الطاغية.[13]

خلقت عسكَرة المجتمع ثقافة خوف وأجواء من عدم ثقة عامّة بين الجزائريين. زِدْ على ذلك تاريخٌ من الانتفاضات المقموعة وقسوَةُ وهمَجِيَّةُ حرب التسعينات البغيضة. صار من المفهوم إذن لماذا أرادت الحركة الشعبيّة تجنّب المواجهة مع الجيش. غير أنّ المشاركين في الحراك يُميّزون بين القيادة العسكرية العُليا (ق.ع.ع.) والرُتب الأخرى القادمة من الطبقات الشعبيّة. لم تتورط هذه البرجوازية العسكرية في نهب ثروة البلاد ومواردها فقط، بل هي كذلك لاعبٌ نشطٌ في الإثراء الفاضح والطفيلي لقلّة من الجزائريّين.

كان هُناك في الأسابيع الأولى من الحِراك ما يشبه الأمل الساذج بأنّ الجيش سيرافق الحركة في مطالبها. كان المحتجون في استعدادٍ لمنح قايد صالح فُرصةً لافتداء نفسه. استغلّ صالح الفرصة لفرض أجندته وتعزيز موقعه داخل النظام. رفض الجنرال الدكتاتور أيّة تنازلات، بما في ذلك إطلاق المساجين السياسيين وضمان الحرّيات الفرديّة والعامّة للتعبير والتنظُّم أو السماح بفترة انتقاليّة.

لقد اتّهمَ أي شخص ذو رأي مُختلف بالخيانة وزعزعة الاستقرار. صحيح بأنّه وعلى عكس بلدان أخرى في المنطقة لم يطلق الجيش الرصاص حتّى الآن، إلّا أنّه واصل في تبرير الإجراءات القمعية مثل منع الدخول إلى العاصمة أيام الجمعة واعتقال النشطاء الذين يرفعون العلم الأمازيغي والتضييق على الصحفيين. أدارت القيادة العسكرية العليا (ق.ع.ع.) ظهرها لكلّ خريطة طريق اقترحها فاعلون من الحراك وتجاهلوا كل النداءات لحوار حقيقي.

كشرّت الثورة المُضادة عن أنيابها عبر أجهزتها الأمنية القمعية في الشوارع، وكذلك من خلال هجماتها المتزايدة في وسائل الإعلام. تمّ ترويض كلّ وسائل الاعلام السمعية البصريّة وجلّ الصحافة المكتوبة العامّة والخاصّة. لم تُغطِّ تلفزةٌ جزائريّةٌ واحدة (تبثّ من الجزائر) الاحتجاجات أو مطالب ملايين الجزائريين الذين يجوبون الشوارع.

في أكتوبر، علّق مزوّد القمر الاصطناعي الأوروبي “أوتلسات”، ومقرّه باريس، عمل القناة الوحيدة التي غطّت الأحداث: المغاربيّة. وذلك استجابةً لطلب الحكومة الجزائريّة وبتواطؤ من المؤسسة السياسية الفرنسيّة.

 

نشطت حملات وسائل التواصل الاجتماعي بقيادة جيش إلكتروني من المتصيّدين، الذين يعملون من الجزائر ومصر والإمارات العربية المتحدة وأماكن أخرى، على مدار الساعة للتضليل ونشر الأخبار الزائفة والدعاية المؤيّدة لـ ق.ع.ع.

لقد عملوا على اسكات الحسابات المعارضة على موقعيْ تويتر وفيسبوك، وعلى تشويه سمعة الرموز التاريخية والشخصيات المعارضة الشعبية.[14] أدارت ق.ع.ع. ما يُشبه الحوار مع فاعلين سياسيين ذوي ارتباط وثيق بالأوليغارشية. فعيّنت هيئة انتخابات “مُستقلّة” عدّلت القانون الانتخابيّ وحدّدت تاريخ 12 ديسمبر كموعد للانتخابات الرئاسيّة. زادت مثل هذه الاستفزازات في تحفيز الحركة الشعبيّة. بحلول منتصف أكتوبر استعادت أرقام المتظاهرين في الشارع مستويات مارس وأفريل. انتشرت الشعارات المُستهدِفة للقيادة العسكرية ولقائد القوّات المُسلّحة. ونذكر منها:

” ستتحرر الجزائر وليذهب الجنرالات إلى المزبلة” و” اسمع يا قايد: نريد دولة مدنية لا دولة عسكريّة” و” يا قايد أنت مخادع، توقف عن اللعب بنا؛ قلنا من الأوّل يتنحاو ڤـاع”.

 

استمرّت هذه المعارضة للإبقاء على الوضع القائم بلا هوادة، حتى بعد وفاة قايد صالح والانتخابات الرئاسية المفروضة كأمر واقعٍ في 12 ديسمبر 2019، وذلك إلى حدود الأشهر الأولى من عام 2020 حين أجبرت الأزمة الصحية العالمية الحراك على إيقاف المسيرات والاحتجاجات مؤقتا.

إنجازات وانتصارات

حققت الحركة الشعبية الكثير خلال العام المنقضي. اذ أجبر الحراك القيادة العسكرية العليا على النأي بنفسها عن زمرة الرئاسة وعزلت فعليًا بوتفليقة الذي حكم طيلة العشرين سنة الأخيرة. كما أنّ الحراك أجهض الانتخابات الرئاسية المُزمَعة مرّتين: الأولى التي ترشّح لها بوتفليقة سعيا لعهدة خامسة في أفريل والثانية في الرابع من جويلية، والتي اُعتبرت كستار للحفاظ على علويّة الـ ق.ع.ع.

بقطع النظر عن الحملة الإعلامية المركّزة ضد الفساد التي قام بها النظام، والتي تمثّل إلى حدّ كبير عمليّة ذرّ رمادٍ على العيون وتصفية حسابات بين مختلف أجنحة النظام، إلّا أنّ رؤية وجوه أوليغارشية عليا ومتنفّذين سابقين في السجن، من بينهم رؤساء وزراء سابقون ورؤساء أجهزة أمنية وشقيق الرئيس المخلوع، لهو في حدّ ذاته إنجاز عظيم.

لم يكن ليحدث أمرٌ كهذا من دون التحركات الشعبية ومطالبات المحاسبة والقضاء على الفساد: “كليتوا البلاد يا السرّاقين ” و”ستحاسبون جميعًا”.

رغم كل العراقيل التي تكدّست على طريق الحراك، ورغم جهود الدولة لتقسيمه واستمالته وإجهاده، إلّا أنّه حافظ بمثالية على وحدته وسلميّته. يظهر هذا في عديد الشعارات مثل: ” الجزائريون اخوة ، الشعب موحد يا خونة”.

يُمكن القول أنّ الوعي السياسي والعزم على الكفاح من أجل تغيير ديمقراطي حقيقي مثّلا أهم إنجازات الانتفاضة الشعبية. لقد اكتشف الناس إرادتهم السياسية وأدركوا أنّهم المتحكّمين في مصائرهم. أطلق هذا المسار التحرّري العنان لكمية طاقة وثقة وإبداع وانتفاض غير مسبوقة.

بعد عقود من محاصرة المجتمع المدني وإسكات المعارضين وتفتيت المعارضة، من الملهم حقًّا أن ترى الحراك في قوّة مُتصاعدة على مدى سنة كاملة، دون تراجع ولا انحسار، بلْ بدفع دائم نحو الأمام. نجَح الحراك في الكشف عن شبكات الخداع التي نشرتها ق.ع.ع. وماكينتها الدعائيّة. فضلا عن ذلك، يُبيّن تطوّر الشعارات والأناشيد وأشكال المقاومة مسار التسيّس والتعليم الشعبي. خلق استرجاع الفضاء العام نوعا من “الأغورا” أين تناقَش الناس وتبادلوا آرائهم وتحدثوا عن الاستراتيجيات والأفاق. انتقدوا كذلك بعضهم البعض أو عبّروا ببساطة عن أنفسهم بطرق شتّى، من بينها الفنّ والموسيقى. لقد فتح هذا آفاقًا جديدةً للمقاومة وللبناء الجماعيّ. وقد تلقّى أولئك الذين أعلنوا موت الحراك الجواب: الحركة الشعبية هنا لتبقى (رغم التوقف المؤقت نتيجة للجائحة العالميّة) مُشيرين إلى عزمهم على إجبار النظام على الخضوع: “الشعب يريد الاستقلال!”، “يا احنا يا أنتم والله ماناش موقفين!”

اتخذّ الإنتاج الثقافي معنًى آخرًا لأنّه ارتبط بالتحرّر وصار يُعتَبَر أحد أشكال الفعل السياسي والتضامن. بعيدا عن الانتاجات الفلكلوريّة والعقيمة السابقة تحت “الرعاية” الخانقة لبعض النخب السلطويّة، نشهد الآن ثقافة موجّهة للناس، تعكس مقاومتهم وصراعاتهم من خلال الشعر والموسيقى والمسرح والرسوم المتحركة وفنّ الشارع.

لعبت النساء كذلك ـ وما زالت ـ دورًا مُهما في الانتفاضة من الممكن ملاحظته في حضورهنّ القويّ في المسيرات والاحتجاجات في مختلف أرجاء البلاد، بما في ذلك المناطق المُحافظة. هُنّ نشطات كذلك في الحركة الطلابيّة التي استطاعت المحافظة على مسيراتها الأسبوعية لأكثر من سنة. واجهت بعضهنّ القمع، وحتى السجن، ولكنهنّ يواصلن إظهار تفانيهنّ الثابت في سبيل النضال.

تبذل بعض المنظّمات النسويّة قصارى جهدها لوضع قضية تحرير المرأة في قلب الثورة الديمقراطيّة. إذْ تُعامَلُ النساء كمواطنات من درجة ثانية، ليس فقط على مستوى المساواة في الحقوق وإنّما كذلك على مستوى العدل الاقتصادي. استلهمت بعضهن من التونسيات اللاتي يطالبن بالمساواة في الإرث، فيسعين الآن لتحقيق نفس المطالب. أمّا سؤال البطالة فهو أكثر تعقيدًا، لأنّ النساء يمثّلن 18%  فقط من القوّة العاملة.

استخلصت النساء الدروس ممّن سَبِقْنَهُنّ في الكفاح لأجل التحرير الوطني، ويرفضن اليوم أن تُرجع مسألة انعتاق النساء إلى الخلف وأن تعتَبر كقضية ثانوية. لهذا تُنظِّم بعض المجموعات النسوية صفوف نسوية في المظاهرات أو تتصدّر بعض الاحتجاجات تثبيتًا لحضورها. تعزّز ذلك بحضور وجوه ثوريّة مثل جميلة بوحيرد ولويزة إغيل أحريز، ممّا يدّل على أنّ النضالات من أجل السيادة الشعبية وتحرير المرأة مُترابطة ومستمرّة. “لسنا هنا للاحتفال، نحن هنا لاقتلاعكم!” هكذا أنشدت السيّدات الجزائريات خلال اليوم العالمي للنساء (8 مارس 2020) في شوارع البلاد.

هي ليست مجرد انتفاضة للطبقة الوسطى. شاركت الطبقات الشعبية من الأحياء المُهمّشة والمُعطّلون عن العمل الشبان والعمّال الفقراء في المسيرات مطالبين بالحرّية ومعبّرين عن استيائهم من الإقصاء الاجتماعي والاقتصادي وعن غضبهم من عمليات التفقير التي يتعرّضون لها. وقد هتفوا: “انتوما أسبابنا”، أي أنتم المتسبّبين في مُعاناتنا. كانت الكثير من الشعارات والأناشيد الشهيرة اللاذعة من اختراع وابتكار هذا “الشباب بلا آفاق” الذي رأى فجأة بصيص النور في نهاية النفق. وقد مثّل “لاكازا دي المرادية” (في إشارة إلى المسلسل التلفزيوني الشهير “لاكازا دي بابل”) أحد أناشيد/ ترنيمات الثورة الذي نشأ في مدارج الملاعب على يد مُشجعي كرة القدم ثمّ تجاوزها ليصبح نشيدًا حاضِنًا ومُحفّزًا للحراك.

 

فاعلو الحراك وتكتيكاته

مثلما حدث في مصر، قاد الشباب الحراك الفضفاض نسبيا، اذ لا يوجد قادة أو هياكل منظمة يمكن تحديدها بشكل واضح. إنها انتفاضة شعبية تحشد القوى الجماهيرية من الطبقات الوسطى ومن الطبقات المهمشة في المناطق الحضرية والريفية. وعلى عكس السودان، حيث لعب تجمّع المهنيّين السودانيّين دوراً قيادياً وتنظيمياً، في الجزائر يحصل التنظيم أفقياً وبشكل رئيسي من خلال وسائل التواصل الاجتماعي. تمّ تنظيم الإضراب العام في الأسابيع القليلة الأولى من الانتفاضة، بشكل عفوي إثر نداءات مجهولة المصدر على وسائل التواصل الاجتماعي. كان لهذا الاضراب دور أساسي في إجبار بوتفليقة على التنازل وفي زعزعة التحالفات داخل الطبقة الحاكمة.

تُسمى هذه الحالة بِ “ثورة دون ثوّار” أو “ثورة دون تنظيم”. تتسمّ هذه الديناميكيات والحركات غير المُهيْكلة، والتي لا شكل ولا قيادة لها، بالهشاشة. ورغم ما تتيحه هذه الخاصّية من قدرة على حشد أعداد ضخمة من الناس من مختلف الطبقات الاجتماعيّة وصعوبة قمع أو احتواء قادتها، غير أنّها وعلى المدى الطويل تُمثّل ضعفا فتّاكًا. هناك عدم ثقة كبير في الأحزاب السياسية وفي الطبقة السياسية عموما، لعدّة أسباب منها عمل بعض الأحزاب السياسية مع النظام أو تدجينه لها. ينبغي كذلك التذكير بأنّ النظام، بعد انقلاب سنة 1992، قد روّع المجتمع ودمّر نسيج المساحات الحيوية المدنية. اذ تواصل خلال سنوات بوتفليقة تقييد وإضعاف الأحزاب السياسية المعارضة، ممّا جعل المشهد السياسي قاحلا في الواقع.

هُناك بعض المبادرات من منظمات مجتمع مدني والنقابات والأحزاب السياسية (تجمّعات المجتمع المدني، ندوة 6 جويلية التي أقامها دبلوماسي سابق، القطب الديمقراطي البديل…) التي حاولت إعطاء تعبيرة سياسية للحراك. لكن ولحدّ هذه اللحظة تبدو هذه المحاولات محتشمة وقصيرة العمر، كما أنّها تجاهد من أجل الانغراس في الطبقات المُهمّشة ممّا يعكس أزمة القيادة والمشروعيّة الحادّة التي تعيشها البلاد.

تُمثل هذه “اللاقيادة والطابع الفضفاض” للانتفاضات كعب أخيلها وضعْفا خطيرا لموجة الثورات العربية الأولى (2010ـ 2011) ولهذه الموجة الثانية أيضا (جنبا إلى جنب مع السودان ولبنان والعراق). يجب أن يُفهم هذا النوع من التنظّم في سياق نزع الراديكالية عن المعارضة في المنطقة. للتغلب على الثورة المضادّة المُنظّمة والمُحصّنة هُناك حاجة ماسّة لمنظمات ثورية متماسكة، ذات قيادة قوية ورؤى استراتيجية.

لعب الاتحاد العام للعمّال الجزائريين، أكبر نقابة في البلاد، دورًا رجعيا ضد مصالح العمّال بحكم انتسابه إلى النظام. كانت هناك تحركات داخل الاتحاد في أولى مراحل الانتفاضة لإعادة “تملّكه” وإخراج قياداته الفاسدة والموالية للنظام. احتجّ النقابيون في عدة مناطق على مدار الصيف ممّا اضطرّ الأمين العامّ إلى التنحّي، لكنّ الذي أتى بعده لم يكن أفضل.

لعبت النقابات العمالية المستقلة دورًا وشاركت في الديناميكية الثورية الحالية، ولكنّ دورها، على عكس تونس والسودان، كان محدودًا للغاية. ويرجع ذلك في المقام الأول إلى إضعافها بشكل كبير على مدى العقود القليلة الماضية وتبني قياداتها مواقف اصلاحيّة متساهلة تجاه النظام القائم.

على سبيل المثال، في الوقت الذي كانت فيه القيادة العسكرية العليا ترفض أيّ فترة انتقالية وتصرّ على إجراء انتخابات رئاسية بشكل عاجل (أفريل-جويلية 2019)، لم تنظّم هذه النقابات المستقلة نفسها أيّة حملة من أجل اضرابات تجبر العسكريّين على التراجع، كما كان الحال مع السودان.

 

 

وبدلاً من ذلك، كان اتحاد النقابات المستقلة يدعو إلى انتقال ديمقراطي قصير لمدة ستة أشهر فقط. فيما كان آخرون يطالبون بالحوار، وحتّى أنّهم اقترحوا قائمة أسماء للتفاوض مع النظام. لم تكن هذه الاستراتيجية مفيدة للعملية الثورية التي كانت بحاجة إلى المزيد من الجهود لتصعيد المقاومة من خلال زيادة مشاركة العمّال في الانتفاضة.

على الرغم من كل هذه العيوب، أضربت النقابات المستقلّة وخرجت في مسيرات خاصّة بها. نظّمت النقابات في قطاعيْ الصحة والتعليم العديد من الإضرابات والاحتجاجات تضامنا مع الحركة الشعبية وللمطالبة بحقوق العاملين فيها. وقد بدا واضحًا دعم مسيرة غرّة ماي 2019 الضخمة للديناميكية الثورية. ومع ذلك، لم تتمّ الاستجابة للدعوة إلى الإضراب العام في أكتوبر، باستثناء بعض الإدارات في منطقة القبائل. كما دعمت نقابات المحامين والقضاة الحراك من خلال رفض الإشراف على انتخابات جويلية 2019 (الملغاة) في ظل النظام الحالي. لقد كان الطلاب فاعلين في الحراك، اذ واصلوا تنظيم مسيراتهم الأسبوعية، وبالتالي تأكيد حضورهم في الحركة الشعبية كقوة نشطة يمكنها أن تأخذ زمام المبادرة والقيادة.

 

انّها ثورة!

لم تشهد الجزائر، منذ الاستقلال عن المستعمر الفرنسي سنة 1962، أحداثًا مصيرية كهذه، ممّا يجعل هذه اللحظة ثوريّةً ومليئة باحتمالات التجذر وتصعيد الكفاح. من الممكن ألّا “ترقى” الثورة الجزائرية المتواصلة إلى صورة الثورة المُتعارَف عليها: تمرّدات جماهيريّة يقودها حزب ثوري طليعي يُطيح بالنظام ويسيطر على السلطة، ما يؤدّي إلى نوع من القطيعة مع الماضي وإلى إقامة نظام سياسي واقتصادي جديد بطبقات حاكمة مختلفة. يميل مسار كهذا إلى العنف، إذْ يتشكل من خلال مواجهات دامية مع أجهزة الدولة القمعية، وأحيانًا من خلال الكفاح المسلح.

يقول لينين: ” حتى تقع ثورة، لا يكفي ألّا تريد الطبقات السفلى العيش بالطريقة القديمة؛ بل من الضروري ألا تقدر الطبقات العليا على الاستمرار بالطريقة القديمة”.[15] تنطبق هذه المقولة على الحالة الجزائرية: لم يعُد الناس قابلين للوضع القائم وتصارع الطبقة الحاكمة الحالية كي تسيطر على الحراك. رغم كل الوسائل التي تمتلكها هذه الطبقة للعودة إلى الوضع القديم: من قمع وعنف جسدي واعتقالات وسجن وتضييق على حريّة التنقل وقمع لحريات الإعلام وتكتيكات التقسيم والحكم عبر دعاية الكراهية، والحيل الخادعة لإعطاء الانطباع بحدوث التغيير إلخ، إلّا أنّها فشلت في ذلك. صحيح أنّه لا يوجد الآن أيّ حزب ثوري طليعي يُمثّلُ مصالح الكادحين الفقراء والجماهير الشعبية، وصحيح أيضاً أنّ العمال لا يشاركون بنشاط في الثورة كعمال بسبب ضعف وتفتت الحركة النقابية المستقلة. كما أنّه من الصواب القول أنّ الانتفاضة لم تقم بعدُ بإصلاح النظام أو لم تتمكن من خلق انفصال جذري مع النظام القديم، اذ لا تزال النخب العسكرية الأوليغارشية الحاكمة ممسكة بالسلطة، وإنْ مع بعض التعديل في بنية الطبقات الحاكمة. ومع كُلّ هذا، فإنّ الطابع الثوري للحركة الشعبية لا يخفى على أحد.

لقد تجاوز الحراك خلال أكثر من سنة العديد من العراقيل وتجنّب استقطابًا خطيرًا كما أظهر عبقرية لا يمكن إنكارها في التفطن لألاعيب النظام؛ يكون الرّد دائما عبر تكتيكات وشعارات خلّاقًة مُبهِرة وذكيًّة. عرقل الشباب، على سبيل المثال، الحملات الانتخابية لمرشحي الرئاسة في مختلف مناطق البلاد وذلك عبر منعهم من الوصول إلى مدنهم وكذلك بتعطيل اجتماعاتهم. قاطع الناس بنشاط انتخابات 12 ديسمبر، إذْ أغلقوا بعض المكاتب الانتخابية في منطقة القبائل كما نظموا احتجاجات يوم الاقتراع. في اليوم الموالي وبُعيْد إعلان النتائج خرج الناس للشوارع مرة أخرى للتنديد بالمهزلة الانتخابيّة. بعد الإعلان عن مناقشة مشروع قانون النفط والغاز الملائم للشركات متعددة الجنسيات في البرلمان في نوفمبر 2019، خرج الناس تلقائيًا إلى الشوارع لأوّل مرة يوم الأحد (بداية أسبوع العمل في الجزائر) للاحتجاج أمام البرلمان مستنكرين محاولات النخب الكومبرادوريّة إمعانها في تقويض سيادة البلاد. بالإضافة إلى ذلك، حدث ردّ فعل مماثل عندما أعلن الرئيس تبّون في جانفي الماضي أنّ الجزائر سوف تستغل إمكاناتها من الغاز الصخري. رد الناس: “كسِرْ في باريس، مش هنا!” (أي عبر تقنية التكسير المائي) في إشارة إلى الشركات الفرنسية متعددة الجنسيات مثل توتال المهتمة باستغلال الموارد الصخرية في الجزائر.

 

يعرف الجزائريون ما يستطيع العسكر فعله، وعلى الرغم من آثار صدمة العشرية السوداء ما زالوا مُصرّين بكلّ شجاعة على “دولة مدنية لا عسكرية! “. وهم بذلك يُعرّون حقيقة النظام الجزائري: ديكتاتورية عسكريّة مُختفية وراء واجهة “ديمقراطيّة”.

 

 

في جوهره سيادي ومُعادٍ للاستعمار

بعيدًا عن الجدل الدلالي حول ما إذا كانت حركة أو انتفاضة أو تمرد أو ثورة، يمكن للمرء أن يقول على وجه اليقين أن ما يحدث في الجزائر هو مسار تحوّل يحمل في أحشائه ممكنات الانعتاق. فتطوّرُ الحركة ومطالبها، خاصة فيما يتعلّق بالـ”استقلال” و”السيادة” و”إنهاء نهب ثروات البلاد”، يمثّل أرضًا خصبة لأفكارٍ معادية للاستعمار وللرأسمالية ومعادية للإمبريالية، وحتى إيكولوجية. كما يمكنها أن تفتح الطريق أمام صراع تقدمي من خلال تعبئة القوى الاجتماعية ذات الصلة: العمّال (النظاميّين وغير النظاميّين)، الفلاحون، الشباب المُعطّلون عن العمل، الجماهير الشعبية، وإلخ.

ما يعزّز هذا التأكيد هو مُعاداة هذه الثورة الجزائرية، مثل سابقتها في الخمسينيات، بشدّة للاستعمار. إنّها خصلة فريدة تميّزها إلى حدٍّ ما عن الانتفاضات الأخرى في شمال إفريقيا وغرب آسيا، كما تستدعي المزيد من الاهتمام والتحليل. نظراً لتجربتهم ومعاناتهم في ظل واحدة من أقسى الاستعمارات العنصريّة الإباديّة الاستيطانيّة، يجادل الكثيرون بأن الجزائريين قد ربّوا داخلهم إحساساً عميقاً بالعدالة الاجتماعية، ما يزال حاضرًا وملحوظًا إلى اليوم. يربط الجزائريون ربطًا مُباشرًا بين نضالهم الحالي ونضالهم ضد المستعمر الفرنسي في الخمسينيات، كما يرون جهودهم كمواصلة لعملية محو الاستعمار. حين صدَحت الحناجر: ” الجنرالات إلى المزبلة والجزائر ستحصل على استقلالها” فإنها تعرّي السرديّة الرسمية المُفرغة حول الثورة المجيدة، وتكشِفُ كيف استخدمتها البرجوازية اللاوطنيّة بوقاحة للمواصلة في سعيها للإثراء الذاتي بطريقة مُخزية. هكذا يستعيد الجزائريون إذًا الاعتمادات الثوريّة ويأكّدون رغبتهم في أن يكونوا هُم الورثة الحقيقيون للشهداء الذين ضحّوا بحياتهم لتحرير هذه البلاد. لقد رأينا العديد من الشعارات والأناشيد التي تُصوّر هذه الرغبة في إشارة إلى مُحاربين مناهضين للاستعمار مثل علي لابوانت وعميروش وبن مهيدي وعبّان رمضان: “يا علي (لابوانت) ذُريّتك لن تتوقف أبدًا حتى تنتزع حريتها” و” نحن من ذريّة عميروش ولن نتراجع أبدا”.

تزامن الاحتفال بالذكرى السابعة والخمسين لاستقلال الجزائر مع الجمعة 5 جويلية 2019. فشهد ذلك اليوم تحركات ضخمة مماثلة لتلك التي شوهدت في الأسبوع الأول من الثورة. تزامن 1 نوفمبر 2019، الذي كان أيضًا يوم جمعة، مع الذكرى الخامسة والستين لبدء حرب الاستقلال وكانت لحظة رمزية لثورة 2019.

أضافت رمزية هذين اليومين قوة للمطالب الشعبية بالحرية والسيادة والعدالة. ربط المتظاهرون الوضع الحالي مع الاستعمار ودعوا للاستقلال عن الاستعمار الجديد المفروض عليهم من قبل النخب الفاسدة التي تسهّل نهب بلادهم. يقع تأكيد هذه المشاعر المعادية للاستعمار والمشدّدة على أنْ لا معنى للاستقلال الرسمي من دون سيادة شعبية ووطنية، من خلال العداء القوي لأيّ تطفّل أجنبي أو تدخل إمبريالي. وينطبق ذلك على الجميع، بدءًا من القوى الغربية وصولًا إلى روسيا والصين والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، إلخ.

أخيرًا وليس آخرًا، شهدنا أيضًا تضامنًا لا يتزعزع مع الفلسطينيّين: يفهم الجزائريون أنّ تحريرهم لن يكتمل دون تحرير فلسطين. هذا أمر فريد في العالم العربي ويمكن تفسيره بأنّ الجزائر وفلسطين هما البلدان الوحيدان في المنطقة اللذان عانيا من الاستعمار العنصري الإبادي الإستيطاني. ويمكننا أن نختصر بالقول أنّ الحراك الجزائري هو حركة مناهضة للنظام مع سياسات معادية للاستعمار.

 

التحديات التي تواجه الحراك

كما يحصل في أيّ ثورة تحشد القوى المضادّة لها لعرقلتها، سحقها أو احتوائها. ويحصل ذلك على مستوياتٍ عدّة: سياسية واقتصادية، مادية وخطابيّة، محلّية وإقليمية [16]. يمكن أن يُستَغلَّ زمن الثورات والانتفاضات أيضًا لترسيخ السياسات الاقتصادية غير الشعبيّة ولتقديم المزيد من التنازلات للمستثمرين الأجانب، وهو ما تؤكّده مشاريع تعديل قانون الميزانيّة لعام 2020 وقانون المحروقات الجديد. اذ من المقرّر أن يعيد قانون الميزانية فتح باب الاقتراض الدولي وأن يفرض إجراءات تقشف قاسية من خلال الغاء الإعانات المختلفة وخفض الإنفاق العامّ. باسم تشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر يقع التخطيط لإعفاء الشركات متعدّدة الجنسيات من التعريفات والضرائب وزيادة حصتها في الاقتصاد الوطني. وذلك عن طريق إزالة قاعدة الاستثمار بنسبة 51/49 التي تحدّد نصيب الاستثمار الأجنبي في أيّ مشروع بـ 49%، وهو ما سيقوّض أكثر السيادة الوطنية.

فيما يتعلق بقانون المحروقات الجديد الذي دخل حيز التنفيذ في جانفي 2020، لم يتوان وزير الطاقة السابق عن الإعلان في أكتوبر 2019 أنّ القانون المُقتَرح وُضِع بعد “مفاوضات مباشرة مع شركات النفط الخمس الكبرى”. هذا القانون “صديق” للشركات متعدّدة الجنسيات وسيسمح لشركات النفط بتأمين امتيازات طويلة الأجل وبترحيل أرباحها وإعفائها من المسؤوليات الضريبية ومن نقل التكنولوجيا.

في إشارة إيجابية أخرى تجاه الشركات متعدّدة الجنسيات عُيِّن وزيرٌ جديدٌ للطاقة لعبَ دورًا فعّالاً في صياغة القانون الجديد، والذي علاوة على ما سبق ذكره من حوافز وامتيازات يفتح الطريق أمام المشاريع المُدمِّرَة كاستغلال الغاز الصخري في الصحراء والموارد البحرية في البحر الأبيض المتوسط.

لذلك لا يمكن تقدير الوضع السياسي في الجزائر بشكل وافٍ من دون التدقيق في التأثيرات والتدخلات الخارجية، ومن دون استيعاب المسألة الاقتصادية من زاوية الاستيلاء على الموارد الطبيعية والاستعمار الطاقيّ الجديد والاستخراجية [17].

ويشمل ذلك التنازلات الهائلة التي قُدِّمت للشركات متعددة الجنسيات والضغوط الخارجيّة لإقرار المزيد من اللَبرَلة، وذلك من أجل إزالة جميع القيود المفروضة على رأس المال الدولي ودمج الجزائر بالكامل في الاقتصاد العالمي من موقعٍ تابِعٍ تمامًا. وفي هذا السياق يجدُر الانتباه للزيارة الأخيرة (بداية 2020) لموظّفي صندوق النقد الدولي إلى الجزائر.

إن الحملة المضادّة للثورة الجارية حاليا في الجزائر لا تُقادُ على المستوى المحلّي فحسب، بل أيضا من قبَل تشكيلة من الفاعلين الإقليميّين والدوليّين وكبرى الشركات: على الصعيد الإقليمي، تقود أنظمة الإمارات والسعودية ومصر الثورة المُضادّة مُستخدمَةً أموالها الطائلة ونفوذها لوقف وسحق موجات التمرّد المُعدِيَة والمحتمل اندلاعها في باقي المنطقة. ومن المعروف أنّ القيادة الجزائرية العسكرية العليا تقيم علاقات جيدة بشكل استثنائي مع الإماراتيين. وقد سبق للحركة الشعبية أن انتقدت رئيس الأركان الراحل، الجنرال قايد صلاح، بشدّة لتلقيه الأوامر من الإمارات العربية المتحدة: “قايد صالح عميل الإمارات!”. كما قام خليفته الجنرال شنڨريحة بزيارة تلك الدولة في نهاية شهر فيفري 2020، حيث ظهر في العديد من معارض الأسلحة.

 

من الكاشف أيضا لهذا الاصطفاف اختيار الرئيس تبّون التوجّه إلى المملكة العربية السعودية في أوّل زيارة رسمية له بعد انتخابه. أمّا فيما يخصّ مصر، فإنّ التواطؤ واضح بين “الشقيقتين في الجريمة”. اذ يُذكَر أنّ أوّل زيارة دولة قام بها السيسي بعد انقلابه كانت إلى الجزائر في جوان 2014، بهدف مناقشة التنسيق حول الأمن والطاقة. وإلى جانب السعوديين والإماراتيين، ردّ المصريون الجميل عبر “مصانع المتصيّدين” على الأنترنت وحملات التضليل لتشويه الحراك الجزائري. وعلى المستوى الدولـي، تشترك القوى الغربيّة فرنسا والولايات المتحدّة وبريطانيا وكندا، إلى جانب شركاتهم الكبرى، في تواطؤها ودعمها للنظام الجزائري، إذْ لا تريد أيّ تهديدٍ لمصالحها الاقتصادية والجيوستراتيجية. زِدْ على ذلك الأحداث الجارية في الجارة ليبيا حيث تدور حربٌ بالوكالة تشمل العديد من الأطراف الفاعلة: فرنسا، إيطاليا، السعودية، الإمارات، مصر، تركيا، روسيا، الأردن والسودان… ما يحدث هُناك مُقلق للغاية بالنسبة للمسار الثوري الجزائري وما أبعد منه: لن يزعزع أي تصعيد في الحرب هناك كلّ المنطقة فحسب، بل من المُرَجَّح أن يكبح فرامل الحراك الشعبي الجزائري.

 

هناك تحدٍّ آخر يواجه الحراك ألا وهو احتمال المزيد من الانقسامات التي يجب مطلقًا تجنّبها. لقد نجح هذا الأخير في تجاوز الانقسامات المدعومة من النظام لعقود، فرأينا الناس ينشدون: “عرب وأمازيغ كلّنا خاوة!” كردٍّ على محاولات إشعال نار الخلاف والكراهية ضدّ القبايليّين عبر قرار منع التلويح بالعلم الرامز للثقافة الأمازيغيّة. على الحراك أن يُظهر مرة أخرى نفس الرفض للاستقطاب القديم “إسلاميّون ضدّ علمانيّون”، الذي يميل إلى فرضه الاستئصاليون: أولئك “اللائكاويّون”(laïcards بالفرنسيّة) و”الديمقراطيون” الذين وقفوا إلى جانب النظام العسكري الدموي في حملته الاستئصالية ضدّ كلّ ” الإسلاميين” والمتعاطفين معهم، خلال التسعينات إثر الانقلاب العسكري. أوّلا ليس كُلّ الإسلاميين مُتطابقين ولا يدعو كلّهم إلى العنف. لقد تعلّم بعضهم من أخطاء الماضي وتطوروا في اتجاه قبول المبادئ الديمقراطيّة، مثلما هو حال حركة النهضة في تونس، كما لم يتورّط بعضهم قطّ في التعامل مع النظام القائم. ويبدو أنّ الذين يرفضون التزحزح عن آرائهم هم أولئك “الديمقراطيون” الإستئصاليون، وهم عمومًا نخب فرنكفونية مُسْتَعْمَرَة استوعبت العلمانيّة كمفهومٍ مناهضٍ للدين (حاليًا إسلاموفوبي أو معادي للإسلام). وينبغي عليهم عوض ذلك إدراك الخطأ السياسي الكبير الذي اقترفوه حين انحازوا إلى الجيش في ذلك الوقت.

يجب أن يكون السياق الحالي، حيث يقاوم الناس ويناضلون معًا رغم تعدّد خلفياتهم الاجتماعية وأيديولوجياتهم، فضاءً يُمكن فيه التغلب على هذا النوع من الاستقطابات التقسيميّة. وقد ظهر ذلك مرّة أخرى من خلال شعار جديد صائبٍ: “ليس الإسلاميون ولا العلمانيون…وإنّما العصابة هي التي تسرقنا علنًا”.

في غياب قوة سياسية مهيمنة قادرة على قيادة الحركة وتحويل مطالبها إلى مشروع سياسي واقتصادي متّسق، يصبح من الضروري لجميع قوى المعارضة، سواء الإسلاميّة منها أو العلمانيّة، اليمين أو اليسار، خلق جبهة تكتيكية واسعة من أجل تحويل ميزان القوى بشكل ملموس على الأرض لصالح الحركة الشعبية وحتّى تُجْبِرُ النظام العسكري على التفاوض والتنازل.

درسٌ كهذا يُمكن للانتفاضة الجزائرية تعلّمه من نظيرتها في السودان. اذ يسمح الفراغ الناجم عن عقود من القمع والتشظّي السياسي واحتواء الفاعلين السياسيين، للنظام بالاستمرار في اتخاذ المبادرات وحتى في خلق حقائق معيّنة على الأرض. يجب تجاوز ذلك عبر الالتفاف حول كتلة معارضة موحدة قادرة على تقديم خريطة طريق انتقالية بديلة.

يجب أن يكون شرط الانضمام إلى مثل هذه الجبهة /التحالف هو الإيمان بانتقال ديمقراطي حقيقي سيفتح إمكانيات التغيير الجذري. طبعا من نافلة القول أنّ القوى التقدمية والوطنية بحاجة إلى الحفاظ على استقلاليّتها ومواصلة النضال على المستوى الاجتماعي والاقتصادي ضدّ الليبراليين، سواء كانوا علمانيّين أو اسلاميين، وضدّ جميع القوى المحافظة التي تحمل برنامجًا اجتماعيًا رجعيًا. إن القوى ذات العقلية الثورية بحاجة إلى أن ترتقي إلى مستوى التحدّي وتتحمّل مسؤوليتها التاريخية

الاستعداد للنضال الطويل القادم – الحراك في زمن كوفيد 19:

دخلت الانتفاضة الجزائرية عامها الثاني، وعلى الرغم من الصعوبات والتحدّيات الهائلة التي واجهتها خلال السنة الأولى صمدت الحركة ولم تختفِ. نحن في وضع تعادل نسبي لميزان القوى على الأرض. لم يستطع الحراك الإطاحة بالنظام ولم ينجح هذا الأخير في إجهاد الحراك.

 

بسبب الأزمة الصحية العالمية التي سبّبها وباء الفيروس التاجي، قرّر الحراك وقف احتجاجاته ومسيراته الأسبوعية بحلول منتصف مارس 2020، بعد أن احتفل بذكراه السنوية الأولى في 22 فيفري 2020. استمرّت الاحتجاجات خلال الأسابيع الأولى من مارس مدفوعة برغبة لا تتزعزع للتخلّص من النظام، وكذلك بانعدام ثقة عميق في دعوات السلطات للناس إلى تجنُّبَ التجمّعات الغفيرة.

 

ومع ذلك، ساد صوت الحكمة وأوقفت الحركة الشعبية مؤقتًا تحركاتها في الشوارع في 17 مارس 2020. لكنّ الطاقة المذهلة والديناميكية التي خلقتها هذه الثورة الرائعة لم تختف. لقد تحوّلت في الواقع إلى حملات صحيّة وأنشطة تضامنية مع المحتاجين والفئات الأكثر ضعفا في المجتمع خلال هذه الأوقات الصعبة.

لقد شهدنا العديد من المبادرات لتنظيف وتعقيم الأماكن العامة، وقوافل التضامن مع ولاية بليدة – مركز الجائحة في البلاد في الأشهر الأولى. كما شهدنا حملاتٍ لرفع مستوى الوعي بالوباء وإجراءات إبداعية أخرى ساهمت في الحفاظ على شعلة الحراك متّقدة. في غضون ذلك، يضاعف النظام الاستبدادي الرجعي إجراءاته لقمع وإخْضاع الصحفيّين والنشطاء. اذ يتعرض العديد من النشطاء للمضايقات القضائية فيما سُجن العديد من الصحفيّين منذ بدء الحجر الصحّي. إجمالاً، يوجد عشرات المتظاهرين/ النشطاء السياسيين/ الصحفيين في السجن حاليًا. لقد اعْتُقل العديد منهم بسبب منشوراتهم على مواقع التواصل الاجتماعي واتُّهِموا بـ “تهديد سلامة التراب الوطني”.

 

لم يقف النظام عند هذا الحدّ، بل أصدَر قانون عقوبات جديدٍ من أجل توطيد قمعه للحرّيات الأساسية. تهدف التعديلات الجديدة إلى مزيد خنق المعارضة، كما يُراد منها تجريم بعض الأعمال التي يُعتَبر أنّها “تقوّض أمن الدولة والوحدة الوطنية”. وهي اتهامات وُجِّهت للعديد من النشطاء والصحفيين في الحراك منذ جوان 2019.

ووِفقاً لقانون العقوبات الجديد، يمكن أن يُسجن النشطاء طيلة 3 سنوات بتهمة “نشر معلومات كاذبة”؛ كما يمكن معاقبتهم على “تلقّي تمويل أجنبي”. علاوة على ذلك، يواصل النظام تشديد القيود على وسائل الإعلام عبر الإنترنت من خلال منع الوصول إلى العديد من المواقع المخالفة مثل راديو آم، ومغرب آمرجنت وأنتارلينيْ.

نوعًا ما، نزَلت جائحة كوفيد 19 بردًا وسلامًا على الطبقات الحاكمة في الجزائر. لكنّ الحركة الشعبية لم تقل كلمتها الأخيرة بعد. يجب أن تُستَغَلَّ فترة الحجر وهذه الهدنة المؤقتة كفرصة متاحة للتفكير الجماعي والتعرّف على إنجازات الانتفاضة الشعبيّة، وكذلك على عيوبها وأخطائها. لن يستسلم النظام بسهولة. لهذا السبب، يجب أن يميل ميزان القوى بشكل ملحوظ نحو الجماهير عبر الحفاظ على المقاومة (أعمال العصيان المدني التي لا تعرّض صحة الناس وحياتهم في الأوقات الاستثنائية لـكوفيد 19 أو التحضيرات لأنشطة ما بعد كوفيد 19) لإجبار النظام على الاستجابة لمطالب الناس من أجل التغيير الديمقراطي الجذري وتكريس الحقوق والحريات الفردية والجماعية.

ليس هناك شك في أنّ الحراك سيستأنف نشاطه مع انحسار هذا الوباء، فنفس الظروف التي تسبّبت فيه ما زالت موجودة. هذا إنْ لم تتفاقم بسبب الأزمة الصحية الناجمة عن انتشار فيروس كورونا (أزمة تكشف عن الحالة الأليمة لقطاع الصحة العموميّة الذي تأخر بسبب عقود من نقص التمويل وسوء الإدارة)، إضافةً إلى أسعار النفط المتداعية (المتقلبة حاليًا بين 20 و30 دولارًا للبرميل الواحد).

لتعزيز نفسه، يحتاج الحراك إلى تحقيق مكاسب وانتصارات أخرى من خلال:

 

  • هيكلة الحركة على المستوى الشعبي من خلال دفع وتشجيع التنظيم الذاتي المحلي في أماكن العمل وعبر لجان الأحياء ومجموعات الطلاب والنساء والتمثيليات المحلّية المستقلّة. كذلك عبر فتح المزيد من المساحات للنقاش والمناظرة والتفكير بغاية التوصّل إلى أرضيّة صلبة أو برنامج متناسق. سيعطي ذلك لديناميكيّة الحراك قدرة على الاستمرار في الأمَدَيْن المتوسط والطويل، بما قد يفرض حالة من ازدواجيّة السلطة.
  • الإصرار على حرّيات التعبير الفردية والجماعية وتسخير كل الوقت، دون كلَل، لتنظيم الحملات من أجل الإفراج عن جميع السجناء السياسيين. لا يمكن للحراك تحمّل انتكاسة، في الوقت الذي يتقلص فيه الفضاء الديمقراطي أسبوعًا بعد أسبوع.
  • وأخيرا، ربط العدالة الاجتماعية والحقوق الاجتماعية والاقتصادية بالمطالب الديمقراطية. لأنه إذا استمرّت الجزائر على طريق اللبرَلَة والخصخصة هذا، فبالتأكيد سيشهد الجزائريون المزيد من الانفجارات الاجتماعية والسخط. إذْ لا يمكن تحقيق التوافق الاجتماعي بينما يستمرّ ما تنتجه تلك السياسة من فقر وبطالة ولا مساواة. قد يؤدي التراجع الأخير في أسعار النفط إلى ضرب المسمار الأخير في نعش نظام الريع الذي يعتمد بشكل كبير على صادرات النفط والغاز من أجل بقائه.

في هذا السياق، الشبيه بهدوء ما قبل العاصفة، لن يحفر الجزائريون قبورهم بأيديهم ويوقفون ثورتهم في منتصف الطريق. إذا اعتقد النظام الرجعي الجزائري أنه قادر على دفن الحراك أثناء الوباء، فهو واهِمٌ ولا يعرف أن الشباب الثوري مثل البذور التي تنتظر النموّ مجدّدًا، على أمل أن تزداد قوة وحيويّة. النضال من أجل الدمقرطة سيكون مديدًا، لكنّه سيستمرّ.

 

إهداء

لذكرى إيديرعاشور، الناشط السياسي والنقابي الذي لم يكلّ ولم يملّ، وتوفي للأسف في الأسابيع الأولى للثورة.

نُهدي كذلك هذا الفصل لجميع المعتقلين السياسيّين وثوّار الحراك الذين يعتقدون بضرورة نهوض الجزائريين من جديد بعد انحسار الوباء.

 

[1] Lacheraf, M., 1965. Algérie, nation et société. 2nd ed. Algiers : Casbah-Editions.

[2] Bennoune, M., 1988. The Making of Contemporary Algeria, 1830-1987: Colonial upheavals and post-independence development. Cambridge: Cambridge University Press. See also: Davis, D., 2007. Resurrecting the Granary of Rome: Environmental History and French Colonial Expansion in North Africa. 1st ed. Athens: Ohio University Press.

[3] Fanon, F., 1961. The Wretched of the Earth. London: Penguin Books.

[4] Abbas, F., 1984. L’Indépendance Confisquée. Paris: Flammarion.

[5] Amin, S., 1990. Delinking : towards a polycentric world. London: Zed Books.

[6] Belalloufi, H., 2012. La Démocratie en Algérie: réforme ou révolution? Algiers: Lazhari Labter Editions/Les Editions Apic. See also: Rebah, A., 2011. Économie Algérienne: Le Développement National Contrarié. Algeria: INAS Editions.

 

[7] El Kenz, A., 2009. Ecrit d’Exile. Alger: Casbah Editions

[8] Belalloufi, H., 2012.

[9] Hamouchene, H., 2014. “Algeria, an Immense Bazaar: The Politics and Economic Consequences of Infitah.” Jadaliyya.

[10] Hamouchene, H. et al, 2013. Reinforcing Dictatorships – Britain’s Gas Grab and Human Rights Abuses in Algeria. London: Platform.

[11] Bouteflika, A., 2002. “A Friend in Algeria.” Washington Times.

[12] Hamouchene, H. & Rouabah, B., 2016.  The political economy of regime survival: Algeria in the context of the African and Arab uprisings, Review of African Political Economy

[13] Mohammad, H., 1980. Le F.L.N. Mirage et réalité. Des origines à la prise du pouvoir (1945-1962), Paris: Éd. Jeune Afrique.

[14] For more details, read Rouabah’s excellent account on the different facets of the counter-revolution: The people’s movement in Algeria, eight months on. Africa is a country, 1 November 2019.

[15]  V.I. Lenin, 1914. The Collapse of the Second International. Collected Works, Volume 21. Moscow: Progress Publishers.

 

[16] Rouabah, B., 2019. The people’s movement in Algeria, eight months on. Africa is a country.

[17] Hamouchene, H., 2019. Extractivism and Resistance in North Africa. Amsterdam: Transnational Institute.

 

شارك المقالة

اقرأ أيضا