“إسرائيل منقسمة بين مشروعي مجتمع لا يمكن التوفيق بينهما”: حوار مع ميشال فارشافسكي*

ترجمه عن الفرنسية محمد رامي عبد المولى

• ما حدث يوم 7 تشرين الأول / أكتوبر يمثل أكبر عملية قتل جماعي ليهود منذ الحرب العالمية الثانية. كيف تعيش هذه المفارقة بين دولة أنشئت لتمّكن اليهود الذين تتهددهم الأخطار في العالم من العثور على ملاذ آمن، وظهرت اليوم عاجزة عن حماية مواطنيها وضمان أمنهم؟

يقدم المؤرخ اليهودي الإنجليزي إسحاق دوتشر صورة في غاية البلاغة والتناسب مع موضوعنا. هناك شخص هارب من شخص آخر يطارده ويهدده بسكين، فيدخل أول بيت يعترض طريقه بحثاً عن ملاذ آمن. لكن، عوض أن يقول “أستسمحكم عذراً، حياتي عرضة للخطر في الخارج وسيتوجب أن أبقى عندكم لبعض الوقت”، شرع بسرعة كبيرة في دفع أصحاب البيت من المدخل إلى غرفة الجلوس ومنها إلى المطبخ حتى انتهى الأمر بحشرهم في غرفة التخزين. وفي نهاية الأمر يقول: “لطالما كان كل شيء هنا لي”. إذاً لم يخْتر هذا الشخص طلب اللجوء والأمان. أتمنى أن يكون بمقدورنا اليوم مراجعة أنفسنا وتغليب الحس السليم. لقد ورثنا عن أسلافنا الخبرة التي أكسبتهم إياها قرون من العيش في الشتات وما ينطوي عليه ذلك من قدر معين من الحس السليم والقدرة على تجنب السلوكيات الانتحارية.

• هناك أصوات في إسرائيل تدافع عن مبدأ تبادل الرهائن المحْتجْزين من قبل “حماس” في غزة مقابل سجناء فلسطينيين؟ ما رأيك في هذا؟

أتمنى أن نتوصل إلى مثل هذا الاتفاق. لكن للأسف هذه الأصوات معزولة، في حين ان التغطرس يسيطر على عقول الطبقة السياسية وجزء كبير من الرأي العام، وهذا حقا أمر سيء.

• يوناتان زيغن نجل المناضلة من أجل السلام فيفيان سيلفر المفقودة منذ هجوم حماس في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، يقول ويردد ان الانتقام لا يمثل استراتيجية. هل يجد كلامه آذاناً صاغية في إسرائيل اليوم؟

هذا الكلام يبدو لي سليماً ومنطقياً للغاية.. لكن البلد في حالة انفعال قصوى. كثيرون يؤمنون بهذا الكلام لكنهم يلتزمون الصمت في الوقت الراهن لا فقط خوفاً من التعبير عن أنفسهم، لكن أيضاً لأنه سيتوجب عليهم أن يبرروا ويشرحوا أن موقفهم لا يعني دعماً لحماس، الخ.

• يقول العديد من المناضلين في معسكر السلام في إسرائيل انه لم يسبق لهم أن عاشوا وضعاً كارثياً إلى هذا الحد. هل تشاطرهم هذا الإحساس؟

الذين يقولون هذا هم إما شباب أو أن ذاكرتهم قصيرة. لا أتوقف عن القول بأن الأسوأ – من وجهة النظر هذه – بات وراء ظهورنا. عشنا ما بين 1967 وحرب “كيبور” (“حرب يوم الغفران”/أكتوبر 1973) فترة من الاجماع الوطني الكلي. كانت الأصوات الناشزة أقلية للغاية وينظر اليها باعتبارها مجنونة. وتوجب انتظار سنة 1973 لكي تزول الغشاوة عن الأبصار ويقول الناس “لم يكن كلامكم خالياً من الصواب”. لكن هذا صحيح، لم نعرف منذ وقت طويل مثل هذه الأوقات من عزلة الأصوات “المتعقِّلة” فما بالك بالأصوات الراديكالية.

يبدو اليوم، ان هذه الأصوات الداعية إلى تغليب العقل تأتي أساساً من عائلات الرهائن – الذين احتجزتهم حماس خلال عمليات القتل الجماعي التي ارتكبتها يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر- والمقربين منهم.

بالنسبة لهؤلاء، لا يتعلق الأمر بشعارات بل بأمور ملموسة وواقعية. اما نتنياهو فمنطقه خطابي. خطاب الثأر. وهو ليس لوحده، فجزء هام من المجتمع الإسرائيلي يتبنى هذه المواقف التائقة للحرب على إيقاع “سننتصر، سننال منهم”. لكنهم ليسوا من سيدفع الثمن. ولو ان نتنياهو، حسب رأيي، سيدفع الثمن في نهاية المطاف.

• هل من الممكن أن يدفع الثمن السياسي لهذه الأحداث الشنيعة والدوامة التي أفضت إليها؟ أين تقع مسؤولية نتنياهو؟

مسؤوليته كاملة، فهو لم يتوقع ما حدث ولم ينصت إلى الذين كانوا يحذرونه من انفجار الأوضاع. دائماً ما كان متعجرفاً ومصاباً بعمى كبير. أحاط نفسه بأشخاص غير مناسبين، فحكومة أقصى اليمين التي يترأسها مكونة من مجرمين ومهووسين دينياً. هذا البلد لا يُقاد بشكل سيء، بل لم يعد هناك من يقوده.

• مع هذه الحكومة كسب اليمين الديني المتطرف وتيار “الألفية” (1) والمستوطنون ثقلاً هائلاً ومفرطاً؟ هل يعني هذا انهم يسيطرون على السلطة في إسرائيل؟
المستوطنون لديهم الكثير من النفوذ، بما يكفي لتوجيه سياسة الحكومة. غير أن السلطة في إسرائيل هي أيضاً في صف صناعة التكنولوجيا المتطورة والتي تختلف مصالحها عن مصالح المستوطنين. من وجهة نظر الرأسمالية الحديثة، فإن السياسة التي يمثلها المستوطنون لا تخدم المصالح الاقتصادية. هناك تصدع داخل القوى الحاكمة في إسرائيل التي تتجاذبها اتجاهات سياسية مختلفة.

• هل يمكن أن يؤدي هذا الأمر إلى تبدلات سياسية في المستقبل القريب؟

لا أحد يعرف. إذا ما صدّقنا ما تقوله استطلاعات الرأي والصحف فإن نوايا التصويت لحزب الليكود الذي يقوده بنيامين نتنياهو قد تهاوت. ومع ذلك فإن الرأي العام الإسرائيلي مزاجي ومتقلب للغاية، لذا أمتنع عن إعطاء توقعات.

• يصطف الجزء الأعظم من الرأي العام الإسرائيلي – حتى ان كان منقسماً سياسياً – وراء فكرة الحرب على غزة. كيف يمكن في ظل هذه الظروف أن تجد أصوات السلام المطالبة بتسوية سياسية آذاناً صاغية؟

حتى إذا استثنينا المستوطنين تماماً، فليس هناك إسرائيل واحدة. هناك تل أبيب، المدينة/المجتمع/ الثقافة التي تدير ظهرها للصراع وتنظر نحو البحر متمثلة نفسها كفقاعة/قوقعة أوروبية تتمتع بمستوى معيشي مرتفع. ثم هناك إسرائيل أخرى في المدن الفقيرة مثل “سديروت” التي تدفع ثمناً باهظاً في الوقت الحالي. هناك تمّ تكديس معظم المهاجرين القادمين من شمال أفريقيا، وهم الأكثر تأثراً بالخطاب القومي، ويرون فيه “استرجاعاً لكرامتهم الضائعة”. لا جديد في الأمر. هذه ظاهرة تلازم إسرائيل منذ قيامها تقريباً.

• هل هذا المجتمع الإسرائيلي المتصدع مستعد لدفع ثمن الخسائر الثقيلة في الجنود التي ينطوي عليها القيام بهجوم بري في غزة، واحتمال اشتعال الأوضاع إقليمياً؟

بالنسبة لتل أبيب فهي بوضوح ليست كذلك. والدليل على ذلك سكان المدينة الذين يغادرون البلاد اليوم. هؤلاء يريدون التخلص من نتنياهو أكثر من أي أمر آخر. هذا واضح. سبق أن شهدنا هذه الظاهرة بشكل محدود في سنة 1967 مع هجرة آلاف العائلات الميسورة التي شعرت بخوف كبير من هذه الحرب التي قد تندلع، وقد اندلعت فعلاً.

• وزير الاتصالات، شلومو كرعي، يهدد بملاحقة ومصادرة أملاك الأشخاص الذين يشتبه في أن تصريحاتهم”“تخدم مصلحة العدو”. كما تم تعليق عضوية النائب في الكنيست عوفير كسيف بسبب معارضته للحرب في غزة. كيف تحللون هذه الانحرافات السلطوية الجديدة؟

يمكن أن أضيف مثالاً آخر، فقد تم مؤخراً شطب محامية فلسطينية من جداول هيئة المحامين دون اتباع أي إجراءات، فقط لأنها نشرت علم فلسطين في إحدى شبكات التواصل الاجتماعي.

هذا التطور لا يفاجئني لكنه يخيفني: التدهور فظ وسريع جداً. ليست هناك ركيزة قيمية مشتركة. لطالما كان الشرخ الذي يعْبر المجتمع الإسرائيلي عميقاً، لكن هذه المرة تذهب الأمور إلى حدود أبعد بكثير. كثيرا ما سوئلت عن احتمالات اندلاع حرب أهلية، وكنت دائماً أجيب ان هذا ليس ممكناً.

اليوم يتراجع يقيني هذا بشكل كبير. وهذا غير مرتبط بغزة. لا يتعلق الأمر فقط ب”اسرائيلان” متمايزَتَيْن سوسيولوجياً، بل نحن أيضاً في حضرة مشروعين مجتمعيين لا يمكن مصالحتهما والجمع بينهما. ووسط كل هذا تُدار البلاد من قبل حكومة هي الأضعف في تاريخنا، ونتنياهو عاجز عن ضبط وزراء يعتبرهم البعض مجرد مجانين مهتاجين.

• في السياق نفسه، بادر إيتمار بن غفير وزير الأمن القومي بتوزيع 15000 قطعة سلاح على مستوطنين ومدنيين في “المدن المخَتلطة”. هل يسعى إلى إشعال الأوضاع في الضفة الغربية وحتى داخل إسرائيل ذاتها؟

ما يحدث يعكس رغبة جزء لا يستهان به من الرأي العام والطبقة السياسية في إتمام “النكبة”، ولسان حالهم يقول: “لم ننهِ العمل في حرب 1948-1949، يمكننا إكمال المهمة الآن”. يرى الفلسطينيون في خلفيات ما يجري حالياً في غزة رغبة في طرد جزء من سكان هذا الاقليم نحو سيناء.

هذا مشروع يختمر في أذهان بعض القادة الإسرائيليين. قبل سنة واحدة أو سنتين كنت لأقول لك “هذه أحلام مجانين”، لكن الآن لا يجب استبعاد أي شيء.

سأخبرك بأمر بالغ القسوة لكنني أؤمن به تماماً: إذا ما استيقظنا ذات صباح واكتشفنا انه لم يعد هناك أي فلسطيني وأي عربي، لا في غزة ولا الضفة الغربية ولا إسرائيل، ودون أن نكون قد قمنا بأي فعل خاطئ، ولم تتلطخ أيدينا بالدماء في سبيل ذلك، فإن شعور أغلبية الإسرائيليين سيكون الارتياح الشديد. هذه ليست رغبة بل أسوأ من ذلك: حلم. لا يتعلق الأمر حتى بمخطط، فقط : “آه، سيكون ذلك جيداً”.
هناك أيضا حالة الحركة الإسرائيلية المناضلة من أجل السلام والتي تستمد قوتها الفعلية من طابعها اليهودي-العربي. 20 في المئة من السكان كانوا في صفنا. في سنة 2000 كُسِرت هذه الجبهة ولم يعد العرب يأتون للتظاهر في تل أبيب. كان اليهود هم المتحدِّثون باسم الحركة في حين يشكل العرب الكتلة الأكبر من المتظاهرين. فلسطينيو إسرائيل كانوا يقولون لنا هذا “إن كنتم راغبين في التظاهر تعالوا إلينا. لن نأتي مجدداً للتظاهر عندكم”. هذه هزيمة ثقيلة.

• هل تعتقد إن الولايات المتحدة مستعدة للسير خلف الحكومة الإسرائيلية إلى النهاية، حتى وإن كان الثمن كارثة إنسانية ضخمة واشتعال الأوضاع إقليمياً مما قد يؤدي إلى مواجهة مباشرة مع إيران؟

ليست لدي إجابة. يجب حسب رأيي أن ننتبه إلى تطور – في الاتجاه الصائب – موقف جزء من المجتمع اليهودي الأمريكي الذي لم يعد يتماهى مع إسرائيل ولم يعد يرى نفسه فيها. على مدى أطول، أعتقد أن هذا الأمر سيمثِّل مشكلة كبيرة لإسرائيل. لم تعد الولايات المتحدة ذلك الحليف الذي يقدم دعماً مطلقاً بلا أي شروط. الأمريكيون يقولون: “نحن ندعمكم لكن لدينا ما نقوله”.

• نشرت في 2001 كتاباً عنوانه “إسرائيل-فلسطين: التحدي ثنائي القومية”. هل مازلت اليوم تؤمن بمثل هذا الأفق؟

من الجيد تفادي سوء فهم واجهني في كثيرٍ من الأحيان. لم أتحدث أبداً عن “حل ثنائي القومية” بل عن تحدي. مهما سيحدث ومهما كان الحل السياسي: دولة، فدرالية، دولتين، لا أحد يمكنه التكهن – فهناك كيانان ومجتمعان يعيشان هنا.

إذا أردنا حلاً سلمياً فيجب أن نضمن وجود هذين الكيانين مهما كان الإطار السياسي. ويجب أن تكون هناك مساواة، وهذا هو الأمر الأصعب نظراً لأن نقطة الانطلاق هنا هي وضعية من اللامساواة التامة. مبدأ المساواة لا غنى عنه إذا ما أردنا التفكير في تعايش حقيقي.

أما بخصوص الشكل الذي ستأخذه هذه التسوية، فالتلمود يقول: “منذ تدمير معبد أورشليم مُنحت النبوءة للأطفال وضعاف العقول”. لم أعد طفلاً وأرجو ألا أكون ضعيف العقل. لذا امتنع عن التنبؤ. أي حل سيكون الأفضل على مدى طويل؟ لا أعرف على الإطلاق!

• في فرنسا يتم الخلط بين كل تعبير عن التضامن مع الفلسطينيين و”تمجيد الإرهاب”…

فرنسا بلد بائس تحكمه قيادة بائسة. لا أعرف ماذا يمكنني أن أقول أكثر. هذا ما أشعر به حقيقة. استمعت إلى دو فيلبان بتحسر: في وقت ما كان لفرنسا ما تقوله للعالم. لقد ولى ذاك الزمن.

______________________

• كاتب صحافي وأحد وجوه اليسار الراديكالي داخل الحركة المناضلة من أجل السلام في إسرائيل. في 2018 نشر ميشيل فارشافسكي – الذي صدرت له عدة مؤلفات تفضح احتلال فلسطين واستعمارها – كتابه الأخير الصادر عن دار النشر “سيليبس” Syllepse والمعنون “إسرائيل: وقائع كارثة معلنة.. ويمكن تفاديها”.
• نشر الحوار في صحيفة “لومانيتي” L’Humanité الفرنسية بتاريخ 22 تشرين الأول/أكتوبر 2023. مع الشكر للوران ليفي.

______________________

1- ملاحظة من المترجم: هي نظرية مسيحية في الاصل اعتمدتها بعض الطوائف منذ البدايات وتقول بأن المسيح سيعود إلى عالمنا هذا مع ملائكته والقديسين ليحكم الأرض كملك مدة ألف عام، ومن هنا جاءت تسمية الألفية. انظر: https://t.ly/MqP9R
كما توجد الصهيونية المسيحية هو الاسم الذي يطلق عادة على معتقد جماعة من المسيحيين المنحدرين غالباً من الكنائس البروتستانتية الأصولية والتي تؤمن بأن قيام دولة إسرائيل عام 1948 كان ضرورة حتمية لأنها تتمّم نبؤات الكتاب المقدس، وتشكل المقدمة لمجيء المسيح الثاني إلى الأرض كملكٍ منتصر. يعتقد الصهاينة المسيحيون أنه من واجبهم الدفاع عن الشعب اليهودي بشكل عام وعن الدولة العبرية بشكل خاص، خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية حيث يشكلون جزءاً من اللوبي المؤيد لإسرائيل. انظر: https://t.ly/r4kJm

المصدر: هنا

 

شارك المقالة

اقرأ أيضا