من أجل الحق في الإجهاض الآمن: نحو تحرر فعلي لأجساد النساء
بقلم:أ-م.
في المغرب، لا يزال الإجهاض مُجرَّماً في معظم الحالات، تحت غطاء القانون الجنائي الذي يعود لعهود الاستعمار. هذا التجريم لا يوقف الإجهاض، بل يدفعه نحو السرية والمخاطر، ما يُحوّله إلى مسألة حياة أو موت، خصوصاً بالنسبة للنساء والفتيات من الطبقات الشعبية. الإجهاض، كما نراه نحن الاشتراكيات والاشتراكيين الثوريين، ليس فقط قضية صحية، بل قضية تحكم في الأجساد، ومسألة تحرر نسوي بامتياز .
إجهاض سري… موت معلن
يحظر القانون الجنائي المغربي الإجهاض ما لم يقُم به طبيب أو جرّاح مرخص له بمزاولة المهنة، وما لم يُعدّ ضروريًا للحفاظ على صحة المرأة أو حياتها. ويعاقب القانون على الإجهاض أو محاولة الإجهاض بالحبس من ستة أشهر إلى سنتَيْن وغرامة، فضلًا عن عقوبات إضافية بالحبس بموجب أحكام قانونية تجرّم العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج.
في أغلب الأحيان، لا تجد النساء أمامهن خيارًا سوى اللجوء إلى طرق سرية للإجهاض غير خاضعة لأي تنظيم، وغير آمنة، وكثيرًا ما تكون باهظة التكاليف. وقد وصفت النساء كيف اضطررن للّجوء إلى شتى الأساليب الخطيرة للإجهاض، بما في ذلك الإستخدام العشوائي للأدوية، وتجرعّ المخاليط الكيميائية الخطيرة، وحتى أشكال العنف البدني، الذاتي أو الممارس من شخص آخر؛ بل إن بعض النساء حاولن حتى الانتحار
وفقاً لتقديرات منظمات نسوية وطبية، تُجرى حوالي 600 إلى 800 عملية إجهاض سري يومياً في المغرب. هذه العمليات تتم في ظروف غير آمنة، وغالباً في أماكن غير صحية، ما يُعرّض النساء لنزيف، عقم، أو حتى الموت.
في السنوات الأخيرة، عرفنا حالات وفاة لفتيات ونساء بسبب الإجهاض السري، من بينهن قاصرات، أو ضحايا اغتصاب، أو نساء لم يستطعن تحمّل عبء حمل غير مرغوب فيه. من بين هذه الحالات نذكر وفاة فتاة قاصر بمدينة ميدلت سنة 2022، والتي كانت ضحية اغتصاب انتهى بإجهاض سري في ظروف مميتة.
تدخل ذكوري سافر في قرارات النساء
حتى في الحالات القليلة التي يُسمح فيها قانوناً بالإجهاض – مثل الخطر على حياة الحامل أو حالات التشوهات الخلقية – فإن الأمر لا يُترك للمرأة. يُفرض أن يحصل الطبيب على «إذن» من الزوج أو الوصي أو الطبيب الإقليمي، ما يعني أن السلطة الذكورية تستمر في التحكم في أجساد النساء حتى في أقصى حالات الخطر.
هذا التدخل الذكوري ليس عارضاً بل هو تجسيد لبنية سلطوية أبوية لا ترى في النساء مواطنات مستقلات بل مجرد «موضوعات خاضعة» تُدار حياتهن نيابة عنهن.
قانون دولة يحكم بالموت على النساء بالموت
رغم أن الدولة المغربية وقّعت على اتفاقية سيداو وبروتوكولها الملحق، ورغم كل خطابات «الحداثة وحقوق الإنسان»، فإنها ما تزال تجرم الإجهاض، بل وتطارد من يُجريه أو يُطالب به. النقاش الرسمي الأخير الذي فُتح حول تعديل قانون الإجهاض انحصر في توسيع طفيف لحالات الاستثناء، بل وأُرفق بمزيد من القيود والعراقيل.
كلف الملك سنة 2015 كلا من وزير العدل ووزير الأوقاف ورئيس المجلس الوطني لحقوق الإنسان، قصد إطلاق المشاورات مع مكوّنات المجتمع المدني ومع الهيئات والمؤسسات حول تقنين الإجهاض، وقد خلصت نتائج اللجنة إلى إضافة استثناءات جديدة للسماح بالإجهاض الطبي.
وفي سنة 2016، تضمن مشروع مراجعة القانون الجنائي تقنينا للاستثناءات الجديدة حيث تضمنت المسودة ثلاث حالات، كالآتي:
الحالة الأولى ينصّ عليها الفصل 1-453 من “عدم المعاقبة على الإجهاض إذا كان ناتجاً عن اغتصاب أو زنا المحارم، وذلك شريطة الإدلاء بما يثبت تقديم شكاية في الموضوع، وأن يقوم به الطبيب في مستشفى عمومي أو مصحة معتمدة لذلك، وأن يتم قبل انقضاء تسعين يوماً على الحمل”. وينصّ هذا الفصل على “إرشاد الحامل من قبل الطبيب شخصياً أو بواسطة مساعدة اجتماعية إلى الإمكانيات القانونية المتاحة لها بخصوص كفالة الطفل وإلى الأخطار الصحية التي يمكن أن تتعرض لها من جرّاء الإجهاض. وتمنح عند الاقتضاء مهلة للتفكير لا تقل عن ثلاثة أيام. ويعدّ الطبيب تقريراً بذلك يوضع في ملف المعنية بالأمر”.
الحالة الثانية ينص عليها الفصل 2-453 من “عدم المعاقبة على الإجهاض إذا كانت الفتاة الحامل مختلة عقلياً شريطة أن يقوم به طبيب في مستشفى عمومي أو مصحة معتمدة لذلك، وأن يتم قبل انقضاء تسعين يوماً على الحمل، وأن يتم بموافقة الزوج، أو أحد الأبوين إذا لم تكن متزوجة، أو النائب الشرعي إذا كانت قاصراً، أو الشخص أو المؤسسات المعهود إليها رعايتها”. وينصّ الفصل على “ضرورة إشعار مندوب وزارة الصحة في المنطقة أو الإقليم قبل إجراء عملية الإجهاض”.
أما الحالة الثالثة فينص عليها الفصل 3-453 الذي جاء فيه: “يسمح بالإجهاض في حال ثبوت إصابة الجنين بأمراض جينية حادة أو تشوهات خلقية غير قابلة للعلاج وقت التشخيص، بواسطة شهادة تسلمها لجنة طبية يعينها وزير الصحة في كلّ جهة من الجهات، على أن يتم الإجهاض قبل مرور 120 يوماً من الحمل”.
ويعاقب مشروع القانون على حالات الإجهاض الأخرى التي تتم دون احترام الشكليات القانونية بالحبس من شهر واحد إلى سنة واحدة مع غرامة تراوح بين 2000 و5000 درهم (تعادل ما بين 200 و500 دولار)، ويلزم كلّ مستشفى عام أو مصحة معتمدة لإجراء الإجهاض أو يحتمل أن تجرى فيها عمليات الإجهاض المسموح بها، أن تفتح سجلاً خاصاً تحدّد نموذجه وزارة الصحة ويوقَّع قبل البدء في استعماله من قبل وكيل الملك لدى المحكمة الابتدائية. ويعاقب على عدم توفّر السجل، بغرامة من 10.000 الى 100.000 درهم (ما بين 1000 و10.000 دولار).
وتعليقا على هذا المشروع اعتبر رئيس الجمعية المغربية لمكافحة الإجهاض السري شفيق الشرايبي إنّ “الحالات الثلاث المحددة غير كافية، لأنها لا تمثّل إلا 10% من الحالات الواقعة في المجتمع. القانون لا يشمل القاصرات مثلاً، ولا الحمل غير المنتظر الذي قد يسبّب الاكتئاب إلى درجة انتحار الحامل، أو الفتاة المهدّدة بالقتل من طرف أهلها، أو المهدّدة بالطرد من البيت”.
هذا التناقض بين الالتزامات الدولية و القانون المحلى وواقع معاناة النساء ضحايا القهر الذكوري الدي يجبرهن على المخاطرة بصحتهن أو حياتهن يُبرز مرة أخرى أن مصلحة النظام ليست في حماية حياة النساء بل في استمرار الضبط والتحكم في أجسادهن بما يخدم توازنات اجتماعية وسياسية رجعية.
الرجعية الدينية وتقديس اضطهاد النساء
خطاب القوى الدينية الرجعية، سواء الرسمية أو «المعارِضة»، يعزف على وتر «حرمة الجسد»، «القتل»، و»الإباحية»، في محاولته تبرير تجريم الإجهاض. لكن هذا الخطاب، في جوهره، لا يدافع عن الحياة بل يدافع عن النظام الأبوي والسلطة الذكورية، ويُرسّخ صورة المرأة كوعاء بيولوجي بلا إرادة.
تجرم الرجعية الدينية الإجهاض باسم «حماية الروح». غير أن هذه الرجعية نفسها، التي تدعي الرحمة، تُنكر على الأطفال المولودين خارج إطار الزواج حقهم في النسب وفي أبسط الحقوق المدنية والإنسانية. إنها تُحرِّم الإجهاض باعتباره «قتلاً للروح»، لكنها في الواقع تفرض الموت الاجتماعي والقانوني على الأطفال المزدادين من علاقات غير معترف بها. وبهذا، يظهر زيف هذا الخطاب الأخلاقي الذي لا يدافع لا عن الحياة ولا عن الكرامة، بل يهدف فقط إلى فرض نظام اجتماعي ذكوري يعاقب النساء على استقلاليتهن الجنسية وعلى جرأتهن في رفض القواعد المفروضة عليه
هؤلاء لا تهمهم حياة النساء، ولا مصير القاصرات المغتصبات، ولا معاناة العاملات المنهكات، بل تهمهم السيطرة على المرأة باعتبارها حجر الزاوية في إنتاج الطاعة والتبعية.
موقفنا: الحق في الإجهاض الامن، حق إنساني واجتماعي
نحن كاشتراكيات واشتراكيين ثوريين، نعتبر أن الحق في الإجهاض الإرادي والآمن هو جزء لا يتجزأ من نضالنا من أجل تحرر النساء ومن أجل مجتمع خال من الاستغلال والاضطهاد. لا يمكن الحديث عن حرية أو مساواة دون الحق في التحكم في الجسد وفي الإنجاب.
نطالب ب:
- الاعتراف بحق النساء في وقف الحمل غير المرغوب فيه.
- توفير خدمات إجهاض آمنة، مجانية، وذات جودة عالية في المستشفيات العمومية.
- إلغاء كل أشكال التراخيص والوصاية الذكورية على أجساد النساء.
- خدمات الصحة الجنسية والإنجابية الشاملة متاحة بأسعار ميسورة للجميع، وخصوصًا ذوي الدخول المنخفضة أو مَن يعانون من الفقر، من خلال نظام الصحة العامة
- وضع قانون لتنظيم الإجهاض و إخراجه من القانون الجنائي وإدراجه ضمن قوانين الأخلاقيات الطبية المؤطرة للبرتوكولات الصحية، وذلك من أجل تمكين الأطباء من العمل في إطار قانوني شفاف.
ربط هذا النضال بتحرير اقتصادي واجتماعي شامل يضع النساء في قلب التغيير الاجتماعي.
إن معركتنا ضد تجريم الإجهاض ليست فقط معركة نسوية، بل هي أيضا معركة طبقية، لأن النساء الأكثر فقراً هنّ من يدفعن الثمن الأغلى. إن انتزاع هذا الحق هو خطوة نحو مغرب تسوده الكرامة والعدالة الاجتماعية، مغرب لا تكون فيه الأجساد ميادين للهيمنة بل فضاءات للحرية.
نضال النساء من أجل حقهن في الإجهاض هو نضال من أجل الحرية والمساواة. ولن يكون تحرر النساء كاملاً دون سيادة كاملة على أجسادهن.
اقرأ أيضا