نحو اكتساب أدوات نضال عمالية وشعبية نوعية

الافتتاحية, سياسة30 يونيو، 2025

قبل 44 سنة، تفجرت بعنف طاقةُ الاحتجاج الشعبي بمدينة الدار البيضاء يوم 20 يونيو، موازية لإضراب عام عمالي، ظل جزئيا لامتناع أكبر مكونات الحركة النقابية عن الانخراط فيه. اتخذ تدخل الجماهير، من شباب الأحياء الشعبية المعطل، وفئات كادحة بأسفل السلم الاجتماعي ناجمة عن ضعف تصنيع الاقتصاد، أشكال تفريغِ سخطٍ بالغةِ العنف، من قبيل تخريب أمارات الثراء في الفضاء العام وإحراقها، ومواجهات صدامية قوية مع جحافل القمع. كانت الانتفاضة من صنف الانفجارات العفوية التي اشتهرت بها تلك الحقبة المطبوعة ببداية ظهور نتائج تطبيق سياسات صندوق النقد الدولي و البنك العالمي المتقشفة. لم تكن انتفاضة الشارع تدخلا نضاليا لطليعة عمالية تقود الإضراب العام، بل كانت انفلاتا ليس لقاعدة النقابة العمالية من تحكم الجهاز، بل لجماهير كادحة غير منظمة تعوزها أدوات نضال لكنها مدفوعة بشدة القهر إلى الرد لتأكيد رفضها لسياسات الدولة المدمرة اجتماعيا، وهذا بالذات في سياقات زيادات غير مسبوقة في أسعار مواد أساسية، أي ضرب مباشر للقوت اليومي.

أما الإضراب العام الجزئي بحد ذاته فقد تم تنفيذه بكيفيات مضبوطة، في سياق ما يميز الحركة العمالية المغربية من انعدام تقاليد التسيير الديمقراطي للنضالات، وبلا أفق سياسي عمالي، إذ أريد به من جهة ضغط محسوب ردا على رفع الأسعار، وفق الحساب السياسي للقوة الحزبية الماسكة بمقاليد النقابة الداعية للإضراب. فالاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، ضمن منظوره التاريخي القائم على الضغط على النظام لبلوغ تسويةِ تقاسمِ السلطة معه، على غرار حلمه المجهض المتجسد في حكومة عبد الله ابراهيم، دأب على استعمال ذراعه النقابي للتحريك عند الحاجة بنحو متحكم به خشية تطور النضال العمالي في أفق استقلاله لغاياته الخاصة.
وبالنظر إلى شدة القمع الذي انهال على الشباب المنتفض بالشارع، وعلى المنظمة النقابية، انتهى التحرك النضالي ل 20 يونيو في يومه، لتدخل النقابة مرحلة تضميد الجراح، واستعادة النفس، لولوج طور جديد من النضالات بعد منتصف الثمانينات. أما الشارع البيضاوي، والأحياء الشعبية التي تتدفق منها قوى التمرد فقد أُخضِعا لسياسة تدبير إداري وبوليسي أفلحت فعلا في تحييد الدار البيضاء، إلى حد بعيد، عما سيشهده المغرب لاحقا من هزات اجتماعية. جرى بالقمع تجفيف منابع قوى النضال بحظر عملي للمنظمة الطلابية، وتفكيك لبنيات التنظيم المحلي بالأحياء الشعبية، المتخذة شكل جمعيات ثقافية، وفي طور لاحق جرت هيكلة نسيج جمعيات «مجتمع مدني» برعاية الدولة كآلية لتأطير الاستياء الشعبي نحو مخارج أخرى غير النضال. وحتى لما ظهرت حركة المعطلين لم يكن لها بالدار البيضاء انغراس وقوة متناسبين مع وزن المدينة الاقتصادي- الاجتماعي.
ومع ذلك كان بروز هذه الحركة مطلع سنوات التسعينات فاتحة عهد نضالي جديد. فقد أخرجت حركة المعطلين الاحتجاج والمطالبة من المقرات، وأماكن العمل، الى الشوارع بنحو نوعي لا سابق له. انتقلت عدواه إلى فئات كادحة أخرى، منها بوجه خاص البلدات الصغيرة في محيط قروي. نتج عن هذا التأثير تدفقُ طاقة نضال القاعدة الشعبية المكتوية بنار السياسات المدمرة اجتماعيا في المناطق المهملة. ولولا امتناع قيادات الحركة النقابية لتَجسَّد التحامُ حركة المعطلين بالحركة العمالية بنحو يعزز ميزان القوى ويفتح آفاق كفاحية أرحب. بجميع الأحوال، بظهور حركة المعطلين وحركة النضال الشعبي بالمناطق المهملة، انتقل تعبير الكادحين/ت عن رفض الظلم الاجتماعي من تفجرات عفوية لفش الغضب بلا أفق، إلى حركات نضال بأهداف مطلبية و أشكال نضال وتنظيم.
غير أن هذا التحول النضالي جرى في سياق تدهور الحركة اليسارية، بمكوناتها الإصلاحية والثورية على حد سواء. فالقوى الإصلاحية غير العمالية التي مارست هيمنة في الساحة اليسارية بامتداداتها الجماهيرية، طيلة عقود، سارت نحو استسلام تام للسياسات النيوليبرالية، ومواكبتها، وحتى الاضطلاع بمهمة تنفيذها بالمشاركة فيما سمي حكومة تناوب توافقي. بينما لم يخرج اليسار الثوري من أزمته، المفاقمة بشدة القمع، حتى دخل طورا متقدما من التفكك بانهيار الاتحاد السوفياتي واحتدام أزمة مصداقية الاشتراكية، وبتوسع القوى الاسلاموية في قاعدة المجتمع.
تمرس النظام، بوجه حركة النضال الشعبي، في التعامل مع الأشكال الاحتجاجية بمنطق الاحتواء «بالحوار»، المصحوب بتنازلات طفيفة، وجرعات القمع. لكن ضعف الحركة السياسي أبقاها في حدود مطلبية آنية وحتى محلية في معظم الحالات. عوامل سهلت كلها، الى جانب عدم التضافر مع الحركة العمالية، انتصار النظام على مختلف الحراكات، البارز بأجلى ما يمكن في نجاحه في إخماد حراك الريف-جرادة الأقوى تاريخيا.
المُحصِّلة أن تقدما كبيرا تحقق، بعد أن تكرر نموذج الإضراب العام، المتحكم به نقابيا و الممهد في الآن ذاته لتفجر السخط الشعبي، في فاس عام 1990. اكتسبت الجماهير الشعبية خبرة نضال تجنبها الصدامات الفورية التي تجهض الحركة، وبدأت تظهر أشكال تنظيم، لا سيما على صعيد قيادة النضال بهياكل فوقية (سكرتارية، تنسيقية..) ينقصها أساس القرب (لجان أحياء مسيرة ذاتيا،..). وقد تأكد استيعاب الجماهير الشعبية لدروس التجربة التاريخية في الأشكال التي اكتستها موجة النضال الشعبي، ذات الطابع المطلبي الاجتماعي الموازية لحراك 20 فبراير السياسي.
على صعيد عمالي تزامنت دورة النضال الشعبي مع تنامي سيرورتين مترابطتين: تبقرط الحركة النقابية وتعمق تداخل قممها مع الدولة المعبر عنه بالشراكة الاجتماعية. جرت هذه الشراكة هزائم متتالية وفقدا لمكاسب تاريخية، ما نال من مصداقية النقابة بأنظار الشغيلة، فنتج عنه ظهور التنسيقيات بطابعها الفئوي المفكك. وتميزت العقود الثلاثة الأخيرة بالهجوم على استقرار علاقة الشغل، بتعميم مطرد للهشاشة بما لها من تأثير مُضعف للتنظيم النقابي. وفوق هذا وذاك تأثر قسم من الحركة النقابية بانهيار اليسار الإصلاحي، تجلى في تفجر الكونفدرالية الديمقراطية للشغل مع تجربة «التناوب التوافقي». ومن نافل القول إن أزمة استقلال الشغيلة سياسيا إنما زادت في هكذا ظروف استفحالا.
.صورة اجمالية للضعف لا شك يعبر عنها بأوضح ما يكون مآل الإضراب العام، هذا الفعل الطبقي الراقي، الرامي إلى تجميع قوة الطبقة و تركيزها وتسييسها. فقد بلغ التلاعب به مستوى إفراغه من محتواه، وإفقاده الاعتبار بنحو لا عهد للساحة العمالية به، كان ما سمي إضرابا عاما عشية تمرير قانون الإضراب صورة صارخة عنه.
انضاف انكفاء موجة النضال الشعبي الى هذه اللوحة العمالية القاتمة، فصرنا نجتاز مرحلة ركود، تتخللها هبات عمالية وشعبية (حراك التعليم، حراك فجيج…) دالة على الكمون النضالي كنار تحت الرماد.
تجارب النضال العمالي و الشعبي، صعودا وهبوطا، غنية بدروس لا غنى للمناضلين/ت التواقين لبناء أدوات النضال التي يستدعيها كفاح مقهوري المغرب، وبمقدمتهم الشغيلة، من تدقيقها وضخها في معمعان الكفاحات اليومية التي يستثيرها الهجوم البرجوازي متعدد الجبهات. ايجابيات للتطوير، وأوجه قصور للتجاوز نحو أدوات نضال عمالي وشعبي نوعية ذات قدرة على تأمين تحرر الشغيلة و الكادحين الذاتي.

شارك المقالة

اقرأ أيضا