حل الدولتين غير معقول، ما الذي يتطلبه تحرير فلسطين؟
بقلم : عمر حسن
بعد عقود هيمنةٍ، لم يعد حل الدولتين يعتبر، من قبل المناضلين المؤيدين لفلسطين في أستراليا، حلاً قابلاً للحياة أو مرغوباً فيه لإنهاء اضطهاد الفلسطينيين المستمر منذ عقود. في ملبورن، حيث أشارك في التحركات، تمت عمليا إزالة عبارة ”حل الدولتين“من منصات مظاهرات التضامن مع غزة المنتظمة.
إنه تطور إيجابي للغاية. فعلى مدى عقود، كان حل الدولتين وسيلة لترهيب الأنصار الأشد جذرية والتزامًا بمبادئ الشعب الفلسطيني. قبل سنوات 1980، كان معظم الأحزاب السياسية الفلسطينية يؤيد التحرير الكامل لفلسطين التاريخية، واستخدمت الصهيونية العمالية حل الدولتين للتشهير بها بما هي متطرفة ولاستقطابها إلى موقف أكثر اعتدالًا.
بلغ حل الدولتين ذروته في سنوات 1990 إبان مفاوضات اتفاقيات أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل. آنذاك، تخلى القادة الفلسطينيون لحركة فتح عن جميع أنواع الحقوق والمبادئ، مقابل وهم دولة فلسطينية صغيرة في الضفة الغربية وقطاع غزة. وفيما أصبحت أقلية من الرأسماليين والسياسيين الفلسطينيين أثرياء بشكل خيالي نتيجة لهذا العملية، استمر تراجع الشعب الفلسطيني، وفقد المزيد من حقوقه وأراضيه.
لذا فإن الرفض الواضح لحل الدولتين من قبل معظم المناضلين الجادين المؤيدين لفلسطين يمثل تقدما مهماً. فهو يتيح أساساً أمتن لبناء حركة قادرة على المطالبة بالعدالة الحقيقية. والأهم من ذلك، أنه يفتح مجالاً للنقاش حول السيناريو الذي قد ينجح فعلاً في تحقيق التحرر الحقيقي للشعب الفلسطيني.
بنظر معظم الناس، يتمثل البديل عن الفصل العنصري والاضطهاد الدائمين اللذين ينطوي عليهما حل الدولتين في إنشاء دولة ديمقراطية لجميع سكان المنطقة. وبعيداً عن ”إلقاء اليهود في البحر“، فإن الفكرة هي أن يعيش العرب واليهود معاً بسلام، مع حقوق متساوية في نظام ديمقراطي. وهذا هدف نبيل من نواحٍ عديدة، وعندما تم تطويره في سنوات 1960، كان موقفاً تقدمياً من قبل حركة التحرير الفلسطينية.
لكن العديد من القضايا نفسها التي تجعل حل الدولتين غير قابل للتطبيق تنطبق أيضاً على الدولة الواحدة. والأهم من ذلك، أن الدولة الإسرائيلية لن تقبل المساواة بين اليهود والفلسطينيين. إن أيديولوجيتها المؤسِسة أيديولوجية دولة عرقية، إذ أنها دولة توجد من أجل مجموعة عرقية معينة، مع وجود الآخرين كمواطنين من الدرجة الثانية. وهذا يعني أن دولة واحدة قائمة على المساواة في الحقوق لن تتحقق أبداً بالمفاوضات أو تفويضات من الأمم المتحدة أو بالدبلوماسية. إنها تتطلب إطاحة الدولة الإسرائيلية.
وبالطبع، لن تقبل القوى الغربية، التي تعتبر إسرائيل حليفاً استراتيجياً واقتصادياً مهماً، بهذا أبداً. والنتيجة الوحيدة الممكنة للدولة الواحدة هي تلك التي يُسمح فيها لإسرائيل فعلياً بضم كامل الأراضي الفلسطينية وطرد ملايين اللاجئين.
غالباً ما يشير مؤيدو فلسطين إلى هزيمة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا كدليل على أن التحول من نظام الفصل العنصري إلى الديمقراطية ممكن. لكن المرويات السائدة عن هذه الحقبة التاريخية المهمة تميل إلى بخس الدور الحاسم للطبقة العاملة السوداء القوية اقتصادياً والمتطورة سياسياً والكفاحية، والتي كانت موجودة في جنوب أفريقيا ولكنها غير موجودة في فلسطين.
بتكرار شل الاقتصاد بالإضرابات، جعل هؤلاء العمال اشتغال المناجم والموانئ في جنوب أفريقيا بشكل موثوق أمرا مستحيلا، وكذلك تحقيق رأس المال للأرباح. ضرب هذا الأثرياء في مقتل، وخلق ضغطاً هائلاً من أجل التغيير.
عندما بات جليا أن النظام القديم محكوم عليه بالفشل، فرضت الحكومات الغربية عقوبات سعيا لتسريع عملية الانتقال حتى تظل المناجم والموانئ الحيوية في جنوب أفريقيا قادرة على العمل ويمكن الاعتماد عليها.
لا يمتلك الفلسطينيون قوة اقتصادية مماثلة، لأنهم مستبعدون من أجزاء كبيرة من الاقتصاد الإسرائيلي، لا سيما قطاعاته الأكثر استراتيجية. لذا، لا يمكن للنضال الطبقي التقليدي على المستوى المحلي أن يخلق الاضطراب الاقتصادي اللازم لكسر الفصل العنصري وإنهاء احتلال جميع الأراضي الفلسطينية.
على الصعيد العالمي، إسرائيل قاعدة إمبريالية مسلحة نووياً في منطقة مركزية في السياسة العالمية وحليف استراتيجي للولايات المتحدة منذ أمد بعيد. وبعيداً إخضاعها لعقوبات مُشِلَّة بسبب جرائمها العديدة، لا تزال النخب العالمية تسلحها وتمولها وتغازلها. في الواقع، تعززت فائدتها للإمبراطورية الأمريكية في العامين الماضيين، نظراً لسهولة سحقها لحزب الله وإخضاعها لإيران.
من المرجح أن يستمر هذا التحالف طالما ظلت الهيمنة الإمبريالية ركيزة أساسية في السياسة الخارجية الأمريكية. وحتى لو جرى إنزال الولايات المتحدة من عرشها بطريقة ما، سيكون للصين أو أي قوة صاعدة أخرى مصلحة قوية في التحالف مع دولة مسلحة جيداً وذات أهمية استراتيجية. الصين هي بالفعل ثاني أكبر مستورد للسلع الإسرائيلية، وتستورد إسرائيل من الصين سلعاً أكثر من أي دولة أخرى، بقيمة 19 مليار دولار سنوياً وفقاً لقاعدة بيانات Comtrade التابعة للأمم المتحدة.
هكذا، إنْ أمكن إنهاء نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا دون زعزعة هياكل الإمبريالية العالمية والإقليمية بشكل جذري، فالأمر ليس كذلك في فلسطين. مهما يكن من أمر، لم يغير إنهاء الفصل العنصري الرسمي بشكل جذري وضع السواد الأعظم من الطبقة العاملة والفقراء السود في جنوب أفريقيا. بل إن ظروفهم المعيشية أصبحت أسوأ، ما يعني أن هذا النموذج لا يمكن أن يكون نموذجاً يُطمح إليه.
الحقيقة القاسية هي أنه في حين تمكنت العديد من المستعمرات السابقة من تحقيق قدر من الاستقلال الوطني ضمن النظام الرأسمالي، هناك عدد من الحالات التي لا يمكن فيها تحقيق ذلك. في الشرق الأوسط، تبرز أمثلة الفلسطينيين والأكراد، حيث يعد الحفاظ على الاضطهاد القومي أمراً ضرورياً للغاية لاشتغال الرأسمالية كما تم إرساؤها على مدار القرن الماضي. لذا، تماماً على غرار استحالة تخيل أمريكا رأسمالية بدون عنصرية ضد السود، لن يكون هناك أبداً شرق أوسط رأسمالي بدون جملة كاملة من التراتبيات الدينية والقومية والفئوية المرسخة عمداً في المنطقة.
يؤكد الثوريون في الشرق الأوسط وأماكن أخرى بأن إطاحة الأنظمة العربية، المتظاهرة بالدفاع عن الفلسطينيين بينما تتوافق مع إسرائيل وتقمع الحركات المعارضة لها، هي شرط أساسي لتحرير فلسطين. لكن تجربة الثورات العربية التي اندلعت في العام 2011 تبرز أن مجرد تغيير حكومة رأسمالية بأخرى لا يقرب بأي شكل من الأشكال من هدف إنهاء الظلم الذي يتعرض له الشغيلة والمضطهدون في المنطقة.
لقد بات جليا، بمعنى مباشر جدا، أن النضال من أجل تحرير فلسطين، ونضال الجماهير في المنطقة وخارجها، سيتطلب هدفاً أكثر جذرية. وتوخيا للدقة، وحدها إطاحة ناجحة بالرأسمالية في جميع أنحاء المنطقة، لا سيما في دول رئيسية مثل مصر والمملكة العربية السعودية، يمكن أن تجعل تحرير فلسطين ممكناً.
هذا لا يغير شيئا في واقع أن الفلسطينيين سيستمرون في أداء دور مركزي ورائد في تنظيم المقاومة الشعبية لإسرائيل وللرأسمالية، سواء داخل فلسطين المحتلة أو في البلدان المجاورة. لكن هذا يعني أنه يجب معارضة سعي البحث عن حلفاء بين الأنظمة العربية، ذلك السعي الذي كان نهجا طويل الأمد للفصائل الفلسطينية الرئيسة. فالأمر ليس مجرد خيانة للجماهير العربية التي تعيش تحت هذه الأنظمة ، بل مأزق للنضال الفلسطيني.
بدلاً من ذلك، يجب بذل الجهود للربط بين المظالم الاقتصادية والاجتماعية والجيوسياسية العديدة للشغيلة والفقراء في جميع أنحاء المنطقة. و تتمثل الوسيلة الأشد فعالية لبلوغ ذلك في وضع اضطهاد الفلسطينيين في سياق أوسع من الاستغلال والاضطهاد والإمبريالية في المنطقة، ودور إسرائيل في الحفاظ على هذا الوضع الراهن المطبوع باللامساواة والاضطهاد. وهذا يستوجب تعميم نقد منهجي للرأسمالية العربية ودورها في دعم الإمبريالية الغربية، وبناء حركة يمكنها تحويل هذا النقد إلى فعل.
ولنا نحن الذين نعيش خارج الشرق الأوسط دور مهم. لا تستطيع إسرائيل البقاء والإفلات من جرائمها إلا بفضل دعم وتمويل غربي لا هوادة فيه. لقد رأينا أن حركة جماهيرية في أستراليا كانت قادرة على تغيير مسار النقاش والسياسة، ولكن ليس الجوانب الأساسية لسياسة الحكومة. والوضع مشابه في أماكن أخرى. إن إجبار الحكومات الغربية على البدء في قطع علاقاتها مع إسرائيل سيتطلب نضالاً هائلاً من قبل الشغيلة، وهو نوع النضال الذي سيوضح لألبانيس العالم أن الخيار هو بين الأرباح والاستقرار الاجتماعي من جهة أو الاستمرار في دعم الإبادة الجماعية من جهة أخرى.
ما يعرقل ذلك هو القيادة الحالية للحركة العمالية، التي ليس لديها أي مصلحة في حشد الشغيلة لجعل دعم أستراليا لإسرائيل غير قابل للتطبيق. مثل هذا الإجراء من شأنه أن يهدد ليس فقط مصالح الرأسمالية الأسترالية، التي لا يعارضها قادة النقابات، ولكن أيضًا مصير حزب العمال في الانتخابات، الذي ينحاز إليه معظم قادة النقابات، والمكانة المتميزة نسبيًا للقادة أنفسهم داخل النظام، ناهيك عن آفاقهم المهنية المستقبلية.
يتطلب القيام اليوم بإضرابات، من شأنها أن تؤدي إلى فرض عقوبات حقيقية على إسرائيل وصناعة الأسلحة، وجود حركة عمالية أكثر راديكالية وتنظيمًا بكثير مما هو موجود حاليًا. وهذا بدوره يفترض وجود يسار جاد في الحركة العمالية، قادر على قيادة العمل ووازن أيديولوجيا. يمكن لنقابات يقودها اشتراكيون، بدعم من القاعدة المناضلة، تنظيم مقاطعة شاملة لشركات الأسلحة وشركات الشحن الإسرائيلية، والانخراط في إجراءات موجهة لفرض احترام تلك المقاطعة. الأماكن التي حدث فيها هذا في السنوات الأخيرة، على سبيل المثال عمال الموانئ في اليونان، لها تقاليد طويلة من التأثير الشيوعي في النقابة.
على هذا النحو، سواء في الشرق الأوسط أو في الغرب الإمبريالي، يمثل النضال من أجل سياسات اشتراكية ثورية، قائمة على منظمات الطبقة العاملة الجماهيرية، خطوة حيوية على طريق تحرير فلسطين. وهذا يعني رفض مسرحية الدولتين التي تخدم تثبيت الوضع الراهن، وكذلك نوع من الليبرالية المثالية التي تفترض أن دولة فلسطينية واحدة في إطار الرأسمالية ممكنة وقادرة على تحقيق التحرير.
بعكس ذلك، يعني النهج الاشتراكي الثوري نضالاً لا هوادة فيه ولا مساومة ضد جميع المؤسسات التي فقدت مصداقيتها بسبب ردها على الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل، بما في ذلك كل الدول القوية على وجه الأرض. وحده نضال من أجل فلسطين اشتراكية يوحد الشغيلة والفلاحين الثوريين في الشرق الأوسط مع حركة عمالية انتفاضية ومناهضة للإمبريالية في الغرب يمكن أن يأمل تحقيق التحرير.
عمر حسن مناضل مؤيد لفلسطين منذ فترة طويلة مقيم في ملبورن.
المصدر:
https://redflag.org.au/article/two-state-solution-is-rubbish-what-will-it-take-to-liberate-palestine
اقرأ أيضا