جنازة أحمد الزفزافي : محطة أخرى مشرقة في مسلسل نضال الريف من اجل الكرامة الحرية والعدالة
سعيد ابراهيم
كانت جنازة الفقيد أحمد الزفزافي لحظة سياسية بامتياز، أتاحت لجماهير الريف التعبير، بمسيرة هي الاولى بحجمها منذ القمع الشرس لعام 2017، عن المطالبة باطلاق سراح معتقلي الحراك. كما أتاحت لناصر الزفزافي القاء كلمة سياسية استثارت قراءات متباينة. نشر موقع المناضل-ة بهذا الصدد رأيا بقلم سعيد الريشة (https://www.almounadila.info/archives/26046 )، نتبعه برأي سعيد ابراهيم أدناه المساجل لسابقه، آملين ان يسفر النقاش عن اتضاح للرؤية مفيد لحاجات النضال لاطلاق سراح معتقلي الريف وتحقيق مطالب حراكه.
لم يكن رحيل أحمد الزفزافي، والد قائد حراك الريف مجرد حدث عائلي أو محلي، بل تحول إلى لحظة وطنية كبرى فجرت كل ما تراكم في وجدان الريف من ذاكرة وألم ومقاومة. في اليوم الذي خرجت فيه الآلاف لتشييع جثمانه. لم يكن مشهد جنازة اعتياديا، بل كان إعلانا جماعيا بأن الريف حي، وأن ذاكرته أقوى من كل محاولات الطمس والتهميش، وأن قضية المعتقلين لم تدفن خلف أسوار السجون، بل تعيش في صدور الناس وقلوبهم. ولعل هذه اللحظة بالذات هي التي دفعت البعض، إلى محاولة قراءة ما جرى من زاوية سياسية ترى في جنازة الرجل مؤشرا على احتمال توظيف جديد للمعتقلين كما جرى مع ضحايا سنوات الرصاص في إطار هيئة الإنصاف والمصالحة. لكن هذه القراءة، على الرغم مما قد تحمله من عناصر واقعية، تبقى قاصرة إن لم نقل سطحية، لأنها تنطلق من زاوية الدولة وأدواتها في الاحتواء وتغفل الزاوية الأكثر جوهرية: ذاكرة الريف كقوة تاريخية متجددة تربط الماضي بالحاضر وتُحول أي حدث إلى لحظة تأسيسية في مسار نضال طويل.
لقد حاول سعيد الريشة، في مقاله ” هل سيستعمل النظام معتقلي الريف كما استعمل سابقيهم في هيئة الإنصاف والمصالحة؟ “أن يستخلص من شكر ناصر الزفزافي لإدارة السجون أثناء حضوره جنازة والده مؤشرا على “مراجعة” أو على بداية مسار إدماج سلطوي، كما استند إلى أصوات أخرى، مثل توفيق بوعشرين الذي تحدث عن تحول الزفزافي. غير أن الوقائع على الأرض تكذب هذا الافتراض. فالحشود التي رافقت ناصر إلى المقبرة لم تر فيه أسيرا قدم اعتذارا أو مراجعة، بل رمزا للصمود والتضحية. كانت أصوات الجماهير تهتف باسمه كما هتفت في 2017، وكأن السنوات الثماني من الاعتقال لم تمر. كان الاستقبال الشعبي أبلغ من أي تحليل، لأنه أكد أن الزفزافي لم يعد ملك نفسه، بل أصبح ملك ذاكرة جماعية، وأن أي محاولة لإعادة تأويل موقفه الشخصي بمعزل عن تلك الذاكرة لن تنجح.
الجنازة نفسها تحولت إلى درس سياسي بليغ. فقد جمعت الآلاف من مختلف مناطق الريف، ومن مدن المغرب الأخرى، ومن الجاليات بالخارج، في مشهد يعكس ثلاث حقائق كبرى: أولها أن الوفاء لضحايا الحراك لا يزال قائما وأن المطالب التي فجرت انتفاضة الحسيمة سنة 2017 لم تمت، بل ما زالت حية تنتظر من يرفعها من جديد. ثانيها أن القضية الريفية لم تعد محصورة في منطقة بعينها، بل أصبحت جزءا من سؤال الديمقراطية والعدالة الاجتماعية في المغرب بأسره، وهذا ما يفسر الحضور الوطني الواسع. وثالثها أن الريف لم يتخل عن حسه الأممي الذي يربط قضاياه بالقضايا العادلة في العالم، فقد رفعت في الجنازة شعارات التضامن مع فلسطين، لتؤكد أن المقاومة لا تتجزأ، وأن العدالة لا يمكن أن تكون انتقائية.
رسالتا محمد جلول، أحد أبرز معتقلي الحراك، كانتا أيضا حاسمتين في تبديد أوهام المراجعة. ففي الأولى حيّى الجماهير التي شاركت في الجنازة واعتبرها محطة لتجديد أواصر التلاحم والوحدة الشعبية والوطنية، مؤكدا على المطالب الجوهرية: إطلاق سراح كافة المعتقلين، رفع الحصار عن الريف، وإنهاء الوصاية. وفي الثانية خاطب الأحرار والحرائر مجددا ومؤكدا أن درب النضال مستمر رغم العسكرة والقمع والحرمان. كلمات جلول أعادت البوصلة إلى اتجاهها الطبيعي: لا مساومة، لا انحناء، بل صمود حتى تحقيق الحرية والكرامة. هذه الكلمات لم تصدر عن فرد معزول، بل عن صوت يعكس ما يختزنه الريف من ذاكرة لا تهدأ.
كما أن خصوصية الريف هي ما يجعل أي قراءة تنطلق من منطق السلطة وحده قراءة ناقصة. فالريف منطقة مشبعة بالذاكرة النضالية. منذ مقاومة محمد بن عبد الكريم الخطابي للاستعمار الإسباني والفرنسي، مرورا بانتفاضة 1958-1959 التي ووجهت بالقمع الدموي، ثم انتفاضة يناير 1984، وصولا إلى حراك 2017، ظل الريف أرضاً للرفض والتمرد. الذاكرة هنا ليست مجرد صفحات من الماضي، بل هي حضور يومي في وجدان الناس. كل عائلة تقريبا تحتفظ بقصة شهيد أو معتقل أو مهاجر اضطر للهجرة هربا من القمع والتهميش. ولهذا فإن أي محاولة لطمس هذه الذاكرة أو تزييفها محكوم عليها بالفشل. فالجنازة الأخيرة لم تستحضر أحمد الزفزافي وحده، بل استحضرت عبد الكريم الخطابي وكل شهداء الريف وكل المعتقلين الذين قضوا سنوات شبابهم في السجون. إنها لحظة كثيفة بالرموز و مشاعر الوفاء و الحب تتحدى حملات التخوين والاستقطاب و التفريق و خلق النعرات التي مارسها النضام ضد المناضلين و عائلاتهم، كما تؤكد أن الماضي لا يموت بل يتجدد باستمرار في الحاضر. (الأطفال واليافعين الذين عايشوا قمع حراك الريف 2017، هم من تظاهروا في استقبال الزفزافي).
لقد جرب النظام المغربي كل الأساليب في الريف: القمع العسكري المباشر كما حدث في 1958- 1959، الإخماد الدموي كما في انتفاضة 1984، الاحتواء عبر هيئة الإنصاف والمصالحة في 2004. لكنه في النهاية لم ينجح في إغلاق صفحة الريف. فالحراك الذي انفجر في 2017 كان دليلا على أن الذاكرة أقوى من كل شيء، وأن الجرح لم يندمل. والآن، بعد ثماني سنوات من الاعتقال والعسكرة والهجرة الجماعية لشباب المنطقة، تأتي جنازة أحمد الزفزافي لتؤكد أن الريف ما زال حيا، وأن ذاكرته لم تخمد، وأن محاولات الاحتواء الجديدة، سواء عبر العفو أو المراجعات، لن تغيّر من الجوهر شيئاً.
مسألة العفو بالذات تطرح إشكالية كبرى. فالسلطة تحاول دائماً أن تقدمه كمنّة ملكية، بينما يراه الشعب حقاً للمعتقلين. إنهم لم يرتكبوا جرائم حتى ينالوا عفوا، بل عبروا عن مطالب اجتماعية مشروعة. لذلك فإن أي حديث عن عفو مشروط أو عن مراجعات سياسية يبقى في نظر الناس محاولة لإذلالهم أو لتبييض صورة النظام، وهو ما يفسر “الغضب” من كل إشاعة عن قرب الإفراج مقابل تنازلات. الجماهير التي استقبلت ناصر لم تهتف للعفو، بل هتفت للحرية والكرامة. هذا هو الفارق الجوهري بين منطق السلطة ومنطق الشعب.
وإذا كان بعض المحللين يعتقدون أن ناصر قد يتحول إلى “قيادي مروّض” أو أن جلول سيقبل بلعب دور الوسيط، فإن الوقائع تكذّب ذلك على الأقل حتى الان. لا ناصر ولا جلول ولا أي من المعتقلين يسهل عليهم خيانة الذاكرة الجماعية التي صنعتهم. إنهم واعون كونهم ليسوا أفرادا معزولين، بل رموزا لمعركة طويلة. والسباحة ضد ذلك تجعل منهم نسيا منسيا.
ما يغفل عنه الكثيرون هو أن خصوصية الريف ليست مجرد مقاومة عسكرية أو انتفاضات اجتماعية، بل هي ثقافة بكاملها. الريفيون يحملون في لغتهم، في موسيقاهم، في حكاياتهم، ذاكرة حية تربطهم بأجدادهم وبمعاركهم. حتى الهجرة، التي فرضت على آلاف منهم، تحولت إلى وسيلة لنشر تلك الذاكرة في أوروبا والمهجر. ولهذا رأينا جاليات ريفية بأكملها تأتي إلى الحسيمة للمشاركة في حراك الريف، والبعض حضر لدفن أحمد الزفزافي. الريف ليس مجرد منطقة جغرافية، بل هو فضاء رمزي ممتد في الداخل والخارج. هذه الخصوصية تجعل محاولات الطمس أكثر صعوبة، لأن الذاكرة لا تعيش في مكان واحد بل تتوزع في العالم.
حين هتفت الجماهير أثناء الجنازة باسم الزفزافي، فإنها لم تستحضره فقط كقائد استطاع كسب ثقتهم ، بل استحضرت تاريخا كاملا. ناصر هو نفسه يدرك ذلك، والجماهير تدركه أكثر. لذلك لن يكون سهلا على النظام أن يكرر سيناريو هيئة الإنصاف والمصالحة. تلك الهيئة نجحت نسبيا لأنها تعاملت مع جراح فردية قابلة للإغلاق، أما جرح الريف فهو جرح جماعي متجدد لا يُغلق بالعفو ولا بالتعويضات. إنه جرح يتغذى من واقع التهميش المستمر، من البطالة، من الهجرة، من عسكرة المنطقة. وما دامت الأسباب قائمة، فإن الذاكرة ستبقى حية. كما ان المناضلين والمناضلات ضحابا سنوات الجمر كانو معزولين تماما عن الجماهير خلال مبادراتهم النضالية داخل منتدى الحقيقة والانصاف قبل أن يتم استيعابهم بشكل كلي في الهيئة بعد محادثات سرية مع صديق الملك. الفرق كذلك شاسع في الطبيعة الجماهيرية للحراك الريف والتسيير الديمقراطي القاعدي بمجموعات عامة في الأحياء من أجل مناقضة و فرز الملف المطلبي للحراك، وهو الأمر الذي كان غائبا تماما في التجربة السابقة نظرا لظروف موضوعية وذاتية لا يتسع المجال هنا للدخول في تفاصيلها.
إن ما يجري اليوم في الريف هو امتداد لما جرى بالأمس. في 1958-1959 تم قمع الانتفاضة بعنف، لكن الذاكرة ظلت حية لتعود في 1984. وفي 1984 قمعت الانتفاضة مجددا، لكن الجرح ظل مفتوحا حتى انفجر في 2017. واليوم، رغم القمع والاعتقالات، لا تزال الذاكرة حية، والجنازة الأخيرة دليل على ذلك. هذه السلسلة التاريخية تؤكد أن الريف عصي على الطمس. قد تخمد النيران أحيانا، لكنها لا تنطفئ أبدا، وسرعان ما تعود لتشتعل.
الخلاصة التي يمكن استنتاجها من كل ما سبق هي أن الريف ليس مجرد منطقة تحتج من حين إلى آخر، بل هو ذاكرة وطنية. كل من حضر الجنازة من مدن المغرب المختلفة أدرك ذلك. الريف اليوم يختزن معنى النضال الشعبي ضد الاستبداد، ولهذا فإن التضامن معه يتجاوز الحدود الجغرافية. وحين نقول إن الذاكرة تربط الماضي بالحاضر، فإننا نعني أن كل حدث جديد يوقظ في الناس كل ما سبق، فيتحول الحاضر إلى استعادة دائمة للماضي، وإلى وعد بمستقبل مختلف.
قد ينجح النظام في تحطيم معنويات بعض الأفراد، وقد يراهن على إدماجهم في واجهته، لكنه لن ينجح في طمس ذاكرة شعب بأكمله. الريف حي، وهذا ما أثبتته جنازة أحمد الزفزافي. إن الشعب لا يطلب من النظام سوى شيء واحد: الحرية لأبنائه والكرامة للجميع. أما كل محاولات الاحتواء والتمويه فلن تفلح، لأن ذاكرة الريف عصية على النسيان.
البيضاء في 12 شتنبر 2025
اقرأ أيضا