معادلة أبو بكر الجامعي المستعصية عن الحل
بقلم: شادية الشريف
صرح أبوبكر الجامعي، في لقاء نظَّمه شباب جيل زد عبر منصة الديسكورد [1]، بما يلي: “يجب أن نبني إطارا حيث المَلكية والنخب المحيطة بها تتجاوب مع المطالب. إذا كنتَ تحب المَلكية وتتشبث بها… فيجب أن تكون حريصا على ألا تكون محطَّ انتقاد، عبر امتناعها عما يسيء إليها كمَلكية. لماذا؟ لأن المَلكية مهمة. لذلك فالحرص على سمعة المَلكية يجب ألا يكون بقمع من لا يتفق معها. بل أن تكون الملَكية بصورة توازي ذلك التصور الذي نريده عنها. بالنسبة لي هذه هي المعادلة التي نتصارع من أجل حلها، ولا ندري لها حلا”.
عبَّر الجامعي في هذه الفقرة عن المُعضلة التاريخية والمأزق التاريخي للمعارضة البرجوازية المغربية. فهذه الأخيرة تعتبر المَلكية ركيزة استقرار البلد، ولكنها تشتكي في نفس الآن من كون تلك المَلكية لا تطابق التصور الذي تريد تلك المعارَضة البرجوازية أن تكون عليه المَلكية.
بعد الاستقلال طالب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ( حزب المهدي بن بركة)، وقبله حزب الاستقلال (علال الفاسي)، بحكومة منسجمة وبدستور يقي المؤسسات من تعسفات القصر، مطامح يلخصها شعار: “مَلك يسود ولا يحكم”.
لكن ذينك الحزبين اصطدما بعقبة كأداء مزدوجة. العَقبة الأولى أنهما أرادا أن يبلُغا ذلك المطمح بتوافق مع المَلكية ذاتها؛ والعقبة الثانية أن القوة الوحيدة القادرة على فرض ذلك المطمح هي نفسها تلك القوة التي ترتعب منها المعارضة البرجوازية أكثر من ارتعابها من الاستبداد السياسي. إنها الطبقة العاملة التي تقود وراءها الفلاحين الصغار وعموم صغار المنتجين المفقرين بالقرى والمُدن.
بعد تصفية الحسن الثاني لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ظهر إلى الوجود حزب الاتحاد الاشتراكي، الذي أسسه أعضاء سابقون في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، بقيادة عبد الرحيم بوعبيد. وكان ذلك في سياق الإجماع الوطني الذي أطلقه الحسن الثاني حول مسألة الصحراء. أراد الاتحاد الاشتراكي أن يصل إلى “المَلكية البرلمانية”، [بعد أن جدد ذلك بوضوح في مؤتمر الثالث بشعار “تحويل الملكية المخزنية إلى ملكية برلمانية” (1978)]، عبر توافق مع المَلكية، وبفعل حاجة هذا المطمَح إلى قوة عمالية وشعبية، يخشاها الاتحاد الاشتراكي بدوره، فإنه فضَّل ما أسماه عبد الرحيم بوعبيد “النضال الديمقراطي” داخل المؤسسات التي تسمح المَلكية بوجودها، وكان شعار بوعبيد هو “دمقرطة الدولة عبر جرعات”.
ورث الحزب الاشتراكي الموحد وفيدرالية اليسار الديمقراطي نفس المنظور الاتحادي/ البوعبيدي، وهما يرفعان مطلب المَلكية البرلمانية، لكن بنفس الاستراتيجية: استعمال الهامش المؤسساتي (الانتخابات، البرلمان… إلخ) والسعي إلى توافق مع المَلكية.
المعادلة التي أعلن أبوبكر الجامعي افتقاره لحل لها، تُعبِّر عن هذا المأزق السياسي الذي توارثته المعارضات السياسية البرجوازية، طيلة تاريخ المغرب الحديث: 1) سعي إلى إقناع المَلكية بأنَّ تحوُّلها إلى مَلكية برلمانية في صالحها كمَلكية؛ 2) رفض المَلكية الصارم أي تنازل عن مطلق سلطاتها واحتكارها لكبريات فرص الاغتناء الاقتصادي؛ 3) الحاجة إلى قوة ضغط على المَلكية من أجل إقناعها بأنَّ تحوُّلها إلى مَلكية برلمانية حل أفضل لبقائها كمَلكية؛ 4) التخوف من الشغيلة والطبقات الشعبية التي تستطيع وحدها انتزاع ذلك المطلب من المَلكية وتجبرها على التحول إلى مَلكية برلمانية… إنها معادلة معقَّدة، المعارضة البرجوازية لا تريد حلها، أو بالأحرى يستبد بها الخوف من حلها، وليس عن جهل لحلها، كما صرَّح أبوبكر الجامعي.
لماذا تحرص المعارضة البرجوازية والناطقين باسمها، وضمنهم أبوبكر الجامعي، على بقاء المَلكية وتنادي فقط بتحويل من مَلكية تنفيذية إلى مَلكية برلمانية؟ لأن تلك المعارضات تُعبِّر عن مصالح أقسام من الطبقة البرجوازية مستاء ومتضررة من احتكار المَلكية للسلطة السياسية وفرص الاغتناء الاقتصادي الكبيرة. لا يخفي أبوبكر الجامعي ذلك، فهو يتحدث في كل تصريحاته، عن نفسه كمقاول عانى من تعسفات المَلكية واستبدادها السياسي، ما أدى به إلى الإفلاس. كون هذه الطينة من المعارضة السياسية تعبير عن مطامح وتطلعات أقسام من البرجوازية، فهي تريد أن تَخِفَّ قبضة الاستبداد على المجتمع، كي تعمل قوانين الرأسمالية: التنافس “الشريف”، غياب الاحتكار… إلخ. ولكن هذه الأقسام من البرجوازية في حاجة إلى قبضة الاستبداد الذي يضمن استمرار استغلالها للطبقة العاملة، أو كما قال المؤرخ الماركسي المرموق إريك هوبسباوم: “المَلكية تمسك قرون الشعب، بينما البرجوازيون يحلبونه”.
لماذا تتخوَّف تلك المعارضة البرجوازية من القوة الوحيدة القادرة على إجبار المَلكية على التنازل على سلطتها المُطلَقة: أي الطبقة العاملة وعموم مفقَّري- ات البلد؟ لأن تلك المعارضات لا تعبِّر عن مصالح تلك الطبقات الشعبية، بل عن مصالح أقسام من نفس الطبقة السائدة؛ أي البرجوازية. لكنها أقسام مقصية من السلطة السياسية، وتعاني من منافسة اقتصادية، تعتبرها غير شريفة، من المَلكية التي تستغل موقعها السياسي لاحتكار فرص الاغتناء الاقتصادي الكبرى. تُدرك تلك المعارضة البرجوازية، وضمنها أبو بكر الجامعي، أن الطبقات الشعبية عندما تنهض إلى النضال، فإنها لن تكتفي بإحداث تغييرات سياسية على هيكل النظام، أي تحوُّل المَلكية من ملكية تنفيذية إلى مَلكية برلمانية. لأن هذا التحول لا يفعل سوى أن ينقل قسطا من السلطة السياسية من المَلكية إلى أقسام أخرى من البرجوازية. المَلكية البرلمانية هي صيغة سياسية لتحالف أقسام الطبقة البرجوازية السائدة، تقتسم بموجبها السلطة وفرص الاغتناء الاقتصادي على ظهر الطبقة العاملة. بينما المَلكية التنفيذية تعبير عن احتكار القسم الحاكم من الطبقة البرجوازية (الرأسمال الكبير) لتلك السلطة وفرص الاغتناء الاقتصادي تلك.
طبعا لا يعني هذا الاستهانة بذلك التغيير السياسي، أي المَلكية البرلمانية، فهذا يفتحح الطريق إلى نضال أكثير تقدَّما وجذرية، وهذا ما تتخوَّف منه المعارضة البرجوازية خشيتها من الموت. فعندما تهب الطبقات الشعبية إلى النضال فإنها لن ترضى وتكف إلا عندما تقضي على كل أشكال الاستغلال والاضطهاد. فكيف ترضى طبقة عاملة قوية ومنتصرة سياسيا، بأن تعود إلى حظيرة الطاعة والاستغلال في أماكن العمل (المصانع والمزارع والبنوك والإدارات والخدمات العامة…)، بينما يتسلَّم من يستغلها من البرجوازيين قسطا من السلطة السياسية بعد تنازل المَلكية عنها. هذا ما تتخوَّف منه تلك المعارضة البرجوازية وضمنها أبو بكر الجامعي، لذلك يفضِّلون أن يظل النضال العمالي والشعبي في حدود يمكن التحكم فيها وضبطها واستثمارها سياسيا للضغط على المَلكية من أجل الاستجابة لمطالبها السياسية، وضمنها المَلكية البرلمانية.
قبل شهرين صرَّح أبو بكر الجامعي قائلا: “إذا كان البديل الوحيد أمامي هو السلطوية، فلتكن سلطوية جيدة. ها أنا أعلن هزيمتي، ولكن على الملك أن يمارس سلطويته بكفاءة” [2]. وكان ذلك تنازلا عن حلم المَلكية البرلمانية. ولكن بعد شهر أعلن الجامعي مرة أخرى مطلب المَلكية البرلمانية. فما الذي تغيَّر؟ الجديد هو الهزَّة السياسية التي أحدثها نضال الشعب من أجل الخدمات الاجتماعية والبنية التحتية (في آيت بوكماز ونواحيها وتيسة وتاونات…) والصحة العمومية (في أكادير وزاكورة ومراكش والصويرة…)، ثم الانفجار الكبير الذي مثله نضال شباب جيل- زد. لقد أطلق هذا الحراك السياسي والاجتماعي العنان للمعارضة البرجوازية بأن تحلم مجددا بإمكانية إرعاب المَلكية بأنها إن لم تتنازل عن سلطاتها المطلقة وتتحول إلى ملكية برلمانية، فإن ذلك يهدد مستقبلها كمَلكية. لكن في نفس الوقت فإن هذه المعارضة تتخوَّف من أن يتحوَّل نضال جيل- زد إلى نضال عارم، لذلك كانت نصيحة الجامعي للشباب هي التالية: “الناس الذين لم يلتحقوا بكم، لا تنتظروهم، قوموا بعملكم”. لكن إذا لم يلتحق الناس بحَراك جيل- زد فإن ذلك حُكمٌ على هذا الحَراك بالانطفاء تحت ضربات القمع والمناورات.
لن يستطيع حلَّ معادلةِ أبوبكر الجامعي “المستعصية عن الحل” سوى القوة الديمقراطية حتى النهاية، وهي الطبقة العاملة المنظَّمة والمستقلة سياسيا عن كل الأحزاب البرجوازية، المعارِضة منها للملكية أو الموالية لها. فتنظيمات الطبقة العاملة، أي النقابات، هي حاليا تحت هيمنة بيروقراطيات إما موالية لأحزاب غير عمالية (الكنفدرالية الديمقراطية للشغل، الاتحاد العام للشغالين، الاتحاد الوطني للشغل…)، أو موالية مباشرة للقصر (الاتحاد المغربي للشغل).
يستدعي تحرير قوة الطبقة العاملة، وانخراطها في النضال نقاباتٍ مستقلة، وهذا يسير يدا بيد مع تجميع مناضلي اليسار المغربي، العماليين والشعبيين، ووحدة فعلهم كي يتمكنوا من بسط منظور سياسي مغاير عن المنظور السياسي الذي أرسته ورسخته المعارضات البرجوازية (الليبرالية والدينية) طيلة تاريخ المغرب الحديث. منظور يضع التحرر السياسي في نفس الكفَّة مع التحرر الاقتصادي والاجتماعي للطبقة العاملة، والقضاء على مجمل نظام الاستغلال الاقتصادي والاجتماعي والاستبداد السياسي.
—————
هوامش
[1]- 11 أكتوبر 2025، https://www.youtube.com/watch?v=EX8jXU6rLh4.
[2]- 15 غشت 2025، https://www.youtube.com/watch?v=gb1syBZ3HKQ&t=6327s.
اقرأ أيضا