ماذا لو أقيلت الحكومة وحُلَّ البرلمان ونُظمت انتخابات مبكرة؟
بقلم: سعيد الريشة
من المجازفة دوما إدعاء تحليل أمر لم يحدث. لكن هذا لا يمنع أبدا من طرح احتمالات وقوع ما لم يَحدث. طالب شباب جيل- زد في رسالتهم إلى الملك بـ”إقالة الحكومة الحالية”، وختموا الرسالة بـما يلي: “إننا نتوجه إليكم مباشرة لأننا فقدنا الثقة في كل الوسائط السياسية القائمة: الحكومة والبرلمان والأحزاب”.
كان لدى الشباب أمل كبير في استجابة الملك لمطلبهم ذاك، وهو ما ظهر في ديباجة الرسالة إلى الملك: “نتوجه إليكم بهذه الوثيقة الشعبية المليئة بالأمل والإيمان بأن مجلس العرش سيظل وسيطا لأمن الوطن واستقرار شعبه وضمان لكرامته”.
مطالب في حاجة إلى ضغط أقوى
هذا الأمل الكبير في استجابة الملك هو ما أعاق فتح النقاش حول تلك المطالب (إقالة الحكومة وحل البرلمان). وبعد رفض الملك نظَّم الشباب نقاشا على ديسكورد تحت عنوان “نقاش صريح بين شباب GenZ 212 حول حلّ البرلمان المغربي ودور المؤسسات”المؤسسة الملكية” [1].
لكن النقاش لم ينفذ إلى صلب الأمور، إذ كان المتدخِّل الرئيس يركز على شكليات قانونية مثل: “الدستور لا يمنح للملك إقالة الحكومة”، ناعتا ذلك بـ”مطلب غبي”. بينما جوهر الأمور هو قوة الضغط اللازمة لإجبار المَلكية على الاستجابة لتلك المطالب، التي اعتبرها المتدخِّل الرئيس في النقاش، غير مُمكنة، بمبرر أن “المؤسسة الملكية لن تبدو أبدا ضعيفة وأنها تخضع للضغوطات”، في حين أن التاريخ القريب مليئ بأدلة عن أن المؤسسة المَلكية تخضع للضغوطات وليست أقوى مما تبدو عليه في الظاهر. أقرب دلائل هي:
1- سنة 2008 كانت أحزاب سياسية تراسل الملَكية لإجراء إصلاحات دستورية. وكان رد المَلكية هو الرفض، في خطاب 30يوليو 2010، بمبرر أن المهمة الحالية هي منح الأولوية للإصلاحات الاقتصادية وبناء ما سماه الملك”النموذج التنموي الديمقراطي” القائم على “النمو الاقتصادي المتسارع” و”الحكامة الجيدة”، لكن أسبوعين بعد تظاهرات حراك 20 فبراير، ألقى الملك خطاب 09 مارس 2011 معلنا الإصلاح الدستوري.
2-كانت المَلكية قبيل 2011 قد أعدت حزبَ الأصالة والمعاصرة لينافس العدالة والتنمية، وكانت تُجهز تحالفا انتخابيا حول هذا الحزب ليشكل حكومة الواجهة، لكن حراك العشرين فبراير 2011، فرض على المَلكية إيلاء تلك المهمة لحزب العدالة والتنمية.
3- يوليوز سنة 2015 صدر عفو مَلكي عن مغتصب الأطفال دانييل غالبان، وتحت وقع الاحتجاجات الشعبية ضد ذلك، ورغم بلاغ وزارة العدل الذي قال بأن الأمر “قرار مَلكي أملته مصالح وطنية”، رضخ الملك، إذ صدر بلاغ عن القصر، يوم 3 غشت،يشير إلى عدم علم الملك بخطورة الجرائم التي تمت على أساسها محاكمة دانييل غالبان، ويأمر فيه بفتح تحقيق من أجل تحديد المسؤوليات، ثم بلاغ آخر يوم 4 غشت أعلن سحب الملك للعفو عن مغتصب الأطفال.
ما جرى مع نضال جيل- زد، إذن، هو أن الضغط النضالي كان أضعف من أن يجبر المَلكية على الاستجابة لمطلب إقالة الحكومة، وما سيستتبعه ذلك من حل البرلمان وتنظيم انتخابات مبكِّرة.
من كان سيستفيد من إقالة الحكومة؟
عِوض مطالب إقالة الحكومة وحل البرلمان وتنظيم انتخابات مبكرة، طرح المتدخل في نقاش جيل- زد على ديسكورد، ما يلي: “كان علينا المطالبة بالمستطاع… لذلك كان علينا أن نطالب جلالة الملك بإقالة وزير الصحة.. وإقالة عبد اللطيف وهبي… نريد هؤلاء أكباش فداء، وبإمكان الملك الاستجابة”، وكان رد مسيِّر النقاش في محله: “ألا تعتبر هذا أيضا غباء: أن تطالب بتسمية وزراء بعينهم مطالبا بإقالتهم، وبالتالي تعطي صورة على أن هذه الحركة تصفِّي حسابات مع أحزاب لصالح أحزاب أخرى”.
كان هذا جوابا مفحِما. لماذا؟ في حالة إقالة الحكومة وحل البرلمان وتنظيم انتخابات مبكِّرة، وهذا ما سيُعتبَر أنجازا جبارا، ما الذي سيستتبعه ذلك سياسيا؟ لنطرح فرضية تنظيم انتخابات مبكِّرة. ماذا سيكون موقف شباب جيل- زد؟ في النقاش المنظَّم على ديسكورد ورد أن “الحركة ليست قانونية”، والاستنتاج أنها ليست في وضع يجعلها تحل محلَّ الأحزاب القائمة وتتقدم إلى الانتخابات. ما الخيار الذي سيكون مطروحا آنذاك أمام الشباب: 1) إما مقاطعة الانتخابات، وهذا ما سيجعل الحركة تبدو متناقضة مع نفسها، إذ ستترك الساحة لنفس الأحزاب القائمة؛ 2) أن تدعم أحزابا ضد أحزاب أخرى، وهذا أيضا ما سيجعلها أيضا متناقضة مع نفسها، ومساهمة في إعادة إنتاج نفس الآلية السياسية التي تديم الوضع الذي قام الحراك ضده منذ البداية.
في نقاش جيل- زد على ديسكورد، كانت هذه الخلاصة واضحة بشكل صريح، وقد قالها المتدخل الرئيسي: “الطبيعة لا تحتمل الفراغ، إذا رفضت ملء المشهد السياسي، هناك من سيملأه، وإذا رفضت ممارسة السياسية، هناك من سيمارسها عليك”. لذلك، في حالة عدم تشكل قوة سياسية مغايرة لتلك القائمة حاليا، فإن الذي سيستفيد من الانتخابات، شأنها شأن جميع الأحداث السياسية الأخرى، هو الأكثر تنظيما والأوسع انتشارا والأكثر انغراسا والأقوى تأثيرا. لذلك فلو استجاب المَلك لتلك المطالب ونُظمت انتخابات مبكِّرة، سيكون المستفيد هو الأحزاب القائمة نفسها، كما حدث سنة 2011 عندما فاز حزب العدالة والتنمية بالانتخابات، وطبَّق نفس السياسات التي طبقها أسلافه في حكومات الواجهة السابقة، وكانت أحزاب أخرى، مثل الحزب الاشتراكي الموَّحد وفيدرالية اليسار ستجد هامشا أوسع لتعزيز مكاسبها الانتخابية (محليا ووطنيا).
النزعة اللاحزبية: قديمة قِدم السياسة
إحدى دروس التاريخ التي لا يمكن لأحد إنكارها، هو أن الأحزاب القائمة (وفي الغالب تكون أحزابا تعبِّر عن مصلحة الطبقات الحاكمة)، هي التي تستفيد من نضالات الشعوب. يُسهم ذلك في ظهور النزعة اللاحزبية كحل لمنع ذلك. هذه النزعة قديمة جدا، وكانت في صلب الحركة اللاسلطوية/ الأناركية، التي ترفض كل عمل سياسي وكل تحزُّب. والتاريخ يعطينا دروسا إلى ما آلت إليه تلك الحركة: رفض بناء الدولة العمالية ينتهي دوما بمشاركة اللاسلطويين في الحكومات البرجوازية.
في المغرب أيضا النزعة اللاحزبية قديمة. عندما واجه المقاوم محمد عبد الكريم الخطابي أحزاب الحركة الوطنيةالتي فضَّلت استقلالا منفردا لكل دولة، عِوض التحرير الشامل لشمال أفريقيا، نادى الخطابي بالنزعة اللاحزبية. ولكن الذي حسم الأمر في آخر المطاف هي تلك الأحزاب السياسية.
في نهاية الخمسينيات، عندما جرى الإعداد لانشقاق بن بركة ورفاقه، عن حزب الاستقلال، كتبت جريدة التحرير (29-10-1959) ما يلي: “قيام “الجامعات المتحدة لحزب الاستقلال” شكل جديد… حركة إنقاذية لاحزبية، لأنها لم تعلن أنها حزب ولا ضد حزب ما، وإنما حركة إنقاذية فتحت بابها في وجه الشعب… لقد جمع الشعب شمله وأعلنها منظمة لا حزبية، منظمة الاتحاد الوطني، لا حزبية لأنه لم يعد هناك مكان للحزبية ما دامت أهداف الشعب واحدة وآماله واحدة وآلامه واحدة”. لكن انتهى الأمر بتلك “الحركة” إلى أن تتشكل في حزب سمي “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية”، الذي سعى إلى “مَلكية تسود ولا تحكم” والتعاون معها من أجل إرساء رأسمالية محلية.
البديل الوحيد: حزب من طينة مغايرة
رفضُ جيل- زد للسياسة والأحزاب (ومطالبة الملك بحل المتورط منه في الفساد)، لن يجعل نضالات الشباب في مأمن من استغلال تلك الأحزاب.
كان يمكن لنضالات جيل- زد أن تنجز مأثرة تاريخية عظيمة، لو تمكَّن قسم من هؤلاء الشباب من التجذر سياسيا نحو اليسار، والتقاء المتجذِّرين مع اليسار القائم، من أجل تشكيل كتلة سياسية تتميِّز عن الطيف الحزبي القائم. هناك تجارب مهمة في هذا السياق، رغم مآلها البائس، ولكنها مُلهمة. فقد نتج عن نضالات الساخطين- ات في إسبانيا تشكُّل حزب بوديموس [2]، وحزب سيريزا باليونان [3].
إن يسارا مغايراآخَرا ممكن تماما، وسيُولد هذا اليسار فقط في حالة تحقق الشرط أعلاه: تجذِّر قسم مهم من شباب جيل- زد والتقائه مع اليسار الجذري ومناضلي- ات القاعدة في اليسار الاصلاحي مثل الحزب الاشتراكي الموحَّد وفيدرالية اليسار الديمقراطي.
الطبقة العاملة: بدونها لا يسار ولا انتصار
هناك من يعتبر الحديث عن الطبقة العاملة خطابا تقليديا عفا عليه الزمن. لكن كما لم يخترع التاريخ بعدُ أداة للنضال السياسي خارج الأحزاب، فليس هناك طبقة قادرة على قيادة النضال إلى النصر النهائي غير الطبقة العاملة التي تقود وراءها الشعب (من صغار المنتجين- ات وضحايا البطالة… إلخ).
لا يمكن الحديث عن اليسار ودوره دون ربطه بالحركة العمالية المنظَّمة، أي النقابات في حالة المغرب. يفتح نضال جيل- زد مجالا فسيحا لتجذر أقسام من الطبقة العاملة، خصوصا تلك الأقسام غير المنظَّمة نقابيا، التي يمكن أن تستفيد من أساليب نضال جيل- زد لمواجهة قمع العمل النقابي وقانون الإضراب الذي يكبِّل هذا الحق. كما يمكن أن يتيح تجذر قسم من شباب جيل- زد والتقائه مع اليسار الجذري القائم في المغرب، قيام يسار نقابي طبقي، يُحرِّر النقابات العمالية من سياسة البيروقراطيات المهيمنة عليها، بيروقراطيات تديم هيمنة قوى حزبية غير عمالية على تلك النقابات (كما هو الحال مثلا مع الكونفدرالية الديمقراطية للشغل والفيدرالية الديمقراطية للشغل والاتحاد الوطني للشغل…)، أو بيروقراطية موالية مباشرة للقصر (كما هو الحال مع الاتحاد المغربي للشغل).
الأمل كبير جدا ومثير، ليس في تدخل رئيس الدولة كما ورد في رسالة جيل- زد إلى الملك، ولكن في أن يفتح نضال الشباب مساحات واسعة لإعادة إحياء النقاش الاستراتيجي الذي دُفِن تحت أنقاض شعارات مثل: “لا بديل عن الإصلاح”، “نهاية التاريخ”، “انتصار الرأسمالية”، ويُحيَى الأمل في أن تستعيد الطبقة العاملة دورها الرئيسي في قيادة النضال.
هذا كله رهين بما يفعله اليسار والمناضلون العماليون والشعبيون في هذه اللحظة، فمن يتدخل بهمة أكبر هو من سيستفيد سياسيا من موجة النضال الجارية حاليا بالمغرب، وتفويت التدخل سياسيا من طرف يسار موحِّد لفعله، سيجعل الشباب فريسة أحزاب معارضة سياسيا للمَلكية، لكن برنامجها الاقتصادي و الاجتماعي هو نفسه: الحفاظ على الرأسمالية التابعة مصدر كل الشرور.
—————-
إحالات
[1]- 14-10-2025، https://www.youtube.com/watch?v=cNE73pzUgZU&t=42s.
[2]- 05-06-2015، https://www.almounadila.info/archives/2263.
[3]- 06-02-2015، https://www.almounadila.info/archives/1340.
اقرأ أيضا