الاشتراكية البيئية: رهاننا الثوري لمواجهة الهمجية الرأسمالية (الحلقة الأولى)
بقلم: سعيد
العالم على حافة الهاوية
نعيش اليوم في عصر يُعَدّ الأخطر في تاريخ البشرية. لم تعد الكارثة البيئية مجرّد تحذير نظري أو صرخة من العلماء، بل أصبحت واقعًا يوميًا يتجسد في موجات حرّ قاتلة، وأعاصير مدمّرة، وجفاف وفيضانات متتالية، وانهيار متسارع للتوازنات البيئية. تعد السنوات الأخيرة الأكثر حرارة في السجلات المناخية، ومع ذلك يحذّر الخبراء من كونها قد تكون “الأكثر برودة” مقارنة بما ينتظرنا لاحقًا. تم تجاوز سبعة من أصل تسعة حدود كوكبية أساسية، وتجاوزت البشرية معظم الحدود الطبيعية التي تحفظ استقرار كوكب الأرض، ما يضع النظام البيئي العالمي على حافة تغيّرات لا يمكن التراجع عنها. يتمثل آخر حدّ كوكبي تم تجاوزه مؤخرًا في مستوى حموضة المحيطات. إذ كشف تقرير “مراقبة صحة كوكب الأرض لعام 2025″، الصادر عن معهد بوتسدام لبحوث آثار المناخ في شتنبر 2025[1]، عن تطور خطير يتمثل في تسجيل أول تجاوز للحدّ الآمن من حموضة المحيطات. يعود هذا التغيّر، الذي تفاقم بفعل حرق الوقود الأحفوري وتغيّر استخدام الأراضي وتدهور الغابات، إلى تراجع قدرة المحيطات على الحفاظ على استقرار النظام البيئي للأرض.
يُعد هذا الانتهاك السابع من نوعه، ما يزيد ابتعاد البشرية عن نطاق الأمان الضروري لاستدامة الحضارة. بدأت آثاره تظهر بالفعل: تجاوزت مستويات الحموضة في المحيطات العتبة الآمنة للحياة البحرية، وبدأت النظم البيئية البحرية تعاني من انعكاسات سلبية واضحة.تُعد الشعاب المرجانية في المياه الباردة، والشعاب المرجانية الاستوائية، إضافةً إلى الحياة البحرية في منطقة القطب الشمالي، الأكثر عرضة للخطر.
حالة المغرب: نموذج للظلم المناخي والبيئي
يُعد المغرب، شأنه شأن معظم دول منطقة شمال افريقيا والشرق الأوسط غير المصدرة للنفط، نموذجًا صارخًا للظلم المناخي. لا تتعدى انبعاثاته من الغازات الدفيئة 0,2% من المجموع العالمي، إلا أنه من بين الدول الأكثر تضررًا من آثار التغير المناخي، كما أنه من البلدان الأقل استعدادًا للتكيف معها نظرًا لضعف اقتصاده والمشاكل الاجتماعية والتهميش الذي تعانيه غالبية سكانه.
تتمثل أبرز آثار التغير المناخي في توالي سنوات الجفاف (آخرها سبع سنوات متتالية)، وزيادة وتيرة الفيضانات وحدتها في السنوات الأخيرة، بالإضافة إلى حرائق الغابات والتصحر. يبقى تراجع الموارد المائية أكبر تهديد يواجه المغرب، حيث انخفض نصيب الفرد من المياه المتاحة من 2560 مترًا مكعبًا سنويًا عام 1960 إلى حوالي 620 مترًا مكعبًا عام 2020، مما وضع البلاد في حالة شح مائي مزمن. إذا استمر هذا الاتجاه، سيتجاوز المغرب عتبة الندرة المطلقة البالغة 500 متر مكعب للفرد سنويًا بحلول نهاية هذا العقد.
إلى جانب معضلة التغيرات المناخية التي تقع مسؤوليتها التاريخية على الدول الصناعية الكبرى ومقاولاتها، يعاني المغرب اختلالات بيئية محلية متعددة الأشكال، منها تراجع التنوع البيولوجي، وتلوث المجاري المائية والأنهار بسبب المطارح العشوائية والمخلفات الصناعية التي يتم التخلص منها دون معالجة (كما في حالة كمار على نهر ملوية)، بالإضافة إلى الزحف العمراني شبه العشوائي الذي تتحكم فيه لوبيات العقار. كما يساهم انتشار المنتجعات السياحية وملاعب الغولف في الإضرار بالنُظم البيئية الهشة (كما في حالة المحطة السياحية للسعيدية).
رغم التقارير العديدة، بما فيها الرسمية، التي تحذر من خطورة الوضع المناخي وتأثيره الأكيد على البلاد، وخاصةً على الفئات الأشد فقراً، فإن الطبقة الحاكمة لا تتجاهل هذه الآثار في خياراتها الاستراتيجية فحسب، بل إن خططها الاقتصادية الهيكلية (المغرب الأخضر في الفلاحة، الأزرق للسياحة الساحلية، اليوتيس في قطاع البحر، الخ) تُفاقم من حدة هذه الآثار. أبرز مثال على ذلك هو تشجيع الزراعة التصديرية كثيفة الاستهلاك للمياه، تحت ذريعة أنها منتجات ذات قيمة مضافة عالية (كالطماطم والأفوكادو وأنواع التوت). إلا أن الحصيلة الحقيقية لهذه السياسات التي يستفيد منها بالأساس كبار ملاك الأراضي والمضاربين هي تصدير المياه الشحيحة أصلاً إلى دول لديها موارد أكثر وفرة.
الرأسمالية: الجذر الحقيقي للأزمة البيئية
تحاول الحكومات والطبقات الحاكمة إقناعنا بأن الأزمة البيئية ناتجة عن “سلوك الأفراد” أو عن “ضعف التكنولوجيا”. لكن الحقيقة أوضح من أن تُخفى: النظام الرأسمالي المفروض عالميا في الاستهلاك والإنتاج والتسويق والنقل هو المسؤول الأول عن الكارثة. منذ سنة 1988، على سبيل المثال، أنتجت مئة شركة فقط من عمالقة الوقود الأحفوري ما يقارب 71% من الانبعاثات العالمية. تكشف الأرقام عن ظلم صارخ: فأغنى 1% من سكان العالم يتسببون في انبعاثات تفوق ضعف ما ينتجه أفقر نصف سكان الأرض مجتمعين. أما أوروبا وأمريكا الشمالية، فقد استنزفتا، باسم “التنمية”، نصف ميزانية الكربون التاريخية للكوكب. هذه الأرقام ليست مجرد إحصاءات، إنها شهادة إدانة لنظام اقتصادي يقدّم الربح على الحياة نفسها، ويسخّر إعلامه لتشكيل رأي عام خاضع يَسهل عليه تخيّل نهاية العالم، بينما يعجز عن تصوّر نهاية الرأسمالية.
بلغت التغيرات الكبرى التي أحدثها النظام الرأسمالي في علاقة البشر بالأرض والطبيعة مستوى جعل معظم علماء الأرض والجيولوجيا يتفقون على أننا دخلنا، منذ الثورة الصناعية، حقبة جديدة من تاريخ الكوكب أطلقوا عليها اسم الأنثروبوسين (حقبة الإنسان). غير أن هذه التسمية تخفي المسؤولية الحقيقية، إذ تضع الضحايا والجناة على قدم المساواة، بينما الفاعل الأساسي هو نمط الانتاج الرأسمالي. لذلك، يتبنى عديد من المناضلين/ات، بل وحتى بعض العلماء الملتزمين، تسمية أخرى أكثر دقة: الكابتالوسين، أي حقبة الرأسمالية.
تشكل التفاوتات الاجتماعية بدورها مشكلة بيئية: فالدولار الواحد الذي ينفقه أغنى 1% من سكان العالم يولّد غازات دفيئة أكثر بثلاثين مرة من الدولار الذي ينفقه نصف سكان الأرض الأكثر فقرا. لذلك، فإن انتزاع الثروة من الأغنياء ليس مطلبًا اجتماعيًا فحسب، بل هو أيضًا ضرورة بيئية.
وهم “الرأسمالية الخضراء”
تتكرر في وسائل الإعلام المهيمنة خطابات حول “الانتقال الطاقي”. لكن أين يتجلى هذا الانتقال في الواقع؟
منذ قمة الأرض بريو دي جانيرو سنة 1992، مرورًا بـ 29 مؤتمرًا للمناخ (كوب)، وصولًا إلى المؤتمر الثلاثين المرتقب في بيليم بالبرازيل في نونبر المقبل، لا يزال الوقود الأحفوري يمثل 87٪ من مزيج الطاقة العالمي (الطاقة الأولية)، حسب أحدث تقارير معهد الطاقة. يؤكد تقرير لوكالة الطاقة الدولية (أبريل 2025) أن الاستهلاك العالمي للطاقة ارتفع بنسبة 2,2% مقارنة بالعام السابق، وهو ما يمثل ضعف معدل الزيادة المسجّل خلال العقد السابق (2013–2023). هذا يعني أن الطاقات المتجددة لا تعوّض الوقود الأحفوري، بل تضاف إليه!
حين يتحدث الرأسماليون عن “الانتقال”، فإنهم يقصدون في الواقع التوسع والامتداد والاستخراجية، وهي كلمات تعبّر عن جوهر الحضارة الرأسمالية الغربية. فـ”الرأسمالية الخضراء” ليست سوى شكل جديد من رأسمالية الكوارث، كما حلّلتها ناومي كلاين في كتابها عقيدة الصدمة، حيث تتحول الأزمة المناخية التي تسببت بها الرأسمالية إلى فرصة جديدة لتحقيق مزيد من الارباح.
استعمار أخضر بوجه جديد
الرأسمالية الخضراء هي أيضًا شكل من أشكال الاستعمار الجديد الذي يواصل الاستيلاء على الأراضي، ونهب الموارد، وتوسيع فرص ربح جديدة للشركات متعددة الجنسيات، ويُبقي دول الجنوب في حالة تبعية دائمة: مصدّرة للمواد الخام واليد العاملة الرخيصة، ومنتِجة للسلع الزراعية والحيوانية الموجهة للتصدير، ومستودعا للنفايات، وأخيرًا مصارفا للكربون. أما النخب المحلية الفاسدة، فبدل أن تدعم نموذجًا بديلًا قائمًا على قيم اجتماعية جديدة، فإنها تختار خدمة مصالح الاستعمار الأخضر. ليس هذا جديدًا: فالغرب برّر استعماره أولًا باسم “الرسالة المسيحية” و”الحضارة الغربية”، ثم باسم “التنمية الغربية”، واليوم باسم “التنمية الخضراء” و”حماية المناخ”. كما يتمثل الاستعمار الأخضر اليوم في السيطرة على الأراضي والمعادن النادرة في أفريقيا والجنوب العالمي باسم “التكنولوجيا النظيفة”.
الديون كأداة للهيمنة
للديون دور محوري في هذا الاستعمار الأخضر، كما كان لها دور سابق في الاستعمار المباشر، ثم في التحكم باقتصاداتنا بعد الاستقلال. جميع مشاريع “الانتقال الطاقي” تُموّل عبر قروض، غالبًا في إطار ما يُسمى شراكات بين القطاعين العام والخاص، وهي في الواقع خصخصة للأرباح وتشريك للخسائر.
في المغرب، يتم تسويق مشاريع “الانتقال الطاقي” كحل للتبعية الطاقية، لكنها في الحقيقة عمّقت الخصخصة وعززت هيمنة شركات كبرى مثل ناريفا (مجموعة مدى الملكية) وإنجي الفرنسية. حسب تقديرات البنك العالمي (2025)، يحتاج المغرب إلى 53 مليار دولار للاستثمار في الانتقال الطاقي بين 2020 و2050، بينما لم يُنفق سوى 7 مليارات دولار بين 2009 و2022. هذه الاستثمارات تموَّل أساسًا عبر الدين العمومي لإنجاز البنية التحتية أو تغطية الخسائر المالية الناتجة عن هذه المشاريع (مثال: 800 مليون درهم لمحطة نور ورززات حسب تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي).
يتحمل المكتب الوطني للماء والكهرباء بدوره جزءًا من الخسائر نتيجة ابرامه عقود مجحفة مع شركات خاصة لشراء الطاقة، سواء من محطات تشتغل بالوقود الأحفوري (كـ”جليك” الإماراتية و”سافييك” التابعة لـ”ناريفا”) أو من تلك التي تشتغل بالطاقات المتجددة (كـ”أكوا” السعودية و”إنجي” وناريفا).
إلى جانب ذلك، رافقت هذه المشاريع عمليات استيلاء على الأراضي وتهميش للسكان المحليين، إضافة إلى استنزاف الموارد المائية. ففي مشروع نور بورززات تمت مصادرة 3000 هكتار، وفي ميدلت 4200 هكتار. أما مشروع “توتال إنرجي” في كلميم فيم الحديث عن 150 ألف هكتار، بينما يخطط مشروع “إكسلينك” لنقل الكهرباء إلى بريطانيا لاستغلال 170 ألف هكتار، لتزويد 7 ملايين بريطاني بالكهرباء النظيفة المنتَجة في المغرب. تجدر الإشارة إلى أن هذه المصادرات تمت استنادًا إلى قوانين استعمارية قديمة مثل ظهيري 27 أبريل 1919 و18 فبراير 1924، اللذين يمنحان وزارة الداخلية سلطة نزع الأراضي باسم “المصلحة العامة”.
27 شتنبر 2025
[1]– https://www.pik-potsdam.de/en/news/latest-news/seven-of-nine-planetary-boundaries-now-breached-2013-ocean-acidification-joins-the-danger-zone
اقرأ أيضا


