القرار 2803 في منظور القرار 242
بقلم: جلبير الأشقر
إن القرار 242 أحد أشهر قرارات مجلس الأمن الدولي التي بقيت بلا تنفيذ، إن لم يكن أشهرها. والحال أننا، بعد مرور 58 عاماً على صدور ذلك القرار في 22 نوفمبر/ تشرين الثاني 1967، لا زلنا ننتظر انسحاب الجيش الإسرائيلي من الأراضي العربية التي احتلها في حرب يونيو/ حزيران من العام ذاته، وهو الانسحاب الذي نصّ عليه القرار (مع فسح المجال أمام تسوية على تلك الأراضي في النص الإنكليزي الذي تحدثت عن «أراض» بدل «الأراضي»). وإذ نصّ القرار على مقايضة الأرض بالاعتراف، أو ما غدا يُعرف لاحقاً باسم «التطبيع»، فإن الحالة الوحيدة التي شهدت تنفيذاً له هي حالة مصر السادات التي استعادت سيناء لقاء عقدها اتفاق سلام مع الدولة الصهيونية.
وقد توهّم ياسر عرفات بتحقيق مقايضة مماثلة من خلال اتفاقية أوسلو/ واشنطن في عام 1993، فاعترف بإسرائيل لقاء تسليمها إياه إدارة المناطق الفلسطينية ذات كثافة سكانية في الضفة الغربية وقطاع غزة. لكنه قبِل باتفاق لم يَعِد بانسحاب الجيش الصهيوني من كامل الأراضي الفلسطينية التي احتلها في عام 1967، بل لم ينصّ حتى على تجميد النشاط الصهيوني الاستيطاني فيها، ناهيك من إنهاء ذلك النشاط مرفقاً بالتزام بإخراج المستوطنين القاطنين في تلك الأراضي. بيد أن هذا الانسحاب المرفق بإخراج المستوطنين قد تمّ في قطاع غزة، وذلك ليس بمقايضة، بل بقرار وحيد الجانب من أرئيل شارون في عام 2005.
عمل شارون آنذاك تحت ضغط العسكريين الذين رأوا أن كلفة السيطرة على القطاع أكبر من فائدتها، لا سيما أن عدد المستوطنين بقي فيه قليلاً. لكنه، حرصاً على ألّا يبدو الانسحاب وكأنه نموذج لما ينبغي أن يحصل في الضفة أيضاً من باب مقايضة الأرض بالسلام، آثر الانفراد بإقرار الانسحاب واستبداله بتحكّم خانق بالقطاع من خارجه، رأت فيه المؤسسات الحقوقية الدولية استمراراً للاحتلال بصيغة أخرى. ذلك أن شارون لم يبغ الانسحاب من الضفة على الإطلاق، بل كان يسعى وراء ضمّ القسم الأكبر من أراضيها بقرار انفرادي على غرار قراره الخاص بغزة. وإذا لم يحصل ذلك حتى الآن، فبسبب الخط الأحمر الأمريكي الذي ما زال قائماً في هذا الشأن والذي يعكس الخط الأحمر الذي رسمه حلفاء واشنطن العرب.
أما القرار 2803 الذي تبناه مجلس الأمن الدولي في السابع عشر من الشهر الجاري، فإن مصيره يعد بأن يكون أسوأ بعد من مصير القرار 242. فحيث تضمّن قرار عام 1967 شيئاً من الإبهام حول الأراضي التي طُلب من إسرائيل الانسحاب منها لقاء السلام، اكتنف الإبهام كامل القرار الأخير، عدا ما جرى تنفيذه من انسحاب جزئي للجيش الصهيوني لقاء الإفراج عن كافة المحتجزين الإسرائيليين لدى «حماس» وحليفاتها. وأول ما يكتنفه الغموض هو تشكيل ما أسماه القرار «قوة استقرار دولية مؤقتة»، أنيطت بها مهمة «ضمان نزع السلاح في القطاع، بما يشمل تدمير البُنى التحتية العسكرية والإرهابية والهجومية ومنع إعادة بنائها، وكذلك الإخراج الدائم للأسلحة من الخدمة من قبل الجماعات المسلحة من غير الدول».
فقد أبدت دولٌ شتى استعدادها للإسهام بوحدات عسكرية في القوة المذكورة عندما أعلن ترامب خطته قبل شهرين وبدا كأن «حماس» موافِقة عليها، إذ أعلنت قيادتها ترحيبها بها. وما كان غريباً في الأمر، وقد عكس الضغط الذي تعرّضت له الحركة عربياً وإقليمياً، لم يكن فقط قبولها بالإفراج عن آخر المحتجزين لديها بدون انسحاب إسرائيلي كامل من القطاع، وهو الشرط الذي كانت تصرّ عليه حتى ذاك الحين، بل أيضاً قبولها بخطة تنصّ على نزع سلاحها بدون حتى ضمان تحقيق الانسحاب المذكور.
أما وقد استدركت «حماس» الآن وأعلنت رفضها تسليم أسلحتها لغير قوة فلسطينية تحظى برضاها (يبدو أن التناقضات في مواقفها الأخيرة تعكس اختلافات بين القادة الموجودين داخل القطاع وخارجه) فقد تراجعت الدول عن إبداء الاستعداد للمشاركة في القوة الدولية خشية من أن تُزج تلك الوحدات في صدام مسلّح مع «حماس». تَعرقل بالتالي مسار تنفيذ القرار 2803 وبات مهدداً بشلل طويل الأمد على غرار القرار 242. غير أن ثمة فرقاً عظيماً بين الحالتين، إذ إن الدولة الصهيونية كانت مرتاحة لاستمرار احتلالها لأراضي 1967، لكنها لا يمكنها أن ترضى باستمرار انقسام قطاع غزة بين قسم واقع تحت احتلالها (53 في المئة من مساحته، رسمياً) وقسم آخر لا تزال «حماس» مسيطرة فيه.
فإن تعايش إسرائيل مع سلطة «حماس» الذي ناسب حسابات بنيامين نتنياهو منذ عودته إلى الحكم في عام 2009 حتى السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، لم يعد مقبولاً لديه أو لدى أي من أطراف الطبقة الحاكمة الصهيونية بشتى مكوناتها السياسية. لذا فإن ما ينتظره نتنياهو وأعضاء حكومته هو أن يؤدّي تعثّر تشكيل «قوة الاستقرار الدولية» إلى عودة الضوء الأمريكي إلى الاخضرار إزاء معاودة عدوانهم واحتلالهم لكامل القطاع.
فإن غاية حكومة أقصى اليمين الصهيوني القائمة تبقى استكمال نكبة 1948 بتطهير عرقي جديد يبدأ بقطاع غزة ثم ينتقل إلى الضفة الغربية. وقد كانت الغاية الرئيسية من الإبادة الجماعية التي ارتكبها الجيش الصهيوني في غزة، فضلاً عن تدمير شبه كامل لمباني القطاع، هي دفع من بقي من السكان على قيد الحياة إلى الهجرة. ومن هذا المنظور، فإن حرب الإبادة التي شنّتها إسرائيل في غزة هي مرادف على نطاق أوسع بكثير للمجازر التي ارتكبتها الجماعات المسلحة الصهيونية خلال حرب 1948 بغية دفع السكان الفلسطينيين إلى النزوح.
كاتب وأكاديمي من لبنان
المصدر: القدس العربي
اقرأ أيضا


