الصين: طموحات إمبرياليةٍ متأهّبة – بيير روسيه

المكتبة9 نوفمبر، 2015


ليست الصين «بلدًا ناشئة»، بل قوّةً قد نشأت، وليست «إمبرياليةً فرعية» (sub-imperialism) تضمن استقرار نظامها الإقليمي، بل هي إمبرياليّة «متأهّبة»، إذ تهدف البرجوازية الصينية الجديدة للّعب في الدوريّات الكبرى. قد لا يكون نجاحُ مشروعها أمرًا مضمونًا، ولكنّ هذه الطموح تحددّ سياساتها الدوليّة – الاقتصادية منها والعسكريّة.

كثيرًا ما تُجمَع «القوى الناشئة» الجديدة مع بعضها البعض تحت اختصار «بريكس» (BRICS)؛ وهنّ البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا.

هذه الدول تحاول واقعًا تشكيلَ كتلةٍ على الساحة الدولية، حيث نظّمت «قممًا» أقيمَ خامسها في ديربان (جنوب أفريقيا) عام 2013، والقمّة التالية ستُقام قريبًا في فورتاليزا (البرازيل). أعلنت هذه الدول تشكيل بنك تنميةٍ دوليّ تحت إمرتهم، وهو بنكٌ بديل للبنك الدوليّ، وانخرطت في منافسة مع الإمبرياليّات التقليدية من أجل النفوذ للموارد، بالخصوص في القارّة الأفريقية، وقد تبيّن أنّ نتائج هذه المغامرة لا تزال حتى الآن متواضعة، ولكن تظلّ هنالك رغبة بصياغة «تحليلٍ نقديّ مُشترك» للـ«بريكس» بالتحديد من أجل تعزيز إمكانيّات «التضامن والمقاومة ما بين دول الجنوب»، موضِّحين مَوقِع «بريكس من الأسفل» مُقابِل «بريكس من الأعلى».[*]

أعدّ باتريك بوند – وهو ناشطٌ جنوب أفريقيّ بارز في حركة العدالة العالمية وبروفيسور جامعي متفاني في نشاطه السياسي – تحليلُه في مقالةٍ حديثة في «بامبازوكا». مع وجود «إمكانيّات مُناهِضة للإمبريالية» لدى «المناصرين الأكثر راديكاليّة» لكتلة بريكس، هنالك «مخاطرٌ أكبر بكثير»: أن نرى أنّ هذه البلدان تلعب «دورًا “إمبرياليًا فرعيًا” في المساهمة في صيانة النظام النيوليبرالي». تحليلُ بوند هذا تحليلٌ مصقول فهو يضع بعين الاعتبار الأوضاع المختلفة لهذه البلدان المتنوعة، حتى أنّه يرى احتمالية رؤية بعضها كجزءٍ من صراعاتٍ «ما بين إمبريالية»، كمثال ما تقوم به روسيا في أوكرانيا/القرم. ولكنّه يعاود استخدام مفهوم «الإمبريالية الفرعية» ليصف جميع مكوّنات «الكتلة» – من ضمنها الصين.

كما أشار بوند، لمفهوم البلدان «الإمبريالية الفرعية» تاريخٌ طويل: فقد صاغه روي ماورو ماريني في 1965 لوصف دور الدكتاتورية البرازيلية في النصف الغربي للكرة الأرضية و«من ثمّ أعيد تطبيقه تكرارًا أثناء السبعينات». وهنا يأتي الإشكال: «الإمبرياليّات الفرعية» موجودةٌ بالعفل اليوم، ولكنّ ظروف نشأة القوّة الصينية مختلفة جدًا عن البلدان التي كنّا نتحدّث عنها حينها لدرجة أنّني أشكّ فيما إذا كان ذلك المصطلح نفسه يمكّننا من فهم هذه الخصوصيّة.

ساعد النظام الصينيّ الحالي بالتأكيد على توسيع نطاق تكديس رأس المال دوليًا (وعلى نحوٍ شاسع!)، وتمّ إدماجه في العولمة والأمولة الاقتصاديّة (economic financialization)، وقد قام بشرعنة النظام المهيمن عن طريق الانضمام لمنظمة التجارة العالمية، وهي مُعارِضة لكلّ الحركات الاجتماعية التقدميّة، ووفّر للشركات الدوليّة قوّةً عاملة لا تمتلك حقوقًا وبالإمكان استغلالُها حسب الرغبة (ألا وهم المهاجرون داخل البلاد)، ولكنّ كلّ هذه الأمور جزءٌ من الدّور المُخصّص للإمبرياليات الفرعية. ولقيامها بذلك، كان من الممكن للصين أن تصبح مرّة أخرى بلدةً مُخضَعَة كباقي البلدان تحت نِير القوى الإمبريالية التقليدية. كانت هذه الإمكانية ملموسةً في أوائل القرن الواحد والعشرين، ولكنّ قيادة الحزب الشيوعي الصيني والرأسماليّة البيروقراطية الصينية قرّرت عكس ذلك. وقد تمكّنت من ذلك بفضل إرث الثورة الماويّة: علاقات التبعيّة مع الإمبرياليّة تمّ كسرها، وذلك لا ينطبق على أيّ عضوٍ آخر من البريكس سوى روسيا – وخلافًا لروسيا، تمكّن الحزب الحاكم من السيطرة بشكلٍ مستمر على عمليّة النقلة الرأسماليّة، محوّلًا البنية الطبقيّة للبلاد تحويلًا عميقًا.

وذلك لا يعني أنّ نقول أنّ البلدان الأخرى التي تُشخّص نوعًا ما بكونها إمبريالية فرعيّة (من البرازيل وحتى السعودية، ومن جنوب أفريقيا حتى إسرائيل) هي مجرّد بيادق في يد واشنطن، ولكنّ المنطق الذي تتموضع داخله السياسة الدوليّة لبكّين مختلفٌ اختلافًا نوعيًا، فحين أرسلت البرازيل جنودًا لهاييتي وأرسلت الهند جنودًا لسريلانكا، كانت كلٌ منهما تلعب دورَ الحارس الإقليمي للنظام العالمي. في شرق آسيا، انخرطت الصين في مواجهة مع اليابان – وهذا المثال ليس مماثلًا لسابقيه بتاتًا – إذ بقيامها بذلك شنّت الصين تحدّيًا ضدّ الوليات المتحدة، وبكونها عضوًا دائمًا في مجلس الأمن ومالكًا رسميًا لأسلحةٍ نووية، تطرح الصين ذاتها اليوم كقوّةٍ من الدرجة الأولى.

الاقتصاد والاستراتيجية

من أجل خدمة طموحاتها الجديدة لدى بكّين قاعدة اقتصادية تفوق قاعدة روسيا بكثير، فبينما تعتمد الأخيرة اعتمادًا محصورًا جدًا على إمكانيّاتها العسكريّة، نمى مكان الصين في الاقتصاد العالمي بأسلوبٍ سريع ومذهل. إلى أين ستصل هذه القوّة النامية؟ بالنسبة لبرونو جيتن، لا تزال هنالك أوجه شكٍّ كثيرة حول هذا.

بِقيمٍ مطلقة، أصبح لدى الصين منذ عام 2010 ثاني ناتج محلّي إجمالي في العالم، خلف أمريكا ولكن متقدّمة على اليابان وألمانيا، وإن استمرّت على هذا المنحى الحالي، فقد تتخذ الصين المركز الأول خلال أعوامٍ قليلة. والمهمّ هنا ليس دقّة هذه الحسابات أو التكهنات، وإنّما المنحى نفسه.

وتمثّل الصين أيضًا ثاني أكبر سوق عالميًا، وأحد أكبر المُدِينين وأكبر «مصنع» في العالم؛ وهذا منصبٌ لا يمكن للدول الآسيوية الأخرى ذات العمالة شديدة الرخص أن تهدّده وذلك لأنّ الصين تمتلك أيضًا عددًا من الميزات غير المرتبطة بالرواتب. من الصعب أن نقيس مدى تقدّم الاقتصاد الصيني فيما يتعلق بحقل الإبداع التكنولوجي، ولموضع النظام الصيني المستقلّ عن الإمبرياليات التقليدية، فبإمكانه أن يتفاوض على تحويلاتٍ تقنيّة ضخمة، ولكنّه لم يقم بقفزة للأمام حتى الآن من ناحية الإبداع التقنيّ الجذريّ المحلّي. رسّخت قيادة الحزب الشيوعي الصيني لنفسها هدف التغلّب على هذا القيد في المستقبل بعدّة طرق (من ضمنها الاستحواذ على شركاتٍ غربيّة).

قامت الصين مُؤكِّدةً وزنها على مجالٍ جديد ولأول مرة بالتدخل في منافسةٍ لاعبةً دور «شرطيٍّ دوليّ» إذ منعت تقاربًا متعدّد الجنسيات (في هذه الحالة أوروبيّ) في موضعٍ لا ترتبط فيه أيٌّ من شركاتها مباشرةً: الرّبط ما بين الشركات القائدة عالميًا في قطاع النقل البحري – شركة مايرسك (دنماركية) وشركة البحر الأبيض المتوسط للشحن (سويسريّة-إيطالية) والشركة البحرية للتأجير-الشركة البحرية العامة (فرنسيّة) – ولكنّه كان ربطًا قد تمّت الموافقة عليه مُسبقًا مِنْ قِبل بروكسل وواشنطن. واختيار هذا القطاع – أي قطاع الشحن – ليكون هدف هذا التدخّل المفاجئ لم يكن مصادفة، فالصين هي أكبر مُصدِّر في العالم.

ولكن يظلّ السؤال قائمًا: هل يتّصف «النموذج الصينيّ» للتنمية الرأسمالية بالاستدامة؟ إن تمكّن الصّين من تحمّل انفجار فقاعات المضاربات (في قطاع العقار مثلًا) وأزمةٍ اجتماعيّة ضخمة ليس مؤكدًا، وقد يهدّد ذلك كسادٌ عالميٌّ جديد أو اندلاعُ حربٍ في شرق آسيا أو وقوعِ توتّراتٍ مع رأس المال الصيني العابر للحدود. لقد ولّد النموذجُ الصينيّ بشكلٍ خاص بُنيةً تفاوتٍ اجتماعيّ شديد، تُماثل بلدان أمريكا اللاتينية وتختلف عن البلدان الغربية – مع أنّ أمريكا هي أيضًا تتصّف بالتفاوت الاجتماعي الشديد وبعض البلدان الأوروبيّة في طريقها لأن تُصبح «دول عالمٍ ثالث». يجري الفساد كالسّم في الصين لدرجة أنّه يهدّد تطبيق السياسات الاقتصادية، وأعدادٌ أكثر فأكثر من العوائل فاحشة الثراء – من ضمنها أولئك المنتمين للمناصب العليا من النظام – تنخرط في المضاربات وتستغلّ «الملاذات الضريبيّة» للهروب من القيود الرسمية. يقع تماسك وتلاحم «الرأسمالية البيروقراطية» تحت ضغطٍ مع صعود الرأسماليين غير المرتبطين بالنظام ويقوّضهما من الداخل فردانية «الأمراء الحُمر»، ألا وهم أبناء كبار الشخصيات. ولكنّ نواة هذه الطبقة الحاكمة الحالية المُتحكّمة بمشروع خلق الإمبريالية الجديدة الاستراتيجيّ هي ما يعطي النموذج الصيني قوّته، فإن تحطّمت هذه النواة، كيف سيجري هذا النقاش؟

بعد قولنا هذا، لا تهدف السياسة الاقتصادية الدولية الصينية في الوقت الراهن لتحقيق أرباحٍ فحسب، بل تهدف لتأسيس القواعد لمكانتها كقوّة عظمى. من ناحية المواد الخام – تفتقر الصين أو ستفتقر لكلّ شيء تقريبًا – فهي تشتري أراضٍ زراعية وتعدينيّة بكميّاتٍ ضخمة (نفط وغاز ومعادن نادرة وما إلى ذلك) في كلّ أرجاء العالم وقد استولت على شركاتٍ متعددة الجنسيات. وتضمن أيضًا تحكًما على الإنتاج من خلال احتكار إدارة شركاتها وأيضًا من خلال تصدير العمالة الصينية (لأفريقيا مثلًا) أو عن طريق التوظيف بتفضيلِ مواطني دولٍ أخرى تتحدّث لغاتٍ صينيّة (فيتنام على سبيل المثال). وتسعى بتلازمٍ مع ذلك لضمان قنواتٍ أمانٍ للتواصل عبر القارات عن طريق شراء موانئ ومطارات والاستثمار في الشحن التجاري وتدريجيًا عن طريق نشر أسطولها العسكري حين يقتضي الأمر ذلك، بالخصوص في عمليّاتٍ ضدّ القرصنة في أعالي البحار.

وهي منخرطة أيضًا في شراء ديونٍ سيادية أو مؤسسات بنكيّة، وتنويع احتياطاتها التبادلية الأجنبية، مُنشئةً بنوكًا تقبل بمقاصة الرنمينبي في لندن وفرانكفورت، إذ كان ذلك بعد أن أنشأت بنكًا في سنغافورة – وسُتنشئ واحدًا في باريس عمّا قريب. تعزّز الصين من مكانتها في التمويل الدولي، موظِّفةً هونك كونغ بشكلٍ جيّد لتحقيق هذا الهدف. في شهر أكتوبر/تشرين الأول لعام 2013، حلّ الرنمينبي محلّ اليورو كالعملة رقم اثنين في تمويل التجارة الدولية، مع أنّه ليس قابلًا للتحويل بشكلٍ كامل بعد.

يجدر الذكر هنا أنّ العملة الصينية لا تزال – بالنسبة للمعاملات المالية الدولية ككُلّ – سابع عملة عالميًا (بفارقٍ كبير ما بينها وبين اليورو) وأنّها لا تُشكّل تهديدًا بعد على هيمنة الدولار، ولكن بإمكان بكّين أن تستغل المخاوف حول مطالبة الولايات المتحدة بحقّ التحقيق بأيّ حسابٍ بنكيّ يستند على الدولار في العالم فرضها قوانينها خارج حدودها على كلّ المعاملات التجارية القائمة على عملتها، كما يتبيّن من حالة بنك باريس الوطني-باريباس الواقع حرفيًا تحت إشراف الولايات المتحدة. في مثل هذه الأوضاع، سيزداد البحث عن عملةٍ بديلة.

وازداد نفوذ الصّين الآن في قطاعٍ آخر تُهيمن عليه الإمبرياليّات التقليدية. وفق أحدث تقارير «سيبري» (معهد ستوكهولم لأبحاث السلام الدولي)، ولأوّل مرة منذ نهاية الحرب الباردة دخلت الصين ضمن قائمة أكبر خمسة مورّدين للأسلحة، وهي قائمة لم تضمّ قبل ذلك إلّا الولايات المتحدة ودولًا أوروبيّة. تحتلّ الصين – مُستحوذة على 6 بالمئة من المبيعات – المرتبة الرابعة، متأخرّةً عن ألمانيا بقليل (7 بالمئة) ومتقدّمة على فرنسا (5 بالمئة) وبريطانيا (4 بالمئة) التي تراجعت للرتبة السادسة.

الصراع البحريّ في شرق آسيا

ولكنّ أكثر التوتّرات حدّة ليست هناك، بل في شرق آسيا، بين الصين والدول المجاورة وأمريكا، وذلك ليس بأمرٍ جديد. وظّفت واشنطن موارد ضخمة لتوقف طوفان الثورة التي بدأت في المنطقة في فترة الحرب العالمية الثانية. فبعد أن استحوذت القوّات الماويّة على السلطة عام 1949، تمّ تشكيل قواعد عسكريّة على قوسٍ يمتدّ من كوريا الجنوبية وحتى تايلند عبر اليابان (أوكيناوا) والفلبين. ومع اندلاع الصراع الصيني-السوفييتي حين عقدت موسكو صفقةً نووية مع واشنطن ووُضِعَت الصين أمام فرضِ أمرٍ واقع، عزّز ذلك «متلازمة التطويق» لدى بكّين. ولكنّ ما تغيّر هو الطبيعة الاجتماعية للدولة الصينية ومعها السياسات التي تطبّقها لكسر تهديد العزل الفيزيائي، إذ تخافُ الصين من أنّ ذلك هو الهدف.

لهذه السياسة اليوم بعدٌ اقتصاديّ مرتبط بتصديرٍ ضخم لرأس المال، وهو أحد علامات انبثاق رأسماليّةٍ صينيّة جديدة وغازية، ويُشير ذلك أيضًا للنموّ المتسارع للعلاقات التجارية. تخلق بكّين اليوم اتكّالية مزدوجة لدى بلدان المنطقة: من خلال أهميّة السوق الصينية لاقتصاداتهم ومن خلال نموّ استثماراتها في العديد من الدول المجاورة. وبالتالي، لا يتردّد الحزب الشيوعي الصيني بتقوية علاقته مباشرةً مع جنوب كوريا رغمًا عن النظام الكوري الشمالي.

تعرض بكّين اليوم صفقة «سلامٍ تحت هيمنة صينيّة» (pax sinica) تعزّز من علاقات الاتكاليّة الاقتصادية هذه، ولكنّ هذه السياسة بعثت بمقاومةٍ اجتماعيّة ووطنية حيثما أصبح السّكان ضحايا الإغراق التجاري وتجارةٍ لا متساوية ما بين البلدان (تايلند على سبيل المثال)، أو ضحايا تهديد مشاريع البنى التحتيّة الضخمة مثل السدود العالية (تمّ إيقافُ مشروعٍ كهذا في فيتنام، وتعطيل آخر في ماينمار) أو – في حالاتٍ أخرى – يعاني السّكان من أوضاعٍ عملٍ قاسية داخل الشركات الصينية (مثل فيتنام) أو تمّ طردهم من أراضيهم التي استحوذت عليها الصين (كالفلبّين).

زعزع انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء الفترة المعروفة بالحرب الباردة ما بين الكتل استقرارَ الجغرافيا السياسية الشرق آسيويّة، حيث تُوجد «نقاط سخونة» – أزماتٌ متفاقمة ظلّت دونَ حلّ لعقود. في هذا السياق، تسعى الصين لتأسيس نفسها كلاعبٍ رئيسي في فضاء المناورات الدبلوماسية الدوليّة. وقد انطبقت ذلك جليًا على حالة شبه الجزيرة الكورية، ولكنّ الصين حاضرة اليوم أيضًا في أفغانستان.

هذه السياسة الإقليمية الشاملة تحتوي أيضًا عنصرًا أراضيًا وعسكريًا شديد العدوانية ويبرز مقدار اللا مساواة تحت هذا «السلام الصيني». ومن أجل إرضاء قوميّة القوى العظمى التي تملأ الفراغ الفكريّ الذي تركه انهيار الماوية ومن أجل إعطاء شرعيّة للنظام والاستيلاء على الثروة البحرية وأيضًا لضمان نفاذ أسطولها للمحيط الهادي ولمضائق جنوب شرق آسيا، أعلنت الصين سيادتها على كامل بحر الصين الجنوبي تقريبًا (وهو مزعمٌ ترفضه كما هو واضح البلدان الأخرى التي تحدّها هذه المياه). تمنح الصين ذاتها حقوقًا لا تنطبق من حيث المبدأ على طُرق الشحن الدولية وإنما على قرب المياه للبلد، ولكنّها على الرغم من ذلك تفرض مطالبها عن طريق بناء هياكلٍ عسكريّة متنوّعة على أرخبيلات وجُزَيْرات وصخورٍ وأرصفة مرجانيّة غير مأهولة تزعم ملكيّتها أو تملكها بلدانٌ أخرى في المنطقة – وتدعو بكّين مواطنيها لصيد السّمك في أي مكان تحت حماية الحرس الساحلي وللانخراط في التنقيب عن الزيت، حيث تم تركيب منصّة حفر في 2 مايو/أيار قُرب ساحل فيتنام.

ضدّ فيتنام وماليزيا وبروناي والفلبين وتايوان واليابان، تمتلك بكّين أو تُطالِب بكامل جُزر باراسيل وسبراتلي وريف سكاربورو وجُزر سينكاكو/دياويو؛ وتوسّع من مياهها الإقليمية لمستوىً لا يترك أيَّ شيءٍ لبلدان جنوب شرق آسيا الأخرى. انبثقت نقاطُ احتكاكٍ عسكريّ غربًا مع فيتنام وشرقًا مع اليابان، ومع أنّه في الحالة الأولى حصلت حادثة عنيفة جدًا، ففي الحالة الثانية رفع التصعيد «المحسوب» من المقامرة بشكلٍ حاد إذ أنّ طوكيو «أمّمت» شهر سبتمبر/أيلول 2012 جُزر سينكاكو/دياويو. وصل ذلك لدرجة أنّه في نوفمبر/تشرين الثاني أعلنت الصين منطقة دفاع جوّي تتضمّن هذا الأرخبيل الصغير.

لا تُجَد قوّةٌ اليوم تسعى لبدأ حرب في شرق آسيا، ولكنّ من تحريضٍ لتحريضٍ مضاد لا يمكن استبعاد حدوث انزلاقاتٍ خطرة. ونحن نتحدّث عن أكثر المناطق تشبُّعًا بالأسلحة النووية على وجه الأرض حيث – كما تبيّن من الأزمة الكورية – وَجَدَ كلٌ من الصين وروسيا وأمريكا واليابان أنفسهم في مواجهة، وذلك في منطقةٍ تتّسم بتصاعد قوميّاتٍ كارِهة للأجانب وعسكرةٍ بحريّة متصاعدة (حيث تقوم أكبر وثالث ورابع أكبر أساطيل في العالم بمناورات). نرى هناك الولايات المتّحدة التي تكرارًا عن عودتها الكبرى لآسيا واليمين الياباني يريد أن يحرّر نفسه قيد بند السلميّة الدستوري، فعلى الرغم من معارضة أغلبيّة الشعب، تبنّى البرلمان الياباني «تفسيرًا» جديدًا لهذا الدستور، تفسيرٌ يسهّل مساهمة جيشها في عمليّاتٍ عسكريّة خارج البلاد.

خلقت نهاية الكُتل إثر انهيار الاتحاد السوفييتي ومع العولمة الرأسمالية حالة عدم استقرارٍ عالية، وليس فقط اتكاليةً متبادلة (اتكال الولايات المتحدة على رأس المال الصيني واتّكال الصين على السوق الأمريكي). ليس بإمكان واشنطن أن تصبح شرطيّ العالم كلّه لوحدها ووجود بعض «الإمبرياليات الفرعية» الإقليمية ليس كافيًا لمساعدتها على القيام بذلك الدور، فهي ستحتاج لحلفاء إمبرياليين وإن كانوا «ثانويين»؛ ولكنّ ضعف الاتحاد الأوروبيّ بارز ولا يمكن لليابان أن تقف على رجليها بعد. في الوقت الراهن، تستغلّ بكّين هذا الوضع على كلٍّ من المستويين الاقتصادي والعسكريّ، ولكن لو (لو!) استمرَّ دستور الإمبريالية الصينية الجديد دونَ أن يواجه النظام أزمة ضخمة، فسيصاحبه توتّراتٌ جيوسياسيّة متفاقمة.

ليست منطقة شرق آسيا بالتأكيد المنطقة الوحيدة المُتسمة بعدم الاستقرار وبتصاعد الصراعات المسلّحة – فالشرق الأوسط يظلّ من وجهة النظر هذه أكثر مناطق العالم «سخونة» وبفارق كبير! ولكن المنطقة التي يتّخذ فيها التنافس ما بين كلّ القوى الكبرى طابعًا مباشرًا هي آسيا.

المصدر: إنترناشنال فيوبوينت


[*] يقضد الكاتب بعبارة «بريكس من الأسفل» التضامن ما بين الشعوب، مقابل «بريكس من الأعلى»، أي التحالف ما بين الأنظمة

شارك المقالة

اقرأ أيضا