مضمون الهجوم على التقاعد المتضمن في تقرير المجلس الأعلى للحسابات

سياسة17 يناير، 2015

بقلم: حمزة

تعد حزمة الإصلاحات التي يقترحها المجلس الأعلى للحسابات هجوما مباشرا على الحق في التقاعد، إذ ستفضي في حالة تطبيقها إلى تدمير نظام التقاعد بالتوزيع. ستوجه حزمة الإصلاحات المقترحة ضربتين قاضيتين لمعاشات المتقاعدين، إذ سينتج عنها تمديد سن التقاعد بخمس سنوات و خفض لمعاشات المتقاعدين. و هذا الخفض للمعاشات سيكون كبيرا، لأنه ناتج عن مراجعة مقياسين أساسيين لحساب المعاش دفعة واحدة. و يتعلق الأمر بحساب المعاش على أساس عشرة سنوات أو خمسة عشر سنة الأخيرة و خفض القسط السنوي لحساب معدل المعاش الذي سيحصل عليه المتقاعد. و كل هذه الإصلاحات مدرجة في شق الإصلاحات على صعيد المقاييس.

 

أما الضربة الثانية الموجهة لأنظمة التقاعد فتتمثل فيما يسمى الإصلاحات الهيكلية و التي ستؤدي إلى إحداث انقلاب في الأسس التي يقوم عليها نظام التقاعد بالتوزيع، حيث سيجبر العمال على الانضمام لنظام التقاعد بالرسملة الذي أتبت إفلاسه في العديد من البلدان.

 

باختصار، ستؤدي الإصلاحات التي يطرحها المجلس الأعلى للحسابات بشقيها، الإصلاحات على صعيد المقاييس و الإصلاحات الهيكلية، إلى جعل العمال يمضون مدة أطول من السابق في أماكن العمل، مقابل الحصول على معاش أقل من الذي كانوا يحصلون عليه فيما مضى. إن هذا الهجوم على مكاسب العمال في التقاعد يجري تغطيته «بضرورة» و «استعجالية» الإصلاحات كي لا تنهار أنظمة التقاعد نتيجة «ارتفاع حجم الديون غير المشمولة بالتغطية»، أي نتيجة لعدم قدرة المداخيل المالية على تغطية الحقوق المكتسبة للمتقاعدين. و قد تطرقنا في المقال السابق إلى نقد الخلل المصاحب لما يسمى بالتحليل الاكتواري الذي أدى إلى التهويل من «فقدان التوازن المالي للأنظمة»، و نواصل حاليا نقاش تقرير المجلس الأعلى للحسابات و ذلك بنقد الإصلاحات التي يقترحها.

رفع سن الإحالة على التقاعد

 

يدعو المجلس الأعلى للحسابات إلى رفع سن التقاعد على 65 سنة بالنسبة لجميع الأنظمة، على أن يكون هذا التمديد إجباريا بالنسبة للصندوق المغربي للتقاعد و اختياريا بالنسبة للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. يبرر المجلس المذكور اقتراحه بضرورة تدارك ارتفاع أمد الحياة، حيث تحسن متوسط العمر خلال الأربعين سنة الماضية بمعدل سنتان. و بذلك فإن صرف المعاشات الممنوحة للمتقاعدين سجل امتدادا على مستوى الزمن، مما يؤدي إلى إثقال أنظمة التقاعد بكلفة إضافية و بالتالي إخلال بآلية التضامن بين الأجيال. يجب أولا أن نسجل بارتياح هذا التحسن لأمد الحياة، لذلك فإن السنتان الإضافيتان في متوسط حياة المتقاعدين يجب بالأحرى أن تكرس لتفجير طاقاتهم الإبداعية في مجالات أخرى غير الحياة المهنية و التي يمكن للمجتمع أن يستفيد منها كذلك. كما يجب ثانيا أن لا نبالغ في مساهمتها في إثقال التكلفة المالية لأنظمة التقاعد، لأن هذا الارتفاع الطفيف في متوسط الحياة سيكون ممتدا خلال فترة زمنية طويلة تفوق أربعين سنة، لذلك لن تأثر كثيرا على التوازن المالي. و فضلا عن ذلك يمكن لأنظمة التقاعد و للمجتمع التدخل عبر مقاييس أخرى و ذلك برصد ناشطين إضافيين و رفع نسبة المساهمة.
و لو كان المجلس الأعلى حريصا على الحفاظ على آلية التضامن بين الأجيال كما يدعي في تقريره لكان عليه بالأحرى أن يطالب الدولة بالتخلي عن السياسة التقشفية التي تعد السبب الوحيد لتدهور المعامل الديمغرافي لصناديق الوظيفة العمومية. فمنذ الثمانينات و الدولة ترصد مناصب في الوظيفة تقل عن الحاجيات في القطاعات الاجتماعية و بالإدارات. و في السنوات الأخيرة دأبت الدولة على عدم تعويض الموظفين المحالين على التقاعد، إضافة إلى خفض إرادي و مباشر لأعداد الموظفين الناشطين فعلا عبر «المغادرة الطوعية» في سنة 2005 التي أدت إلى تقليص فوري لأعداد ناشطي صناديق التقاعد بأعداد كبيرة تصل إلى أكثر من 38 ألف ناشط، مما أفضى إلى تراجع المعامل الديمغرافي للصندوق المغربي للتقاعد بنسبة كبيرة، إذ انتقل من 4,8 إلى 3,6 دفعة واحدة. نتيجة لهذه السياسة كان انخفاض المعامل الديمغرافي فوريا، إذا تراجع بنسبة مهولة تفوق 25%. هذا إذن ما يفاقم التوازن المالي لأنظمة التقاعد و ليس «ارتفاع أمد الحياة» للمتقاعدين. تبين الآن أن الحجة التي شيد على أساسها مقترح تمديد سن التقاعد ليست سليمة إطلاقا.
أما من جهة أخرى، فمن حقنا التساؤل ما جدوى مواصلة النشاط المهني بعد بلوغ ستون سنة من العمر بالنسبة لمهن كالصحة أو التعليم مثلا، هل يعقل أن يواصل مثلا أستاذ بالتعليم الابتدائي تدريس صغار السن بعد بلوغ المدة القانونية الحالية. وفضلا عن ذلك هل يمكن تطبيق هذا التمديد بالنسبة لنظام المعاشات العسكرية مثلا. فقد تبين أن قرابة ما يقل عن نصف متقاعديه في سنة 2011 يعدون من ذوي معاشات زمانة، أي أنهم تقدموا بطلب للتقاعد قبل المدة القانونية للتقاعد بسبب عجز بدني عن مواصلة العمل.
إن تمديد سن التقاعد بخمس سنوات إضافية مطروح أيضا بالنسبة لصندوق الوطني للضمان الاجتماعي غير أن المبرر الذي ساقه المجلس الأعلى للحسابات لشرعنته لا يستند على أساس. فهو يورد أن دوافع التمديد تتجلى في خاصيات التشغيل بالقطاع الخاص من حيث الطبيعة الشاقة لبعض الأنشطة المهنية و الفترات المصرح بها جزئيا أو غير المصرح بها و الولوج المتأخر لسوق الشغل. إن أغلب هذه العوامل تفرض بالأحرى العمل على أن لا يخسر العمال حقوقهم في التقاعد في المدة القانونية الحالية. فقد أورد تقرير المجلس الأعلى للحسابات نفسه أن مجموع المستفيدين من معاش التقاعد في سنة 2012 تجاوز قليلا 300 ألف، في حين بلغ عدد المحالين على التقاعد دون توفرهم على السقف المحدد في 3240 يوم من الاشتراكات الضرورية للحصول على الحق في المعاش أكثر من 600 ألف، أي أن أكثر من ضعف عدد المتقاعدين يقصون سنويا من الحصول على حقهم في المعاش بسبب «الفترات المصرح بها جزئيا أو غير المصرح بها». إن حل هذا المشكل يفرض بالأحرى أن تعمل الدولة على إجبار أرباب العمل على الكف عن إهدار حقوق العمل و ليس تمديد المدة القانونية للتقاعد.
خلاصة الأمر، أن الحجج المستند عليها لتبرير تمديد سن التقاعد بالنسبة لصندوقي التقاعد الرئيسيين لا تستند على أساس متين. إن تطبيق هذا الإصلاح سيقود، بالعكس، إلى مزيد من تدهور شروط حياة المتقاعدين، بل سيشجع أرباب العمل بالقطاع الخاص، ولو كان هذا التمديد اختياريا، على إهدار حقوق مئات الآلاف من العمال سنويا في المعاش.

خفض المعاش عبر تمديد وعاء تصفيته

 

سينزل هذا الإصلاح بثقله على الموظفات و الموظفين الذين سيشهدون انخفاض مستوى معاشهم بكل تأكيد في حالة تطبيق هذا الإجراء. فعوض تصفية معاشهم بناء على أجرتهم الأخيرة، فيصفى المعاش مستقبلا بناء على متوسط الأجور خلال عشرة سنوات أو خمسة عشرة سنة الأخيرة. و سيهم تمديد وعاء تصفية المعاش صندوقا الوظيفة العمومية، أما بالنسبة لعمال القطاع الخاص المنخرطين في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي فقد سبق أن مدد وعاء التصفية إلى عشر سنوات. يدعي المجلس الأعلى للحسابات أن تمديد وعاء تصفية المعاشات لن يكون له تأثير كبير في خفض قيمتها، لأنه يعتقد أن «تطور الأجور في الوظيفة العمومية تعرف في غالب الأحيان استقرارا للوضعية الإدارية للموظفين في العشرة سنوات الأخيرة من مسارهم المهني». إذا كانت الأجور تعرف استقرار في العشرة سنوات الأخيرة فما المانع، إذن، من الحفاظ على تصفيتها استنادا إلى الأجرة الأخيرة أو في أحسن الأحوال على أساس متوسط الأجور خلال السنة الأخيرة من الحياة المهنية.

خفض المعاش عبر خفض القسط السنوي

سيؤدي تطبيق مقترح الإصلاح الذي يرفعه المجلس الأعلى للحسابات إلى خفض كبير و فوري لمتوسط معاشات التقاعد الذي سيحصل عليها المتقاعدون مستقبلا بكل من الصندوق المغربي للتقاعد و الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. يدعي المجلس الأعلى أن القسط السنوي المعتمد في تصفية المعاش يعد من أهم العوامل المفسرة لفقدان التوازن المالي للأنظمة الصندوقان المذكوران.
يعني هذا الإصلاح بالنسبة للصندوق المغربي للتقاعد خفض القسط السنوي من 2,5% المطبقة حاليا إلى 2% فقط. سيؤدي هذا الإصلاح،إذن، إذا نجحت الحكومة في فرض تطبيقه إلى خفض فوري للمعاشات بنسبة 20%. فالموظف الذي أمضى أربعين سنة من الخدمة سيحصل على معاش بنسبة 80% من الأجرة عوض 100%. أما الموظف الذي أمضى ثلاثين سنة من الخدمة فسيحصل على معاش لا يتجاوز 60% من الأجرة عوض 75%. لتبرير هجومه على حقوق المتقاعدين يدعي المجلس الأعلى أن «القسط السنوي المطبق حاليا بالصندوق المغربي للتقاعد مرتفع، لأنه يترتب عنه نقص في مستوى تسعيرة حقوق المعاش، أي أن كلفة المعاشات الممنوحة تفوق بكثير مجهود المساهمات الذي يتحمله المنخرطون». هذا غير صحيح فقد سبق أن أوضحنا أن تدهور الوضعية المالية لهذا الصندوق مرتبطة تحديدا بالسياسة التقشفية للدولة في التوظيف منذ بداية الثمانينات التي تعد سببا مباشر لتراجع عدد ناشطي الصندوق المفروض أن تمول مساهماتهم معاشات المتقاعدين. إذن بخفضها لعدد ناشطي الصندوق ساهمت الدولة في خفض مداخيله المالية. و فضلا عن ذلك، يتيح الإطلاع على متوسط المعاشات التي يحصل عليها المتقاعدون بالصندوق المغربي تفنيد هذه الحجة. فمتوسط المعاش بالنسبة لسنة 2009 لا يتجاوز 3597 درهم، مقابل 4833 درهم بالنسبة لنظام المعاشات المدنية. لكن هذا المتوسط منخفض جدا بالنسبة لباقي أنظمة هذا الصندوق. فمتوسط المعاش بالنسبة لنظام المعاشات العسكرية لا يتجاوز 2388 درهم، و 1845 درهم بالنسبة لمتقاعدي نظام معاشات القوات المساعدة. و إذا قمنا بحساب عدد المتقاعدين الذين يحصلون فعلا بالصندوق المغربي للتقاعد على معاش يقل عن متوسط المعاش المتمثل في 3597 درهم، سنجد أنهم يشكلون قرابة نصف العدد الإجمالي للمتقاعدين بهذا الصندوق. هكذا يتبين أن تطبيق القسط السنوي الحالي المتمثل في 2,5% لا يتيح الحصول على متوسط معاش يقترب أو يعادل الأجرة التي كان يحصل عليها الناشطون بهذا الصندوق. لذلك فإن خفضه إلى 2% سيعني المزيد من تقليص متوسط المعاشات الحالي نحو الأسفل.
أما بالنسبة للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي فسيؤدي الإصلاح المقترح في حالة ما لم يواجه بمقاومة النقابات بهجوم بغير مسبوق. سيؤدي الإصلاح إلى رفع عدد أيام العمل اللازمة للحصول على المعاش(أي 50% من متوسط أجرة عشرة سنوات) من 3240 يوم من العمل إلى 4320 يوم عمل، أي أنه يجب توفير 1080 يوم عمل مصرح بها إضافية لاكتساب الحق في المعاش. لقد سبق أن أورد المجلس الأعلى للحسابات نفسه أن تطبيق شرط عدد أيام العمل المصرح بها أدى في سنة 2012 إلى إقصاء أكثر من 600 ألف محال على التقاعد من حقهم في الحصول على معاش، أي أكثر من ضعف المتقاعدين المستفيدين من معاش و الذين لا يتجاوز عددهم 300 ألف. يتجلى إذن أن زيادة 1080 يوم عمل إضافية ستؤدي إلى إقصاء المزيد من آلاف المتقاعدين في الحصول على معاش. يبرر المجلس الأعلى هذا الهجوم الصريح بكون القسط السنوي لحساب المعاش بالنسبة للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي مرتفع و يؤدي إلى «سخاء كبير تستفيد منه فئة المؤمنين الذين يتم التصريح بهم بانتظام». هذا الكلام لا معنى له في ظل الحقائق التي أوردناها.
هكذا، إذن، يتبين أن المبررات التي استند عليها المجلس الأعلى للحسابات لشرعنة خفض المعاشات عن طريق تقليص القسط السنوي المستعمل لحساب متوسط المعاش غير موضوعية إطلاقا بالنسبة لكل من الصندوق المغربي للتقاعد و الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي.

—-
المراجع
– تقرير المجلس الأعلى للحسابات «تقرير حول منظومة التقاعد بالمغرب، التشخيص و مقترحات الإصلاح» يوليوز 2013
– التقارير السنوية للصندوق المغربي للتقاعد للسنوات الأخيرة

شارك المقالة

اقرأ أيضا