1964: الأزمة التركيبية للاقتصاد المغربي ومقتضيات تطور اقتصادي سريع

يظهر اليوم أكثر فأكثر حتى لخصوم الاشتراكية بأن التطور الاقتصادي في البلدان المتخلفة لا يمكن أن يقع وينجح عن طريق الرأسمالية.
إن قضية التطور الاقتصادي في هذه البلدان التي تتركب من أغلبية الإنسانية صارت من أهم قضايا عصرنا.
إن الأشكال الاجتماعية لمستقبل المجتمع البشري كانت وستكون مشروطة معظمها بالحلول التي ستعطى لهذا المشكل. ومع قضية السلام العالمي فإن قضية التخلف توجد وسط التطورات الديالكتيكية لعصرنا الراهن.
والآن، ومع مرور الزمن، وعلى أساس تجارب التطور الذي يجري في بعض الأقطار المستقلة سياسيا، أصبح بالإمكان تكوين فكرة أدق عن المقتضيات المختلفة التي يثيـــرها انطلاق الاقتصادات المتخلفة.
وأخذ الناس – بالأخص منهم الذين كانوا يرفضــون ذلك – يتحققون بأن التطور الاقتصادي ليس مجرد تطبيق بعض «التركيبات التقنية»، بل على عكس ذلك، إذ ينبغي أن يكون التطور عملية منظمة اجتماعيا، ومسيرة تسييرا واعيا، قصد الوصول إلى تحويــلات اجتماعية واقتصادية متلاقية، تسمح بتعبئة عامة للقوى المنتجة وبتحقيق على هذا الأساس «القفزة» النوعية نحو إنماء سريع ومحكم.
وليس هناك شيء يثبت أحسن صحة هذه الأطروحة الماركسية العامة لوحدة الديالكتيك للواقع الاجتماعي في مختلف مركباته الاجتماعية والاقتصادية والتأسيسية والأيديولوجية والسياسية، من الوضعية الراهن التي توجد عليها البلدان المتخلفة والمقتضيات التي يضعها تطور تلك البلدان. وتبدو التناقضات الاقتصادية للتخلــــف، غالب الأحيان، في تفاقم التناقضات الاجتماعية، وتسوى في نهايـــة الأمر بتجابه ونضال القوى الاجتماعية والسياسية المتواجهة، أي قوى التقدم وقوى الرجعية. وتكتسي هذه النزاعات الاجتماعية، التي كثيرا ما تكون مؤلمة ولكن مثيرة، مظهرا وطنيــــا وأمميــــا في آن واحد، وتشكل محركا من المحركات الهامة لتطور البشرية في هذا النصف الثاني من القرن العشرين.

وحدة وتنوع وضعية التخلف

إلاّ انه ينبغي تجنب بعض التعميم في التقدير، تعميم ينتج عن نظرة إجمالية للوضعية العامة للبلدان المتخلفة في الوقت الحاضر. ذلك أنه بالرغم من عدة ملامح أساسية مشتركة توجد أيضا عدة فوارق تختلف من بلد لآخر.
وإحدى الملامح الهامة المميزة لوحدة ظواهر التخلف، هي عواقب التوسع الاستعماري للدول الرأسمالية، خلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين نحو أقطار آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. إن هـذا التوسع الإمبريـالي أنتج في حقبة طويلة أم قصيرة من الزمن، تنمية، كان توجيهها وفساد تركيبها يحملان في نفس الوقت حدود تلك التنمية.
وباستثناء حالات القطيعة الجذرية والشاملة مع النظام الرأسمالي (مثل الصين الشعبية وشمال الفيتنام وكوبا)، لم يؤد بلوغ البلدان المستعمرة (بالفتح) إلى الاستقـــلال السيـــاسي، إلى نهاية التبعية الاقتصادية. إن معظم الأقطار المتحررة أخيرا لا زالت تسبح في النظام الرأسمالي، وان التركة الاقتصادية الموروثة عن المدة الاستعمـــــارية أو شبه الاستعمارية لا زالت تثقل بعبئها في كثير من الأحوال على تطور تلك الأقطار. فاقتصاد هذه البلدان، وعلى درجات مختلفة، لازال يشكل تمديدا، يظهر قليلا او كثيرا، للاقتصادات الرأسمالية المتطورة. ومرارا لم تشرع تلك البلدان حتى في بداية عملية التطور المستقل بالرغم من حصولها على الاستقلال السياسي منذ أعوام كثيرة، وينتج عن هذا تبلور للهياكل الاقتصادية الموروثة عن الاستعمار، وبقاء الهياكل «التقليدية» لما قبل الرأسمالية خربة من الداخل مع التسرب الرأسمالي.
ومن بين الفوارق التي يجب ملاحظتها بين تلك البـلــدان، نجد الفرق المتعلق بتركيبها الاجتماعي ذا دلالة بالغة. إن لبعض البلدان، وهي الأغلبية، تركيبا اجتماعيا متميزا نسبيا (مثل أمريكا اللاتينية وأفريقيا الشمالية والهند وجنوب شرق آسيا وبعض أقطار أفريقيا السوداء) بينما لم يبلغ التمييز نفس المستوى في أقطار أخرى مثــــل مالــي وغينيا الخ.. ينبغي إذن اعتبار الوزن النسبي لمختلـــف الجماعـات الاجتماعية ولاسيما وزن البرجوازية الوطنية والطبقة العاملة والبرجوازية الصغرى. إن البرجوازية الوطنية التي تمارس أو تطمح إلى ممارسة الدور الاقتصادي والسياسي القيادي في عدة بلدان تحررت مؤخرا، يمكن أن تكون قوية نسبيا كما في الهند، أو ضعيفة نسبيـــــــا من الناحية الاقتصادية كما في المغرب، أو لا وجود لها كما في بعض بلدان أفريقيا السوداء. فطبيعة الأسس الاقتصادية ومصادر التضخم الرأسمالي للبرجوازية الوطنية (وجود أو عدم وجود لبرجوازية صناعية ولو في بدايتها، أهمية العلاقات التي لا زالت قائمة مع الإقطاعيـة، تعاون مالي أو تجاري قليلا أو كثيرا مع الرأسمـــال الأجنبي الخ…) تؤثر بوجه خاص على سلوك الطبقات الحاكمة الاقتصادي والسياسي، ومن هنا يؤثر على السياسة الاقتصادية العامة للدولة.

 

ومن وجهة نظر سياسة التطور الاقتصادي، المدشنة غداة التحرر من النير السياسي للإمبريالية، فإن الفوارق عديدة أيضا في طابع التحولات الاجتماعية الجذرية بقليل أو كثير المثارة بالأخص لتسوية المشكلة الزراعية، (والمقارنة بليغة في هذا الباب بين الجزائر والهند مثلا)، وفي الموقف إزاء الرأسمال الأجنبي: (نضال أو تعاون أو بالاثنين معا، وفي هذه الحالة يمكن للنضال أو للتعاون أن يصبح المظهر المتوقف في هذه الفترة أو تلك طبقا لميزان القوى الداخلية والخارجية، ولأهمية التناقضات القائمة بين الإمبرياليين التي بالامكان استغلالها الخ…)، في الجهود المبذولة من أجل التطور، والأشكال التأسيسية التي تكتسيها تلك الجهود: (قسط الدخل الوطني الموظــف في الفروع المنتجة. الأهمية النسبية والدور الفعلي لقطــاع الدولة في التصنيع ودرجة استقلاله بالنسبة للاحتكارات الأجنبية، وجود أو عدم وجود مساهمة نشيطة وواقعية للسكان في التشييد الاقتصادي والاجتماعي الخ..)
أمّا فيما يخص نسبة التنمية المحصل عليها بعد نهاية التبعية السياسية وإعادة تنظيم أو محاولة توجيه التطور الاقتصــادي، فإن اللوحة أيضا ليست مماثلة. فباستثناء البلدان المتخلفة ذات الأنظمة الشعبية (مثل الصين الشعبية حيث نسبة الإنماء الاقتصـادي كانت مرتفعة بالأخص حتى عام 60-1959)، فإن معظم الأقطار المتخلفة تنقسم تقريبا إلى قسمين: البلدان ذات «النمو البطيء (مثل الهند وبعض دول أميركا اللاتينية). والبلدان التي يوجد اقتصادها في وضعية شبه ركود أو على الأصح في وضعية تأخر في الإنتاج بالنسبة لكل فرد من السكان اعتبارا للنمو الديموغرافي السنوي (مثل المغرب بالأخص).
من الواضح أن رصيد النمو الاقتصادي في الأقطار المتخلفة التي لم تنفصل عن النظام الرأسمالي، في هياكلها الاقتصادية. يظهر سلبيا بصفة عامة، والإخفاق واضح بقليل أو كثير، وخطير بقلة أو كثرة طبقا لكل بلد، الاّ أنه واقع لم يبق ينكره أحــد، وحتى أنصار النظــام الرأسمالي.
فمن أجل هذا على الأخص، علاوة على إشعاع النظام الاشتراكي العالمي، أخذت الطريق غير الرأسمالية تدخل أكثر فأكثر في جدول أعمال البلدان المستقلة مؤخرا، وستفرض شعوب هذه البلدان طريق التطور غير الرأسمالي على إثر عملية ثورية معقدة. ويعني هذا انه ينبغي انتظار تنوع كبير جدا في الأشكـــال التي سيكتسيها الانتقـــــال إلى هذه الطريق.
لكن، ومن وراء هذا التنــــوع، هل هناك فحوى مشترك وعـــام يحدد طريق التطور غير الرأسمالي؟ وإذا كان الجواب بالتأكيد، فكيف يمكن تحديــد ذلك الفحوى في تركيبة الاقتصــــادي والاجتماعي والسياسي والتأسيسي الخ..؟
وفي نطاق هذا المقال سنحاول، عبر تحليل تجربة، وهي تجربة المغرب، أن نساهم بقدر ما في توضيح هذه القضايا.

بقاء الهياكل شبه الاستعمارية وشبه الإقطاعية
والبيروقراطية بعد الاستقلال السياسي

صار المغرب مستقلا سياسيا منذ ثمانية أعوام.
ونجح الكفاح ضد الاستعمار بالأخص بفضل مساهمة الجماهير الشعبية من عمـال وفلاحيــن وبرجوازييــن حضريين صغــار، لكن تحت قيادة البرجوازيــة الوطنيـة، وأيد هذا النضــال وفي مرحلة ما جزء من الإقطاعية.
وغداة الاستقلال بقيت عدة رواسب من النظام الاستعماري قائمة.
في الميدان الاقتصادي على الأخص بقي الاستقلال يتطلب تحقيقا كاملا لكي تضمن للبلاد شروط تطورها وإرضاء مطالب الجماهير الشعبية في الكرامة والازدهار، وكانت هذه المهمة أساسية ومستعجلة لاسيما وأن نظام الحماية قد جعل من الاقتصاد المغربي اقتصادا تابعا ومندمجا تماما في الاقتصاد الفرنسي والأوروبي الغربي، يزوده بالمواد الخام وبالمنتجات الزراعية، ويستورد منه المنتوجات الصناعية.
وكانت كل الفروع الأساسية من الاقتصاد المغربي تحت مراقبة الجماعات الاحتكارية الأجنبية كالطاقة الكهربائية، والابناك، والقروض، ومعهد إصدار النقود، والجزء الأكبر من النقل والصناعة والتجارة الخارجية، ونصف الإنتـــاج المعدني. (أمّا النصف الآخر الذي يتكون من الفوسفاط فكان في ملك الدولة منذ الحماية). وهكذا فإنه كان يترتب حين الحصول على السيادة السياسية، الشروع في تصفية الاستعمار الاقتصادي وتشييد اقتصاد مستقل.
كما كان التطور الاقتصـــادي السريع المستقـــل يتطلب تحويلا جذريا في الهياكل الزراعية، لأن بقايا الإقطاعية في البوادي قد أبقاها ووطدها النظام الاستعماري لتخدم مصالحه. وبفضـــل الاضطهاد السياسي والاقتصادي الذي سلطه المعمرون الأجانب والإقطاعيون على الجماهير الفلاحية المغربية، استطاعوا أن يستحوذوا على الملاييـــــن من الهكتارات. وعلى اثر التسرب الرأسمالي في البادية، شاهد معظم الفلاحين أنفسهم مجرورين إلى أزمة حقيقية من تحطيم توازنهم الاجتماعي والاقتصادي السابق، دون أن يرجو البلوغ إلى الهياكــل أفضل في الإطار الاستعماري، فبقوا عرضة للتعاسة والركود التقني والاجتماعي.
أسست أداة دولة النظام الاستعماري طبقا للمقتضيات الإمبريالية: الاستغلال الاقتصادي والاضطهاد السياسي للأمة. فكان لها طابع معادي للأمة وغير ديموقراطي وبيروقراطي. فكان تحويلها ضروريا أيضا غداة الاستقلال، وذلك قبل كل شيء بإشراك الجماهير الشعبيـــــة إشراكا فعالا وحقيقيا في التشييد الاقتصادي، وفي تسيير شؤون البلاد على النطاق الوطني والمحلي ، وفي إطار مؤسسات ديموقراطية.
واليوم، أي في عام 1964، وبعد ثمانية أعوام مرت على الاستقلال، وحيث أن الهياكل شبه الاستعمارية وشبه الإقطاعية والبيروقراطية الموروثة عن النظام الاستعماري لم تتحول من الأساس، فإن نمو الاقتصاد المغربي بقي محصورا عمليا، وأخذت الأزمة الاقتصادية والاجتماعية تتفاقم أكثر فأكثر.

التقهقر العميق للوضعية الاقتصادية
والاجتماعية في 1963-1964

ان تطور الاقتصاد المغربي يمتاز خلال 51-1953 و61-1963 بواقع جوهري ألا وهو الانخفاض المستمر في الإنتاج بالنسبة لكل فرد من السكان. على أساس رقم 100 سنة 1951، هبط الإنتاج بالنسبة لكل فرد إلى رقم 90 عام 1961، وهو العام الثاني للتصميم الخماسي 60-1964.
وفي الفرع الفلاحي يلاحظ استمرار التضاد بين ركود منتوجات الحبوب التي تعيش منها أغلبية الفلاحين المغاربة، وبين التوســع المستمر لزراعة الخضر والحوامض (إن قسط المعمرين الأجانب في إنتاج الخمور والحوامض هو الراجح الكبير).
أما فيما يخص تصنيع البلاد فهو محصور بالجملة، إذ لم تغير بعض الوحدات الصناعية التي أسست منذ الاستقلال هذه الميولات العامة.
ويميل الطابع شبه الاستعماري للصناعة الموروثة عن الحماية إلى التفاقم، منذ 1953 تقدم الإنتاج المنجمي بأسرع من صناعات التحويل (من 1953 إلى 1960 كان تقدم الإنتاج المنجمي يقدر بـ 50 % بينما لم يبلغ تقدم صناعة التحويل سوى 16).
وهذا التقدم يرجع بكثير إلى المؤسسات الموجودة التي تستعمل طاقتها الإنتاجية أكثر من الماضي والتي إما جددت قليلا أو لم تجــدد البتة تجهيزها، عوض أن يرجع إلى مؤسسات جديدة، والتوظيفات الراهنة غير كافية سواء فيما يتعلق بالمؤسسات الموجـــودة أو فيما بتعلق بالجديدة منها. ونظرة إجمالية إلى هذه التوظيفات توضح بأنهــــا لا تغطي حتى استهلاك الأجهزة والأدوات. (في عام 1961 كانت التوظيفات الضخمة من جهاز وأدوات ترتفع إلى 40 مليار من الفرنكات، وإلى نفس القدر عام 1962، بينما استهلاك الأدوات الموجودة كان يقدر بخمسين مليارا).
إن معدل النمو المتوسط للإنتاج الصناعي منخفض بكثير عما كان يترقبه التصميم الخماسي، أي ثلث المعدل السنوي المرتقب: 10 %.

بينما تنمو اليد العاملة غير الزراعية بعدة عشرات الألوف كل سنة، بقي عدد الوظائف الجديدة المخلوقة سنويا في الصناعة ضعيفة جدا أو لا أثر لها. والتشغيل الإجمالي في الصناعة (بما فيها المناجـــم والبناء) في انخفاض منذ عــام 1952 بما يقرب 20 % على أثر انخفاض العمال بالأخص في البناء والمناجـــــم، وتوجد كثير من المعامل قادرة على رفع إنتاجها بكيفية محسوســـــة دون أن تلجأ إلى رفع عدد عمالها.
إن لوحة الحالة الاقتصادية في المغرب تبين في الجملة إذن بأن هناك ركودا في القوى المنتجة عوض تقدمها، وإذا تحقق شيء من التقـدم في الإنتاج في الأعوام الأخيرة فذلك لا يعني سوى الفرع الاستعماري من الاقتصاد: الزراعة التصديرية، والمناجـــــم، وبحظ قليل صناعات التحويل (ويسيطر على كل هذه الفروع المعمرون والاحتكارات الأجنبية).
والعنصر البليغ لهذه الوضعية هي الأزمة في التوظيفات. وهذه الأزمة تتفاقم خصوصا وأن عدد سكان المغرب (13 مليون نسمة تقريبا عام 1964) ينمو سنويا بنسبـــــة 3 %، فهناك كل سنــــة 400.000 من المواليد يطلبـــــون القوت والمسكن واللباس والمعالجــــــــــة، وهناك 150.000 يضافون إلى يد عاملة قليلة التشغيل وغير مشتغلة، وهناك 70.000 من الأطفال يطلبون التعليم، وهناك 40.000 من المنازل يجب بناؤها لمجابهة نمو سكان المدن وحدها.
وإبقاء «المستوى المتوســــط بالنسبة لكـــل فرد والمنخفض جدا في حد ذاته (المتوسط النظري في الولايات المتحدة من 100 إلى 120 دولار كل سنة) يتطلب توظيفا – بما فيه الاستهلاك – قدره 150 مليارا من الفرنكات كل عام لمواجهة النمو الديموغرافي ولتجديد الأجهزة البالية فقط). لكن حتى هذا القدر من التوظيفات سيكون غير كاف لمنع ارتفاع البطالة وقلة التشغيل.
ومع ذلك فإن التوظيفات راكدة منذ عدة سنين في مستوى منخفض جدا، عن الحجم الأدنى أي عن 150 مليار من الفرنكات. على أساس رقم 100 عام 1952، عرفت التوظيفات الإجمالية هبوطا عميقا من 1953 إلى 59-1960، منذ ذلك الحين أخذت تركد في رقم 60 لأعوام 1961 و1962.
ترقب التصميم الخماسي لسنتي 1962 و1963 توظيفات إجمالية قدرها 153 و184 مليارا من الفرنكات، لكن التوظيفات الحقيقية لم تكن إلا 107 مليارا عام 1962، وإلاّ 120 مليارا عام 1963، أمّا في سنة 1964؛ وحتى لو قدرنا المحافظة على مستوى 1963 واعتبرنا ارتفاع الأسعار الذي أخذ يكتسي صبغة تضخمية، فيجب مضاعفة التوظيفات الموظفة سنة 1963 للبلوغ إلى القدر الذي حدده التصميم الخماسي لهذا العام.
وتنعكس هذه الأزمة العميقة للتوظيفات في تفاقم متكاثر لشروط حياة أغلبية السكان. في المدن وحدها بقدر عدد العاطلين بـ 350.000، أي أكثر من 20 % من مجموع السكان الحضريين النشيطيـــــــــن، وفي البوادي فإن معدل قلة التشغيل، حسب التقديرات الرسميـــــــة، يفوق 50 % بالرغم من استمرار هجرة الفلاحين إلى المدن. إن مستـــوى معيشة أغلبية السكان في انخفاض مستمر، لأن مفعول رفع الأسعار يضاف إلى ركود القوى المنتجة.

 

من استفاد من الاستقلال؟
لم يستفد من الاستقلال سوى فئات اجتماعيــــــة تشكل الأقليــة. ولقد أدى الاستقلال إلى «تجديد» ما للإقطاعية التي أصبحت عناصرهـــا تتجه أكثر فأكثر إلى بعض أشكال النشاط الرأسمالي، ولاسيما في الزراعة والتجارة وفي اخذ بعض الأسهم في الأعمال التي يراقبها الرأسمال الأجنبي، وأصبحت هذه العناصر، مع البرجوازية التجارية والعقارية، ومع البرجوازية البيروقراطية، تشكل أكثر فأكثر أوليغارشية تسير أداة الدولة وتوسع روابطها مع الرأسمال الأجنبي. وهذا الأخير، أصبح يشتغـــل، بالأخص بعد الاستقلال، بتصدير أقصى ما يمكن من الأرباح. دون أن يرغب في القيام بتوظيفات جديدة في البلاد، ومرارا لا يقوم حتى بتحديد جهاز مصانعه.
واستفادت البرجوازية التقليدية المتوسطة بدورها، وبقسط وافر، من حصول المغرب على استقلاله السياسي. ولقد اغتنت ووسعت قاعدتها الاقتصادية، لاسيما في الصناعة الخفيفــــة، مثل النسيج والتغذية، وفي التجارة الداخلية والخارجية، بصفة جزئية، وفي الأشغال العمومية والنقل البري والزراعة (بالأخص بشراء بعض أراضي المعمرين)، وفي الملكية العقارية الحضرية (بناء أو شراء عمارات كان يملكها الأوروبيون).
ولقد استفادت البرجوازية الصغرى هي كذلك من الاستقلال، لاسيما بالدخول في الوظائف العمومية وإلى مناصب أخرى، وبالخصوص على تحسين وضعيتها في القطاع العمومي الاقتصادي وفي القطاع الخاص. إلاّ أن هناك عناصر كثيرة من هذه البرجوازية الصغيرة – مثل صغار التجار وصغار الموظفين – تعيش في ظروف صعبة جدا في المدة الأخيرة من جراء ارتفاع الضرائب وتجميد الأجور منذ سنة 1956، بالرغم من ارتفاع الأسعار.
وهكذا، فقد أدى الاستقلال إذن إلى نقل قسط من الدخل الوطني، هام نسبيا لكن من الصعب تقديره بتدقيق، نظرا للحـالة الراهنة التي توجد عليها الإحصائيات، لفائدة الإقطاعية والبرجوازية الكبرى، وأيضا لفائدة البرجوازية المتوسطة والصغــــــرى على اثر «مغرية» جزء كبير من الإدارة.
خلال السنوات الأولى من الاستقلال، استطاعة الطبقة العاملـــة أن تفرض بعض الزيادة في الأجور، وفوائد اجتماعية مختلفـــة، لكن تلك الزيادة لم تكن في مستوى الأرباح. ومن جهة أخرى، أدى ارتفاع أسعار المعيشة السريع، لاسيما منذ سنة 1961، إلى تقهقر لا جــــدال فيه لمستوى عيش العمال الصناعييــــن، (تقهقـــر قدرته النقابــــات بـ 30 %)
أمّا الصناع التقليديون، وشبه البروليتاريين في المدن من عاطلين مثل الباعة المتجولين وغيرهم، والجماهير الفلاحية الفقيرة (أكثر من مليون عائلة فلاحية من مليوني عائلة يعيشون من الزراعة)، فإن مصيرهم قد ازداد تفاقما على اثر النمو الديموغرافي الذي جرى منذ الاستقلال بالأخص.
وبالرغم من بعض التقدم الذي تحقق في باب التعليم الابتدائي فهناك ما يقرب من نصف الأطفال المغاربة ما بين 6 و14 سنة لا يجدون مقعدا في المدرسة، وبقي معدل الأمية بين الكهول من أرفع أرقام العالم، إذ يقدر بـ 89 %.
وكما سنرى ذلك فيما بعد، فإن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي يجتازها المغرب تتضاعف عام 1964 بأزمة مالية حادة على الصعيد الداخلي والخارجي معا، تقيم الدليل على تفاقم التناقضات الاقتصادية تفاقما عميقا.
وهذا الرصيد المخرب والمؤلم بالنسبة للشعب المغربي يصور فشل السياسة الاقتصادية المطبقة منذ الاستقلال وبالأخص منذ سنة 1960، وهذا يثير قلق الجماهير الشعبية التي أخذت تبحث عن مخرج جديد من هذه الأزمة المستمرة والمتفاقمة للاقتصاد وللمجتمع المغربي. إن تصلب الأوليغارشية الحاكمة أمام تفاقم التناقضات الاجتماعيـــة تصلبا أخذ عام 1963 شكل اضطهاد عنيف للقوى التقدميـــة، لا يمكن أن يؤدي إلاّ إلى تعميق عملية النضال الاجتماعي والسياسي.

مرحلتان في تطور السياسة الاقتصادية للمغرب المستقل

لم تزعزع السياسة الاقتصادية التي سلكتها حكومة المغرب المتوالية منذ الاستقلال، جذور سيطرة الرأسمال الأجنبي على الفروع الأساسية من الاقتصاد، ولا بقايا الإقطاعية التي لا زالت قوية في الزراعة، وأكثر من ذلك انه في بداية سنة 1960 وقعت تنـــازلات كبرى لصالح الرأسمال الأجنبي، بينما تخلى المسؤولون عمليا عن تطبيق التصميم الخماسي لأعوام 63-1964، بالرغم من المصادقة عليه من طرف الحكومة.
فكانت إذن هناك مرحلتان من تطور السياسة الاقتصادية لدولة المغرب منذ الاستقلال، امتازت المرحلة الأولى – 65-1960 – باتخاذ بعض التدابير الجزئية الرامية إلى مساعدة التصنيع أو تطوير الإنتاج الزراعي، ومد البلاد بعملة وطنية، وتوقيـــف تصديـــر الرساميـــل. وامتازت المرحلة الثانية – ابتداء من سنة 1960 – بالتخلي عن كل محاولة تستهدف إحداث شروط تطور وطني، وبخضوع تام على الصعيد الاقتصادي إلى مطالب الرأسمال الأجنبي وإلى الجماعات التي تسانده في الداخل (بالأخص الأوليغارشية الجديدة المنحدرة من الإقطاعية ومن البرجوازية البيروقراطية ومن برجوازية الأعمال الكبرى)، وبتفاقم مستمر للأزمة الاقتصادية والاجتماعية والمالية.

المرحلة الأولى – من عام 1956 إلى عام 1960
ومحاولة التصنيع التي أجهضت

أثناء هذه المرحلة تحققت بعض المحاولات للتخفيف من تبعية البلاد الاقتصادية والمالية، لكن بالرغم من وجهها الإيجابي لم تكن التدابير المتخذة سوى جزئية وغيــــــر فاصلة ومرارا متناقضـــة، إنها لم تكن تستهدف تصفية سيطرة الرأسمال الأجنبي على أهم فروع الاقتصاد، بل جره إلى أن «يلعب اللعب» وأن يساهم في تصنيع البلاد، إن الدور الحاسم في هذا التصنيع قد أسند إلى الرأسمال الأجنبي، مؤيدا بمساهمة الدولة، مساهمة صيغت كتشجيع وكضمانة لتوظيـــف الرساميل الأجنبية، لكن حينما فكرة الدولة في تأسيـــس بعض المؤسسات الهامة في الفروع الأساسيــــــــة كالتعدين والكيمياء. وذلك في إطار التصميم الخماسي، أصبح الاستنجاد بالتوظيفات الأجنبية، كعنصر أساسي للتطور، يلعب دور العرقلة لكل تأميــم، ومن ناحية أخرى لم يتخذ أي تدبير محسوس قصد تسوية المشكل الزراعي.
.1) إن التدبير الاقتصادي الهام الأول لحكومة المغرب المستقل حدث في عام 1957، وهو إقامة تعريفة جمركية جديدة، لأن البلاد كانت من ذي قبل خاضعة لنظام ما يسمى بالباب المفتوح الذي أقره عقد الجزيرة الخضراء سنة 1906، وهذا النظام كان لا يفرض على البضائع الداخلة للمغرب سوى حق جمركي ضئيل، ولا يميز بين الأقطار المستوردة.
.2) في يوليوز 1959 وضعت الدولة المغربية يدها على معهد إصدار النقود الذي كان بين يدي مصرف أجنبي، وأقامت مراقبة على نقل الرساميل الصادرة لمنطقة الفرنك. وضرورة هذه التدابير كانت ملحة منذ السنة الأولى من الاستقلال، لأن الاقتصاد المغربي كان أيام الحماية مندمجا في النظام النقدي والتجاري والمالي لتلك المنطقة، وتأسيس هذه المجموعة الشديدة التمركز قد سمحت «للوطن الأم» بالاستيلاء على إصدار النقود وعلى القروض، وعلى العلاقات النقدية الداخلية، وعلى الأنظمة والمبادلات الخارجية للبلدان المنخرطة في منطقة الفرنك.
ووجود عملية تابعة للفرنك الفرنسي، يصدرها معهد إصدار أجنبي تسيطر عليها بنك باريس وهولندا، وكذلك حرية تصدير قسط هام من إنتاج ثروات وعمل الشعب المغربي، تصديرا لا حد له من طرف الرأسمال الأجنبي، عبرا بعد الاستقلال عن رغبة في المحافظة التامة على علاقات الاستغلال الاستعماري وعلى التبعية الاقتصادية التي أقامتها الحماية (بين 1955 و1959 نقلت 300 مليار من الفرنك القديم – أي ما يعادل 600 مليونا من الدولار – إلى الخارج دون مقابل).
لقد أقامت الحكومة مراقبة على نقل النقود إلى أقطار منطقـة الفرنك، كما جعلت من الإجباري رجوع قيمة الصادرات، لكنها في نفس الوقت تنازلت أمام الضغط لفائدة تخفيض العملة المغربيــــة. ضغط كانت تمارسه الجماعات الأجنبية وطرف من البرجوازية المغربية.
كان بإمكان هذه المراقبة على النقل أن تبقى في البلاد الرساميل التي تكونت فيها، رساميل كان ينبغي أن تستعمل لتنمية التوظيفات، الشيء الذي يسمح بسلوك سياسة اقتصادية جديدة ترمي إلى إحداث ظروف تطور وطني، وذلك لو صحبت هذه المراقبة تدابير أخرى ضد الجماعات الاحتكارية الأجنبية، وإصلاح زراعي يستحيل دونه أي تطور اقتصادي في المغرب، لكن هذا كان يقتضي السير بجرأة في طريق إصلاح زراعي جذري وتأميم المرافق الحيوية كالمناجم والأبناك والتجارة الخارجية والمؤسسات الصناعية الكبرى ذات الطابع الاحتكاري الخ…التي يبيح امتلاكها – اعتبارا لإنتاج المعمرين الأجانب الزراعي – للرأسمال الأجنبي مراقبة أكثر من نصف الإنتاج الوطني، ووسائل التكديس الإنتاجي بنسبة ما بين 70 % و80 % على الأقل.
إلاّ أن هذا التوجيه، وهو الوحيد الذي كان يؤدي إلى إحداث تغيرات لا تقلب، لم تسلكه حكومة ذلك الإبان. إن الأوهام المتعلقة بدور الرأسمال الأجنبي كانت لم تزل حينذاك نهائيا حتى من ذهن عدد من العناصر التقدمية داخل الحركة الوطنية.

.3) ولم ترجع التدابير المتخذة لصالح التصنيع بالنتائج المرجوة، وإنما أدت إلى بعض إنجازات جزئية ضعيفة المدى، إنجازات كان بعضها قابلا للنقاش.
حتى عهد الاستقلال كانت الزراعة والمناجــــم يشكلان ما يقرب من ثلثي الإنتاج – باستثنــــاء التجارة والخدمات -. أمّا صناعات التحويل فكانت تساهم بأقل من 15 % في تكوين الإنتاج الداخلــي الخام. وعلاوة على كونها لم تكن متممة للفرع المنجمي، عرفت تلك الصناعات تطورا غير متساو طبقا للفروع (الصناعات الغذائية والنسيج تشكل وحدها ثلثي الإنتاج الصناعي)، كما عرفت تطورا فوضويا.
فتولد عن ذلك تضاد بين الفروع المجهزة تجهيزا عاليا وبين الفروع ناقصة التجهيز بالنسبة للطلب الموجود القــادر على الأداء، طلب يغطيه إما جزئيا أو كليا استيراد المنتجـــــات الصناعية، وكان هذا التطور الصناعي في أهمه من عمل الرأسمال الأجنبي، بينما رأى الرأسمال الوطني الخاص، الذي ظهر إلى الوجود مع الانفصال عن أشكال ما قبل الرأسمالية، رأى نفسه مبعدا عن الفرع الصناعي، باستثناء بعض المؤسسات الصغرى أو المتوسطة، بالأخص في التغذية والنسيج والأحذية والنقل على الطرق والبناء. وحوالي 1949 و 1950 كانت مساهمة الرساميل المغربية في الشركات المجهولة الاسم تفوق 100 مليون من الفرنكات، أقل من 5%.
بعد الاستقلال أعلنت الحكومة عن عزمها على ضمان الاستقلال الاقتصادي عن طريق التصنيع. وترقبت تحقيق بعض المشاريع الصناعية الهامة في إطار التصميم الخماسي (60-1964)، مثل: إحداث مركب للصلب، ومعامل صناعة الأسمدة من الفوسفاط والازوط والمواد الكيماوية كالحامض الفسفوري، وكذا معامل للصناعة الخفيفة مثل الأغذية والنسيج الخ.. أي في المجموع تحقيق أهداف توظيفية صناعية تقدر بـ 160 مليار من الفرنكات (بما في ذلك المناجم) أثناء مدة خمسة أعوام.
وكان تدخل الدولة للإسراع بتصنيع البلاد مفهوما دائما كإضافة لنشاط الرأسمال الخاص الذي كان دوره يعتبر فاصلا، اللهم فيما يخص تطور بعض الصناعات الأساسية التي تشكل أهمية كبرى بالنسبة للأمة، وفيما إذ وقع «عجز في التوظيف الخــــــاص». وكانت هذه النظرية تريد إيجاد توجيه على «مكتب الدراسات والمساهمات الصناعية»، وهو مكتب نظمته الدولة عام 1958 للقيام بكل دراسة من شأنها أن تساهم في تطوير البلاد الصناعي، «وان تساعد على تصنيعها».
وفي أوائل يناير 1960 أخذ هذا المكتب إسهاما في تسع مؤسسات (مجموع رأسمالها الاسمي 3.400 مليونا من الفرنكات) على أساس معدل متوسط من مساهمات الدولة نسبته 40 %، وتشتغل تلك المؤسسات بتركيب سيارات الشحن والسياحة والتراكتورات وقطع الغيار الميكانيكية وصناعة عجلات المطاط وتكرير البترول، وصناعة خيوط القطن والنبات، وخدمة الفرشى، وكان يراد من هذا المكتب أيضا أن يساهم في تحويل المركبات الكيماويــــــــــة والصلبية، أي بـ 17% من تمويل التوظيفات الصناعية التي كان يترقبها التصميم الخماسي، في ست مؤسسات من مجموع التسعة المذكورة كانت مساهمة الرأسمال الأجنبي هي العليا، وفي شركات تكرير البترول تتقاسـم الدولة مع احتكار الدولة الإيطالي (ايني) الرأسمال بنسبة النصف لكل واحد من الطرفين.

ضعف وتناقض التوجه المتخذ

واتخذت تدابير أخرى لتشجيع توظيف الرساميل في الصناعـــة. في عام 1959 تأسس «البنك الوطني للإنماء الاقتصادي» BNDE كانت الدولة تملك فيه أغلبيـة الرأسمال، باشتراك مع بعض الجماعات المالية الأجنبية، وذلك قصد تطوير القرض للصناعة. وفي نهاية عام 1958 وقعت المصادقة على «ميثاق التوظيفات لإحداث إطار موافق للذين يقبلون توظيف رساميلهم في الفروع الصناعية ذات الأسبقية. (ومن المنافع الممنوحة لهم. رد إليهم الحقوق الجمركية على الأجهزة المستوردة، وإعفاءات مختلفة من الضرائب، الحرية في نقل الأسهم والأرباح إلى الخارج، الإذن بنقل منتوج تصفية التوظيف بعد 15 عام).
وبين 1958 وبداية 1960 ظهر بعض التطور في سياسة الحكومة الصناعية، تطوير متجه نحو إنماء دور الدولة. إلاّ أن هذا الاتجاه كان مصحوبا في نفس الوقت بضعف خطير وبتناقضات حدت منه.
فمن جهة كانت هناك إرادة في توسيع رأسمالية الدولة: ان مكتب الدراســـات والمساهمات الصناعيــــة لم يكتف بتقديــم مساهمته القليلة، بل أخذ يطالب بقسط هام من الأسهم حتى ولو كان المعنيون بالأمر لا يرغبون في ذلك. في البدايـــــــة طالب بـ 34 % – الشيء الذي يخولـــــه حق الاعتراض في مجالس المساهمين – ثم فيما بعد، طالب بـ 40 % إلى 50 %، وفي بداية 1960، عندما بدأ التفكيـر في إنشاء بعض الفروع الأساسية، ولاسيما في الصناعة الكيماوية، كانت هناك فكرة تمويلها بنسبة 100 % من طرف الدولــة. وأخذ المكتـــــب المذكور يبحث على استخراج أقصى الأرباح من توظيفاته لتخصيصها لتوسيع مساهماته.
لكن من جهة أخرى لم تكن نية الدولة موجودة لإزالة الرأسمال الأجنبي من الفروع الحيوية التي كان يحتلها في الاقتصاد. كانت المشاريع الهامة للمكتب لا تترقب شروطا كبيرة لفائدة الرأسماليين الأجانب، إذ تمويل المشاريع هذه كانت تساهم فيها الدولة بنسبة ثلاثة أرباع – الشيء الذي يحصر بمثل هذا القدر أخطار التوظيفات الخاصة – كما أنها قدمت مساهمة في السـوق الداخلية، ضمنتها وحمتها، مع فوائد أخرى.
إن هذه السياسة المتناقضة التي تبحث من جهـة على التنقيــــص من التبعية الاقتصادية عن طريق التصنيع، والتي تسعى من جهة أخرى إلى إبقاء وتطوير التعاون مع الرأسمال الأجنبي، حكمت في الواقع على نفسها كسياسة ترمي إلى تطوير قطاع الدولة بطريقة «إصلاحية»، قطاع كان عاجـــزا عن جر الاقتصاد نحو تطور سريع ومستقل، دون أن تزال للجماعات الاحتكارية المصادر الهامة للتكديس الإنتاجي، ومراقبة الفروع الحيوية للاقتصاد، وحرمت نفسها من وسائل التطور الأساسية لقطاع الدولة الذي كان بقدرته أن يلعب الدور الحاسم في انطلاق مجموع الاقتصاد.
إن هذا التردد وهذا الضعف كانا يعكسان بقدر ما، التناقضات الخاصة للبرجوازية الوطنية المغربية التي رأت نفسها أسيرة رغبتها في توسيع قاعدتها الاقتصادية على حساب الرأسمال الأجنبي، وأسيرة خوفها من مشاهدة البلاد تسلك طريق تطور تقدمـــي على اثر تغييرات لا يمكن قلبها. أمّا بعض العناصر التقدمية من الحركة الوطنية فقد ارتكبت غلطا: وهو الاعتقاد بأن مثل هذه التغييرات يمكن أن تقع دون دفعة شعبية عميقة. وعاقبة هذا الغلط كانت عدم إثارة هذه الدفعة وتعبئة الجماهير حول آفاق واضحة وأهداف مدققة.

المشكل الأساسي للتركيبات الزراعية
لازال موضوعا كله
إن كون المشكل الزراعي بقى بدون حل يصور سلفا إخفاق كل سياسة تصنيعية وطنية.
في المغرب 70 % من السكان يعيشون في البادية، ويمثل الإنتاج الزراعي ما بين الثلث و 40 % من الإنتاج الداخلي.
إن الفرع الرأسمالي في الزراعة كان كله تقريبا من صنع الحماية الفرنسية. فزراعة المعمرين أقيمت في المغرب بفضل تأييد الدولة الاستعمارية على أشكال مختلفة، بما فيها سلب الأراضي المغربية. وغداة الاستقلال كانت توجد في البلاد 4.100 مزرعة يملكها المعمرون، تتعدى مساحتها 10 هكتارات، ويفوق مجموع مساحتها مليون هكتار – بما فيها الأراضي الراقدة – من أفضل أراضي المغرب وارتفع نسبيا بعد الاستقلال عدد الملاكين المغاربة الذين يستثمرون أراضيهم بأساليب رأسمالية، وبالأخص على اثر شراء ما يقرب من 300.000 هكتار من المعمرين، الشيء الذي جعل المساحة التي يملكها الملاكون المغاربة المنتمون لهذه الفئة تتعدى نصف المليون من الهكتارات. وينفق المعمرون الأجانب قسطا كبيرا من أرباحهم الخالصة خارج البلاد (نقل الأموال المؤذون لها بالخروج وحتى غير المؤذون لها)، وبما أن المعمرين كانوا يخشون مصادرة أملاكهم، امتنع معظمهم من التوظيف فيها ولو كان عن طريق إصلاح الأدوات أو تبديل ما لم يبق صالحا منها.
أمّا بقية الزراعة التي تعيش منها أغلبية الشعب الساحقة، فبقيت بقسط أوفر، خاضعة لرواسب عتيقة، فالفلاحون المغاربة ينتجون بالأخص الحبوب الصالحة لصناعة الخبز، ومنتوجات المواشي، ولا يروجون في السوق سوى 30 % من إنتاجهم، والباقي يخصصونه لاستهلاكهم، ولا يستهلكــــــون إلاّ 15% من مجموع الواردات، كالنسيج والسكر والشاي بالأخص. إن الفلاح المغربي المحروم من الأراضي الخصبة والمتضرر من النمو الديموغرافي السريـــــــع، يعيش اليوم عمليا على شفا المجاعة.
تستعمل الأغلبية الكبرى من المزارعين وسائل بدائية للإنتاج، وتحصر التركيبات الزراعية شبه الإقطاعية، مثل الخماسة والخبزة والعقود القائمة على الديون والربا، انتشار كل تقدم اقتصادي وتقني. وتشكل الجماهير الفلاحية المحرومة كليا أو جزئيا من الأرض الكافية لضمان الحد الأدنى من الغذاء الضروري لحياة العائلات، 50 % من العائلات القروية. إن التركيبات شبه الإقطاعية لا تبقى الطرف الكبير من الفلاحين في حالة خضوع دائم لملاكي الأراضي والمواشي ووسائل العمل فحسب، بل تشكل أيضا عرقلة أساسية في وجه كل توظيف ضروري لتقديم الزراعة. كل الملاكين شبه الإقطاعيين يستهلكون على شكل اقتناء الكماليات أو يمارسون المضاربة بقسط المحصول الزراعي الذي يعود لهم.
وأخطر من هذا كون قوة العمل الهائلة لسكان البوادي لا تستعمل إلاّ قليلا، إذ لا يشتغل الفلاحون في المتوسط سوى 100 أو 150 يوما في السنة، مع أن بإمكانهم أن يبدلوا عملا منتجا خلال 250 يوما في العام. وبما أن الفلاح الكادح يوجد دائما على شفا المجاعة، وبما أن رب الأرض التي يشتغل عليها هذا الفلاح يكتفي بجمع بنفسه أو بواسطة أعوانه غير المنتجين ما يعود له من محصول زراعي دون أن يوظف شيئا في وسائل العمل والجر، فإن الإنتاجية بقيت قليلة جدا (من 5 إلى 7 قناطير من الحبوب في الهكتار)، وليس بالامكان مع هذا تحقيق أي تقدم تقنيا كان أو اقتصاديا.
الاّ أننا نشاهد اليوم تحويل بعض الملاكين شبه الإقطاعيين إلى مزارعين رأسماليين. ومن جهة أخرى فإن فئة الفلاحين الأغنياء أخذت تتعزز على حساب الفلاحين الصغار المرغمين على بيع أو كراء أراضيهم بأبخس ثمن. وهناك عدد من المغاربة شرعوا في شراء أراضي المعمرين الأجانب، كل هذه الظاهرات تتسبب في حدة عملية التمييز بين الطبقات الاجتماعية في البوادي، الشيء الذي يضع مشكلة الإصلاح الزراعي بكيفية أكثر إلحاحا.
حاولت الدولة، ابتداء من سنة 1957، أن تجدد أساليب إنتاج الفرع «التقليدي» في الزراعة، لكن دون أن تتطرق للتركيبات الزراعية. ذلك ما سمي «بعملية الحرث». أخذت الدولة بحرث بواسطة التراكتورات التي تملكها، مساحات كانت تنوي أن تبلغ سنويا مليونا من الهكتارات، وذلك بصفة تدريجية.
فنتج عن هذا شيء من الإنماء في إنتاج الأراضي التي عمتها تلك العملية. (وبلغت التنمية نسبة 2 أو 3 قناطير للهكتار). إلاّ أن البرنامــــــج المحدد لم يتحقق كله. بل رأينا، ابتداء من 1958 و1959 انخفاض تلك المساحة بحد كبير: انتقلت هذه المساحات من 167.000 هكتار 57-1958 إلى 290.000 عام 58-1959، ثم انخفضت إلى 193.000 عام 59-1960، وإلى 107.000 عام 61-1962، وإلى 94.000 عام 61-1962.
ومن وراء العوامل الثانوية لفشل عملية الحرث (وهي عوامل تقنية وإدارية الخ..) ظهرت عوامل أعمق، إلا وهي بقاء التركيبات الاجتماعية «التقليدية» وقواعدها الزراعية.
من الزاوية «الإصلاحية» فإن تجاوز هذه التركيبات سيحدث بنفسه بفضل مرور التراكتور على حدود الملكية، مرور يعتبر كخطوة أولى نحو تأسيس تعاونيات الإنتاج.
إلاّ أنّ هذه النظرية المحافظة – التي قبلت عملية الحرث – برهنت – كما بينت ذلك الأحداث – على أنها أكثر واقعية للمحافظة على امتيازاتها، لأنها بقبولها استعمال تراكتورات الدولة تتمكن بسهولة من إخفاء الطابع الضروري لإصلاح زراعي يتحقق على حساب المعمرين والملاكين العقاريين الكبار. حقا إن العملية اصطدمت ببعض مصالح الأعيان القرويين، إلاّ أنها تركت لهم إمكانية تطوير عداء إزاءها، وذلك باستغلالهم المصاعب والمشاكل الناتجة عن تطبيق العملية هذه، خصوصا وهي عملية ناقصة. ونشاطهم في هذا السبيل، مع عدم اهتمام، إن لم نقل معارضة، الجماهير الفلاحية لهذه العملية.
وإلى يومنا هذا لم تقع أية محاولة ولا أي شروع في تحقيق الإصلاح الزراعي. في عام 1960استرجع قسط ضئيل من أراضي المعمرين – 40.000 هكتار تقريبا- وأسند إلى الهيئات الزراعية التابعة للدولة لتسهر على تسييره. وفي 63-1964 ظهر بأن الحكم يريد أن يتجه نحو شراء «أراضي الاستعمار الرسمي»، وهي أقل من 300.000 هكتار، أي الأراضي التي منحتها الحماية للمعمرين الأوروبيين على اثر سلبها من أربابها المغاربة. فوقع استرجاع 50.000 هكتار تقريبا في هذا النطاق، سلمت إلى مكتب زراعي تابـــع للدولة، مكتب ظهر عمليا عاجزا عن السهر عليها كما يجب. إن نوايا الحكم الحالي تبدو كمحاولة لإحداث «منافس امن» على شكل «شبه إصلاحات جزئية»، تسمــــح في نظره، بإبطال المطالب الفلاحية بإصلاح زراعي جذري، وبتوسيع قاعدة الفئات المتوسطة من الفلاحين، وبتوطيد قواعــد جزء من المعمرين الأجانب وبالأخص قواعد الملاكين العقاريين الكبار، القدماء منهم والجدد.

المرحلة الثانية -1960-1964-
والتفاقم المستمر للتناقضات الاقتصادية والاجتماعية

لما طردت العناصر التقدمية من الحكومة، تميز تطور سياسة الدولة الاقتصادية، ابتداء من 60-1961 بالتخلي عن كل اتجاه معادي للإمبريالية وبالخضوع التام تقريبا إلى مطالب الرأسمال الأجنبي والأوليغاشية الجديدة المنحدرة من الإقطاعية والبرجوازية العقارية والتجارية، وللفئات العليا من البرجوازية البيروقراطية.
والتدابير الأساسية التي ترسم هذا الطريق كانت: التخلي عن التصميم الخماسي لأعوام 60-1964، وتبني قانون جديد للتوظيفات بتاريخ فبراير 1961 (الذي ينص على اعتماد يتراوح ما بين 15% و20% لفائدة التوظيفات، ومختلف إعفاءات جبائية، وحق نقل الرأسمال الموظف اوتوماتيكيا في كل وقت)، وإلغاء الأغلبية في مساهمات الدولة في رأسمال البنك الوطني للانماء الاقتصادي الذي انتقلت مراقبته إلى الرأسمال الأجنبي، شراء الدولة للسكك الحديدية والطاقة الكهربائية بشروط جد مفيدة لبنك باريس وهولندا، والتقرب من أوروبا الستة والرغبة في إعطاء طابع نقل تأسيسي للعلاقات بين المغرب والسوق المشتركة، إذ المسؤولون الحاليون لا يخفون عطفهم على إبرام علاقة المشاركة مع هذه السوق.
إلاّ أن النتائج المحصل عنها لم تزد إلاّ تأكيدا لضرر هذا الاتجاه.
إن ضياع زبدة المصادر الوطنيــة أخذ في الإسراع بدون مقابل: في 1962 و1963 بلغ نقل الرساميل إلى خـارج المغرب سنويا ما يقرب من عشرين مليارا من الفرنكات، على سبيل «المساعـــدة التقنية». ويقدر النقل الرسمي الخاص بمداخيل الرأسمال بما بين 13 و14 مليارا من الفرنكات سنويـــــا، دون اعتبار النقـــل الذي يقع بطريقـــة التهريب، وهو نقل يمكن أن يقدر بنصف مليار من الفرنكات. وفي مقابل ذلك فإن التوظيفات الخاصة الآتية من الخارج لا تقدر إلاّ بقدر ضئيل جدا، أي بما يقرب من مليارين من الفرنكات عام 1962، ومن أقل من مليارين من الفرنكات عام 1963.
وعليه فإن الأزمة الحادة للأداءات الخارجية التي يجتازها المغرب الآن كانت منتظرة، لأنها ليست إلاّ علامة لداء أعمق، ألا وهو ذلك النهب الحقيقي الذي يخضع له الاقتصاد المغربي في ظروف استغلال طفيلي، دون توظيفات جديدة، ومرارا تجديد التجهيز والآلات.
خلافا لبلدان متخلفة أخرى. لم يعرف المغرب منذ استقلاله توظيفات هامة من الرساميل الشخصية من الخارج وهذا يفسر طبعا بأسباب اقتصادية، كضيق السوق الداخليـــة الخ..، ويفسر أيضا وبالأخص بأسباب سياسيته الناجمة، على ما يبدو، عن تردد وتخوف أوساط الأعمال الدولية من توظيف رساميلها في بلد يظهر لها بأن مستقبله غير محقق، وهذا الموقف الذي يقفه الرأسمـال الأجنبي: هو حلب البقرة دون العناية بتغذيتها ويبين بأكثر وضوح الطابع الطفيلي والتقهقر الذي ينطبع به الاستعمار الجديد بالمغرب، والذي تنطبع به أيضا الفئات الاجتماعية التي يرتكز عليها هذا الاستعمار.

ويظهر تفاقم التناقضات الاقتصادية أيضا في الانتفاخ المستمر لميزانية الدولة أمام دخل وطني راكد. تستهلك ميزانية التسييــــر حاليا ما يعادل نصف الإنتاج المادي الخالص (الدخل الوطني باستثناء التجارة والخدمات). ويتفاقم هذا العبء سنة بعد سنة، الشيء الذي يؤدي – اعتبارا لركود الدخل الوطني – إلى إثقال العبء الجبائي الذي يثقــل كاهل الجماهير الشعبية، وإلى وضعية يسيطر عليها التضخم أكثر فأكثر. إن عجز ميزانية الدولة بفرعيها التسييري والتجهيزي فاق عـــــام 1964 ثلث المصاريف، وفي ميزانية التجهيز التي تقدر بثمانين مليار من الفرنكات فإن المصاريف الداخلية المخصصة للصوائر لم تبلغ 5 مليار من الفرنكات، وفيما يتعلق بالباقي – وهو 75 مليار – فإن الدولة تعتمد على الحصول عليه بواسطة القروض الخارجية.
إن قسطا كبيرا من النفقات تسيير الدولة له طابع غير إنتاجــــي، لقد انتفخت عدة مصالح، بكيفية فوضوية، منذ الاستقلال، على أساس التركة الإدارية للحمايـــــة، التي كانت ثقيلة في حد ذاتها. الميزانيـــة تبتلع أو (تستهـلــــك) ثلث الدخــــــــل الوطنـــي، بالرغـــم من أنه أصبح واضحا إمكان استغناء البلاد بسهولة عن نصف «المساعدين التقنيين» على الأقل، الذين يوجدون بكثرة في الإدارات والمصالح العمومية، والذين يعيش عدد منهم كطفيليين ليس إلاّ. ولنضف إلى ذلك كون نجاعة الإدارة ضعيفة جدا، وكون هذه الإدارة يخربها الفساد والرشوة، الشيء الذي لا يشجع على القيام بعمل نزيه لفائدة الصالح العام.
لكن ليست الأوليغارشيــة الحاكمة هي التي يمكنها – ولو أرادت ذلك – أن تحارب بنجاعة التطفل والارتشاء في الإدارة. لأن إثراء هذه الأوليغارشية يقع على نفس القاعدة، ويدفعها إلى احتكار – بفضل مراقبة الدولة – جميع الأشغال والأعمال المربحة، ومرارا على حساب البرجوازية المتوسطة التقليدية. ويستتر نظام الحكم السياسي المستبد والشخصي بستار برلماني يخدع أقل فأقل الجماهير الشعبية المتعطشة إلى العدالة الاجتماعية والكرامة.

ويستعمل الحكم الحالي بالتناوب الديماغوجية والقمع والاضطهاد «القانوني» (عدة نصوص تنقص كثيرا من ممارسة الحريات الفردية والجماعية صدرت من نهاية 1962 إلى عام 1964، أي أثناء العهد الدستوري)، وبذلك أخذ هذا الحكم يرتبك يوما بعد يوم في تناقضاته. وبلغ إلى مأزق من جميع ميادين الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
إن حالة التناقضات الاقتصادية والاجتماعية في مغرب اليوم وضعت في المكانة الأولى مشكلة التطور المستقل والسريع للاقتصاد، كما وضعت محتوى هذا التطور والطرق المؤدية إليه. وتدفع الحالية هذه الجماهير الشعبية إلى البحث عن المخرج الحقيقي للأزمة التركيبية لاقتصاد المجتمع المغربي.

ضرورة وبديعية طريق التطور غير الرأسمالي
لقد حددنا التطور الاقتصادي كعملية عليها أن تكون منظمة اجتماعيا، ذات قيادة واعية، لتحقيق تحولات اجتماعية واقتصادية متلاقية تسمح بتحقيق تعبئة شاملة للقوى المنتجة، للبلوغ على هذا الأساس إلى قفزة كيفية نحو إنماء سريع ومطرد.
وتجربة المغرب تبين بأن الطريق «الإصلاحي» لأعوام 1956-1960، وطريق «الليبرالية الرأسمالية» للأعوام 1960-1964، لم تحدثا الظروف الملائمة لتطور اقتصاد وطني. وإذا ما نحن اعتبرنا العشر سنوات المنصرمة يتضح لنا بأن الإنتاج الضخم بقي راكدا من ناحية القيمة المطلقة، وفي تقهقر بالنسبة لكل فرد. إن مستوى معيشة أغلبية السكان في انخفاض مستمر.
ومنذ الاستقلال، فإن الشروط الاجتماعية والاقتصادية والشروط الاجتماعية والسياسية لتطور سريع ومستقل لم تتحقق من الأســـــاس، بل رأت الأعوام المنصرمة ظهور عراقيل جديدة في هذا الطريق، ومن أهم تلك العراقيل تأسيس أوليغاشية جديدة توصل الرأسمال الأجنبــــــــي إلى إشراكها في نظام الاستغلال الشبه الاستعماري للشعب المغربي، أوليغاشية تستند على حكم استبدادي. أمّا القوى الاجتماعيـــــــة والسياسية التي تعبر عن مصالح البرجوازية الوطنية، ولو كانت لا تزال تشعر ببعض الأشكال الاقتصادية للسيطرة الأجنبية، وبميول الأوليغارشية الجديدة إلى الهيمنة، فلقد أقامت الدليل عن عجزها على تحريك التحولات الضرورية، وذلك لأنها استطاعت أن توسع بقدر ما قاعدتها الاقتصادية منذ الاستقلال، ولأنها تخشى عواقب حركة جماهيري جذرية يمكن أن تتجاوز الأهداف البرجوازية الطبقية الضيقة.
في كل القضايا الرئيسية المتعلقة بالتطور الوطني، كتوسيع الســوق الداخلية، وقسط الدخل الوطني الذي ينبغي أن يوظف في الفروع المنتجة، والأشكـــال التأسيسية السامحة بتراكم الرأسمال الوطني بسرعة، ومساهمة السكان الفعالة في البناء الاقتصادي، وحماية الاقتصاد الوطني من تطاولات الجماعات الاحتكارية الأجنبية، والتصنيع المبرمج الخ..)، في كل هذه القضايا يبدو الطلاق سافرا بين المقتضيات الحقيقية التي يفرضها هذا التطور، وبين الحلول المطبقة منذ الاستقلال.
لقد وضعت تجربة المغرب في الواقع كل مشكل التوجيه الجوهري لتطور البلاد الحديثة عهدا بالاستقلال، لأنها أقامت الدليل الساطــــــع، إن صح هذا التعبير، على المأزق الذي تتخبط فيه الأقطـــــار التي لم تتبن طريق التطور غير الرأسمالي.
وفي حالة المغرب، فإن الواقع المر الذي يعيشه الشعــب يبين بصفة بليغة بأن هذه الطريق تشكل الاختبار الوحيد للتقهقر والتعاسة والخضوع.

إن طريق التطور غير الرأسمالي لا تعني الاشتراكية، ولكنها ترمي إلى تحقيقها في مرحلة قادمة، إي ترمي إلى تشييد نظام يتميز بالملكية الاجتماعية لوسائل الإنتاج والتبادل، وبدور الشغيلـة القيادي على رأس حكم الدولة، وبإزالة كل استغلال الإنسان للإنسان، لأن التجربة الدولية منذ ما يقرب من نصف قرن بينت بأن الاشتراكية هي النظام الوحيد الذي يبيح تحقيق استعمال القوى المنتجة استعمالا كاملا وعقلانيا، وتفتحا واقعيا لمواهب الشعب الخلاقة، والديموقراطية الحقـة والعدالة الاجتماعية.

وما دامت الشروط الموضوعية والذاتية لم تتوفر، يمكن للتطــور غير الرأسمالي أن يشكل مرحلة متوسطة، وفي نفس الوقت طريقــا بديعية وجديدة للانتقال إلى الاشتراكية، طريق تطبق على الظروف الخاصة القائمة في البلدان المتحررة مؤخرا.
ويجد طريق التطور غير الرأسمالي تعبيرا له في ميادين أساسية ثلاث مرتبطة ارتباطا متينا:
أولا في ميدان مستوى التحولات الاجتماعية-الاقتصادية التي يتعلق عليها التطور السريع،
ثانيا في ميدان مستوى أشكال التنظيم المناسبة للاقتصاد بالنسبة إلى تسوية مشاكل التراكم الداخلي وتوجيه التوظيفات بالأخص.
ثالثا في ميدان مستوى الأشكال التأسيسية التي تسمح بمساهمة أوسع الجماهير في البناء الاقتصادي والاجتماعي.
إن الأمر يتعلق إذن بتشكيلة اجتماعية انتقالية ومختلفة الطبع، توطـد فيها مقتضيات تطور اقتصادي مستقل وسريع، بقدر تسويتها، الميول نحو تنمية سريعة ومطردة ومسيرة ذاتيا، تنمية تتعلق بدورها على إزالة تدريجيا الأشكال الرأسمالية في الاقتصاد، أشكالا يمكن أن تبقى قائمة بصفة ثانوية في المراحل الأولى من العملية.

من البديهي بأن ليس هناك اتمتة ولا عفوية في إحداث الظروف المؤدية إلى تطور غير رأسمالي، ولا في سير العملية نفسها.

إن إحداث الظروف المؤدية للتطور غير الرأسمالي لا يمكن أن تفتح لنفسها سبيلا إلا عبر مسيرة ثورية معقـدة. ويعني هذا أن ذلك يتعلق قبل كل شيء على نضال القوى الاجتماعية المهتمة حيويا بتصفية الاستغلال والتعاسة والتي تشكل أغلبية السكان، أي على نضال العمال والفلاحين أولا. وهذا النضال مختلط مع حركة مجموع الأمة، مؤكدا سيادتها على الصعيد الاقتصادي ضد رواسب السيطرة الأجنبية، حركة يمكن أن تشمل في بعض المراحل حتى الفئات غير الشعبية مثل الفئات البرجوازية، التي تشعر بضرر مصالحها الطبقية من طرف بعض أشكال السيطرة الأجنبية. إلاّ أن الحركة لا يمكن أن تبلغ إلى نهايتها، أي إلى تحويل جذري فاصل لا يقلب لميزان القوى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بين الرأسمال الأجنبي وحلفائه الداخليين من جهة، وبين الطبقات والفئات الاجتماعية الطامحة إلى تصفية التخلف من جهة أخرى، إذا ما لم تكن تلك الحركة مسيرة من طرف القوى الأكثر تقدما في المجتمع، وبقدر ما تزداد الحركة جذرية في أهدافها، يرى بعض حلفائها غير الشعبيين خطرا على مصالحهم الطبقية، فينسحبون منها وينقلبون عليها في الوقت الذي يبدو لهم فيه بالذات بأن النظام الرأسمالي أصبح هو المهدد جوهريا كنظام للتطور الوطني الواسع في عملية الكفاح من أجل استقلال الاقتصاد الوطني لا ينبغي أن يرهن الوجه الديموقراطي المعادي للإقطاعية وللأوليغارشية، وجها يشكل في هذه المرحلة الفحوى الاجتماعي المتقدم لحركة التحرر. إن تسوية التناقض الجوهري يفرض هذا الوجه وتطويره.
ويمكن أن تتحقق هذه الأشكال من الاتحاد الوطني المناوئ للإمبريالية وللإقطاعية في نظام من “الديموقراطية الوطنية” يكون فيها الحكم السياسي حكما وطنيا وديموقراطيا يعكس تلاقي مصالح مختلف الطبقات والفئات الاجتماعية المعنية بتحقيق الاستقلال الاقتصادي وبتصفية بقايا الإقطاعية وإزالة الاوليغارشية عن موقعها. لكن لا يزال تحالف مختلف القوى الوطنية تضاد المصالح بينها، ولا يزال التمييــز في المطامح المتعلقة بنوع التنظيم الاقتصادي والاجتماعي للأمـــة. إن تسوية مشكل التناقض الجوهري الذي يجعل أغلبية الأمة تتعرض إلى الإمبريالية وحلفائها الداخليين لا يسوى بحد ذاته التناقضـــات الأخرى في المجتمع، بل ستبقى تلك التناقضات قائمة وستتطور داخل نظام الديموقراطية الوطنية نفسه، خصوصا وأن التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي ستنتج عن إنجاز مهام الثورة الوطنية الديموقراطية، يمكن أن تخلق ظروفا أفضل من ذي قبل للتراكم الرأسمالي لدى الطبقات الوطنية التي تملك الثروات ووسائل الإنتاج، كتوسيع السوق الداخلية الناتجة عن إصلاح زراعي، وحماية الاقتصاد الوطني حماية قوية، وإزالة العراقيل شبه الإقطاعية التي تثقل على طرف كبير من الملكية العقارية، وتوسيع ممكن للملكية الزراعية الصغيرة التي ستبحث عن الانقلاب إلى ملكية متوسطة الخ…
وسينتج عن ذلك بأن النزاع، داخل نظام الديموقراطية الوطنية، بين القوى الأكثر تقدما في المجتمع، التي تسعى إلى تصفية استغلال الإنسان للإنسان، وبين القوى التي تريد إبقاء الأشكال الرأسمالية في الاقتصاد، يمكن أن يتسع هذا التناقض ويكتسي أشكالا مختلفــــة، لا يمكن تسوية هذا التناقض بصفة نهائية لصالح القوى التقدمية إلاّ بدلالة درجة المساهمة الفعلية للجماهير الشعبية في حكم الدولة بواسطة منظماتها، وكذلك على شكل مراقبة الحكم الاقتصادي والسياسي على جميع الدرجات، وعلى شكل إشراك تلك الجماهير اشتراكا متينا في تسيير الاقتصاد. ففي هذا النطاق فإن دياليكتية الاتحاد والكفاح في الاقتصاد والسياسة والأيديولوجية ستجد مجالا خصبا وبديعيا للنشاط.

التحولات الاجتماعية الضرورية
وأشكال تنظيم جديدة للاقتصاد وللمجتمع

إن مشاكل التطور الاقتصادي الوطني لا يمكنها أن تسوى إلاّ حيثما تزول نهائيا التركيبات القديمة المنحدرة من الاستعمار، امتدادا لوضعية التبعية الاقتصادية التي وضعت الإمبريالية بلادنا فيها.
إن حصر كل تطور للاقتصاد الوطني منذ الاستقلال آت من كون حصة واسعة من الفائض الاقتصادي – حصة كان ينبغي توظيفها – قد أصبحت عقيمة لما استولى عليها الرأسماليون الأجانب والأوليغارشية المحلية، والبرجوازية الوطنية التي لم تجد أمامها مناسبة للتوظيف المنتج، لأن السوق الداخلية التي هي فلاحية في أساسها، محدودة بالركود الزراعي وبعلاقات إنتاج معادية لتنمية اقتصادية سريعة.
فالدخل المرتفع للطبقات المسيطرة يبذر في استهلاك ترفيهي وفي عمل غير منتج، وقسط وافر من المصادر يبتلع من طرف أداة دولة بيروقراطية غير منتجة.
وينبغي الإضافة إلى كل ذلك بأنه من غير الممكن في الظروف الاجتماعية الراهنة، تحريك الاحتياطيات الطاقية الهائلة والخلاقة الكامنة في الشعب، والضرورية لتنمية التراكم والتوظيف، إن التركيب الاجتماعي الموجود يمنع تعبئة القوى المنتجة.

يمكن تلخيص الانقلابات الضرورية للتركيب الاقتصادي والاجتماعي كما يلي:
.1 – تصفية العلاقات ذات النوع الاستعماري القديم والجديد في القطاع الرأسمالي من الاقتصاد، وذلك بالامتلاك الوطني للفروع والمؤسسات التي تراقبها الجماعات الاحتكارية الأجنبية.

.2 – تصفية الهياكل الاستعمارية وشبه الإقطاعية في الزراعة بواسطة إصلاح زراعي جذري عميق لفائدة الفئات الفقيرة من الفلاحين، الشيء الذي سيسمح بإحداث الظروف للتوسع الزراعي، ولتعبئة اليد العاملة القليلة الاستغلال للقيام بأعمال منتجة، ولتوسيع السوق الداخلية.

وفي نهاية هذه التحولات، سيشتمل التركيب الاقتصادي الوطني على أربعة فروع:
.أ- فرع الملكية الجماعية والوطنية للدولة.
.ب- فرع صغير ومتوسط للإنتاج الفردي الفلاحي والصناعي التقليدي.
.ت- فرع رأسمالي.
.ث- فرع تعاوني في الزراعة والصناعة التقليدية الخ.. يكون متطورا قليلا أو كثيرا.
إن جوهر التطور غير الرأسمالي هو توسيع الأشكال غير الرأسمالية في الاقتصاد (فروع الملكية الاجتماعية والتعاونية)، وهو استعمال وابتلاع تدريجيا الفرع الرأسمالي وكذلك فروع الإنتاج الفردي من طرف الفروع غير الرأسمالية.
ويشتمل الفرع الأول على المؤسســـات المؤممة وكذا التي ستشيدها الدولة لاسيما في الصناعة الأساسيــــــــة. فإلى هذا الفرع يرجع دور السيطرة في تطور مجموع الاقتصاد، ومن أجل ذلك ينبغي توفر شرطين اثنين:

.1- ينبغي لقطاع الدولة أن يتطور على أساس علاقات الملكية الوطنية للدولة، تطويرا ديموقراطيا تراقبه الشغيلة.
.2- وبما أن هذا القطاع يشكل محرك التطور، لاسيما في الفرع الصناعي، فينبغي له أن يتطور بأسرع من القطاع الرأسمالي: فمساهمته النسبية والمطلقة في حجم الإنتاج والتوظيف يجب أن ترتفـــــع بأسرع من القطاع الرأسمالي.
ويتجلى طابع المراقبة العمالية ومساهمة العمال في تسيير مؤسسات فروع الملكية الوطنية للدولة بضرورة محاربة كل بيروقراطية في تسيير قطاع الدولة، ومحاربة كل محاولة تــرمي إلى تسخيـر إنتاج كد وتضحيات الأمة جمعاء لصالح جماعة من المحظوظين بواسطة أداة الدولة أو الرأسمال الخاص. وهذا الخطر الأخير من الواقعية بمكان، خصوصا وهو يقتضي، لمدة ما، أشكالا رأسمالية في الاقتصاد بجانب فرع الملكية الاجتماعية. ثانيا يمكن أن يكون ذلك أن يصبح وسيلة لأن يهتم العمال مباشرة بتطور وبحسن تسيير المؤسسات الوطنية، قصد تشجيع وتطور البحث على أحسن الأساليب في الإنتاج والتسيير ورفع روح المبادرة والمسؤولية في أوساط الطبقة العاملة.
وبرمجة تطور الاقتصاد، القائمة بالأخص على توسيع فرع الملكية الاجتماعية، ينبغي أن تدمج أيضا بصفة غير مباشرة الفروع الخاصة التي ستبقى مدة من الزمن: وتكون هذه الفروع مراقبة وموجهة بطرق مختلفة كتقديم الطرود وطلبات الدولة (بيعا وشراء) وسياسة الأسعار، وتأسيس الشركات المزدوجة تكون ملكيتها وتسييرها بين يدي الدولة والرأسماليين الفرديين، لكن يلزم أن يتجه الميل الجوهري للتطور نحو إزالة الأشكال الرأسمالية في الاقتصاد تدريجيا.
وتكتسي تعبئة القوى الشعبية في عملية البناء الاقتصادي وجها فاصلا في التطور السريع، ومن هنا تأتي أهمية الأشكال التأسيسية التي تساعد على تلك التعبئة، وهي ضرورة ضمانة مساهمة أوسع الجماهير في مراقبة وتسيير السلطة الاقتصادية والسياسية على سائر المستويات.

– المساهمة في المؤسسات السياسية على الصعيد الوطني والإقليمي والمحلي،

– المساهمة في المؤسسات الاقتصادية بما فيها تأسيس منظمات ديموقراطية لتسيير الأدوات التقنية للتطور الصناعي والزراعي.
وفي نهاية الأمر فإن تعبئة الجماهير الشعبية من أجل النضال لخلق ظروف تطور اقتصادي سريع ومستقل، ثم لضمان البناء الاجتماعي، هي طريق النجاة بالنسبة للبلدان التي تحررت مؤخرا.

بقلم: عبد عزيز  بلال

شارك المقالة

اقرأ أيضا