بعد سنوات من التدمير الليبرالي نضالات شعبية للمطالبة بالخدمات الاستشفائية

 

 

اندلعت في الآونة الأخيرة احتجاجات شعبية عفوية في عدد من المدن للمطالبة بتوفير الخدمات الصحية. جنوبا كانت الاحتجاجات في كل من طانطان وبويزكارن وتيزنيت، كما ضم الملف المطلبي لحراك الريف بناء مستشفى لمرضى السرطان، وفي حراك جرادة المستمر يقع على رأس مطالبه توفير خدمات طبية لمرضى السيليكوز وضيق التنفس.

 هذا وتتداول مواقع التواصل الاجتماعي بشكل دوري فضائح بالصوت والصورة للحالة المزرية للمستشفيات العمومية وللمرضى في الممرات وعلى الإسفلت يكابدون العناء.

الحالة التي بلغتها المستشفيات العمومية ليست قدرا محتوما، بل سياسة ليبرالية ممنهجة، انطلقت مع إجراءات التقويم الهيكلي التي باشر المغرب العمل بها سنة 1983 تحت وصاية البنك العالمي وصندوق النقد الدولي. لم يكن لهذا الإجراء الليبرالي القاسي، طابع الإجهاز المباشر على صحة الكادحين باعتباره أحد الخدمات العمومية، بل تطلب عقود من الزمن حتى يتم القضاء عليه بالتدريج تفاديا لإثارة غضب الكادحين وعرقلة الإجهاز على صحتهم بعد إعداد ترسانة قوانين مجحفة، مثل مرسوم مارس 1999 الخاص بالتسعيرة الاستشفائية.

مرت 35 سنة على رفع الدولة يدها عن تمويل قطاع الصحة، وها هي النتائج الكارثية تطفو على السطح، مستشفيات رديئة الخدمات وبلا أطقم طبية كافية، وتجهيزات منعدمة وفي حال وجودها فهي دائمة العطب، ما يجبر المرضى إلى الارتماء في أحضان سماسرة المستشفيات الخاصة، لامتصاص ما تبقى من دريهمات في جيوبهم.

ما كانت الدولة تخشاه في التريث من أجل تدمير قطاع الصحة، ها هي قد بدأت في مواجهته في الشهور الأخيرة في مدن وبلدات عدة، فقد انطلق التململ الشعبي رافضا للوضع الكارثي للمستشفيات العمومية. خرجت مظاهرات فجائية، منددة بوفاة مرضى كانت حالتهم قابلة للعلاج لو توفرت الأجهزة الضرورية لذلك، حيث تعبأ قسم عريض من السكان في ظرف وجيز، وأسست بعض الهيئات السياسية والجمعوية المناضلة… جبهات محلية للنضال من أجل توفير الخدمات الصحية. دفعت هذه الشروط البالغة السوء للمستشفيات العمومية البعض من الأطر الطبية للخروج إلى العلن وفضح مدى العفونة المستشرية في القطاع، كان هذا حال طبيب تيزنيت المهدي الشافعي الذي ينتظره عقاب المجلس التأديبي نظير شدوده عن قاعدة الفساد في المستشفيات العامة.

أين المنظمات العمالية؟

تبقى الاحتجاجات التي أتارتها رداءة المستشفيات العمومية وضعف خدماتها وتسلط زبانية العيادات الخاصة الساعية إلى تكديس الأموال من أمراض الكادحين وشقائهم، بدون مشاركة نشيطة للمنظمات العمالية. تراقب القيادات النقابية التحركات الشعبية من فوق دون المساهمة في تعبئة للقواعد المنظمة تحت لوائها، والانخراط الجاد في التنسيقيات المحلية. يعود أصل الاستنكاف عن التدخل النضالي إلى خوف القيادات البيروقراطية من أن يمتد نضال الكادحين إلى أفاق أبعد من توفير التطبيب، لا تريد البيروقراطية أن يصلها نضال الكادحين، علاوة على هذا، فقد شاركت زمرة البيروقراطية في تضليل العمال بذيليتها لقوى برجوازية (الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وحزب الاستقلال)، في صراعها مع الملكية وكان لها نصيب في توفير الجو الملائم لتمرير القوانين الطبقية المدمرة. الدرك الذي وصلت إليه المنظمات النقابية لا يعفي مناضلي اليسار الجذري من بدل الجهود تلو الجهود في سبيل ربطها بالنضالات الشعبية…مهمة شاقة، لكن أبانت التجارب عن إمكانيتها.

مكاسب جزيئة لكنها ثمرة نضال شعبي …لنستعد للقادم من جولات الصراع

شكلت مبادرة شباب حركة الصحة للجميع في مدينة بويزكارن، أولى ملامح العمل التعبوي الشعبي من أسفل، حيث سعى الشباب المناضل من خلالها إلى تعبئة قسم عريض من المتضررين من السياسات الليبرالية والإجهاز على طفيف المكتسبات، إلى لفت الانتباه وتوعية الكادحين بأهمية الدفاع عن صحتهم انطلاقا من النضال المباشر في الشارع. وفي مدينة تيزنيت وبعد ما أثارته قضية الطبيب المهدي الشافعي من تضامن… استشعرت الدولة خطورة الوضع المزري في المستشفى المحلي وما يمكن أن يترتب عنه من سخط عام، فباشرت بتقديم حلول لا تمس جوهر السياسة الليبرالية، لكنها ثمرة نضال وتعبئة شعبيين.

أقدمت وزارة الصحة على تعيين ستة طبيبات بالمستشفى الاقليمي الحسن الاول، همت تخصصات: طب القلب، وطب الاطفال، وطب الغدد والسكري، وطب الانعاش والتخدير، وطب الكلي وتصفية الدم، وطب الجهاز التنفسي، وهي دفعة أولى من التعيينات ستليها دفعة ثانية، حيث فتحت الوزارة مناصب للتباري تهم نفس المستشفى، وذلك في تخصصات: طب النساء والتوليد، وطب جراحة العظام، وطب الصحة النفسية والعقلية، ومناصب أخرى للأطر شبه الطبية تتضمن خمسة عشرة ممرضا في تخصصات مختلفة. أما فيما يخص غياب بنيات الاستقبال وسوء المعاملة التي يتعرض لها المرضى وذويهم، والتي كانت ضمن مطالب المحتجين، فقد عينت وزارة الصحة أحد عشر مضيفة (وهي أول مرة تقوم الوزارة بهذا الاجراء على الصعيد الوطني).

    هي اذن مكاسب جزئية مقارنة بحجم الخصاص المسجل في هذا القطاع، وهي أيضا مكاسب مهمة انتزعت بالنضال الميداني، الذي لولاه ما كان ليتحقق منها أي شيء في الميدان، فمزيدا من النضال لمواجهة سياسة تدمير الدولة للمكاسب الشعبية، وتحصينا للمكتسبات المنتزعة، ولفرض مكتسبات جديدة، فالوضع الصحي الراهن يفرض عدم اخلاء الساحات والشوارع من الاحتجاجات، ومزيدا من التشهير بالوضع الصحي المزري لحفز الوعي الشعبي، من أجل فرض خدمة عمومية اجتماعية مجانية وذات جودة و تلبي جميع احتياجات المواطنين/ت.

إن التململ الشعبي، لايزال في بداياته الأولى إلا أنه كشف عن إمكانية تطوير النضالات الشعبية وتخصيبها برؤى أكثر وضوحا مما هي عليه، بوضع الأصبع على أصل البلاء أي السياسات النيوليبرالية التي يتبعها حكام المغرب منذ عقود. تخصيب هذه النضالات الأولية في ميدان الصحة مسؤولية ملقاة على عاتق قوى اليسار الجذري، أولا بالانخراط المباشر في هذه الاحتجاجات وثانيا بمد جسور التضامن والتشبيك مع نضالات أخرى مشابهة.

بقلم، فودة إمام

 

شارك المقالة

اقرأ أيضا