الكنفدرالية الديمقراطية للشغل في مؤتمرها السادس: إلى أين تسير؟

 

ينعقد هذا المؤتمر بعد أربعين سنة من الانطلاقة، أي مؤتمرا كل 8 سنوات. لا شك أن شدة القمع والمضايقات في فترات احتداد الصراع أسهمت في بطء الاشتغال التنظيمي، غير أن هذا الأخير معطوب أيضا بسبب تغييب الديمقراطية العمالية الداخلية. فالأمر لا يقتصر على نقص انتظام دورية اشتغال الأجهزة، بل ثمة تربية تقوم على إبطال أي حياة داخلية: الإعلام، والنقاش، واحترام حق الأقلية المعارضة في التعبير عن الرأي، وآلية انتخاب المنتدبين وتشكيل الأجهزة (لجنة الترشيحات سيئة الذكر، وصنع جهاز القرار خارج المؤتمر كما جرى في المؤتمر 5 ويجري اليوم). كما أن الديمقراطية لا تقتصر على تسيير التنظيم، بل تشمل تدبير النضالات، وهنا أيضا أدى تغييب التسيير الديمقراطي للنضال إلى كوارث متتالية، من أشدها هولا  ما حل في السنوات الأخيرة بمئات عمال وعاملات مصبرات ضحى بأكادير.   وليس تغييب الديمقراطية غير نتيجة لسيادة رؤية سياسية تتقاسمها التوجهات السياسية المهيمنة في النقابة. فمنطق الشراكة الاجتماعية، وتنافسية المقاولة والتعاون مع الدولة وأرباب العمل، يعني التضحية بمصالح الأجراء. وهذا ما تم فعلا في العديد من الملفات النقابية، منها تقاعد الموظفين، والتأمين الإجباري عن المرض [أقبح أوجهه قبول فضيحة ما يسمى راميد]، واقتطاع أيام الإضراب في الوظيفة العمومية، والتساهل مع تمرير منع الإضراب والقائمة ليست قصيرة.

 وعلى صعيد النضال من أجل الديمقراطية، بقيت النقابة في حدود إستراتيجية التوافق مع الاستبداد وهي إستراتيجية مقتصرة على اقتفاء آثار أحزاب بورجوازية ناقصة النزعة الديمقراطية. وقد أبان النضال الشعبي، في سياق السيرورة الثورية التي هزت منطقتنا انطلاقا من تونس في ديسمبر 2010، تهافت هذه الإستراتيجية المقتصرة على ضغوط غير مباشرة والمراهنة على انصياع الحاكمين وتبرعهم علينا بالديمقراطية عبر التعاون معهم في مؤسسات زائفة، برلمانا وحكومة. والحاصل أن الاستبداد ازداد توطدا. كما أن سياسة الشراكة الاجتماعية مع أرباب العمل ودولتهم تقضي بتجنب نضال جماهيري متصاعد، خوفا على الاستقرار، وما هو سوى استقرار نظام الاستغلال والاضطهاد والاستبداد. وتفاقـَمَ الميل المحافظ، المتخوف من النضال،  بالتفزيع بمآل  سوريا وغيرها من البلدان التي أدت فيها الثورة المضادة والتدخل الإمبريالي إلى حرب أهلية. والحال أن ما يسبب أوضاع شبيهة بسوريا هو انسداد آفاق تحرر حقيقية، نتيجة إضعاف الحركة العمالية والشعبية من خلال التعاون مع النظام  مما يؤدي إلى تفويت فرص التغيير الذي تبنيه الجماهير بفعلها المباشر، ومن ثمة تمهيد الطريق لليأس المفضي إلى السقوط في مآزق البدائل الأصولية الرجعية والاستبدادية.

لقد انتزع حراك 20 فبراير، ومجمل الدينامية النضالية لعامي 2011-2012 ما لم يتحقق بزهاء أربعين سنة من السعي إلى التفاهم مع أعداء الديمقراطية فيما سمي مسلسلا ديمقراطيا، مسلسل كانت نهايته البائسة ما سمي زورا حكومة تناوب، لم تختلف عما سبقها وأعقبها من حكومات واجهة في أي شيء يخص تطبيق سياسة البنك العالمي المدمرة للمكاسب الاجتماعية والمجهزة على السيادة الوطنية.

تعاني الحركة النقابية اليوم، من حالة ضعف تجعلها دون مستوى التصدي بنجاح للهجوم البرجوازي المتأجج على الطبقة العاملة. فقد أدى غياب نضال موحد، وذي نفس، وأهداف مكتملة، إلى تشتيت الملف المطلبي حسب تطلعات فئوية وجزئية، نتج عنها تفكيك وحدة النضال، والاقتصار على مناوشات تضيع فيها طاقة الكفاح. كما أن نقص الإقدام في صد هجمات صاعقة، وعدم اعتبار توق القواعد إلى تحقيق مطالبها، أدى إلى انسلاخ أقسام من قطاع التعليم لتشكيل تنظيمين وطنيين (المستقلة والهيئة)، وكذا إلى ظهور أشكال تنظيم خارج النقابة، منها تنسيقيات وجمعيات. أشكال تشتغل فيها قوى نضال فتية، دماء كانت ستصب في شرايين الحركة النقابية فتزيدها قوة وإقداما. ولا شك أن تنسيقية الأساتذة المفروض عليهم التعاقد، مثال صارخ عن هذا الواقع الناتج عن عدم فعالية ولا جدوى الخط النقابي السائد. كما أبان عن عقم التنسيق النقابي الفوقي وغياب أية تعبئة فعلية في قواعد الشغيلة لتجسيد الوحدة العمالية الحقيقية في النضالات والمعارك.

تحدق بطبقتنا اليوم مخاطر متعاظمة، سواء فيما يخص قانون الشغل الذي تجري استعدادات، بأوامر من المؤسسات الامبريالية، لمزيد من تفكيكه؛ أو الحماية الاجتماعية التي يستمر مسلسل تخريبها تحت اسم الإصلاح، حيث تستعد إدارة الضمان الاجتماعي لتطبيق ما جرى في تقاعد الموظفين على أجراء القطاع الخاص. وكذا ما يلوح في الأفق من مزيد من النيل من مكاسب تقاعد الموظفين أنفسهم. فضلا عن تشديد الاستغلال والهشاشة على كل الأصعدة، وتخريب ما تبقى من خدمات عمومية، تخريب هو شرط لازدهار تجارة التعليم والصحة وغيرهما من الجرائم الاجتماعية. كما تستعد الدولة البرجوازية لانتزاع سلاح الإضراب من أيدي طبقتنا لمزيد من إخضاعها لفرط الاستغلال والإذلال، وتسعى في الآن ذاته إلى مزيد من إدماج النقابات العمالية في مؤسسات الدولة لقلب دورها من أداة نضال إلى أداة من أدوات تدبير المسألة الاجتماعية المتفاقمة.

هذا في سياق وطني مطبوع بتنامي الاحتجاج الشعبي، الذي بات يتخذ شكل حراك متقدم تنظيما ومطالب، كما حال  الريف وجرادة. وهنا أيضا لابد من الإقرار بأن نقابتنا، ومجمل الحركة النقابية، لم تسع إلى التلاقي مع الحراكات الشعبية من أجل بناء جبهة اجتماعية تصد العدوان البرجوازي، وتحقق مكاسب تحسن أوضاعنا الاجتماعية وتنمي مقدرتنا على النضال. وهذا سلوك متفاقم يتأكد بسلبية الحركة النقابية، لاسيما بالتعليم، إزاء كفاح التلاميذ الذي عشنا قبل أيام ملاحمه غير المسبوقة منذ عقود.

لا مستقبل للنقابة العمالية خارج الارتباط بهموم الشغلية، بمنطق النضال، لا بمنطق الشراكة الاجتماعية أو التوافق مع أعداء الديمقراطية. النقابة أداة كفاح، وليست أداة تدبير للمعضلة الاجتماعية لفائدة المستفيدين من الوضع، ولا أداة توافق مزعوم مع خصوم الديمقراطية. ولا مستقبل للنقابة العمالية سوى بممارسة الديمقراطية في التنظيم وفي النضال، وفي الدفاع عن المصالح الآنية للأجراء وفي الكفاح من أجل مشروع مجتمعي بديل قوامه المساواة والحرية والعدالة الاجتماعية، أي انتفاء استغلال الإنسان للإنسان. وكل تنظيم نقابي ينحرف عن هذه السكة الكفاحية الديمقراطية سيفقد علة الوجود ويلفظه التاريخ.

المطلوب اليوم إعادة بناء الحركة النقابية على أسس كفاحية بتعبئة القواعد العمالية وتوسيع معاركها وتطوير تسييرها الديمقراطي. كما يجب ربط جسور التعاون والتنسيق مع الحركات الاجتماعية المناضلة على مختلف الجبهات (تنسيقية التقاعد والذين فرض عليهم التعاقد، ومختلف تعبئات الشباب، والحراكات ونضالات الأحياء الشعبية والمناطق القروية من أجل العدالة الاجتماعية، إلخ). ففي تلاقي هذه المعارك يمكن بناء ميزان قوى اجتماعي وسياسي يقوي الحركة النقابية في صفوف الأجراء، ويفرض الاستجابة للمطالب.

من أجل تعبئة الطبقة العاملة المهددة بالانحطاط بفعل إلغاء مكاسبها التاريخية، ولهزم المخططات الطبقية الشرسة التي تستهدف عموم الشغيلة، لا بد من خط نقابي قائم على منظور صراع طبقي حازم يحرر الشغيلة من قيود السلبية ويجعلهم سادة القرار بمنظماتهم، ويتيح شروط النقاش الديمقراطي لبلورة خطة نضال  تفضي إلى إضراب عام جماهيري، مرفق بصراع تعبوي فكري وايديولوجي وحملات توضيح للجماهير الشعبية لبناء تحالف عميق بين كافة ضحايا نظام الاستبداد والاستغلال، ووضع عريضة مطالب  يجعل من مواجهة البطالة والهشاشة وفرط الاستغلال والأمراض المهنية والميز ضد النساء وتدهور الخدمات الاجتماعية و خنق الحريات الديمقراطية مطالب عاجلة:

–        حد أدنى للأجور 4000 دهم موحد يشمل القطاع الزراعي، وربط الأجور بالأسعار (السلم المتحرك للأجور)، وزيادة عامة في الأجور بالقطاعين العام والخاص بنسبة تتفق عليها النقابات المناضلة ضمن خطة عمل وحدوي.

–        أوراش كبرى تتيح تشغيل كثيف للشباب وتعويض للمعطلين عن العمل.

–        خفض عدد ساعات العمل فورا إلى 40 ساعة في الأسبوع دون خفض الأجور، ودون رفع وثائر العمل، وعطلة أسبوعية من يومين. ومنع الساعات الإضافية، من أجل خلق مناصب شغل. وقت عمل أقل ليشتغل الجميع، وظروف عمل جيدة.

–        توحيد نظام الحماية الاجتماعية لجميع الشغيلة، وإدماج التعويض عن حوادث الشغل وأمراضه فيه، وإبعاد الرأسمال عن الاستثمار في المجالين.

–        جعل النظام الصحي عموميا بالكامل ضدا على نظام الميز الطبقي القائم والذي يخصص لعموم الشغيلة والشعب الكادح مرافق ليس لها من الصحية إلا الاسم في القرن الواحد والعشرين.

–        توحيد النظام التعليمي وجعله مجانيا وعموميا بما يتلاءم ومصالح الشغيلة وإمكانات البلاد وليس مصالح البورجوازية وأرباحها.

–        تأميم القطاعات الحيوية في النقل والإنتاج وجعلها تحت رقابة منتجيها.

–        تأميم النظام البنكي وجعله خدمة عمومية في خدمة المواطنين وليس البورجوازية

–        سياسة فلاحية من أجل السيادة الغذائية، والحفاظ على الموارد الطبيعية وسياسة حماية للبيئة

إن التدهور  الراهن لميزان القوي الطبقي نتيجة لتضافر هجوم برجوازي مع غياب خط نضال طبقي، وهو ما يشجع البرجوازية ودولتها للسعي إلى الإجهاز على مكاسب عمالية تاريخية. بيد أن قوى النضال الكامنة في طبقتنا، كفيلة لهزم أعدائها وإجبارهم على التنازل على ما يبدو اليوم بعيد المنال. فما يستفيد منه العمال اليوم كان أحلاما في العقود السابقة، وأصبح من بديهيات حقوق الشغلية بفضل كفاحهم.

الشباب العامل، التواق إلى النضال دفاعا عن حقوقه، ومن أجل حياة لائقة، حياة تحرر من الاستبداد والاستغلال، الشباب غير المثقل بهزائم التدبير البيروقراطي للنضالات، هذا هو مصدر أمل وتفاؤل كل مناضلي طبقتنا الأوفياء لمصالحها الآنية والتاريخية

فإلى أمام لبناء حركة نقابية تحمي المكاسب، وتنتزع مزيدا من الحقوق، وتناضل من اجل بديل مجتمعي قوامه الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية.

عاشت الكونفدرالية الديمقراطية للشغل منظمة كفاح طبقي

عاشت الحركة النقابية

 تيار المناضل-ة

24 نوفمبر 2018

 

شارك المقالة

اقرأ أيضا