البروليتاريا والجماهير ذات الوضع البروليتاري

المكتبة22 سبتمبر، 2019

مقتطف من كتاب محمود حسين؛ الصراع الطبقي في مصر…

تقديم جريدة المناضل-ة

ما الفرق بين البروليتاريا وباقي شرائح الكادحين والمفقرين [أشباه البروليتاريا]؟ ما الذي يميز سلوكهما السياسي سواء في ظروف الاستقرار السياسي أو في ظل الهزات الاجتماعية الكبرى والثورات؟ هل يستطيع أشباه البروليتاريا القيام بثورة ضد مجتمع الاضطهاد بشكل مستقل، أم هناك ضرورة لقيادة البروليتاريا لتمرداتهم؟ ما الذي يحكم على تمردات أشباه البروليتاريا ألا تتعدى تنفيسا عن النقمة وتدميرا أعمى يجري إطفاؤه بالقمع الأهوج؟ ما الذي يمنح للبروليتاريا- خاصة الصناعية- تلك القوة لتحويل المجتمع تحويلا ثوريا، عكس باقي طبقات المجتمع الكادحة؟

أسئلة يقدم عنها مقتطف من كتاب “الصراع الطبقي في مصر من 1954 إلى 1970” الصادر في  أبريل ١٩٧١ عن دار الطليعة بيروت”، إجابة مقتضبة ولكن وافية، بناء على منهاج التحليل الماركسي.

***************************

هذا والجماهير ذات الطابع البروليتاري تشكل الأكثرية العددية المطلقة، في الريف كما في المدينة. ومنها تتكون الطبقة الراسفة في أشد ألوان الفقر وأشرس أنواع القهر، لأن أعضاءها بعد أن خرجوا من تحت ربقة العلاقات الإقطاعية التي كانت تشدهم إلى الأرض وإلى مالكها، لم يجدوا، في الريف ولا في المدينة، طبقة رأسمالية قادرة على استخدام قوة عملهم استخداما يمت إلى الثبات بصلة قريبة أو بعيدة.

فهناك الفلاحون بلا أرض، أولا، وهم مجردون تماما من كل إمكانية للعمل المستقل ولا يملكون وسيلة للعيش سوى بيع قوة عملهم- كعمال زراعيين أو شغيلة متنقلين في الريف (عمال التراحيل). وهم لا يعملون إلا على نحو يطغى عليه عدم الانتظام والطابع الجزئي طغيانا شديدا. وهم يمثلون ثلاثة أرباع سكان الأرياف.

وهناك الفلاحون الذين يملكون بضعة قراريط ثانيا (القيراط = 1 على 24 جزء من الفدان)، وهذا يعطيهم بعض الامتيازات القليلة الشأن على الفلاحين المعدمين تماما، لكنه لا يوجد فارق ذا مغزى بين هؤلاء وأولئك، لأنهم، جميعا، لا يستطيعون تأمين الجانب الجوهري من معيشتهم إلا ببيع قوة عملهم. وهذه الفئة تشكل حوالي %6 من سكان الأرياف.

هذا الجمهور الذي يشكل أغلبية الفلاحين الساحقة ليس خالي الوفاض من كل علاقة بالملكية فحسب، بل إنه لا يجد لقوة عمله- وهو لا يملك ما يبيعه سواها- شارين ثابتين، في إطار الانتقال المحجوز إلى الرأسمالية. هكذا يبقى ثلثا قوة العمل هذه دون استخدام، ويخضعان، في ظل هذه الشروط، لأشد الضغوط وحشية من قبل المستخدِمين.

انطلاقا من هذا الجمهور الذي فرض عليه بؤس لا يحتمله أكثر البرجوازيين الصغار فقرا، تكون، في النهاية عبر تيار هجرة قوي، جمهور معدم في المدينة، مجرد من كل رأسمال ومن كل وسيلة للعمل، وهو، فوق ذلك، لا يعثر على مستخدم ثابت لقوة عمله، فإذا به يقع من جديد على جملة الأوضاع التي حاول أن يتقيها حين هجر الريف، من عدم أمان وعدم استقرار.

هذا الجمهور ظل غير مندمج- وظل ثلثاه، هنا أيضا دون استخدام- لكن مستواه بات، نسبيا، أقل بؤسا مما كان عليه في الريف لأن المدينة تحتوي من إمكانات العمل الهامشي أكثر بكثير مما يحتويه الريف. أولئك هم الأجراء غير المهرة، المتعاطون أحقر أنواع العمل عند أي مستخدِم صغير (مثالهم خادم المقهى أو صبي الحلاق أو صبي الدكان إلخ…)، أو هم الشغيلة العاملون مؤقتا في المشاريع الرأسمالية (مشاريع البناء، خاصة)، أو هم الباعة المتجولون ومعهم ألف سلعة وسلعة، أو هم الخدم وحراس البنايات. وأخيرا فإن هذا الجمهور هو الذي يخرج من بين جنباته تلك العناصر المستعدة لألوان من العمل مخالفة، قليلا أو كثيرا، للقانون.

هؤلاء جميعا يشكلون أكثر من نصف سكان المدن. ووضعهم الطبقي مشابه في أساسه، لوضع الجماهير الريفية ذات الطابع البروليتاري، وهم فوق ذلك يحافظون على صلات قرابة أو تضامن معها وعلى وشائج تشدهم إلى مناطقهم الأصلية (هذا استثناء أقلية من الخدم وحراس البنايات والمستلزمين الذين ارتبطوا ارتباطا ثابتا بسادتهم وتحولوا إلى زوائد للطبقة التي ينتمي إليها هؤلاء السادة).

عليه فإن الجماهير ذات الطابع البروليتاري في الريف وفي المدينة، تشكل أغلبية الأمة المصرية. لذا فإن مجمل وضعها وسماتها الطبقية ومخزونها الثوري، تمسي عناصر حاسمة من السياق الثوري في مصر، ويمسي من المستحيل حتما إدراك قوانين الثورة المصرية دون فهم هذه العناصر. 

ونحن نصف هذه الجماهير بأنها “ذات طابع بروليتاري” ولا نسميها بروليتارية، لأن وضعها يعبر، في أحد قطبي المجتمع، عما يعبر عنه وضع الطبقة المحلية المسيطِرَة في القطب الآخر، أي الانتقال المحجوز.

فكما أن الطبقة المسيطِرَة سائرة في طريق التحول الرأسمالي دون أن يكون في وسعها أن تصبح رأسمالية، كذلك فإن هذه الجماهير هي في طريق التحول إلى بروليتاريا [بفعل الانتقال المحجوز] دون أن يكون في وسعها الانضمام إلى البروليتاريا لأن النظام السائد عاجز عن استيعابها في سياق إعادة الإنتاج الموسعة لرأس المال.

وإن فهم هذا المعطى وفهم مضامينه الاجتماعية لأمر كبير الأهمية. ذلك أن الوضع الطبقي للجماهير ذات الطابع البروليتاري له من السمات الخاصة ما يميز هذه الجماهير عن البروليتاريا، بالمعنى الحصري.

فالجماهير ذات الطابع البروليتاري، في الريف، على وجه التخصيص، لا يمكن اعتبارها جيشا بروليتاريا في حالة بطالة وذلك لأسباب تتعلق بالبنية الفوقية والبنية التحتية في آن معا.

فهي من وجهة النظر الأيديولوجية والسياسية لم تنتزع بعد جذريا من محيط كبار الملاكين، ولم تتحرر بعد جذريا من نظام القيم الإقطاعية (من مظاهر الاحترام ومن التقاليد ومن بوادر الحياة اليومية المتعلقة بنظام الدونية والتبعية الشخصية للدولة ولكبار الملاكين المحليين) أي من نظام القنانة الخاص بمصر.

وعليه فإنها لم تصبح بعد نهائيا غير قابلة لكل شكل من أشكال الاستغلال السابقة على الرأسمالية ولكل شكل من أشكال القهر غير الاقتصادية. بل هي، على العكس من ذلك، قابلة لاستغلال من هذا النوع. فنظام التبعية والانتقال المحجوز هو الذي لفظها، أما هي فلم تعلن رفضها لشرعيته. تلك هي نتيجة السياق التاريخي المتمثل في تحولات تدريجية قامت بها الطبقة المسيطِرَة نفسها، دونما هزة عنيفة ودون أي مشاركة من قبل الجماهير الكادحة.

من هنا كانت عناصر هذه الطبقة، حينما تجد عملا- لبضعة أيام أو لبضعة أسابيع- لا تجده في إطار مؤسسة قائمة على الآلات أي رأسمالية بالمعنى الحصري، يتخذ الاستغلال فيها صورة علاقة اقتصادية محضة، فيستطيع العمال، إذ ذاك، أن يدركوا إوالاته، ويتحول الإنتاج الفردي فيها إلى إنتاج جماعي، فيصنع، بهذا التحول، الأشكال الأولية من التضامن العملي.

أما من وجهة النظر الاقتصادية، فإن هذه العناصر لا تبيع بالتالي “قوة عملها”- بمعنى العبارة الدقيق، أي بما هي سلعة معروضة في سوق حرة- و”الأجر” الذي تقبضه لا يقابل فعلا قيمة هذه القوة، أي القيمة الضرورية لإعادة إنتاج هذه القوة بانتظام.

ذلك أنه لما كانت علاقات الإنتاج الرأسمالية لم تتبلور بعد في الريف، فإن كبار الملاكين يواصلون فرض قوانين غير اقتصادية على النشاط الاقتصادي، ويواصلون استعمال الوسائل الأيديولوجية والسياسية التي يمتلكونها لإجبار الجماهير الريفية ذات الطابع البروليتاري على القيام بنمط من العمل هو أقرب إلى ما تقوم به السوام منه إلى ما يقوم به العمال، ولفرض كمية غير عقلانية من العمل على هذه الجماهير- بمعنى أنها تؤدي إلى إنهاك القوى الجسدية لديها إنهاكا مبكرا- وذلك في الحين الذي لا يدفع فيه هؤلاء الملاكون إلا “أجورا” تساوي ما هو أقل من القيمة اللازمة لإعادة إنتاج هذه القوى الجسدية.

لذا فإن شروط معيشة الجماهير المعدمة شروط لا تحتمل، والبؤس والجوع والمرض والموت هي نصيبها اليومي. فهي تدبر أمر معيشتها كيفما اتفق لها ذلك، يوما فيوما، من الأعمال المشروعة أو غير المشروعة.. من الفتات. وحينما تكون التشكيلة الاجتماعية في مرحلة الاستقرار النسبي، لا تعدو هذه الجماهير أن تتمسك بتلابيب الحياة وتبدو في الخارج عاجزة عن القيام بأي مبادرة سياسية من أي نوع كان. في ظل هذه الأحوال تعتمد الجماهير المذكورة أيديولوجية الذل في مواجهة الأجنبي والخضوع في مواجهة الملاكين الكبار، بل في مواجهة كل ملاك. فتمسي بذلك كمية هائلة مهملة مستعدة للقيام بأي عمل لقاء لقمة خبز.

لكن هذه الجماهير نفسها حينما تثور في فترة تضطرب فيها التشكيلة الاجتماعية أو تفقد تماسكها، تكون في طليعة الحركات الجماهيرية وقوى الرفض والتدمير. ذلك أن الجماهير ذات الطابع البروليتاريا- وهذه هي خاصتها الأساسية- تعيش، إلى حد ما، على هامش المجتمع “المحترم”. فهي، لكونها غير مندمجة فيه، تبقى بالضرورة، خارج الشبكة الثابتة المنتظمة من العلاقات الطبقية بين المستغلِين والمستغَلين. وهي بالتالي أضعف صلة من الطبقات الكادحة الأخرى- وبينها البروليتاريا الصناعية- بنظام القيم الشرعية الذي تتأبد في داخله علاقات الاستغلال: فإنها- هذه الجماهير- تمتاز بقلة استجابتها لما تبديه الطبقات المسيطِرَة من ديماغوجية إصلاحية ولا تدع لهذه الطبقات وسيلة تشل بها مبادرة من جانبها إلا وسيلة القمع العنيف. ثم إن هذه الجماهير حينما تستيقظ، في مرحلة يضطرب فيها حبل الاستقرار الاجتماعي يكون عدم استعدادها للتسامح في شأن العزة القومية على قدر خضوعها السابق في مرحلة الاستقرار الاجتماعي، فالهوة الطبقية الفاغرة التي تفصلها عن المحتلين، عن نمط عيشهم وامتيازاتهم. تجعل كل حوار وكل تسوية بين الفريقين أمرا محالا. فحين تنطلق الجماهير ذات الطابع البروليتاري من عقالها يكون حقدها الوطني دون شائبة ويكون شعورها بكبريائها القومي على قدر الذل الذي عانته طويلا ونفضته عنها أخيرا.

والجماهير ذات الطابع البروليتاري هي بهذا المعنى معادية تماما لجميع الطبقات المستغِلة من أجنبية ومحلية، وهي، في الوقت نفسه محصنة ضد جميع أشكال التنظيم السياسي الشرعية التي تحاول هذه الطبقات عبرها أن تمتص حركة الجماهير الثورية وأن تبعدها عن الطريق الجذري العنيف.

لذا فإن هذه القوة الطبقية ملفوظة خارج النظام القائم. واقعة تحت القمع، على يده، وهي، في آن معا، تعي انتماءها إليه. وهذا ما يجعلها تشكل قوة قادرة على إدانة هذا النظام مباشرة وعلى مواجهة العنف بالعنف، أي أنها قوة ثورية مخزونة ذات قدرة على التمرد وعلى التدمير الثوري، فريدة الارتفاع. وهي بالإضافة إلى ذلك تعتبر، لكونها قوة طبقية أكثرية وموجودة في كل مكان، القاعدة الشعبية الوحيدة ذات الامتداد الكافي، لقيام حركة ثورية جذرية، حركة تنزع إلى تحطيم نظام التبعية والانتقال المحجوز.

بيد أن الصفات الطبقية المشتركة بين كل الجماهير ذات الطابع البروليتاري تمتزج مع صفات خاصة تميز الجمهور الريفي- الخاضع لضغط إضافي من الأيديولوجية الإقطاعية- عن الجمهور المديني- الذي يزيد افتقاده للجذور من حدة عدم استقراره وتزيد الحياة في المدينة من حدة قدرته على التمرد.

هاتان الفئتان قدمت كل منهما، على طريقتها الخاصة، أعنف ما عرفه التمرد الشعبي من مبادرات. فمنذ ثورة 1919 كانت الجماهير غير المستقرة في المدن هي التي تقف على رأس التظاهرات الكبرى وهي التي تهجم قبل سواها على قوات الشرطة وهي التي تحول الاحتجاج إلى انتفاضة، كذلك كانت الجماهير الريفية هي التي تحض القرى على العصيان وهي التي تبدأ قبل سواها بتخريب المواصلات، وهي التي تنشئ الأشكال الأولى- العابرة- من الحركات السياسية المقطوعة الصلة بالسلطات القائمة. ونحن سوف نرى هذه الجماهير نفسها، بعد الحرب [العالمية] الثانية، في الخطوط الأمامية أيضا من العاصفة الشعبية.

لكن وضع هذه الجماهير غير المستقرة ذات الطابع البروليتاري ينطوي على أعراض ضعف خطيرة. فهي عاجزة، من تلقائها، عن تنظيم نفسها سياسيا على امتداد البلاد، لأن ما يتصف به نمط حياتها من عدم الثبات والتقلب (لكونها غير مرتبطة بشكل ثابت من أشكال الإنتاج الاجتماعي)، ولا يشجع على توحيدها، بل هو، على العكس من ذلك، يشجع تفتتها إلى أفراد أو جماعات عائلية وعشائرية، أي أنه، بكلمة واحدة، يضعها والتنظيم على طرفي نقيض.

وأكثر أشكال التنظيم غير الشرعي أصالة، في الريف، هو شكل عصابات الأشقياء الشعبية التي تفرض الجزية على أكثر السكان ثراء وتعتمد، في أحيان كثيرة على ما تبديه لها الجماهير الريفية، في المنطقة، من تعاطف. لكن حركات التمرد المعزولة التي تنفجر، في ظل هذه الشروط، أو هي تنذر بالانفجار، ما تلبث- في غياب العمل السياسي الجماهيري- أن تخنق دون أن تستثير شكلا ما من أشكال التضامن على الصعيد الوطني.

والحال أن حركات التمرد المحدودة نسبيا، في قلب هذه الطبقات وحدها، لا تستطيع أن تهز نظام الاستغلال هزا عميقا، ذلك لأن جمهورها غير مرتبط عضويا (شأن الحركة العمالية مثلا) بسياق الإنتاج أو بسياق التوزيع. ولا تمسي قوة هذه الحركات تشكل خطرا جذريا على الطبقات المستغِلة إلا بمقدار ما تقوم الصلة بينها وبين الحركة العمالية الصناعية وبمقدار ما تتوصل هي نفسها إلى مدى معين من الاتساع.

لكن هذه الصلة في النضال ضد القهر بين الجماهير المذكورة والبروليتاريا الصناعية أمر يصعب جدا حصوله عفويا- وهو لم يحصل إلا على نحو عابر في أوقات الغليان الثوري الشديد- وذلك بسبب الانفصال القائم بين الفريقين من حيث شروط العمل وبسبب الفارق القائم بين نمطين من اللغة اليومية، على الرغم من الوشائج التاريخية والشخصية والمحلية. أما الصلة بين هذه الجماهير وبين البرجوازية الصغيرة- المثقفين التقدميين، خاصة- فهي مستحيلة عمليا ما دام هؤلاء لا يبذلون الجهد الحازم لتجاوز الهوة الفاصلة بينهم- بوصفهم من “الثوريين ذوي الأيدي النظيفة”- وبين الجماهير ذات الطابع البروليتاري- التي يواجهون فقرها بالقرف بينما يفقدون صوابهم ويهلعون أمام صبرها الذي يتحول، في مرحلة التمرد، إلى قدرة على العنف الشامل.

أما البروليتاريا الصناعية، فهي لا تشكل إلا %10 من سكان المدن و%3 من مجموع السكان، لكنها تحتل مكانا فريدا في المجتمع. فهي من ناحية مقطوعة الصلة مع الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وهي من ناحية مستوعَبة في وحدات إنتاج مركزة أو مركزة نسبيا، ومتصلة بوسائل إنتاج ميكانيكية واجتماعية. وهي قادرة على القيام بنشاط جماعي خلاق، لأنه ليس ثمة من ملكية خاصة تشق صفوفها ولأن الشروط التي تعيش في ظلها وتنتج، شروط جماعية قليلة التمايز. لذا فهي ليست معادية، في صلب حياتها، لكل شكل من أشكال الاستغلال فحسب، بل هي قادرة أيضا على تجاوز الفردية التي تبثها الثقافة المسيطِرَة وعلى إبراز الصفات الضرورية لتمرد الجماهير الناجع على الاستغلال، من أولوية مصالح المجموع على مصالح كل فرد، إلى وجهة النظر الشاملة إلى القدرة على التعميم وعلى إنماء تجربتها وتجربة الطبقات الأخرى من الشعب.

هذا وهي الطبقة الوحيدة التي تملك إمكانية الاحتكاك المباشر بطبقات الشعب الأخرى. فهي بوصفها طبقة مجردة من كل وسيلة عمل، على الإطلاق، قادرة على الوصول إلى الجماهير العريضة غير المستقرة ذات الطابع البروليتاري في الريف وفي المدينة. وهي بوصفها طبقة كادحة، قادرة على الوصول إلى البرجوازية الصغيرة التي تتعاطى العمل اليدوي، وهي بوصفها طبقة داخلة في نشاط إنتاجي جماعي وحديث (قائم على الآلات) ومدفوعة، بالتالي، إلى المعرفة العلمية لقوانين الطبيعة والمجتمع، قادرة على الوصول إلى المثقفين. وهي تملك أخيرا تراثا غنيا من النضالات المعادية للإمبريالية وللرأسمالية يعود إلى بداية القرن. فهي لم تكن في المواقع الأمامية من الحركة الوطنية عام 1919 فحسب، بل وضعت موضع التنفيذ أيضا، عام 1924، شكلا من أشكال النضال الجذري لم يكن معروفا حتى ذلك الحين، ألا وهو احتلال المصانع في طرة والاسكندرية والزقازيق. وهي قد دفعت من دمها ثمنا لكل تعبير ذي شأن عن إرادتها السياسية أو الاقتصادية. على هذا فإن وعيها الطبقي، عند نهاية الحرب يضعها في طليعة النضالات الوطنية والديمقراطية.

والخلاصة أن البروليتاريا والجماهير المعدمة في الريف وفي المدينة كانت موجودة في وضع مشترك، في جوهره، تجاه نظام التبعية والانتقال القائم: فهي الطبقات التي يقهرها هذا النظام أو يستغلها مباشرة. ومصالحها الطبقية متناقضة تناقضا مطلقا مع هذا النظام.

وهي من ناحية ثانية لا تستطيع توقع أي تغير في وضعها الطبقي، داخل إطار الطريق الرأسمالي، فالتغييرات كلها ذات طبيعة كمية، تبقي على هذه الطبقات مقهورة مستغَلة… (نسبة أكبر من العمل المأجور أو تحسين في الشروط العامة لهذا العمل، إلخ…).

هذه الطبقات هي إذن قوى تغيير جذري، وهي ثورية بمعنى الكلمة الرفيع وهي تنطوي، بحكم وضعها الطبقي ومصلحتها وصفاتها الطبقية، على ما يؤهلها متى دعمتها البرجوازية الصغيرة التقدمية، لكنس النظام المسيطِر بدءا ببنيته الأيديولوجية الفوقية المؤسسة على الذل الوطني.

إلا هذه الكوامن لا تستطيع أن تتحقق إلا بمقدار ما تتقدم الطبقات المذكورة في ممارستها لوحدتها النضالية وفي وعيها لمصالحها الأساسية ولقدراتها الثورية المشتركة.

والحال أن هذه الوحدة، في تركيب مرحلة ما بعد الحرب، لم تكن قائمة. وكانت هذه الطبقات، التي انطلقت، بعدها، بتصميم متعاظم، في طريق الحركة الوطنية الديمقراطية، مفتقرة إلى التماسك وإلى وجهة النظر الشاملة، وإلى الإمكانات التنظيمية ذات الطابع الشعبي فعلا. لذا فإنها لم تجد أغراضا مشتركة لحملتها سوى أشد جوانب النظام القائم بروزا وأقربها إلى ممارسة القمع (أي جيش الاحتلال ومزارع الأرستقراطية ثم القصر الملكي أخيرا) ولم تتعرض لإوالات النظام الداخلية.

لذا أيضا بقيت كل من هذه الطبقات، نسبيا، أسيرة محيطها السياسي- الاجتماعي، فانعزلت نسبيا عن الأخريات. ولقد التحقت بالبروليتاريا فروع من البرجوازية الصغيرة الكادحة والمثقفة، لكن غاية ذلك كانت النضال داخل إطار بقي في جوهره شرعيا. كذلك تمردت الجماهير ذات الطابع البروليتاري في الريف واتخذ تمردها أشكالا ثورية عنيفة، لكن تمردها ظل موجها، خاصة، ضد أكثر أشكال الاستغلال والقهر رجعية، والتحقت الجماهير ذات الطابع البروليتاري، آخر الأمر، بهذا التمرد، واتخذ تمردها أشكالا جذرية، لكنها فوضوية، فلم تتمكن سائر الطبقات الأخرى، في المدن، من تفهمها.

************************

محمود حسين اسم مستعار اختاره الكاتبان المصريان عادل رفعت وبهجت النادي ليتم نشر إنتاجهما الفكري تحته، ولد عادل رفعت عام 1938 في الأسكندرية بينما ولد بهجت النادي عام 1936 في مركز فارسكور في محافظة دمياط.

شارك المقالة

اقرأ أيضا