ملف موقع المناضل-ة حول ثقافة وفن

ثقافة و فن13 يناير، 2015

ضمن الملف نصوص وإبداعات: للتحميل، culture pdf   أو wodr الثقافي
===============

مكسيم غوركي

الاربعاء 12 كانون الأول (ديسمبر) 2012
مكسيم غوركي (1)
بقلم ليون تروتسكي

توفي غوركي (2) فيما لم يعد لديه ما يقول. هذا ما يجعل ممكنا تقريبا تحمل وفاة كاتب كبير خلف تأثيرا عميقا على تطور فئة المثقفين الروسية و على الطبقة العاملة الروسية في أثناء السنوات الأربعين الأخيرة.

بدأ غوركي مساره الأدبي شاعرا متشردا. وكان ذلك أفضل حقبه فنانا. و من الأعماق، كان يمد فئة المثقفين الروسية بروح الجرأة، والشجاعة الرومانسية للشعب الذي ليس لديه ما يخسر. كانت فئة المثقفين الروسية تستعد لتحطيم أغلال النظام القيصري. و كانت بحاجة للجرأة. ونقلت هذه الحالة الذهنية إلى لجماهير.

في خضم أحداث الثورة، لم يكن ثمة مع ذلك مكان لمتشرد حقيقي، ما عدا في السرقة والمذابح ضد اليهود. وفي كانون الأول/ديسمبر 1905، التقت البروليتاريا الروسية في تعارض مع فئة المثقفين الراديكالية التي كانت تحمل غوركي على أكتافها. تصرف غوركي بصدق ونزاهة. وكان ذلك بطريقة إقدامه عليه جهدَ أبطال. إذ انحاز إلى البروليتاريا. وكانت ثمرة ذاك التحول الهام رواية الأم (3). كان أفق أرحب انفتح للكاتب وبدأ التنقيب على نحو أعمق. لكن لم يكن التكوين الأدبي ولا السياسي ليحلا محل العفوية الرائعة لمرحلته المبدعة الأولى. برز لدى المتشردالطموح ميل إلى التفكير الهادئ. و بدأ الفنان يعتمد أسلوبا تعليميا. وفي إبان سنوات الردة الرجعية، كان غوركي ممزقا بين الطبقة العاملة، التي غادرت آنذاك الساحة السياسية المفتوحة، وبين ما كان له عدوا-صديقا، أي فئة المثقفين الروسية، التي اكتشفت حينها حماسا جديدا للدين. و رفقة الراحل لوناتشارسكي، اعترف غوركي بفضائل موضة التصوف. و بمثابة نصب تذكاري لاستسلامه الروحي، كتب روايته الرديئة بعنوان اعتراف (5).

كانت أعمق سمات بنية هذا العصامي الخارق ولعه الشديد بالثقافة. يبدو أن لقائه الأول-المتأخر- مع هذه السيدة العظيمة قد صدمه بعمق مدى الحياة. كان ُيعوز غوركي التكوين الثقافي الضروري والحدس التاريخي اللذين قد يتيحا له المسافة الملائمة إزاء الثقافة ويمنحاه ما يقتضيه تقييم نقدي من حرية. كان ثمة دوما في موقفه إزاء الثقافة قدر ما من تقديس أعمى وعبادة.

واجه غوركي الحرب بشعور قلق على القيم الثقافية للإنسانية. لم يكن أمميا بقدر كبير، بل كوزموبوليت (مواطن عالمي) في مجال الثقافة، كوزموبوليت روسي حتى النخاع مع ذلك. لم يتمكن قط من بلوغ رؤية ثورية للحرب ولا فهم جدلي للثقافة. مع ذلك كان متقدما كثيرا عن الأخوية الثقافية الوطنية لذلك العصر.

استشعر ثورة عام 1917 على منوال مدير متحف ثقافي، تقريبا. إذ كان قلقا. ارتعب من «فظاظة الجنود والعمال الرافضين العمل». انضم إلى فئة المثقفين اليسارية، التي كانت تقبل الثورة بشرط خلوها من أوجه الفوضى. كان عدوا صريحا لثورة أكتوبر، ولكن عدوا سلبيا.

لقي غوركي صعوبة في التعود على انتصار أكتوبر. كانت الفوضى تعم البلد. و فئة المثقفين تكابد الجوع والاضطهاد. و الثقافة في خطر أو بدت كذلك. و في خلال هذه السنوات، بدا غوركي بوجه خاص وسيطا بين السلطة السوفييتية والمثقفين القدامى. كان محاميهم أمام محكمة الثورة. و كان لينين، الذي كان يحبه ويقدره كثيرا، يخشى جدا أن يغدو ضحية علاقاته و ضعفه، و وُفـّق في آخر المطاف إلى مغادرة الكاتب البلد بطيب خاطر.(6)

لم يتصالح غوركي مع النظام السوفيتي إلا بعد انتهاء «الفوضى»، وتجلي تطور اقتصادي وفكري بالبلد. و استحسن بحماسة اندفاع الجماهير العظيم نحو التعليم. و امتنانا بذلك، استدرك مباركته لثورة أكتوبر.

و لا ريب أن حقبة حياته الأخيرة كانت طور أفوله. لكن هذا الأفول ذاته كان قسما طبيعيا من مسار حياته. آنذاك أتيحت لنزعة التلقين لديه أهم فرصها. فأصبح الاستاذ الذي لا يكل للكتاب الشباب، وحتى للتلامذة،. لم يكن ما يُعلمه صائبا دوما، لكنه كان ينهض به بصبر صادق وشهامة خالصة عوّضا كثيرا عن صداقته الوثيقة للبيرقراطية. و تعايش مع تلك السمات فائقة الإنسانية، وحتى هيمن عليها، انشغاله السابقة بالتقنية والعلم والفن. كان «الاستبداد المستنير» في تفاهم تام مع خدمة «الثقافة». كان غوركي يظن فعلا أن لا جرارات ولا خطط خماسية، وبخاصة لا مطابع و لا ورق، إلا بوجود البيروقراطية. لذلك كان يغفر لها رداءة ورقها وحتى البيزنطية المَرَضية لما سمي ثقافة «بروليتارية».

كان معظم المهاجرين البيض يمقتون غوركي، و يعتبرونه «خائنا». لكن مكمن تلك الخيانة بوجه الدقة لم يكن واضحا. هل اُعتبروه خائنا لمثال الملكية الخاصة ؟ إن حقد ذوي الامتيازات سابقا كان يمثل إشادة بحق بهذا الرجل العظيم ومدحا له.

تقوم الآن الصحافة السوفييتية بتكديس جبال مديح على جثته الدافئة بعدُ. و تصفه بـ «العبقري» حتى. لا بل بـ « العبقري الأعظم ». لا شك كان غوركي استهجن هكذا مدائح. لكن للصحافة التي تخدم الرداءة البيروقراطية معاييرها. فإن كان واجبا رفع ستالين وكاغنوفيتش وميكويان (7) إلى مقام العباقرة وهم أحياء، فلا يمكن بالطبع رفض هذا النعث لغوركي وقد توفي. سيدخل غوركي تاريخ الأدب الروسي بما هو نموذج لا جدال فيه ومقنع لموهبة أدبية عظيمة لم تصل مع ذلك إلى درجة إلهام العباقرة.

طبعا، ُتضفى اليوم بموسكو على الكاتب المتوفى صفة ثوري حازم و«بلشفي صلب». هذا مجرد افتراءات من البيروقراطية. فقد انضم غوركي إلى البلشفية في حوالي العام 1905 مع غيره من رفاق الطريق الديمقراطيين. و انصرف معهم، دون أن يهجر مع ذلك صداقاته الشخصية مع البلاشفة. ولم يلتحق بالحزب سوى في أثناء الترميدور السوفييتي. و إن عداءه للبلاشفة في إبان ثورة أكتوبر والحرب الأهلية، وكذا مساندته للبيروقراطية التريمودورية برهان جلي جدا على أنه لم يكن ثوريا قط. صحيح مع ذلك أنه كان يدور في فلك الثورة. ومشدودا إليها بقانون الجاذبية المحتوم، دار طوال حياته كلها حول الثورة الروسية. و مثل كل الأقمار التابعة، كان ذا «أوجه». كان نور شمس الثورة يضيء أحيانا وجهه، و يحط أحيانا على ظهره. ولكن، خلال هذه الأطوار كلها، كان غوركي وفيا لنفسه، وطبعه الخاص، بالغ الثراء، والبسيط والمعقد في الآن ذاته. نحن نودعه دون مسحة مودة، ولا عبارات مديح زائدة، لكن باحترام وامتنان. لقد خلف الكاتب العظيم والرجل العظيم بصمته على حقبة من التاريخ. و أسهم في رسم سبل تاريخية جديدة.

تروتسكي (9 تموز/يوليو 1936)

المصدر:

Œuvres – Léon Trotsky Volume 28

Juin 1936 à Juillet 1936

Paris EDI 1981

تعريب: المناضل-ة

إحالات

(1) يوجد أصل هذا النص بمكتبة كوليج هارفارد، تحت رقم T 3937، و T 3938. صدر في نشرة المعارضة عدد 51، تموز-آب/يوليو-أغسطس عام 1936. مترجم عن الروسية.

(2) أليكسي مكسيموفيتش بيشكوف Alexei M PECHKOV، المسمى مكسيم غوركي (1868-1936). اشتهر،بعد طفولة بائسة ، كاتبا روائيا عظيما. تعاطف مع الحزب البلشفي على نحو متقطع، و أشرف على جريدة منشفية عام 1917. ابتعد عن النظام، و استقر في ايطاليا عام 1921، ثم عاد منها عام 1928، متكافلا على نحو ما مع دكتاتورية ستالين. كان قد توفي بموسكو عند كتابة هذا النص.

(3) كان غوركي ذا سمعة عالمية حين كتب رواية الأم عام 1907.

(4) أناتولي فاسيليفتش لوناتشارسكي Anatoli V. LUNATCHARSKY (1873-1933) ناقد أدبي، كان بادئ ذي بدء مع البلاشفة قبل القطع معهم و تشكيل –رفقة بوغدانوف وغوركي- تكتل يساروي حول جريدة ! Vpered (إلى الأمام). وكان التحق بالبلاشفة عام 1917.

(5) نشرت رواية اعتراف عام 1908.

(6) تلميح إلى السنوات السبع التي قضاها غوركي في ايطاليا.

(7) لازار ب. كوغانوفيتش Lazar P. KOGANOVITCH الملقب كاغانوفيتش (ولد عام 1893)، عامل اسكافي، بلشفي عام 1913، ارتبط بستالين خلال في أثناء الحرب الأهلية، ثم ارتقى مساره في جهاز الحزب. كان أمين عاما للحزب بموسكو وأحد زعماء النظام.

أنستاس إيفانوفيتش ميكويان Anastas I. MIKOYAN (1895-1971)، من أصول برجوازية، وبلشفي عام 1915، كان عضوا بالمكتب السياسي.

شارك المقالة

اقرأ أيضا