سبُل النّضال ضدّ تفكيك المدرسة والوظيفة العُمُوميّتين

نص المُداخلة التي شاركت به جريدة المناضل- ة في الندوة التي نظمتها التنسيقية الإقليمية للأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد- مديرية شيشاوة، تحت عنوان “التعاقد، قانون الإضراب، القانون الإطار… توالي الهجمات على المدرسة العمومية وسبل المواجهة”، يوم 08 ديسمبر 2019.

مقدمة منهجية

عندما نُحاكم سياسات الدولة علينا تفادي محاكمتها بناء على ما تُصرحه به من نوايا وما تدبجه في مخططاتها، من بنود غايتها خداع الكادحين بإخفاء الأغراض الحقيقية لسياساتها. ليس تعميم التعليم الإلزامي ولا تحقيق الجودة والإنصاف غايات الدولة لما تسميه “إصلاحا”، الإشكالات الرئيسية للدولة هي:

التوازنات المالية: أو تقليص عجز الموازنة، وهو أحد البنود الرئيسية لوثيقة “إجماع اوشنطن” التي أطرت الهجوم النيوليبرالي منذ ثمانينيات القرن العشرين. غاية هذا البند هو: كل النفقات العمومية التي لا تدخل في إطار دعم القطاع الخاص وأداء الديون الخارجية وجب تقليصها إلى أقصى حد ممكن [نفقات الخدمات العمومية والاجتماعية، الشتغيل…]. لذلك أقر الميثاق الوطني وصادق القانون الإطار على صيغة “تنويع مصادر تمويل” التعليم.

نزع الضبط والتقنين عن أوضاع الشغل وإضفاء الهشاشة عليها: عبر فرض شتى أشكال العمل المرن والجزئي، للقضاء التوظيف العمومي الممركز الضامن للعمل القار. لذلك جرى إقرار صيغة “تنويع الأوضاع القانونية” للشغيلة، وفي هذا الإطار اعتمدت “التوظيف بموجب عقود” واقتراح “التوظيف العمومي الجهوي”.

كيفية تدبير تنزيل هذه الهجمات بأقل كلفة اجتماعية وسياسية ممكنة، وفي هذا الإطار تستعمل الدولة كل أساليب المناورة والخداع (الوساطة، “الحوار الاجتماعي) والتشويه الإعلامي انتهاء بالقمع.

لكل هذا فإن محاكمة مخططات الدولة بنقاش تفاصيلها يجرنا إلى القبول بها ضمنا، والسقوط في خدعة “فشل إصلاح التعليم” التي تروجها مؤسسات الدولة ذاتها. “الإصلاح” لم يفشل بل حقق غاياته الكبرى: تقليص مساهمة الدولة في تمويل التعليم العمومي وتوسيع دائرة الأداء، نمو سرطاني للقطاع الخصوصي، فرض التعاقد على الشغيلة… إلخ.

يهدد منظور محاكمة الدولة بناء على ما تقوله بحصر اهتمامنا في تفاصيل الهجوم وحصرنا داخل رؤية قطاعية، لا تضعه في سياقها العام، ولا تمكننا من إدراك حجمه وبالتالي إدراك حجم المقاومة والمجابهة التي يستدعيها.

تفكيك المدرسة والوظيفة العموميتين: حلقة ضمن هجوم برجوازي واسع

يدخل هذا الهجوم متعدد الجبهات في إطار سعي البرجوازية ودولتها- وبإيعاز من مؤسسات الرأسمال العالمي- لتفكيك المكاسب الشعبية التي أتاحها ميزان قوى دولة ما بعد الاستقلال الشكلي:

+ التراجع عن التوظيف العمومي وكل أشكال العمل القار، وفرض أشكال العمل الهش، مثل المقاولة من باطن والعمل بعقود محددة المدة في القطاع الخاص، التدبير المفوض، التعاقد في الوظيفة العمومية.

+ ضرب الطابع العمومي والمجاني للخدمات العمومية والاجتماعية، وإقرار الخدمة مقابل الأداء [التعليم، الصحة].

+ تفكيك ملكية القطاع العام بعد دفعها إلى الإفلاس وبيعها إلى الخواص [القناة الثانية، المكتب الوطني للماء الصالح للشرب والكهرباء..].

هذا هو سياق الهجوم على المدرسة والوظيفة العموميتين، وعزله عن هذا السياق يعني عدم إدراك الحجم الحقيقي للتحدي الذي يواجه الشغيلة والكادحين في الدفاع عن هذه المكاسب المتبقية واسترجاع تلك التي انتزعتها البرجوازية ودولتها.

ما هي سمات النضال والمقاومة الجاريين؟

لماذا يعجز النضال الجاري للشغيلة والكادحين عن رد الهجمات القائمة، بل ويستثير هجمات مضاعفة؟ يستدعي الجواب تشخيص حالة أدوات النضال والوقوف عند نقاط قصورها.

وقعت أدوات نضال الشغيلة [النقابات]، منذ عقود، تحت سيطرة مديدة لأحزاب غير عمالية، أي أحزاب برجوازية تستعملها لغاياتها الطبقية الخاصة. وهناك من هذه الأدوات من هو موال مباشرة للقصر، وأخرى متأثرة بالأيديولوجية البرجوزية [مفاهيم “الحوار الاجتماعي” والوساطة].

ساهمت هذه السيطرة في منع الطبقة العاملة من تحقيق وحدتها وزرع التشتت النقابي والنزوع الفئوي في صفوفها. ويمثل شعار “فخ الانتماء” أحد الشعارات البرجوازية المتغلغلة في الصف النقابي، ويؤدي إلى انتفاء الوعي بالانتماء الطبقي إلى طبقة الأجراء التي يجري تقطيع أوصالها وتوزيعها بين أذرع نقابية تسيطر عليها البرجوازية ودولتها.

أدت هذه السيطرة المديدة للبرجوازية ودولتها على النقابات، إلى انتفاء تقاليد النضال العمالي الكفاحية، ويتجلى هذا بالدرجة الأولى في اعتبار النقابة وسيطا بين الطبقة العاملة من جهة وبين أرباب العمل ودولتهم من جهة ثانية.

طبع واقع العمل النقابي هذا أشكال النضال الجديدة [التنسيقيات، الحراكات الشعبية] بسمات، قد تبدو نقاط قوة في الأمد القصير، ولكن مع تقدم النضال أو اصطدامه بعقبات يظهر ضررها فورا. ومن هذه السمات:

– رفض التنظيم واستبداله بشبكات التواصل الاجتماعي، بمبرر سهولة التواصل والتعبئة والحشد.

– العزوف عن العمل النظري والتثقيفي، والاعتقاد أن القتالية والتواجد في الميدان يكفيان لمواجهة هجوم الدولة.

– نزع التسييس: انتشار وهم التأكيد على الطابع الاجتماعي للمطلب وعدم تناقضه مع السياسة العامة للدولة، سيجعل هذه الأخيرة تستجيب للمطلب.

وضع أدوات عمل الشغيلة [النقابات] وسمات أشكال النضال الجديدة حكمت على النضال الجاري بأن يكون ردات فعل على نتائج الهجمات، وليس مقاومة لمنع تمرير هذه الهجمات والدفاع عن مكاسب قائمة.

سبل المواجهة

إن مواجهة فعالة للهجوم البرجوازي تستدعي تجاوز نقاط القصور الواردة أعلاه، وخاصة تحرير أدوات نضال الشغيلة [النقابات] من سطوة البرجوازية ودولتها عليها.

كما علينا بذل أقصى الجهود للتخلص من العصبوية التنظيمية التي تجعل كل نقابي يفخر بانتمائه إلى نقابة دون غيرها، بدل الانتماء الطبقي إلى جسم الشغيلة مهما تعددت ألوانها النقابية.

لا يمكن مواجهة هجوم برجوازي يرعاه جهاز الدولة الممركز، بمقاومة مفتتة الأوصال. علينا أن نوحد نضالاتنا المشتتة، ولا يمكن ذلك دون تجاوز مزالق النضال الفئوي.

إن نضالا فعالا لا يمكن أن يستقيم دون أخذ ما يعتمل في السياق الإقليمي والعالمي من نضالات وتمردات اجتماعية وانتفاضات شعبية. يشهد العالم نهوضا جديدا للكادحين، نهوض يصيب الطبقات الحاكمة ودولها بالرعب. علينا استغلال هذا الوضع وما يتيحه من فرص لحفز الاستعداد النضالي الكامن في صفوف الشغيلة والكادحين، من أجل انتزاع أكبر قدر من المكاسب وتطوير نضالنا للتخلص نهائيا من نظام الاستغلال الاقتصادي والاستبداد السياسي.

خلاصة القول علينا النضال من أجل أن نستقل من جديد، لا زلنا مستعمرين وأوجه هذا الاستعمار متعددة: اتفاقيات التبادل الحر، اتفاقيات الشراكة، نظام الديون، وزن الرأسمال الأجنبي… علينا أن نناضل جماعة كشغيلة وكادحين، من أجل بناء وطن العمال والكادحين وليس وطنا مشتركا بيننا وبين البرجوازية ودولتها.

=====

ردود وتفاعل مع نقاش الحضور:

طُرِحَ سؤال عن الصيغ الملموسة لتوحيد العمل النضالي داخل النقابات والتنسيقيات، أخذ بعين الاعتبار واقع التشتت المزمن، الذي يجعل المهمة أقرب إلى المستحيل.

طبعا المهمة ليست سهلة، بحكم إرث ستة عقود من إفساد الوعي العمالي من طرف أيديولوجية برجوازية ترعاها بيروقراطية متمكنة. ولكن هذه المهمة ليست مستحيلة، إذا أخذت بكل ما تستحقه من أولوية وجدية.

وهناك العديد من الصيغ الملموسة:

– التخلي عن الشعار العصبوي الفئوي “فخر الانتماء”، على المناضلين العماليين الافتخار إلى الانتماء إلى كل النقابات وكل أدوات النضال العمالي [التنسيقيات] دون تفضيل إحداها عن الأخرى. فهذا التنافس يغذي الانقسام القائم أصلا في صفوف الشغيلة ويخدم غاية البيروقراطية والبرجوازية ودولتها في إدامة هذا الانقسام والتشتت.

– التخلي عن الخطابات التهجمية على النقابات ونعتها بـ”النفايات” واتهامها بالتواطؤ وخيانة مصالح الشغيلة. علينا التمييز بين النقابة كبيروقراطية، والنقابة كقواعد عمالية. نواجه الأولى [البيروقراطية] ونحاربها بطريقة لا تجعلنا نفقد تعاطف الثانية [القواعد العمالية]. أي التمييز بين النقابة كأداة ضرورية ولا غنى عنها للنضال العمالي وبين البيروقراطية كشريحة اجتماعية مهيمنة على النقابة وتكبحها من أداء مهمتها الأصلية: النضال الطبقي ضد البرجوازية ودولتها بدل التعاون الطبقي معهما.

– التقاء مناضلين كفاحيين متعددي الانتماء النقابي ومن داخل التنسيقيات لنقاش سبل توحيد الفعل النضالي، فانحصار كل نقابي داخل قوقعة نقابته لن يؤدي إلى جعلها ديمقراطية ولا مواجهة بيروقراطيات النقابات الأخرى.

– الدفاع عن المنظور الوحدوي للنضال باستغلال كل الفرص التي يتيحها الواقع ومبادرات البيروقراطيات ذاتها. أطلقت الاتحاد المغربي للشغل حملة للدفاع عن الحريات النقابية طيلة شهر ديسمبر، والمفروض على النقابات أن تستجيب لهذه الحملة وتنخرط فيها، على تنسيقيات الوظيفة العمومية أن تكون أول المبادرين للانخراط في هذه المبادرة لأنها بدورها مستهدفة بالهجوم على الحريات النقابية، خاصة مشروع قانون تكبيل الإضراب.

– الحفاظ على وحدة التنسيقيات، وعلى رأسها التنسيقية الوطنية للمفروض عليهن- هم التعاقد. هناك تهجمات مبالغ فيها ضد من لم يجسد الإضرابات ونعتهم بالمصطلح القدحي “المعدات” واتهامهم بالخيانة والتخاذل. إن هؤلاء مناضلين كانوا في مقدمة الصفوف طيلة معركة الموسم الفارط [خاصة معركة إسقاط ملحقات العقود شهري مارس وأبريل]، وتراجعهم لا يبرر بانتهازية ولا تخاذل، بل بمصير تلك المعركة بحد ذاتها.

لذلك فإن المهمة الأساسية وذات الأولوية القصوى في اللحظة الراهنة هي الحفاظ على وحدة جسم الشغيلة وضمنها التنسيقية الوطنية، فتبدل السياق النضالي قادم، الانتفاض الشعبي قادم لا محالة. وحين تحين تلك اللحظة يجب أن تجد أدوات النضال موحدة وأسلحتها حادة كي تكون قادرة على الانتصار.

شارك المقالة

اقرأ أيضا