لبنان: السلاح الطائفي من جديد لتحريف مجرى الثورة

المكتبة24 ديسمبر، 2019

تقديم الموقع

اندلعت الانتفاضة اللبنانية وهددت باختراقها كل الطوائف، جدار التقسيم الطائفي الذي يمزق وحدة الكادحين ويلحقهم بزعامات طائفية وعشائرية.

كان شعار الانتفاضة “كلن يعني كلن”، وهذه إشارة إلى اتهام مجمل النظام السياسي الذي يحمي منظومة هائلة من الفساد وسرقة ثروات البلد ورهن اقتصادها للخارج (دول الخليج، المراكز الإمبريالية).

تفاجأ حكام لبنان بحجم الانتفاضة، وأصابهم الشلل في البداية. وبعد فترة جمود سياسي، اهتدوا إلى وسيلة قديمة- جديدة لهزم الحراك السياسي: تحريفه نحو مواجهات طائفية، واتهام الجماهير الثائرة بخدمة أجندات خارجية والتواطؤ مع العدو الأجنبي.

يعيد حكام لبنان- بمختلف انتماءاتهم الطائفية- نفس ما قام به اليمين الماروني- المسيحي (حزبا الكتائب والأحرار) بداية سبعينيات القرن العشرين. فلمواجهة صعود المقاومة الفلسطينية وتظافرها مع نضالات اجتماعية وعمالية، قفز هذا اليمين إلى واجهة الصراع متهما “المقاومة الفلسطينية” بتهديد الأمن الداخلي للبنان، محرضا على المقاومة باستعمال أبشع ما في القاموس الطائفي. وكان كل ذلك لتحريف أنظار أتباع الطائفة عن القضية الاجتماعية وتحويل غضبها نحو “عدو غير داخلي” يهدد أمن اللبنانيين.

يقوم حزب الله حاليا مقام حزب الكتائب آنذاك، ضد الثورة اللبنانية ومتدخلا بمليشياه المسلحة ضد التجمعات والاعتصامات، وتحرض أبواقه الإعلامية ضد المثقفين والأكاديميين المناصرين لثورة الشعب اللبناني. ولن يترفع حزب الله عن القيام بأبشع أدوار الثورة المضادة، على غرار تدخله لمناصرة نظام الأسد في سوريا ضد الثورة الشعبية، التي تم جرها إلى مستنقع الاقتتال الأهلي.

ولفهم دور حزب الله المضاد للثورة، على ضوء سابقة تاريخية، نقدم لقارئ الموقع نصا كتب في سبتمبر 1974، بعنوان “لماذا تتسلح المليشيا الطائفية” للكاتب محمد كشيلي. نشر المقال ضمن منشورات  دليل المناضل- دراسات عربية (2) الصادرة عن دار ابن خلدون، بعنوان “الأزمة اللبنانية والوجود الفلسطيني”.

“وإنها- أخيرا- محاولة لضم صفوف جماهيرها التي تخترقها “القضية الاجتماعية”، وتضعف من سيطرتها وزعامتها”. هكذا أنهى الكاتب مقاله، يحاول حزب الله ببلطجته استعادة زمام التحكم في فقراء وكادحي الشيعة.

الطائفية تدمر وحدة كادحي لبنان، بينما توحدهم الثورة والقضية الاجتماعية. ولا يمكن أن تنتصر الثورة إلا بتدخل الحركة العمالية المنظمة وبتنظيمات ذاتية تجمع قوة الكادحين وتمركزها لمواجهة الثورة المضادة التي تطل برأسها وتسعى لإرجاع جماهير لبنان إلى “صواب الطاعة الطائفية”.

======

لماذا تتسلح المليشيا الطائفية؟

وجود السلاح في لبنان ليس جديدا، فظاهرة انتشار السلاح سابقة على وجود المقاومة ولها أسبابها اللبنانية الخاصة الناتجة عن تركيب النظام اللبناني السياسي والطائفي وطبيعة الصراع بين الزعامات السياسية، وظاهرة القبضايات والأزلام والميليشيات كانت مرافقة، باستمرار، لصراع أقطاب الزعامات السياسية.. ولعل الفلسطينيين في لبنان هم وحدهم الذين كانوا مجردين من السلاح قبل وجود المقاومة الفلسطينية!

وهنا تتهافت ادعاءات وحجج اليمين اللبناني بأن ظاهرة انتشار السلاح سببها وجود السلاح في أيدي الفلسطينيين.

والشيخ بيار الجميل، خاصة عندما يستثار وينفعل ويقول ما في قلبه، لا يذكر سببا لانتشار السلاح في أيدي اللبنانيين، ولا سببا للجرائم المختلفة، ولا لفلتان حبل الأمن، إلا لأن الفلسطينيين يحملون السلاح، ولأن هناك “مناطق لبنانية” وهي المخيمات الفلسطينية خارجة عن سيطرة السلطة. ولا يستطيع الشيخ بيار أن يتذكر أن الفلسطينيين عندما كانوا مجردين من السلاح كانوا يجلدون من قبل السلطة اللبنانية جلدا، وكانت المخيمات الفلسطينية سجنا كبيرا يمارس داخله كل أنواع الاضطهاد والقمع.

وقد لا يذكر الشيخ بيار- الآن- أن “أبو عمار” [ياسر عرفات- ] نفسه قد اعتقل مرة في السجون اللبنانية، وأن هذه السجون كانت دائما مليئة بالمئات من الفلسطينيين لأسباب سياسية!

سؤال محدد.. وثلاث أهداف

والمهم الآن ليس البحث عن أسباب ظاهرة انتشار السلاح، ولا بأسباب تكاثر جرائم القتل الفردي، بقدر ما هو المهم الإجابة على سؤال محدد:

لماذا تتسلح المليشيا اليمينية والطائفية وخاصة الكتائب والأحرار؟ وما هي الأهداف السياسية من وراء ذلك… وماذا تقصد الكتائب والأحرار من “عرض العضلات العسكري”.. من استعراضات المليشيا ومناوراتها بالذخيرة الحية- كما فعلت كتائب النمور الشمعونية- وحفلاتها العلنية وشبه العلنية؟

هناك- برأيي- ثلاثة أهداف أساسية يسعى حزبا الكتائب والأحرار لتحقيقها في هذه الفترة من خلال المليشيا الطائفية:

 الهدف الأول: امتصاص حدة الصراع الاجتماعي الذي اخترق جدار الطائفية، وتغلغل في صفوف الجماهير المسيحية بإثارة جو طائفي وتحويل الأنظار إلى قضية أخرى (وجود المقاومة ومسألة الأمن).

 الهدف الثاني: تصغير الحجم السياسي للمقاومة الفلسطينية في هذه المرحلة، من خلال الصدام الجزئي المتكرر معها انسجاما مع الضغط الأمريكي- الإسرائيلي- الأردني في “رفض الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية واستقلال الشعب الفلسطيني عن الوصاية الهاشمية”.

 الهدف الثالث: تغيير ميزان القوى المحلي في معركة رئاسة الجمهورية المقبلة.

ولنأخذ كل هدف من هذه الأهداف الثلاثة على حدة:

اليمين في مواجهة القضية الاجتماعية

أولا: في الشهور الأخيرة بدأت الإضرابات العمالية والقضية الاجتماعية تطرح نفسها بقوة وحدة نتيجة موجة الغلاء..

ولا يمكن، بالطبع أن تقتصر هذه الموجة على طائفة دون أخرى.. ولقد وجدنا أن حزب الكتائب نفسه يعاني من آثارها فتخترق صفوفه وجماهيره.. مما يضطر الحزب، لأول مرة، أن يتحدث عن القضية الاجتماعية بصفتها القضية الأولى، ويضطر الشيخ بيار أن يصف الغلاء بأنه “وحش يلتهم الازدهار اللبناني”!

وكان معنى ذلك أن الفئات الاجتماعية التي يضمها حزب الكتائب في قواعده أخذت تتأثر بالغلاء، وتطرح تساؤلات جديدة عن النظام الاقتصادي وعن الاحتكار، وعن مهمات الحزب وبرنامجه، وعن الحكومة التي تشترك فيها الكتائب إلخ.. ووجد نفسه- فعلا- لأول مرة أمام “القضية الاجتماعية” بدون قدرة على التضليل والتزوير وصرف الأنظار. وطلب الحزب من وزيره جوزف شادر أن يضع دراسة عن الغلاء لتقديمها إلى الحكومة! وأثناء ذلك ظهرت فضائح اختلاسات بلدية بيروت التي كان أحد أبطالها أنطوان الجزار عضو المكتب السياسي للحزب.. وبدأت تظهر من خلال هذه القضية طبيعة تركيب المكتب السياسي، وسيطرة العناصر البرجوازية الكبيرة والاقتصادية فيه.. وبدأت تنتشر معلومات عن المصالح والشركات والصفقات التي تصنف قادة الحزب بعيدا عن قواعده الشعبية التي تعاني من الغلاء والاحتكار.

وخاف قادة الحزب خاصة وهم على أبواب المؤتمر السنوي للحزب الذي سيعقد بعد أسابيع، من انفجار داخلي بين تيارين طالما حاول الشيخ بيار أن يصلح بينهما، وأن يهدأ صراع حتى يحافظ على وحدة الحزب متماسكة. وهكذا وجد أن العودة إلى المليشيا الطائفية وحمى التسلح والتذكير بالخطر على الكيان والنظام، ومسألة الأمن بسبب ما يدعيه من وجود “مناطق خارج السلطة والقانون”.. وجد الشيخ بيار أن هذا كفيل بتحويل الأنظار واستثارة طائفية قواعد الحزب مرة أخرى، والعودة إلى دور الكتائب التقليدي.

هذا على الصعيد الداخلي لحزب الكتائب.

إلا أن ما كان يقلق الأحرار والكتائب أكثر [هو] هذه الموجات التقدمية والتحررية التي بدأت تظهر منذ فترة في صفوف الشبيبة المسيحية والكهان والمثقفين.. لقد دخل الصراع الطبقي إلى صفوف الجماهير المسيحية وبدأت الطائفية تهتز! فها هم الشبيبة والمثقفون والكهنة يطرحون وضع الكنيسة في إطار القضية الاجتماعية، ويطرحون الإيمان والالتزام بالدين في إطار الالتزام بالجماهير الكادحة. وبدأت أصوات مسيحية كثيرة ترتفع.. فظهرت قضية المطران غريغوار حداد، ومجلة آفاق.. وظهرت جماعة المسيحيين الملتزمين الأكثر راديكالية، وظهرت جماعة “نحو كنيسة جديدة”… لقد تكاثرت الأصوات التقدمية العلنية والسرية حتى من داخل الكنيسة.

هذا هو الخطر الذي شعر به حزبا الكتائب والأحرار، فتنادا إلى حلف طائفي جديد من خلال تنشيط وتسليح المليشيا والتدريبات العسكرية والمناورات، وإثارة مسألة وجود المقاومة من جديد، وتحضير الجو لاصطدام معها.. في محاولة لتحويل الأنظار عن حدة الصراع الاجتماعي، وعن التيارات المسيحية التقدمية..

الأمن.. فراغ السلطة.. السلاح في أيدي الغرباء… هذه هي صرخة الطائفية الجديدة… صرخة حمى المليشيا الطائفية.

إن طرح مسألة الأمن بالدرجة الأولى وتحميل المقاومة الفلسطينية بإيحاء خفي أحيانا وبإشارة مباشرة أحيانا أخرى مسِؤولية ذلك يقصد منه جعلها “القضية الأولى” التي تغيب بعدها كل قضية.. يغيب الغلاء وتغيب الإضرابات العمالية!

“الأمن قبل الأكل”.. هكذا أخذ اليمين اللبناني يطرح مهماته وبرنامجه.. وبما أن السلطة غير قادرة على “حفظ الأمن” فإن المليشيا الطائفية- مليشيا الكتائب والأحرار- تتكفل بذلك!

ولكن لماذا تعجز السلطة عن “حفظ الأمن”؟ لا يجد الشيخ بيار غير تكرار معزوفة المناطق الخارجة عن السلطة والقانون، ولكن متى كان “الأمن” قبل ذلك موجودا في عكار وجرود الهرمل إلى بيروت نفسها.. وفي الفترة الأخيرة هناك حملة مقصودة لتصوير تكاثر الجرائم إلى وجود السلاح في أيدي غير اللبنانيين، ولكن اليمين الطائفي لا يستطيع أن يدرك أن موجة غلاء المعيشة وتكاثر البطالة في صفوف الشباب، وطبيعة الحياة المعيشية لعدد كبير من اللبنانيين المعتمدة على السمسرة والصفقات والتهريب، ومخالفة القانون وفرض “الخوة” (وهي أساليب تتطلب وجود السلاح في أيدي عصابات وقبضايات تحت حماية الزعماء السياسيين أنفسهم).. إن كل ذلك هي الأسباب الحقيقية الكامنة وراء الجرائم والقتل.

إن اليمين الطائفي يحاول من خلال طرح قضية الأمن الارتباط مع وجود المقاومة أن يحول الأنظار عن “القضية الاجتماعية” الكامنة وراءها، وأن يجردها من أسبابها الحقيقية..

إن مهمة ميليشيا الكتائب والأحرار أن تختلق “المشاكل الصغيرة” مع المقاومة- كما حدث في الدكوانة- وأن تستغل بعض الأحداث الفردية العابرة من الفسلطينيين التي يمكن أن تقع من غيرهم كما تقع منهم! وأن تستغلها لتطرح نفسها كمدافعة عن الأمن والاستقرار في البلاد!

المقاومة هي الهدف

 وهنا يتضح الهدف الثاني من حمى تسليح المليشيا الطائفية، فربط مسألة الأمن بالمقاومة الفلسطينية هو لتبرير محاولة الصدام معها، واستنزافها بـ”المشاكل الصغيرة” التي يمكن أن تبدأ صغيرة لتنتهي كبيرة… أي لتنتهي إلى صدام شامل مع المقاومة!

وهذا ما تستعد له فعلا مليشيا الكتائب والأحرار من خلال آلاف قطع السلاح التي تأتيها من الخارج محملة بالبواخر.

إن اليمين الطائفي لا يخفي علاقته بالنظام الأردني الذي يخوض الآن صراعا ضاريا ضد منظمة التحرير الفلسطينية حتى لا تثبت وجودها النهائي بكونها الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني.

ويهم الأردن- ومعه دعم أمريكي وإسرائيلي- أن توجه إلى المقاومة- الآن- ضربة في لبنان لتصغير حجمها السياسي، وإلهائها بمعارك جانبية للدفاع عن نفسها، وتحويل الأنظار العربية والعالمية عن قضية الاعتراف بها، إلى ما يجري على الأرض اللبنانية من معارك صغيرة أو كبيرة، واقتتال أهلي حولها!

هذا هو سر العلاقة الخاصة التي تربط شمعون بالحكم الأردني، وسر دفاع الكتائب عن الأردن.. (حتى أنها لم تتورع عن اعتقال بعض الفلسطينيين لأنهم كانوا يوزعون كتابا صغيرا عن النظام الهاشمي، وتهديدهم بتسليمهم إلى المخابرات الأردنية!).

إن شمعون يعلن على الملأ أنه سيدرب “نموره” في الأردن! وهذا التدريب العسكري لا يمكن أن يكون مسألة تقنية بحتة، فهو تدريب في إطار خطة سياسية، ولا يخفي الأردن خطه السياسي ضد المقاومة.. فما هي مهمة “نمور” شمعون وميليشياه إذا لم تكن لتوجيه ضربة ضد المقاومة في هذه الفترة التي تخوض فيه صراعا سياسيا ضاريا لإثبات وجودها عربيا وعالميا؟

ومعركة الرئاسة أيضا؟

 أما الهدف الثالث من حمى التسليح للمليشيا الطائفية، فهو تغيير ميزان القوى المحلي في معركة رئاسة الجمهورية المقبلة…

ليست هي المرة الأولى التي يتزايد فيها الصراع بين الزعماء السياسيين، وخاصة بين زعماء الموارنة، على أبواب معركة رئاسة الجمهورية… كان هذا الصراع بين الأقطاب يلتبس دائما بالصراعات الأساسية في لبنان.

هكذا كانت أحداث عام 1958 حين التبس الصراع حول التجديد لشمعون ومعركته ضد نفوذ كبار الزعماء بالمعركة الوطنية التحرري العربية ضد الأحلاف وضد النفوذ الرجعي والاستعماري في مرحلة الصعود الوطني بعد الوحدة المصرية السورية.

واليوم يحاول شمعون والكتائب أن يخوضا معركة رئاسة الجمهورية المقبلة من خلال تقوية وتسليح المليشيا الطائفية والصدام مع المقاومة.. إنها محاولة لتغيير الجو السياسي المحلي الذي يتميز الآن بالإفلاس السياسي للزعماء السياسيين، وبالفضائح.. وبعجز الحكم عن حل المشاكل الاجتماعية، وخاصة الحد من موجة الغلاء، وعلى أبواب تشرين حار للحركة العمالية خاصة بعد رفض الهيئات الاقتصادية لمطالب العمال التي أعلنوا الإضراب العام من أجلها في نيسان الماضي، واستجابة الحكم لضغط أرباب العمل.. هذا الجو السياسي يجعل معركة رئاسة الجمهورية المقبلة في إطار مختلف هذه المرة.. لذلك يحاول اليمين الطائفي أن يغير هذا الجو، وأن يطرح قضايا تعيد الصراع الطائفي الذي تستمد منه هذه الزعامات السياسية وجودها وتقوى به.. إنها تحاول أن تثبت قوتها وزعامتها من خلال المليشيا والصدام مع المقاومة.. ومن خلال “المعارك المسلحة الصغيرة” التي يمكن أن تكبر حتى يمكن فرض شروطها في معركة الرئاسة من مركز أقوى.. وإنها- أخيرا- محاولة لضم صفوف جماهيرها التي تخترقها “القضية الاجتماعية”، وتضعف من سيطرتها وزعامتها.

أيلول- سبتمبر 1974

شارك المقالة

اقرأ أيضا