موجة ثورية ثانية تجتاح شمال إفريقيا والمشرق العربي؛ الشعوب تريد من جديد

 بعد الموجة الثورية الأولى التي اجتاحت العالم مطلع العقد الثاني من القرن 21، والتي وضعت الثورة على جدول الأعمال، بعد أن فقدت وهجها بانهيار المعسكر الشرقي نهاية ثمانينيات القرن العشرين وما خلفه من انحصار وتراجع الفكر الاشتراكي وفقدان البوصلة من قبل أغلب أحزاب اليسار، تجددت الثورات من جديد واتسعت رقعتها، فاحتلت الشعوب الشوارع والساحات ضد السياسات النيوليبرالية وأنظمة الاستبداد والفساد، معلنة عن إرادتها في إسقاط سياسات لا شعبية وإبعاد منفذيها عن سدة الحكم. تفجرت تمرداتٌ في كل من فرنسا وكاتالونيا وپورتو ريكو والإكوادور وهندوراس ونيكاراغوا وهايتي والشيلي وهونغ كونغ وإيران… لم تكن المنطقة العربية وشمال إفريقيا بمعزل عن الهبة الثورية التي شملت جميع جهات العالم، فثارت الشعوب في كل من السودان والجزائر والعراق ولبنان، فيما لازال بعبع الأنظمة الديكتاتورية تحت الرماد في باقي البلدان.

اختلفت الأسباب المباشرة التي شكلت شعلة للانفجار حسب طبيعة كل بلد، لكن الأسباب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية غير المباشرة التي كانت بمثابة براميل البارود المنفجر متشابهة مع اختلاف البلدان، وتشابهت الفئات الاجتماعية التي قادت هذه التمردات في انتمائها للطبقات المفقرة، المكتوية بنار السياسات النيوليبرالية التقشفية الرامية لتحميل الشعوب نتائج الأزمة الاقتصادية التي تهز العالم منذ 2008، واختلفت الثورات في نسب انخراط العمال والنساء حسب طبيعة كل بلد.

تدخلت الحكومات القائمة بالدول المنتفضة لإيقاف الغضب الشعبي العارم، تارة عبر المناورة والإقدام على إصلاحات اجتماعية، والعمل على إدخال تغييرات في هرم السلطة السياسية، بما فيها التضحية برؤساء عدة بلدان، حال السودان والجزائر…، وتارة أخرى التدخل عبر العنف مخلفة العديد من الشهداء والمعطوبين حال السودان والعراق وإيران…

أبرزت هذه الانتفاضات الشعبية أن موسم الثورة قد حل من جديد، وأن الحاجة ملحة لأحزاب ثورية قطرية، تصوب بوصلة الانتفاضات في اتجاه تغيير نمط الإنتاج الرأسمالي، الذي لا يخلف سوى الكوارث على الصعيد الاجتماعي والسياسي والبيئي، ولم يعد يحتمل الإصلاح.

السودان”تسقط بس”، “إما حكومة مدنية أو ثورتنا مستمرة”

مع الموجة الثورية الأولى التي شهدها العالم منذ 2010، اهتزت مصر وليبيا اللتان تحدان جمهورية السودان من الشمال، فأسقطت الانتفاضات بالبلدين كل من حسني مبارك والعقيد معمر القذافي، تململ الشعب السوداني في سبتمبر 2013 للمطالبة بالحرية وتحسين أوضاعه المعيشية، لكن عصابات النظام المسلحة المسنودة بالحركات الدينية خاصة الإخوان المسلمين، كانت له بالمرصاد، فخفت نضال الشعب السوداني، لكن استمرار أوضاعه الاقتصادية في التردي أيقظت النضال من جديد. فتعاظمت النقمة من نظام العميد عمر البشير الديكتاتوري الذي وصل إلى الحكم عبر انقلاب عسكريً سنة 1989 أطاح بحكومة الصادق المهدي المدنية، فأصبح رئيساً لمجلس قيادة ثورة الإنقاذ، ثم رئيساً للجمهورية فزكت سياسته إلى جانب عوامل أخرى نشوء جمهورية جنوب السودان كدولة مستقلة، بعد انفصال جنوبه سنة 2011، مما أفقد البلد مداخيل مهمة من أرباح نفط الجنوب مساهما في انحداره الاقتصادي.

تفجرت الثورة الشعبية في السودان منذ 13 دجنبر 2018، لإسقاط نظام حكم عمر البشير الديكتاتوري، وعمت البلد سلسلة من الاحتجاجات. استخدمت قوات النظام العنف المفرط والقتل للحد من الاندفاع الشعبي، فكان ذلك أكبر محفز لتصاعد الغضب، فتتحول مَواكب تشييع الشهداء، من مراسم الجنازة إلى مظاهرات عارمة. ونجح تجمع المهنيين السودانيين (تم إعلانه كبديل للنقابات الرسمية التي يسيطر عليها نظام البشير يوم 29 يوليوز2018 يضم عددا من اللجان والجمعيات والتجمعات، يجمعها ميثاق وأهداف مشتركة) يوم 6 أبريل في الحشد باتّجاه مقرّ القيادة العامّة للقوات المسلحة وسط العاصمة الخرطوم، فتدفق الآلاف من المحتجين لمحاصرة مقر الجيش، مما أرغمه على التضحية بالرئيس البشير والحفاظ على نظامه.

أعلن الجيش يوم 11 أبريل 2019 خلع عمر البشير بعد ثلاثين عاماً من الحكم، فاعتقل وقدم للمحاكمة، وشكل مجلس عسكري انتقالي بقيادة أحمد عوض بن عوف لبدء مرحلة انتقالية لمدة عامين تنتهي بإقامة انتخابات لنقل السلط، وأعلن فرضَ حالة الطوارئ  لثلاثة شهور، وَعلّق العملَ بالدستور الحالي، وتم حلّ كل من مجلس الوزراء وحكومات الولايات والمجالس التشريعية وفرض حظر التجوال لمدة شهر. وبالرغمِ من ذلك استمرت الاحتجاجات لتنحية المجلس العسكري الانتقالي وتشكيل حكومة انتقاليّة مدنية، فأعلن بن عوف تنازله عن رئاسة المجلس الانتقالي وعيّنَ المفتش العام للجيش الفريق أول عبد الفتاح عبد الرحمن البرهان خلفًا له. وهو ما رفضه الشعب السوداني متمسكا بحكومة مدنية، ومواصلا محاصرة مقر القيادة العامة. وفي 3 يونيو قام الجيش بمذبحة لفض الاعتصام أمام القيادة العامة، مما خلف المئات من الشهداء والجرحى.

فاوضت قوى إعلان الحريّة والتغيير المجلس العسكري عبر جولات بوساطة إثيوبية وممثل الاتحاد الأفريقي، أفضت إلى صياغة اتفاق على وثيقة دستورية، تضمنت فترة انتقالية من 39 شهرا يتم خلالها تحقيق السلام ومحاسبة مسؤولي «النظام البائد» عن سائر الانتهاكات، ومعالجة الأزمة الاقتصادية، وتأمين استقلال القضاء وتحقيق حقوق النساء والشباب والإعداد لدستور جديد. يشرف على الفترة الانتقالية مجلس سيادة يتشكل مناصفة بين المجلس العسكري الانتقالي وقوى إعلان الحرية والتغيير بالإضافة إلى عضوٍ مدني يجري اختياره بالتوافق بين الطرفين. يرأس المجلس رئيس عسكري خلال الـ 21 شهرا الأولى ورئيس مدني خلال ال 18 شهرا المتبقية. على أن يحل المجلس العسكري الانتقالي نفسه بعد تشكيل مجلس السيادة.

الجزائر “اتنحاو كاع”، ” لا انتخابات يا العصابة”

بعد إعلان الناطق الرسمي للرئيس الجزائري المقعد عبد العزيز بوتفليقة مشاركته في الانتخابات للولاية الخامسة (العهدة الخامسة)، رغم حالته الصحية المزرية اهتزت الجزائر تحت أقدام العسكر في انتفاضة عارمة مند 22 فبراير 2019، فأعلن رئيس أركان الجيش الشعبي الجنرال أحمد القايد صالح في مارس عزل الرئيس عبد العزيز بوتفليقة عن الحكم، وتولى الحكم محله، محاولا إيقاف مطامح الجزائريين في الحرية والديمقراطية.

 عمل الجنرال على اعتقال زمرة من فاسدي نظام بوتفليقة (من ضمنهم شقيق بوتفليقة) لتحسين صورة العسكر، ودعا الجزائريين للذهاب صوب الانتخابات الرئاسية يوم 04 يوليوز 2019، لكن محاولته ارتطمت بتمسك الجزائريين بشعار “اتنحاو كاع” و” لا انتخابات يا العصابة” أي إبعاد كل أفراد النظام القديم عن السلطة، ورفض إجراء انتخابات يحرسها العسكر وهم جزء من العصابة، فهذه الانتخابات ستتيح لنظام الفساد شرعية شعبية للتحكم من جديد في رقاب الشعب الجزائري المطالب بالحرية ونهب ثرواته. فهم الجزائريون اللعبة، مستفيدين من الثورة المصرية والسودانية فتوارى شعار ” الشعب والجيش خاوة خاوة ” الذي رفع بداية الانتفاضة، مفسحا المجال لشعارات مثل “المجلس التأسيسي”.

يتظاهر الجزائريون كل جمعة (أزيد من 42 جمعة)، مسيرات ليلية للوقوف دون انتخابات، رد النظام باعتقال مئات المتظاهرين والحيلولة دون وصول المتظاهرون لقلب الجزائر العاصمة، لكن قمعه لم يفلح في إيقاف انتفاضة الجزائريين/ات، الذين عرقلوا انتخابات الرابع من يوليوز.

أصر الجيش الجزائري من جديد على تنظيم الانتخابات الرئاسية يوم 12 دجنبر 2019، لكن الرفض الشعبي لتلك الانتخابات ما فتئ يتعاظم، فالمرشحين كلهم من أفراد العصابة، فبدأ الشعب يكتسح الميادين من جديد في مسيرات ووقفات ليلية، ويجري الاستعداد لإضراب عام تزامنا مع الانتخابات الرئاسية، ودعت قوى البديل الديمقراطي للإضراب العام من 08 إلى 13 ديسمبر 2019 موازاة مع الانتخابات المرفوضة شعبيا.

جرت الانتخابات الرئاسية بنسب مشاركة ضئيلة جدا، وأعلن فوز عبد المجيد تبون أحد أفراد العصابة التي ثار في وجهها الشعب الجزائري، مما قد يزكي الرفض الشعبي لنظام العصابة لتوقد الثورة من جديد.

لبنان الشعب يحتشد ضد الحكم الطائفي: “كِلن يعني كِلن”

شكل قرار الحكومة اللبنانية بفرض ضريبة على استعمال تطبيق واتساب السبب المباشر لاندلاع احتجاجات عارمة بلبنان، وتحولت منذ 17 اكتوبر2019 إلى ثورة ضد الحكم الطائفي. لم تكن ضريبة الفايسبوك غير النقطة التي أفاضت الكأس، فيما تجد الانتفاضة الشعبية اللبنانية كما حراك عام 2015 الذي شهدته لبنان جذورها في النظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي أنشئ بعد الحرب الأهلية، إذ ارتفعت مديونية البلد بسبب الإنفاق على اتباع سياسة الاستدانة المفرطة لأجل إقامة مشروعات تخدم بالأساس مصالح الاوليغارشيات الطائفية الحاكمة تحت شعار إعادة إعمار ما خربته تلك الحرب الأهلية 1975 ــ 1976، إلى جانب الفساد المستشري في أوصال نظام الطوائف، وتم خوصصة الخدمات العامة، كالنقل، وتدنت خدمات ما تبقى من تعليم واستشفاء عموميين، وارتفعت أكلافهما، وجرى ربط العملة المحلية بالدولار مما عمق عجز الميزان التجاري المختل بين الصادرات والواردات.

كانت نتيجة هذه السياسة الليبرالية نمو الفوارق الطبقية بين الفئات الاجتماعية وبين المناطق بسرعة مهولة، وتدهور مستوى عيش فئات واسعة من اللبنانيين، وخصوصا ذوي الدخل المحدود والطبقات المتوسطة، وارتفعت نسبة البطالة خاصة بطالة الخريجين، مما جعل ثلث السكان مصنفون من الفقراء، مقابل نمو فاقع لثروات أقلية جنت أرباحا طائلة بالمضاربة على حساب مديونية الدولة.

عبر اللبنانيون عن رغبتهم في الحرية والتغيير ورفضهم لهذا النظام الفاسد متحدين تحث العلم اللبناني، متجاوزين مختلف الحواجز الطائفية، خاصة وأن أغلب الشباب اللبناني لم يعش الحرب الأهلية الطائفية. شملت الثورة اللبنانية معظم المناطق اللبنانية خاصة المدن الكبرى كالعاصمة بيروت، ما عدا المناطق التي يسيطر عليها حزب الله وحركة أمل الذين سحبا مناصريهما من الساحات منذ الأيام الأولى لبدء الثورة، وأعلنوا انحيازهم للنظام الطائفي وعداءهم للحراك اللبناني، وشنت ميليشياتهما هجومات ضد متظاهرين سلميين في بيروت وصور وبعلبك.

لم يسعف الحكومة اللبنانية تراجعها عن ضريبة الواتساب المرفوضة شعبيا، فالشعب اللبناني واصل ثورته السلمية، فرد النظام الفاسد على الجماهير المنتفضة بالقمع الشرس، مستخدما الرصاص المطاطي والقنابل المسيلة للدموع، واعتقل مئات من المتظاهرين وسقط شهداء. واستمر الشعب اللبناني في التظاهر والاعتصام بالساحات الكبرى ولجأ الشباب الثائر لإغلاق الطرق الرئيسية بالبلد، مما أرغم رئيس الوزراء سعد الحريري على الاستقالة يوم 29 أكتوبر 2019، وبالرغم من ذلك واصل الشعب اللبناني التدفق إلى الشوارع مطالبا بتنحية كل الفاسدين.

العراق الشعب يريد تغيير النظام

رغم ما يملكه العراق من ثروة نفطية،إلا أن الأنظمة المتوالية على حكم البلد بددتها في حروب طاحنة، كالحرب ضد إيران من سنة 1980 إلى 1988 وغزو الكويت سنة 1991، وخاصة ما تعرضت له موارده من تدمير سنة 2003 بعد احتلاله من قبل القوات الأمريكية وحلفائها، واحتلال داعش لجزء من أراضيه بعد الموجة الثورية الأولى، فأصبح الشعب العراقي الذي يقارب 40 مليون نسمة منهكا بسبب هذه الحروب المتتالية، ويعيش أوضاعا متدهورة، فانقطاع التيار الكهربائي ومياه الشرب أصبحت مزمنة منذ سنوات، وانتشرت البطالة خاصة في صفوف خريجي المعاهد والكليات، وأصبحت الخدمات العامة شبه منعدمة، واستشرى الفساد بالبلد، فهو يحتل المرتبة 12 في لائحة الدول الأكثر فساداً في العالم بحسب منظمة الشفافية الدولية، وتشير تقارير رسمية إلى اختفاء نحو 450 مليار دولار من الأموال العامة منذ سقوط نظام صدام حسين عام 2003، أي أربعة أضعاف ميزانية العراق، وأكثر من ضعف ناتجه المحلي الإجمالي.

اندلعت احتجاجات حاشدة شملت معظم المناطق العراقية، خاصة الوسط والجنوب مند 1 اكتوبر2019، منددة بفساد الطبقة الحاكمة وتزايد النفوذ الإيراني.  ففي بغداد اعتصم المتظاهرون عند الجسور الحيوية التي تربط ضفتي نهر دجلة وتصل شرق بغداد بغربها، وتواصل تدفق المتظاهرين خصوصا طلبة المدارس والكليات إلى ساحة التحرير وسط العاصمة وساحة الخلاني مطالبين بـ”إسقاط النظام” وتغيير الطبقة السياسية الحاكمة والقضاء على الفساد ومحاربة البطالة وتحسين جذري للخدمات العامة.

 حاولت قوات القمع فض تلك المظاهرات باستخدام خراطيم المياه، والغاز المسيل للدموع، لكنها اصطدمت باستماتة الشباب، الذي توحد تحت الراية العراقية متجاوزا الشعارات الطائفية التي وسمت الاحتجاجات السابقة بالعراق منذ2011.فتصاعدت وثيرة الاحتجاجات الشعبية وتوسع نطاقها فواجهتها السلطات العراقية والميليشيات المرتبطة بطهران بقمع عنيف، أطلقت الرصاص المطاطي والقنابل المسيلة للدموع واستعملت “قوات الأمن صنف القناصة” واستهدفت المتظاهرين بالرصاص الحي وتدخلت مدرعات القوات الخاصة في بغداد لصد الحشود، مما أسقط ما يزيد عن 485 شهيد إلى جانب آلاف من الجرحى فضلا عن اعتقال العديد من المحتجين.

أرغمت هذه الاحتجاجات رئيس الحكومة عادل عبد المهدي على الاستقالة يوم 1 دجنبر2019، وتعمل القوى الحاكمة على مضاعفة المناورات الدستورية والقانونية لأجل استنزاف الاحتجاجات، لكن هذه الأخيرة تستمر في توهجها في العاصمة العراقية وبعض المحافظات الجنوبية كالبصرة، فالشعب يريد إسقاط النظام الطائفي بالعراق.

                                                                                                       بقلم، سامي علام

شارك المقالة

اقرأ أيضا