المعرفة الرقمية؛ هل هي متاحة للجميع؟

غير مصنف18 أبريل، 2020

 شادية الشريف

أثار فرض الدولة آلية “التعليم عن بعد” بدعوى التكيف مع ظروف وباء كرونا الاستثنائية، نقاشات حول جدوى تلك الآلية وغايات الدولة من فرضها، وتقريرها قبل قدوم الوباء بوقت طويل.
يتعدى الأمر نقاش “التعليم عن بعد” والمنصات الرقمية، ليصل إلى دور التكنولوجيا بشكل عام في نشر المعرفة ورفع المستوى الثقافي للشعب، ويُطرح سؤال إن كان للدولة (والبرجوازية)- في أي وقت من الأوقات- مصلحة في وضع كنوز المعرفة الإنسانية في متناول أطفال الشغيلة والكادحين- ات.
تلعب الآلة دورا مهما في تقدم الحضارة الإنسانية، فبواسطتها استطاع الناس تقليل الجهد المبذول في الإنتاج، وتقليص وقت العمل، وبالتالي توفير وقت فراغ أكبر يُوَجَّه إلى نشاطات أخرى غير الإنتاج: الترفيه، الرياضة، الاهتمام بالصحة الجسدية والنفسية، والتعلم… إلخ.
لكن المجتمع البشري- سابقا وحاليا- ليس مدينة فاضلة منسجمة، بل مجتمعا تنخره التناقضات الطبقية، لذلك فإن الآلة (والتكنولوجيا بشكل عام) أطالت مدة عمل قسم من الشغيلة وألقت بقسم آخر في جحيم البطالة وأشكال العمل الهش وغير اللائق (تسول، مخدرات، إجرام، بغاء…)، في حين أتاحت للطبقات السائدة وقت فراغ أكبر للتمتع بخيرات الإنتاج المادي والفكري.
في السابق (القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين) كانت الطبقة العاملة مستلبة في وقت عملها داخل المصنع، في حين كان وقت فراغها ملكا لها. وكانت تنظيمات الحركة العمالية تُحسن استغلال وقت الفراغ ذاك في التربية السياسية والثقافية للشغيلة: نوادي ثقافية، اجتماعات وتجمعات للخطابة، صحافة حزبية ونقابية، مهرجانات سياسية، مخيمات وجمعيات للاهتمام بأبناء وبنات الطبقة. ولكن ذاك عصر ولى بسبب الهجمة النيوليبرالية والهزيمة التاريخية لمشروع الطبقة العاملة (انهيار التجربة الاشتراكية البيروقراطية)، فأصبح وقت فراغ الشغيلة رهن إشارة البرجوازية: بيع منتجاتها الإعلامية وزرع المزيد من أيديولوجيتها الطبقية في وعي الشغيلة.
النظام الرأسمالي ينتج سلعا بالدرجة الأولى، سواء كانت سلعا مادية (منزل، لباس، تغذية، سيارة، هاتف وحاسوب…) أو سلعا غير مادية (فكر، ثقافة، ترفيه… إلخ). وللتمتع بالسلع يجب امتلاك مقابلها، أي سعرها، الذي يؤدى بشكل فردي، حين يجري امتلاك السلع من السوق مباشرة، أو بشكل جماعي/ تضامني حين تقدمها الدولة عبر الخدمة العمومية الممولة من الضرائب.
منذ بداية سبعينيات القرن العشرين، جرى البدء في تدمير نظام الخدمة العمومية وتوسيع نطاق السلعة (المصحات والمدارس الخاصة…) التي يؤدى سعرها من المدخول الفردي المباشر (أجور، أرباح، ريوع…).
لذلك فإن الحديث عن “مجتمع المعرفة للجميع” يعد خداعا رأسماليا، ما دام قسم مهم من “الجميع” مقصيا من التمتع بتلك المعرفة ما دام لا يملك ثمنها، والتعليم عبر الإنترنت سيعمق التفاوت الاجتماعي الذي تعيد المدرسة إنتاجه حسب تعبير عالم الاجتماعي الماركسي بيير بورديو.
كما أدت سياسة التقشف واقتطاع حصة التعليم من الميزانية العمومية، إلى تدمير شروط التعليم الجيد داخل المدرسة العمومية. وأدت هذه السياسة إلى شبه انقراض لبعض الأنشطة التي كانت تساهم في تراكم معارف وتجارب لم تكن حصة القسم كافية لتقديمها: هكذا اختفت الإذاعات المدرسية وأغلقت المعامل التربوية واختفت الأدوات من المختبرات، والكتب من الخزانات.
لم تعد المدارس فضاء للأنشطة الثقافية كما كانت سابقا: مسابقات ومعارض كتب وأيام ثقافية ينظمها التلاميذ- ات معية الأساتذة- ات، أصبح كل وقت هؤلاء وأولئك موجها لساعات الدعم في المراكز الخاصة: التلاميذ- ات لتعويض تعليم ناقص في أقسام مكتظة، والأساتذة- ات لتقوية راتب أضعفته أقساط القروض الاستهلاكية.
لا يعني هذا أن الدولة كانت ترعى تلك الأنشطة، بل كانت المدرسة آنذاك- على غرار الجامعة- محط تنافس سياسي بين النظام ومعارضيه السياسيين، أي مشتلا لاكتساب أنصار المستقبل السياسيين. وكان الأساتذة- ات المحزبون- ات يشرفون على تلك الأنشطة، وبعد “التوافق التاريخي” بين النظام ومعارضيه انتفت الحاجة إليها.
هذا هو سبب تدني مستوى التعليم والمستوى الثقافي لخريجي المدرسة، الذي يصبحون بدورهم أساتذة- ات ينقلون تعلماتهم- تن الناقصة إلى أجيال أخرى، هكذا في متوالية جهنمية تنحدر بالشعب إلى درك الأمية والجهل.
إنها سياسة متعمدة، لا يتحمل الأساتذة- ات ولا التلاميذ- ات مسؤوليتها. سياسة متعمدة ومتصورة بعقل بارد غايتها: تقليص حصة المعارف من الحياة المدرسية مقابل رفع حصة المهارات والكفايات التي يحتاجها من سيتحول مستقبلا إلى “مواطن فرد منتج ومستهلك”، أي مواطن في خدمة عالم المقاولة والسوق، كما سعت “بيداغوجيا الكفايات” لإرسائه، ويسعى “التعليم الرقمي” إلى ترسيخه.
ليس من مصلحة البرجوازية ودولتها أن يتملك الشعب كنوز المعرفة الإنسانية (أدب، فلسفة، سياسة، علم اجتماع، علوم طبيعية…)، فهذه ليست بذات منفعة بالنسبة للمقاولة، وفي نفس الآن خطيرة على السيطرة الطبقية للبرجوازية ونظامها السياسي.
لذلك ليس فقط المدرسة هي من مسها هذا الهجوم بل كل القطاعات التي كانت تقدم “خدمة تعليمية وثقافية”، فانحسر دور دُورِ الشباب واختفت الجمعيات الثقافية وأُغلقت دور السينما وأصبح المسرح ذكريات أزمان غابرة.
انقرضت البرامج الثقافية من القنوات التلفزية: سينما الخميس لعلي حسن، “لكن فوق ذلك” لحميد برادة، “أقواس” لمحمد هرادي، “مدارات” لمحمد نور الدين أفاية، “إيقاع” لهشام العبودي”، والبرامج التي كانت تقدمها فاطمة الإفريقي. أما البرنامج اليتيم الذي تقدمه قناة الأولى “مشارف” لعدنان ياسين فحيزه الزمني ضيق ويبث مرة واحدة في الأسبوع وخارج وقت الذروة.
حل محل هذه البرامج مسلسلات تجارية مدبلجة ونقل لمهرجانات دون مضمون هادف وسلسلات الفكاهة التي تنشر التفاهة وتُبْقي الشعب في مستنقعها، إضافة إلى برامج تستغل الجراح الاجتماعية لتحقيق أرقام مشاهدات مرتفعة: شجار أزواج، إجرام… إضافة إلى وصلات إشهار متواصلة تستغل العلم لإقناع الناس بالتنافس على شراء سلع لا فائدة منها: مشاهد أطباء ببذلة العمل داخل مختبر يقدمون أدلة علمية على فعالية صابون أو معجون أسنان… “هكذا يتحقق تنبؤ ماركس الوارد في “الغرندريسة” حيث أبرز ميل الرأسمالية إلى جعل كل العلوم أسيرة الرأسمال وتحويل الاختراع إلى مجال مستقل للاستثمار. [“بلترة العمل الذهني”، ارنست ماندل]. وستتعمق الكارثة مع تحرير الفضاء السمعي البصري ودخول القنوات الخاصة التي ستتنافس على استقطاب المشاهدين- ات بنشر التفاهة التي تغذي مزيدا من التفاهة.
ما السبيل، إذا، لرفع المستوى الثقافي والفكري للشعب، وكيف يمكن استغلال التكنولوجيا لتحقيق تلك الغاية؟
طبعا، لا مجال للجدال، في أن المكان الرئيس لتقديم التعليم للأطفال هو المدرسة والقسم حيث تبنى شخصية التلميذ في جو العلاقات الإنسانية المباشرة بين المتعلمين- ات وبين هؤلاء والمعلمين- ات. لكن هذا لا يعني أن المدرسة هي الوسيلة الوحيدة لرفع المستوى الثقافي للشعب.
يعتبر التلفاز وسيلة مثلى لإيصال المعرفة إلى كل منزل، في المدن والقرى. وسيلة لتعميم برامج الوقاية الصحية والتربية البدنية وبرامج ثقافية تضع كنوز المعرفة الإنسانية بين أيدي الشعب، دون الحاجة إلى أداء ثمن تلك الخدمة بشكل فردي. فالتلفزة العمومية تُمَوَّلُ من الميزانية العمومية المعبأة من الضرائب.
تقع السياسة الإعلامية للدولة في صلب كل الخيارات الاقتصادية والاجتماعية النيوليبرالية التي تصر الدولة على الاستمرار فيها وتعميقها أكثر. لذلك فإن الدفاع عن إعلام عمومي يستجيب لحاجات الشعب ذات الأولوية في مكافحة الجهل والأمية (الأبجدية والمعرفية على حد سواء) ورفع المستوى الثقافي، يعتبر من المهام الرئيسية التي تقع على عاتقنا كتنظيمات للنضال العمالي والشعبي.
تأتي الصحة العقلية في نفس مرتبة الصحة الجسدية، وكما نتقي إصابتنا بالسموم والميكروبات، فعلينا تجنب تسمم وعي الكادحين بالسموم التي تنشرها وسائل إعلام البرجوازية ودولتها، ويستدعي هذا جملة مطالب:
+ التخلي الكلي عن تحرير الفضاء السمعي البصري، ووضع وسائل الإعلام (القنوات التلفزية والإذاعات) تحت إشراف الدولة والرقابة الشعبية.
+ تقليص جذري لحصة الوصلات الإشهارية، ومعاقبة الشركات التي تستعمل الادعاءات العلمية الكاذبة للترويج لمنتوجاتها.
+ منع كل البرامج التي تنشر كافة أنواع الدجل والشعوذة سواء الديني أو الليبرالي.
+ رفع جذري لحصة البرامج الثقافية والعلمية والترفيهية.
+ فرض تمويل هذه القنوات عبر سياسة جبائية قامة على ضريبة تصاعدية على الثروة.
+ تأسيس دور شباب وملحقاتها في الأحياء الشعبية وتوفير الوسائل الملائمة والأطر الكافية لتنشيطها.
+ تزويد المدارس بكل الوسائل اللازمة لتنظيم حياة ثقافية ورياضية حقيقية، بدل رهنها بمشروع المدرسة والقدرة المالية لكل مؤسسة على حدة

شارك المقالة

اقرأ أيضا