الفنيدق والنّواحي: إغلاق المعابر التجارية يدفعُ الكادحين- ات للإنتفاض

الحركة الاجتماعية25 فبراير، 2021

بقلم: أحمد أنور

خرج سُكان مدينة الفنيدق للجُمعة الثالثة على التوالي للتعبير عن احتجاجهم على الكساد التام الذي أطبق على المدينة، وضد البطالة الكاسحة وعلى انعدام مصادر العيش. تكررت الاحتجاجات رغم مُحاولات بئيسة لثني السكان وفش غضبهم بأساليب مُقرفة منها تقديم معُونات غذائية ونثر الوعود الفارغة. لكن عمق الألم وحجم المعاناة دفعت السكان للاحتجاج. الشيئ الذي أعاد إلى الواجهة سيناريو أحداث نضالات الريف العارمة التي واجهتها الدولة ببطش شديد جوابا على مطالبة بتنمية تلبي حاجات الساكنة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

الفنيدق مدينة حدودية، التهريب أوكسجين دورتها الاقتصادية

أصبحت مدينتي سبتة ومليلية، إبان الفترة الاستعمارية، أكثر أهمية للإسبان. فالأولى أضحت بمثابة “ميناء إسبانيا” والثانية قاعدتها الأساسية للاستغلال المعدني المستخرج من مناجم الريف.

بعد نهاية الاستعمار المباشر سنة 1956 أصبحت المدينتين محاصرتين دون مورد اقتصادي خصوصا بعد إغلاق الحدود مع جبل طارق سنة 1969. ونظرا للامتداد المجالي والبشري بدأت معاملات تجارية بين ساكنة الضفتين إلا أن الانطلاقة الاقتصادية لإسبانيا خصوصا بعد عضويتها بالاتحاد الأوربي، واتساع التفاوت بينها والاقتصاد المغربي الذي ظل متأخرا نتج عنه ازدياد متسارع لنشاط التهريب التجاري، الذي أصبح له ثقل اقتصادي واجتماعي كبير يمتد من طنجة غربا الى وجدة شرق، ويصب في أسواق مدن كبرى مثل الدار البيضاء. تشكلت شبكة مصالح كبيرة تمتد من المُصنِّعين بإسبانيا وكبار التجار إلى المُورِّدين الكبار بالمغرب، والتجار المحتكِرين بأسواق مدن عديدة، ما يجعل عمال وعاملات نقل البضائع مجرد قطعة صغيرة في لعبة كبيرة لا حظ لهم- هن فيها إلا المخاطر والاهانات والعيش البئيس.

تفجّرت أزمة اقتصادية خانقة بعد سنة ونصف من منع كلي لمرور السلع عبر معبري سبتة ومليلية، بالإضافة إلى الحجر الصحي الذي أوقف تَنقُّل العاملين-ات بسبتة، خصوصا خادمات البيوت. واستنفدت الأسر مُدخراتها الزهيدة وتعطلت أعمال المهن الحرة، وتوقف الرواج التجاري وغاب الزبائن، ووُجد الشباب من كلا الجنسين في وضعية بطالة مفتوحة في مدينة تتنفس التهريب وقُطع عنها، فأصبحت مهددة بالموت بسبب الاختناق.

نشاط التهريب ومكانته الاقتصادية، المستفيدون والضحايا

منذ العقد الأوّل من القرن الحالي، أصبح ما كان مجرد نشاط حدودي بسيط، تهريبا منظما. وتحول من نشاط يمتهنه بعض سكان الجوار المستفيدين من الإعفاء من تأشيرة الدخول إلى الثغرين فأضحى نشاطا قائما يستقطب باحثين عن الشغل من مدن بعيدة.

لم تترك عقود من سياسة التهميش والتفقير للكادحات من بديل غير منفد التهريب، فهو محور الدورة الاقتصادية بالمدينة ومصدر عيش الأسر الكادحة. رغم أن مافيا قوية متشابكة المصالح هي المستفيد من التهريب لكن في غياب فرص عمل وأنشطة اقتصادية واجتماعية بديلة فالسكان مجبرون على العيش مع نشاط التهريب والا خرابهم الأكيد.

حسب مديرية الجمارك والضرائب المباشرة تُقدرَّ قيمة البضائع المتدفقة عبر الثغرين ما بين 15 و20 مليار درهم في السنة أي ما يعادل %2 من الناتج الداخلي الإجمالي. أما حجمها فيصل إلى 1600 طن في المتوسط يوميا في كلا المعبرين (سبتة ومليلية). (1)

تتشكل أهم المواد المهربة من المواد الغذائية، الملابس المستعملة، السجائر، المشروبات الكحولية، إطارات العجلات المستعملة، قطع غيار السيارات، أدوات التجهيز والمنتجات الصحية، مستحضرات التجميل، مواد التبليط، الأدوات الصحية، الأجهزة المنزلية الالكترونية، منتجات النسيج من أقمشة الاسرة، أغطية، ملابس جديدة… إلخ.

تتنوع مصادر هذه السلع. بالإضافة إلى إسبانيا وأوروبا تأتي من بلدان أخرى مثل الصين وكوريا الجنوبية وتركيا وبعض البلدان الأوربية. كما تُنقل إلى سبتة مواد كالأسماك والخضر والفواكه.

يتراوح عدد الممتهنين- ات للتهريب المعيشي اعتمادا على أعداد العابرين- ات يوميا ما بين 4500 إلى 8000 في نقطتي سبتة (طارخال الأولى والثانية) وما بين 8300 و9000 شخص يوميا في معبر مليلية (باب مليلية، ورخانة، باريوتشينو). كما تلج المدينتين حوالي 1000 سيارة يوميا منها 200 لرجال الجمارك والبوليس.

تجري عملية التهريب عبر شبكات تتوزع على ضفتي المعابر وتحتل مُمتهنات التهريب اللائي يتكلفن بنقل السلع أسفل السلم. في حين يتربع كبار المنتجين وتجار الجملة المنظمين وأصحاب مستودعات التخزين عرشَ الدرجات العليا. بالإضافة إلى الأنشطة المرتبطة بالتهريب مثل أصحاب النقل الحضري والمطاعم والفنادق وباقي الخدمات وطبعا أجهزةُ الدولة العين الراعية لنظام التهريب برمته؛ فليس خفيا أن العمل الوظيفي بالمنطقة له ثمن مقابل ما يتيحه من تحصيل أموال (رشوة وابتزاز).

أغلب مُمتهنات التهريب المعيشي هن عاملات نقل لفائدة تجار كبار مقابل 150 و170 درهم لليوم قبل رفع المبلغ إلى 300 درهم بعد احتجاجهن على التجار، يعملن أسبوعيا من الاثنين الى الخميس. يُدفع هذا المبلغ مقابل حمولة تزن 80 كلغ إلى 130 كلغ، والمجازفة بحياتهن بالموت دهسا بسبب التدافع الشديد والتعرض لمعاملة مهينة من السب والضرب والتحرش في مشاهد تُنتهك فيها الحقوق والكرامة الإنسانية، وتفتقر لأبسط شروط الصحة والسلامة: لا مراحيض ولا أمكنة للوقاية من أشعة الشمس أو هطول الأمطار.

التهريب نتيجة لتدمير مناصب الشغل قبل أن يكون سببا

فجأة اكتشفت الدولة خطر التهريب عبر المعبرين الحدوديين وضرره على الاقتصاد وصحة المغاربة وأطلقت سراح المعطيات بعد طول إخفاء، لكنها تقول نصف الحقيقة فقط التي تخدمها.

حسب مديرية الجمارك والضرائب غير المباشرة تتكبد الخزينة خسارة قدرة سنة 2018 ما بين 4 و5 مليار درهم. ومقابل كل شخص يمتهن التهريب نُدَمَّرُ خمس مناصب شغل. لكن السبب الرئيس في التجاء كل شخص إلى التهريب هو تدمير ملايين مناصب الشغل بفعل اتفاقيات التبادل الحر مند توقيع اتفاقيات الغات سنة 1995 بمراكش التي أغرقت البلد بمنتوجات خربت الإنتاج الصناعي وفاقمت البطالة الجماهيرية وخفضت التعرفة الجمركية إلى أدنى حد.

تضررت قطاعات إنتاجية بسبب أنشطة التهريب لا سيما قطاع صناعة المواد الغذائية والنسيج والألبسة، التي تتعرض لمنافسة شرسة من تدفق بضائع سواء عبر التهريب أو بسبب التحرير الجمركي. ما يؤدى إلى تدهور شروط العمل لخفض كلفة الإنتاج، لمجاراة أثمان السلع الوافدة، أو الإفلاس وتسريح العمال وهذا مصير آلاف عمال- ات النسيج عشية دخول اتفاقية منظمة التجارة العالمية حيز التنفيذ.

تستفيد السلع القادمة من سبتة ومليلية من نظام الدعم والضرائب التفضيلية اللتين لا تخضعان لضريبة القيمة المضافة كما باقي مدن إسبانيا. وتستفيد الشركات من تخفيض ضريبي يصل إلى %50. كما تعتمد المدينتين على تحويلات مالية من ميزانية الدولة الإسبانية لأهميتهما باعتبارهما أراضي ما وراء البحار. وتستفيدان من وضعيتهما كميناءي تخزين للبضائع المستوردة، معظمها مخصص للشحن عبر التهريب إلى المغرب الذي يستوعب %80 منها. ما يجعل البضائع المهربة ذات أثمنة جد منخفضة لا يمكن منافستها.

صحيح أن تهريب البضائع مع ضعف المراقبة الصحية وانعدام إمكانية التتبع للمنتجات يحمل مخاطر صحية جدية خصوصا مع ما يسم الوضع العالمي من توالي الأوبئة الفيروسية والتسمم الغذائي. فالطريقة التي تنقل بها مواد غذائية دون وسائل تبريد وتعريضها للشمس، وتزوير المعطيات الخاصة بالمنتوج وترويج مواد منتهية الصلاحية بعد تغيير التواريخ وتحويل مواد ممنوع استهلاكها بالثغرين لضررها الصحي… كل هذا جانب آخر من الخطر الذي يسببه نظام مفلس عاجز عن توفير ظروف اقتصادية وفرص عمل للمناطق الحدودية ويتسبب في كوارث صحية لشعب فقير يبحث عن أرخص المواد لمحدودية أجوره.

لقد غضت الدولة البصر عن التهريب عندما كان يوفر قنوات لامتصاص آلاف من ضحايا البطالة الناتجة عن سياسة متعمدة تُغني أقلية قليلة من المستوردين الكبار المرتبطين بالرأسمال العالمي عبر اتفاقيات التبادل الحر وغيرها. والآن بين عشية وضحاها اكتشفت نفس الدولة خطر التهريب على “اقتصاد وطني” رهنته هي ذاتها لتقلبات اقتصاد عالمي قائم على تنافس شرس بين عمالقة الرأسماليين الذين يطحنون ملايين الكادحين- ات تحت عجلاتهم المتسارعة لجني الأرباح.(2)

دولة الاستبداد: من إهانات على المعابر إلى قطع مصادر العيش

لا تترد أجهزة الدولة في امتهان كرامة الشعب المغربي في المعابر أمام أعين أجهزة الدولة الاسبانية. بل تتمادى لإظهار بطشها وكأنها تقول لهم “أنظروا أنا أحمي ظهركم من جوعى سيكتسحون قارتكم، عصاي الغليظة وقبضتي البغيضة تحميكم. فقدموا الأموال والتزموا الصمت عن انتهاكاتي”.

دون سابق إنذار قررت الدولة المغربية منع التهريب بالمعبرين في دجنبر 2019، وطوت بجرة قلم استبدادي عقودا من اعتماد مطلق لسكان مدينة الفنيدق على نشاط رئيسي وحيد هو التهريب دون أن تخلق أي بديل لعيش السكان. تقف عقلية الاستبداد والاستهانة بمعاناة الكادحين خَلْفَ سرعة اتخاد القرار. دع البائسين يتدبرون بؤسهم ولن يكلفنا الأمر سوى بعض التصاميم الهندسية والتوقعات المستقبلية الفلكية، تماما كما هو الأمر مع “مشروع المنارة المتوسط” إزاء احتجاجات الريف. وإذا استدعى الأمر قمعا فلا بأس والأهم تنفيذ قرار اتُخذ بدوافع أكبر من استيقاظ متأخر لإنهاء التهريب.

إن استراتيجية النّظام المغربي تهدفُ إلى تكريس ميناء طنجة المتوسط مركزا لوجستيكيا بحريا محوريا في المنطقة المتوسطية، عبر إضعاف منافسيه (ميناء الجزيرة الخضراء…. الخ)، ورفع الكلفة الاقتصادية للمدينتين (سبتة ومليلية) بالنسبة لإسبانيا، وأخيرا مُمارسة ضغط مضاد في وجه ابتزازها للنظام المغربي في قضية الصحراء الغربية.

أخرج الانقلاب العنيف في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية السكان للاحتجاج. وبعد تكرار مسيراتهم تحركت أجهزة الدولة المحلية وتوجهت إلى المدينة وعقدت اجتماعات متتالية بعضها مع المحتجين- ات.

أعلنت الدولة أنها بصدد تنفيذ إجراءات اقتصادية بالفنيدق والمدن المجاورة؛ منها مشروع لوكالة إنعاش وتنمية أقاليم الشمال. أُسندت مهمة انشائه للوكالة الخاصة طنجة المتوسط، ويقوم على خلق منطقة أنشطة اقتصادية على مساحة 90 هكتار. بداية بشطر أول على مساحة 10 هكتارات كمنصة بديلة لنقل السلع القادمة من سبتة عبر ميناء طنجة المتوسط. نفس الشيء مع جعل ميناء “بني نصار” منصة لدخول سلع مليلية. وأيضا الترخيص بفتح متجر كبير للشركة السويدية (اكيا). وأخيرا توقيع عقد تشغيل لفائدة نساء متضررات من إغلاق المعبر عددهن 107 مرتقب أن يبلغ 700، للعمل في شركات النسيج بطنجة وتطوان.

ليس في الامر حلا جوهريا للمشكلة التي تتمثل في تخلف المنطقة الحدودية وافتقارها لبدائل اقتصادية توفر الشغل، والأهم عجز النظام الاقتصادي التابع والمتخلف عن حل المعضلة. إنه إجراء لامتصاص الغضب، يجري إخراجه من قبعة الساحر كلما هب الكادحون- ات للاحتجاج ضد سياسة التفقير والتهميش (سيدي إفني بين 2005 و2008، اكديم إيزيك سنة 2010، الريف سنة 2017).

سيناريو الحسيمة سيعيد نفسه، إن لم نمنعه بالتضامن مع احتجاجات كادحي- ات الفنيدق: أزمة اقتصادية واجتماعية حادة دفعت السكان إلى النضال الجماعي، تكرار الاحتجاج يحرك السلطة للنزول إلى الشارع لمقابلة المحتجين وتسويق الأمر بكونه تَفَهُّم ودلالة على الجدية في إيجاد الحلول، انكشاف الوعود الكاذبة للسلطة. ومع تأكدها من استمرار الغضب الشعبي، تنتقل الدولة إلى تكتيك آخر إذ تعطى الانطلاقة لأذرعها الإعلامية وأذيالها الحزبية ومثقفيها لترويج السموم وكيل الاتهامات للمحتجين- ات تمهيدا لقمعهم وإخراس أصواتهم باسم هيبة الدولة. إنه التكتيك الذي يتكرر في كل مرة.

أجل يجب إنهاء تجارة التهريب، لكن يجب توفير بديل لمن ليس له مصدر آخر للعيش. لا يتعلق الأمر بما ستفعله الدولة غدا أو في المستقبل. بل يجب النضال لتنفيذ إجراءات عملية قبل الإغلاق لفائدة العاملين- ات في التهريب المعيشي. يجب أن توفر الدولة دخلا لا يقل عن الحد الأدنى للأجور لفائدة العاملين والمتضررين من وقف المعبرين واعتبارهم ضحايا بطالة قسرية. يُعلَّق التعويض بالموازاة مع توفير بدائل وفرص عمل حينما تنفذ الدولة فعلا ما تعد به من مشاريع على الورق. وبدل التعويل على وهم القطاع الخاص، يجب النضال من أجل أن توجه الدولة أموالا عمومية عاجلة واعتبار المنطقة منكوبة اقتصاديا واجتماعيا. وأن تطلق مشاريع عمومية تشغل أبناء المنطقة وتنفذ برنامج لاستدراك الخصاص في البنية التحية والخدمات العمومية الأساسية.

إن بلورة لائحة مطالب بناء على الوضع الملموس والنضال من أجل تحقيقها، سيحسن الظروف الصعبة لساكنة المنطقة. ليس خافيا أن ما استفادت منه منطقة الحسيمة من خبرات نضال المعطلين، وشبيبة طلابية، وتجربة اللجان الشعبية إبان 20 فبراير، خلق تراكمات نضالية وتجربة تفتقدها منطقة الفنيدق. كما أن شراسة القمع بالحسيمة وجرادة تنزل بثقلها. لكن إغلاق المعبرين في وجه تجارة التهريب كما قبله إغلاق الحدود الجزائرية يجعل كامل المنطقة الشمالية-الشرقية على لهيب أزمة اقتصادية واجتماعية ليست نضالات الفنيدق إلا مقدمة لما هو قادم منها.

لا يتهيب الثوريون- ات من اشتداد الأزمة، ولا يُحذرون الدولة من تنامي الاحتقان ونصحها باتخاذ إجراءات اجتماعية وسياسية لفش الغضب وضمان الانفراج. بل يعملون على إنماء المقاومة الشعبية وتطويرها وإكسابها وعيا سياسيا وتصليبها تنظيميا، من أجل القضاء على جذور الاستعباد وكل أشكال امتهان الكرامة الإنسانية: نظام الرأسمالية التابعة وخادمها الاستبداد السياسي.

أحمد أنور

——–

لمزيد من المعلومات انظر:

(1) -التقرير السنوي للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، الصادرسنة2019 ص 93الي ص 107.

(2) -تقرير اللجنة الاستطلاعية البرلمانية للمعبر الحدودي سبتة الصادر في فبراير2018.

 

 

 

شارك المقالة

اقرأ أيضا