موجة إضرابات نسوية جديدة ضد الرأسمالية والذكورية

النساء26 فبراير، 2021

 

انطلقت شرارة الاضرابات النسوية بعد تظاهر آلاف نساء بولونيا يوم 3 أكتوبر 2016 من أجل شرعنة الحق في الإجهاض. خرجت في نفس الشهر آلاف نساء الأرجنتين احتجاجا على الاغتصاب والقتل الوحشي الذي تعرضت له لوسيا بريز البالغة من العمر 16 سنة[1]، ونظمت النساء بهذا البلد بدعوة من تجمع «Ni Una Munes [2]»  إضرابا لمدة ساعة احتجاجا على العنف الجنسي الذي يقتل امرأة كل 30 ساعة، ومنذ ذلك الحين توسعت موجة الإضرابات النسوية لتشمل العديد من بلدان العالم.

يُعَدُّ يوم 8 مارس من سنة 2017 محطة هامة في سيرورة الإضراب النسوي العالمي، حيث أطلق نداء بمبادرة من نساء الأرجنتين يدعو لجعل هذا اليوم العالمي ذو الدلالة الكبيرة في تاريخ نضالات النساء يوما تضرب فيه النساء عن كل شيء. واستطاعت منظمات النضال النسوي تنظيم الإضراب فيما لا يقل عن 30 بلد بالعالم في ذلك العام[3]. وتوقفت النساء عن العمل في أماكن الانتاج وعن مزاولة كل أنشطة إعادة الإنتاج الاجتماعي، وأظهرهن على هذا النحو وبشكل جلي أن استغلال عملهن غير المعترف به وغير المؤدى عنه، هو الذي يعيد انتاج قوة العمل (الحالية والمستقبلية) وبدونها لن تتحقق الأرباح ولن يتراكم رأس المال.

الإضراب النسوي العالمي آلية فعالة لتنظيم وتوحيد مقاومات النساء

تتجدد دعوات ديناميات وائتلافات وتجمعات نسوية عبر العالم إلى تنظيم الإضرابات كل يوم 8 مارس منذ سنة 2016، وعمت احتجاجات النساء في العامين 2018 و2019 كل من إسبانيا وإيطاليا وبلجيكا، واليونان، وتعرضت مسيرة النساء في تركيا لقمع شديد. وبآسيا نظمت النساء إضرابات بالهند بنيودلهي، واندونيسيا وجاركتا، وخرجت النساء بكوريا الجنوبية في زي ساحرات[4]. وعمت الولايات المتحدة الأمريكية احتجاجات النساء ضد صعود ترامب الرئيس الأسبق الذي أعلن عن عدائه الصريح لحقوق النساء والمهاجرين-آت.

توحد النساءُ قوتَهن الجماعية وتسرن في العديد من بلدان العالم، ويجسدن بذلك التضامن النسوي الأممي بين نضالات النساء. ويبرز تنوع الأشكال التنظيمية التي تتخذها مقاومات النساء وتعدد مطالبهن. إنهن ينتصرن في تحرير طاقتهن من كل أنواع القيود وينجحن في تجاوز جدران العنصرية والكراهية التي نصبها مجتمع رأسمالي طبقي-أبوي وعنصري لتفصل بين مضطهدات ومضطهدي كل العالم.

تعيد موجة الإضرابات النسوية لأشكال الإضراب كامل عنفوانها وقوتها، وتجمع بين المسيرات والتجمعات الاحتجاجية الحاشدة والاعتصامات في الساحات، وهكذا أضربت النساء في السنة الماضية في بلدان أمريكا اللاتينية بأعداد كبيرة لإظهار بشاعة وانتشار جرائم قتل واختطاف النساء. وعبرت النساء في المكسيك عن غضبهن تجاه الحكومة التي تتقاعس إزاء ارتفاع هذه الجرائم. وبعد مسيرات يوم الثامن من مارس الضحمة في عام 2020 أضربت النساء في اليوم الموالي عن العمل تحث شعار يوم بلا نساء، ولازَمن منازلهن لإبراز مكانة أنشطة النساء في الحياة العامة. وكانت احتجاجات النساء في التشيلي الأكبر حجما، حيث تجاوزت تجمعات المحتجات بالعاصمة سانتياغو مئات الآلاف، ونظمت النساء في مناطق أخرى بهذا البلد إضرابات عارمة يطالبن فيها بالحق في الإجهاض ووضح حد لجرائم العنف المرتكبة في حق النساء.

لم تسلم النساء المضربات في ذكرى يومهن الأممي من عنف أجهزة الدولة، وواجهت الشرطة المسيرة التي نظمتها النساء في العاصمة الفرنسية باريس بقمع شديد، وقاومت النساء التدخل العنيف مرددات شعار، “نحن قويات فخورات، نسويات وراديكاليات غاضبات“. ويكشف حجم التنكيل الذي لحق النساء في باريس السنة الماضية عداء جهاز الديمقراطية البرجوازي لإضراب النساء لما يمثله من تهديد على دوران ماكينة المجتمع الرأسمالي.

نساء المنطقة المغاربية والعربية يقاومن عنف أنظمة سياسة رأسمالية، تبعية، عنصرية، بطريركية

عرفت بلدان المنطقة انخراطا قويا للنساء في انتفاضات شعبية مطالبة بالديمقراطية والكرامة ورافضة لكل أشكال الظلم الاجتماعي، واحتلت النساء الشوارع وساحات الاعتصامات، وتمردن على كل أشكال قمع السلطة وتسلط العقلية الأبوية المتجذرة في مجتمع رأسمالي تبعي.

يعكس تدفق جماهير النساء إلى ميادين النضال سعيهن للقضاء على جذور اضطهادهن وقهرهن. ويكافحن هيمنة بنى اقتصادية واجتماعية وثقافية تغرقهن في أوحال البؤس الاجتماعي والاقتصادي، وتقوي تجاههن كل أشكال العنف الجنسي والجسدي والنفسي.

لا ترفع القاعدة الكبيرة من النساء المتواجدات في الاحتجاجات بشكل عام مطالب خاصة باضطهاد النوع، ولا تنبع احتجاجاتهن من وعي نسوي بل عن تدمير النيوليبرالية العنيف لشروط العيش والخدمات العامة. ولكنهن يقتحمن الفضاءات العامة الخاضعة لعلاقات الهيمنة والتسلط الذكوري، ويخرجن من المنازل للتعبير عن غضبهن يكسر القيود التي فرضت على جنسهن لعقود طويلة من الزمن.

تواجه النساء عندما تنتفضن مخاطر التعرض للتحرش الجنسي والاغتصاب وحملات التشيئ وكل أصناف الاعتداءات، ويصبحن هدفا لعنف جهاز القمع المؤسساتي للدولة، ومرمى التهديد من حاملي الأفكار الأيديولوجية الرجعية الكارهة لتحرر النساء. وتعتبر تلك الاعتداءات وجها لآخر للثورة المضادة التي تجتاح المنطقة منذ سنة 2013 (خاصة مشاهد بيع النساء في الأسواق من طرف تنظيم داعش، وكشوف العذرية ضد المتظاهرات في مصر).

شهدت بلدان المنطقة بدورها تحركات وتعبئات أطلقتها ديناميات نسوية، واستطاعت النساء في الجزائر إبان اندلاع الحراك الشعبي الدعوة والمشاركة بكثافة في مسيرة رفض العهدة الخامسة يوم 8 مارس 2019. وأعيد ربط جذور هذا اليوم التاريخي لإضراب النساء بالنضال من أجل جزائر ديمقراطية. وثارت النساء في العراق ضد نظام الطائفية وضد الاعتداءات التي تطال النساء في الاحتجاجات، وردا على التصريحات الرجعية لمقتضى الصدر الداعية إلى عدم اختلاط الجنسين في خيام الاعتصامات. نظمت النساء مسيرات وتجمعات حاشدة في أكثر من محافظة بهذا البلد يوم 13 فبراير 2020، ونشأت حركة “طلعات” في فلسطين ضد انتشار جرائم القتل التي تذهب ضحيتها النساء في مجتمع أبوي، وضد الاحتلال الصهيوني. وكان وجود النساء في الثورة السودانية التي أطاحت برأس النظام الديكتاتوري لافتا وقويا، وتعرضن لكل أنواع العنف والتحرش الجنسي والضرب والخنق بالغاز أثناء فض اعتصام مقر القيادة العامة. وبالرغم من وحشية التدخل القمعي استمرت النساء في تنظيم مواكبهن الاحتجاجية ضد نظام عسكري رجعي يخنق أنفاس النساء السودانيات، ويديم قوانين تدلهن وتنكل بحياتهن. وتصدرت النساء في لبنان مقدمة الحراك الشعبي الواسع في 2019 الذي انطلقت شرارته إثر الأزمة المالية والاقتصادية والاجتماعية، وضدا على النظام الطائفي الجاثم على صدر الشعب اللبناني.

لم تنل حملة التعليقات الجنسانية في مواقع التواصل الاجتماعي من عزيمة النساء اللواتي كن في قلب الاحتجاجات الشعبية بمدن وبلدات لبنان، ونظمت الناشطات النسويات مسيرة في الثامن من مارس 2020، تطالبن فيها بإسقاط النظام السياسي وسلطة المجتمع الذكوري.

نساء المغرب الكادحات يكافحن عواقب سياسات نيوليبرالية تزيد معانتهن في مجتمع السيطرة الأبوي 

لم يكن المغرب حالة مفصولة على مستوى المقاومات في المنطقة بشكل عام، واندفاع جماهير النساء إلى الاحتجاج بشكل خاص. لقد شكلت النساء الفقيرات بالمدن والقرى نهاية التسعينات وبداية سنوات الألفين قاعدة النضالات الشعبية وكن في مقدمتها.

تطغى على هذه الاحتجاجات المطالبُ الاجتماعية والاقتصادية من قبيل الحق في ولوج خدمات صحية مجانية جيدة، وتوفير خدمات الماء والكهرباء، وتجهيز بنية طرقية تفك العزلة عن مناطق نائية ومهمشة، ورفض غلاء أسعار مواد الاستهلاك الأساسي، والمطالبة بالتشغيل. وتصاعدت في السنوات الأخيرة نضالات النساء من أجل الحق في امتلاك الأراضي السلالية، و ضد نزع الأراضي من مالكيها-اتها الأصليين- ات وتفويتها لصالح مشاريع مستثمرين كبار محليين وأجانب.

يمكن إجمالا تركيز أسباب خروج النساء للاحتجاج في اشتداد الظلم الاجتماعي والاقتصادي في صفوفهن في مجتمع ذكوري يضطهد أصلا جنس النساء ويقهرهن. ونذكر على سبيل المثال لا للحصر احتجاجات النساء في وزاكورة (2000) وطاطا (2005) من أجل خدمات صحية مجانية، ونساء انتفاضة سيدي افني ايت بعمران المطالبات بتنمية فعيلة بالمنطقة (2005-2008)، واحتجاجات النساء في قرية بن صميم ضد خوصصة منابع المياه الطبيعية، واعتصام نساء إميضر في قمة جبل ألبان ضد الشركة المنجمية المستغلة لمعدن الفضة وتسميمها لأرض ومياه وهواء تلك القرية. وكافحت نساء ورززات المقترضات ما بين 2011 و2016 تغول مؤسسات القروض الصغرى، واستطعن كشف كذب أحد ركائز نموذج التنمية النيوليبرالي. وقاومت النساء إبان حراكي الريف وجرادة (2017) كافة أشكال القمع والتنكيل. ونظمت النساء بالحسيمة مسيرة احتجاجية كبيرة يوم 8 مارس من سنة 2017، رفعن فيها شعار لا للتمييز بين الجنسين ونددن بالتهميش والإقصاء وعسكرة منطقة الريف، وطالبن بالعدالة الاجتماعية ومحاكمة قتلة محسن فكري. ولازالت نساء الريف وجرادة يعشن عذابات أليمة بسبب استمرار اعتقال الأبناء والإخوة والازواج.

تقدمت النساء في زاكورة في العام 2018 احتجاجات الساكنة من أجل الولوج للماء الصالح للشرب أو ما عرف “بمسيرة العطش”. وتجري حاليا بشمال المغرب بمدينة الفنيدق نضالات عارمة ردا على عواقب فترة الحجر وقانون الطورائ الصحية الذي خلف كساد المشاريع التجارية الصغيرة، وتتفاقم أوضاع أهالي الفنيدق عقب إغلاق معبر مدينة سبتة بمبرر محاربة التهريب. ويبقى جلب البضائع من سبتة ومليلية مصدر عيش رئيسي للنساء الفقيرات، اللائي يُجبَرن على حمل كميات ثقيلة من السلع على ظهورهن لإعالة أسرهن، ويلقين معاملة تسحق كرامتهن ويواجهن مخاطر جمة تهدد حياتهن في المعابر الحدودية. لهذا تتواجد النساء بشكل كبيرة في هذا الاحتجاج الشعبي ويحتلن الصفوف الأمامية دفاعا عن لقمة العيش.

تعرف النضالات النقابية هي الأخرى في القطاعات التصديرية كصناعة النسيج والقطاع الفلاحي انخراطا قويا للعاملات، ويتصدين بكفاحية عالية لشروط العمل بالغة الهشاشة رغم ضعف انتساب العاملات النقابي، ويصمدن أمام هجمات أرباب العمل المتتالية خاصة في سياق الجائحة وانحياز تدابير الدولة لصالح الشركات الرأّسمالية، وتواصل الأستاذات المفروض عليهن العمل بالعقدة نضالهن إلى جانب زملائهن من أجل إسقاط مخطط التعاقد.

موجة الإضراب النسوي والنساء العالمي، خطوة نحو بناء حركة نسوية تقاطعية أممية  

تتنامي نضالات النساء بالمنطقة اللائي يتحدرن من طبقات شعبية، وتصبو إلى الانفكاك من واقع الفقر والهشاشة والبطالة، وبلوغ حياة مستقلة متحررة من كل أنواع العنف والتحقير والاستعباد، ويصطدم توقهن هذا بطغيان النظامين الرأسمالي التابع والأبوي.

لم ولن يكن يوما الظفر بالحرية والمساواة والانعتاق من الظلم والاستغلال هبة من الأقليات الحاكمة الماسكة بالسلطة السياسية والاقتصادية، ولن يتأتى ذلك بتقديم النصح واستجداء عطفها. وكذلك لن يتحقق تحرر النساء الجماعي بتقديم مجموعات الضغط النسائية للمذكرات، والترافع في منصات مؤسساتية تتحكم فيها أنظمة رجعية مستبدة، والارتهان بمنظورات مؤسسات نيوليبرالية تجاه النساء.

لن تتغير أوضاع النساء المسحوقات سوى بتنظيمهن لأنفسهن ووعيهن الجماعي بأصول اضطهادهن واستغلاهن، وترجمة الوعي بأصل البلاء إلى تمرد جماعي نسوي. وللتقدم نحو بناء دينامية نسوية تقاطعية مناهضة  للرأسمالية والذكورية في المنطقة وجب الانطلاق من هذه المقاومات الآتية من أسفل، التي يَعْبُرُهَا الاضطهاد الطبقي والجنسي والعنصري والظلم البيئي، ويتشابك فيها التصدي للتقتيل الجماعي للنساء اللاجئات في أماكن النزاعات المسلحة وعلى الحدود المسيجة، مع مقاومة تهجيرهن  القسري ومناهضة الاحتلال، ولابد أن تتظافر مقاومات نساء المنطقة لكافة أشكال الهيمنة والسيطرة عليهن مع النضال من أجل إحدات قطيعة مع أشكال الاستعمار الجديد، من مؤسسات إمبريالية مدافعة عن الرأسمال العالمي، واتفاقيات التبادل الحر، والديون، ووقف الأنشطة الاستخراجية التي تغزو بها الشركات متعددة الجنسية المنطقة، والتي تدمر الزراعات المعاشية وتسمم البيئة المحلية للنساء ومجتمعاتهن.

بهذا المعنى تكتسي الموجة الجديدة لحركة النضال النسوي والنسائي أهمية بالغة، لأنها تعيد لمعركة تحرر النساء روح التمرد الجماعي، وتشد أوصر النضال النسوي بالنضال العمالي والبيئي ومناهضة العنصرية العرقية. تبتكر هذه الدينامية، من جديد، آلية الإضراب النسوي العالمي، وتجعل منه وسيلتها المركزية، وتدعو في كل مارس 8 لشل الحركة في الأماكن الخاصة والعامة، وبذلك تستعيد مقاومات النساء طابعها السياسي والجذري وكامل قدرتها الكفاحية لكنس عبودية النظامين الرأسمالي والذكوري.

بقلم: قدس

[1] Retour sur l’histoire de la grève des femmes

https://npa2009.org/actualite/feminisme/retour-sur-lhistoire-de-la-greve-des-femmes

[2] تجمع “نرفض ان تنقصنا حتى واحدة،” انظر نفس المرجع

[3] انظر نفس المرجع

[4] 8 mars : la grève des femmes dans le monde

Mardi 12 mars 2019 / DE : STÉPHANE ORTEGA

https://www.pressegauche.org/8-mars-la-greve-des-femmes-dans-le-monde

 

شارك المقالة

اقرأ أيضا