تقييم أولي لـ”انتخابات” 8 سبتمبر 2021: نجاح الحزب الوحيد

سياسة13 سبتمبر، 2021

بقلم: رفيق الرامي

 من الفائز ؟

يُوهمُ النظر في أرقام نتائج انتخابات 8 سبتمبر 2021 أن الحياة السياسية تحكمها آلية تَعَاقُب أحزاب، هذا سقط وذاك صعد وفق إرادة الناخبين- ات. وبالنظر إلى اختلاف التسميات الحزبية، وحتى بعض الخصائص الثانوية، منها بالخصوص سياق ظهور كل حزب ودرجة تدخل الدولة في صنعه، يبدو  للمتتبع السطحي أن هناك تغيرا سياسيا داخل “المؤسسات المنتخبة”.

لكن يكفي النظر إلى الحزبين الذين تصدرا “انتخابات” 8 سبتمبر 2021، حزب التجمع الوطني للأحرار وحزب الأصالة والمعاصرة، واختلاف أدوارهما في ولاية البرلمان السابق، حيث كان الأول في “الحكومة” والثاني في “المعارضة”، لإدراك أن العملية كلها تلاعبٌ للتضليل السياسي، إذ أن الحزبين صِنفٌ واحد: حزب القصر.

فالتجمع الوطني للأحرار، تأسس قبل 43 سنة بدفع من الدولة، وبرئاسة أحمد عصمان صهر الملك الحسن الثاني آنذاك. والأمر عينه فيما يخص حزب الأصالة والمعاصرة الذي أسسه قبل 13 سنة صديقُ الملك ومستشاره الحالي فؤاد علي الهمة. وكلاهما أدوات تدخُّل الدولة في الحياة السياسية، أي في لعبة برلمانية مصنوعة ومتحكَّم بها، ولصنع حكومة واجهة لتنفيذ سياسة تقررها الدائرة القريبة من الملك، بتعاون مع القوى الإمبريالية التي يدور النظام في فلكها، والتي تمر عبر إملاءات صندوق النقد الدولي.

وحتى حزب العدالة والتنمية ينتمي جوهريا لنفس الصنف السياسي، فهو حزب ملكي برجوازي مؤيد للسياسة البرجوازية المطبقة في ظل التبعية للإمبريالية، وقد تولى تنفيذَها حكوميا بكل تفان منذ العام 2011.  لا يتميز هذا الحزب سوى بأصوله التاريخية، وطبيعة قاعدته الاجتماعية، إذ يُعبر عن جزء من الموجة الاسلامية التي اجتاحت المنطقة منذ سيطرة رجال الدين على السلطة في إيران بعد ثورة 1979. لم يصنع النظام حزبَ العدالة والتنمية، إنما دمجه في اللعبة السياسية وطوَّعه.

أما القوة السياسية الثالثة الفائزة في انتخابات 8 سبتمبر 2021، حزب الاستقلال، فهو حزب برجوازي ساهم هو أيضا في تطبيق نفس السياسات النيوليبرالية، وكذلك الاتحاد الاشتراكي، الذي تخلى عن مناوشاته، الساعية لمفاوضة الاستبداد لا لإلغائه، وذلك منذ قبوله دستور 1996 ومشاركته في الخدعة السياسية المسماة “حكومة تناوب”. كون هذه الأحزاب من نفس الصنف هو سبب ظاهرة الترحال السياسي.

كيف صنعت الدولة الخريطة الراهنة؟

– أولا بإلغاء إمكان وجود أحزاب حقيقية، بقانون الأحزاب بدايةً، وبالتضييق على الحريات وعلى القوى السياسية غير المرغوب فيها، ومنها أكبر قوى الإسلام السياسي، جماعة العدل والإحسان المحظورة عمليا، وحزب النهج الديمقراطي، الحزب السياسي الشرعي الوحيد المنتسب إلى الماركسية.

– ثانيا: بمهارة وزارة الداخلية التي لها تاريخ طويل في التدخل لصنع نتائج الانتخابات (شبكة “الفاعلين السياسيين” الموالين، القاسم الانتخابي، المال…).

– ثالثا: بتنظيم حملة ممنهجة ضد حزب العدالة والتنمية منذ أن فرض نفسه بنتائج انتخابات العام 2016. فمعلوم أن الدولة أرادت التخلص منه، فلما فرضته النتائج نظمت ما سمي “البلوكاج”، ومنذئذ والحملة على العدالة والتنمية مستمرة بالتشهير بمنتخبيه، وبحملة الاعلام الموالي المستعملة كل ما يمكن للنيل منه.

– رابعا، بدعم من بيروقراطية الاتحاد المغربي للشغل التي دعت للتصويت ضد حزب العدالة والتنمية بحجة معاداته للأجراء، كأن باقي الأحزاب تخالفه بهذا الصدد.

– من جانب آخر سيكون ثمة قسط من الناخبين عاقب العدالة والتنمية بفعل تضرره من اجراءات لا شعبية، مثل الموظفين- ات من ما سمي إصلاح التقاعد، وربما أيضا ضحايا التعاقد المفروض في قطاع التعليم… لا سيما أن الدولة تتعمد القاء وزر التدابير اللاشعبية على حكومة الواجهة بينما يُحتفظ للملك بكل ما قد يكون له صدى ايجابي شعبيا (دعم صندوق كورونا، الحماية الاجتماعية… إلخ).

الفاعل الغائب: طبقة الشغيلة والفئات الشعبية

العامل الرئيس الذي يسهل نجاح مخططات الدولة سياسيا، ومنه انتخابيا، هو التخلف السياسي للطبقة العاملة، المتجلي تنظيميا وميدانيا. فلا حزب عمالي، إصلاحيا كان أو ثوريا، ولا فِعل سياسي له رايته الخاصة في مجمل الحياة السياسية وفيما يشهده البلد من نضالات اجتماعية. تجلى هذا بوضوح ما بعده وضوح منذ صعود موجة النضال الاجتماعي منتصف سنوات 1990، وبلوغها الذروة أيام حراك العام 2011، ثم في الريف وجرادة 2016- 2017.

لا تزال الطبقة العاملة المغربية ضحية تخبيل سياسي تَسلَّط عليها منذ نشوئها، أيام الاحتلال الفرنسي الإسباني. حيث كان القسم المتقدم منها تحت وصاية سياسية برجوازية جسدتها الحركة الوطنية، ثم يسارها لاحقا [خط بنبركة وبوعبيد]. أما بيروقراطيتها الخاصة فقد احتواها النظام لتسهم بدورها في إفساد وعي العمال بسياسة الخبز التي رفع لواءها المحجوب بن الصديق.  وقد اقتضى هذا التدجين السياسي لطبقة الأجراء سحق اليسار الشبيبي الماركسي الذي رفع راية استقلال العمال سياسيا، وذلك بحملة قمع من أشد ما يكون.

وبلغ إفساد وعي العمال السياسي أشده في ربع قرن (منتصف السبعينات حتى نهاية التسعينات) المتميز بالهيمنة السياسية للاتحاد الاشتراكي واحتكاره المعارضة بتفاهم مع القصر. ففي هذه الفترة توزعت قوى الطبقة العاملة المناضلة بين الخضوع لبيروقراطية الاتحاد المغربي للشغل المنصاعة للنظام وبين التبعية السياسية، عبر الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، لمعارضة ناقصة النزعة الديمقراطية تستعمل نضال الأجراء الاقتصادي أداةَ ضغطٍ محسوب ومتحكم به في سياقات سياسية معينة بقصد بلوغ “توافق” مع الملكية يؤمن لنظام الاستغلال الرأسمالي شروط بقاء أفضل.

وبعد إفلاس خط “النضال الديمقراطي” المجسَّد في “حكومة التناوب التوافقي”، ضعفت الهيمنة السياسية للحركة الاتحادية (الاتحاد الاشتراكي والمؤتمر الوطني الاتحاد والطليعة) لكن دون أن يحصل سيرٌ نحو استقلال الأجراء سياسيا. فقوى الطبقة العاملة المناضلة اليوم مفككة، وتائهة سياسيا، ونضالها ضد البرجوازية لا يتعدى حلبة مستوى متدن من الدفاع عن المكاسب المهددة وتلطيف أوضاع الاستغلال.

لذا نجد الشغيلة في انتخابات 2021 موزعة سياسيا بين مختلف الأحزاب البرجوازية، حتى المصنوع منها من قبل الدولة (حتى حزب الأصالة والمعاصرة يستعمل المنظمة الديمقراطية للشغل للتدخل عماليا)، أو منساقة مع بيروقراطية متعاونة مباشرة مع الدولة في خطة “معاقبة” من لم يعد النظام بحاجة لخدماته (دعوة الأمانة العامة للاتحاد المغربي للشغل المبطنة للتصويت للأحرار)، أو متخلفة لدرجة اللامبالاة السياسية.  ولا شك أن من عناصر مفاقمة هذا الوضع عقم موقف معظم المنتسبين- ات الى الماركسية من الانتخابات. وهو ليس غير أحد أوجه التيه عن سُبل السير فعلا نحو تجسيد شعار استقلال العمال السياسي.  فالدعوة الى “المقاطعة” ليست في السياق الراهن غير مسايرة لمزاج عفوي لدى قسم من الجماهير ، حيث أن الامتناع الشعبي عن التصويت أعمى سياسيا، يقف في حدود رفض اللعبة دون أي أفق، بل ينطوي على وهم أن سلامة العملية الانتخابية طريق للتغيير.

وما يجب أخذه بالاعتبار أيضا لقياس نضج الشغيلة وكافة الفئات الشعبية السياسي، وبالتالي موقفها من الانتخابات، هو الخصائص التي طبعت الحركات الشعبية التي ميزت العقدين الأخيرين: اقتصار على المطالب الاجتماعية ضمن رؤية محلية لا تسائل الاختيارات الكبرى للدولة بطرح بديل لها ورفض للتحزب (شعار “الدكاكين السياسية”)، أي انعدام أي أفق سياسي، بالوقوف عند حدود رفض ما هو قائم سياسيا والتشهير به. وهذا طبعا نتيجة عادية لغياب أدوات سياسية، وجلي أن وصف كل القوى السياسية بدون استثناء بـ”الدكاكين السياسية” لا يغني عن الحاجة إلى التزود بأداة نضال سياسي.

ماذا ينتظر الطبقة العاملة وسائر الفئات الشعبية؟

لم تكن الدولة بحاجة لتغيير الواجهة الحكومية كي تواصل تنفيذ سياستها التي توضع خارج “المؤسسات المنتخبة”. فقد كان حزب العدالة والتنمية مُنفذا خاضعا كليا لما يملى عليه. أرادت الدولة التخلص من هذا الحزب لوقف امتداده في المجتمع، وإبطال إمكانات استقوائه بالتصويت الشعبي، واستفادة من درس تبرم بعض قادته الصريح مما سمي “التحكم”.  أي في آخر المطاف الخشية من انفلات قوة سياسية صاعدة من أعماق المجتمع، تم تطويعها نعم، لكن دينامية المجتمع قد تدفعها كلا أو جزءا صوب أدوار غير محمودة العواقب.

وثمة طبعا وراء العملية الانتخابية سعيٌ لتعزيز صورة “الديمقراطية” بتناوب قوى مختلفة في الواجهة، ما سيعزز ميزة “الاستقرار السياسي” الذي بات ورقة رئيسية لدى النظام في محيط إقليمي بالغ الاضطراب.

الآن وقد نجحت الدولة في ترتيب المشهد السياسي كما شاءت، ستنزل إلى أرض الواقع تباعا كل التوجيهات المتكررة في الخطابات الملكية، عنوانها العريض تعميق السياسة النيوليبرالية المدمرة للمكاسب والحقوق الاجتماعية، في سعي محموم لتحسين “مناخ الأعمال” أي إنماء أرباح الرأسمال المحلي وحليفه الامبريالي، ضمن الأدوار التي يتوخاها النظام لذاته، بنَفَسٍ هجومي، على صعيد أفريقيا، وفي علاقاته مع القوى الإمبريالية وحليفه “الجديد” إسرائيل. وطبعا سيتطلب تشديد السياسات الجارية مزيدا من قمع الحريات العامة لضبط الوضع الحابل بانفجارات اجتماعية تأكد طابعها المتنامي بالخصائص التي اتخذها حراك الريف.  ومعلوم أن ضربات قوية للحريات باتت في لحظات إخراجها الأخيرة، منها قانون منع الإضراب وقانون التضييق على النقابات العمالية…

ما العمل بالنظر بمستوى التنظيم والوعي القائمين؟

اليسار المغربي قِسمٌ منه برجوازيٌ ناقصُ النزعةِ الديمقراطية، نيتُه مواصلةُ الاهتداء بالخط التاريخي، خط “النضال الديمقراطي”، خط التوافق مع الملكية، وتجسده فيدرالية اليسار والحزب الاشتراكي الموحد. وقد أكدت الانتخابات أفوله، وعجزه عن استقطاب طاقة النضال التي عبرت عن نفسها في الحراكات الشعبية وفي حملة مقاطعة عدد من مواد الاستهلاك، وفي الامتناع عن التصويت. ولا شك أنه لا ينوي تحويل هذه الطاقة إلى قوة كفاحية تحقق السيادتين الوطنية والشعبية والمساواة الاجتماعية. فمشروع هذا اليسار “المناهض للريع والفساد” يقتصر على إخضاع الرأسمالية المحلية لقواعد “المنافسة الشريفة”، وتكافؤ فرص رؤوس الأموال في الظفر بفرص الإغتناء، إلخ مع ما يقتضيه من تعديل لمكانة الملكية في النظام السياسي (الملكية البرلمانية). وهو إذ يعي أن تحقيق هذا الصنف من الملكيات يتطلب قوة جماهيرية، ليست في المجتمع الراهن غير قوة الشغيلة وعامة المقهورين، فإنه يخشى من انطلاقها واستقلالها بأهدافها الخاصة بها. لذلك فإن مبتغاه الحقيقي هو بلوغ تفاهم مع الملكية وليس فرض السيادة الشعبية.  هذا اليسار لا يسير بتاتا في اتجاه مصالح الأجراء وعامة المقهورين، بل يمثل عقبة.

لذا فإن بناء يسار عمالي ينهض بمهام التحرر الوطني والسيادة الشعبية وتحقيق المساواة الاجتماعية هي مهمة مناضلي الطبقة العاملة ومناضلاتها. وهي تعني في اللحظة الراهنة البلورة البرنامجية، والدعاوة، وتنظيم القوى القائمة، والانخراط في النضالات الجارية، عماليا وشعبيا، براية الاستقلال الطبقي مع التسلح بدروس ما سلف من كفاحات. يجب أن تكون كل خطوة مفعمة بروح الاستقلال الطبقي، أي السعي لإنماء شعور الشغيلة بكونهم طبقة على حدة في تناقض على طول الخط مع طبقة مالكي الاقتصاد. وبالنظر لضعف طلائع النضال سياسيا، يجب الدفاع عن خط عمالي كفاحي بوجه خط القيادات النقابية المتعاونة مع البرجوازية ودولتها، وتجسيد هذا الخط في تجارب النضال اليومية وفي بناء أدوات النضال. كما يتعين توسيع الأفق السياسي للأجراء- ات باستعمال مجريات الحياة السياسية، ومنه ما يجري داخل المؤسسات “الديمقراطية”الزائفة لما يتيحه من فهم لمختلف طبقات المجتمع. فليس خطا عماليا بالمعنى الأصيل الاقتصار على توجيه اهتمام الطبقة العاملة إلى نفسها.

رفيق الرامي

 

شارك المقالة

اقرأ أيضا