في الذكرى 27 لرحيل محمد خير الدين: «لا ينبغي بناء مجتمع صغير من النخب!»

ثقافة و فن17 نوفمبر، 2022

   تحية للمبدع العصي عن التطويع، في ذكرى رحيله السابعة والعشرين، ننشر استجوابا لمحمد خير الدين، نقلا عن كتاب زمن الرفض، حوارات (1967-1995)

محمد خير الدين شاعر متمرد، انخرط، سريعاً، وعميقاً، في عمل ثوري. لم تكن المعركة الثقافية عنده، سوى عنصر من ضمن عناصر أخرى كثيرة فيه. ولذلك جاءت كتاباته مطبوعة بالتزام اجتماعي وسياسي جذري. فهي كتابات مشحونة ديناميت. وخير الدين يستعمل اللغة كأنها حمولة متفجرة قاتلة، ويتصور الأدب سلاحاً في خدمة الثورة. والكتابة والنضال هما، كذلك، الانشغالان الأساسيان اللذان قادا خير الدين إلى الانخراط في ما يسميه “سبيل حرب العصابات اللغوية”. إن الكتاب في بلدان المغرب، كما في سواها من مناطق العالم، لم يكن لديهم، في نضالهم لقهر الصمت، ومن أجل الحق في الكلام، غداة انجلاء أوهام الاستقلالات، غير خيار واحد: النضال من داخل الأدب وبواسطته.

هل تراك بلغت مرحلة النضج، أم لاتزال في بحث دائم، عن أشكال جديدة للتعبير؟

الكاتب الحقيقي لا يتوقف عن البحث، وهو يوقعه على نفسه في تعذيب دائم. والكاتب لا يرضى عن نفسه في معظم ما يفعل ولذلك تراه في اشتغال دائم على لغته. وقد يتفق لما يكتب أن لا يعكس، في بعض الأحيان، تفكيره، لأن ما يكتب تدركه الشيخوخة، ولأن الأعمال الاجتماعية ينالها، هي الأخرى البلى والإهمال، ولأن الأحداث تصبح من الأمور البائدة، واللغة تفقد، في الوقت ذاته، كمالها الأصلي، لكن لو أن الكاتب يدرك معطى معيناً من معطيات اللغة، لا يقوم على التخصيص الواضح، كما كان يفعل الكلاسيون، وإنما قوامه البحث عن شكل هندسي، لصار من تجديد إلى تجديد، ولصارت حياته، نفسها، بحثاً، وحرباً على جميع أشكال القمع والردع. إنني لا أتصور الكاتب على خلاف ما ذكرت، وإلا لم يعْد أن يكون متأدباً يتسلى [بالكتابة]، كما يتسلى المتحذلقون في الصالونات. ينبغي القيام بعمل جماعي يخرج بنا، في الحال، عن إسار فردانية صارت ، بمعنى من المعاني، إلى تضخم داخل المجتمع.

وما هو برأيك، إذن، دور المثقفين؟

يتمثل دور المثقف في تنبيه الشعب إلى كل أنواع المغالطات المحيطة به، ومحاربة الأمية، لأنه ليس عليه أن يحتقر من يعانون الأمية، وإنما يتعين، على العكس من ذلك، إلى التعلم بالاتصال بهم. وليس على المثقفين أن يشعروا أنهم على هامش يسعى المجتمع، أو يمعنوا في تكريس الهوة التي تهدد بالاتساع بين المتعلمين والجماهير من الأميين. بل ينبغي تحطيم الحاجز، وفتح حوار يقوم على قدم المساواة. فينبغي لمحبي المعرفة [عندنا]، الساعين إلى نشر التقدم أن تكون تلك المعرفة وذلك التقدم بما يتناسب ومستوانا. فأنا لا أتصور للمتبجحين بالتقدم أن ينعزلوا في امتيازاتهم، ويكونوا مجتمعاً صغيراً من النخبة. وحسبهم أن يعلموا أنهم ليسوا سوى أفراد من الشعب، وهم وإن كانوا مثقفين، يظلون أفراداً من الشعب، مهمتهم أن يفتحوا أذهان الآخرين على بعض الجوانب الاجتماعية والسياسية من العالم.

ومع ذلك فأنت تعيش في الخارج. فكيف تستطيع تطبيق هذه المبادئ؟

إن علاقاتي بشعبي علاقات متينة لا تنفصم عراها، وهي تظل كما كانت، علاقات متينة. وبتعبير آخر، إن هذه الروابط لا توجد في شكلها المادي. فأنا أقوم من نفسي صلة وصل بوطني، لكني أنظر إلى أبعد من وطني، وأعرف أن وطني ملتقى مستغل تمام الاستغلال… وبتعبير آخر، فأنا لست منبت الجذور كشأن بعض الكتاب المغاربيين من أمثال إدريس الشرايبي ومحمد ديب، إلخ. وأرى أنه لا يشذ عن هؤلاء الكتاب إلا كاتب واحد؛ ذلك هو كاتب يسين، الذي تظل صلاته بالجزائر صلات عميقة، وتظل روايته Nedjma تتمتع براهنية متجددة. وأما الكتاب الآخرون فهم كتاب مستأصَلون، لأنهم يريدون الظهور بمظهر الكتّاب في أعين الغرب، وينساقون إلى التنافس مع الكتاب الغربيين، مما آل بهم إلى ما يشبه العقم التام، ولاسيما أنهم لم يواصلوا النضال بعد التحرر السياسي.

وأرى أن الكاتب هو، في المقام الأول، محارب، وثوري قبل أن يكون رجل قلم. والكاتب ينبغي أن يكون لبنة في صرح ثوري. فبدون ذلك، لا يعدو أن يكون مخلوقاً، بدلاً من أن يكون خلقاً، إنه يكون مخلوقاً ينتصر للاستغلال والعفن. ولا ينبغي للكاتب أن يكون أعمى كما هي بعض المجلات، وكما هم بعض الكتاب الذين يصنعون هذه المجلات، بل ينبغي أن يصبح محققاً اجتماعياً وسياسياً.

وعليه فإن الأدب، في نظرك، هو، على وجه الإجمال، ثوري في جوهره؟

تماماً، ولذلك أنتسب إلى كتاب مناضلين، من أمثال لوروا جونز* وبقية الكتاب الذين يجعلون من أنفسهم ناطقين باسم الجماعة السوداء. وإنني لأراني أخاهم في القتال. وعلى العكس فإن لدينا، للأسف، كتاباً كثراً يقتصرون على التفاخر بماضيهم، ويلتذون ذلك التفاخر، بدلاً من أن يخرجوا، بالمعنى السارتري لهذه الكلمة، على النظام القائم. فليس شأن الكاتب أن يقتصر على التركيب والتأليف، وإلا لم يسلمْ من انغلاق الأفق ومن العماء المكين.

حاوره ح. شكوندة

Lamalif, no 52 déc. 1968

****************

*(م) لوروا جونز   Leroy Jones: (1934  -؟) موسيقي أسود، برع في فن الجاز.

المصدر: زمن الرفض، حوارات (1967-1995)

جمع وتقديم عبد اللطيف العبوبي، ترجمة عبد الرحيم حزل.

شارك المقالة

اقرأ أيضا