فرنسا: “ماكرون يستبدل الشرعية بالهراوة في مواجهة الغضب الاجتماعي”  

بلا حدود6 أبريل، 2023

بقلم ليون كريميو

منذ 16 مارس وفرض المادة 49.3 بالقوة، أثار ماكرون وحكومته زخما جديدا للتعبئة الشعبية، بجميع أشكالها: الإضرابات المتجددة والمتاريس والمظاهرات وحتى التحاق الشباب المتمدرس بالحركة. ولكن، قبل كل شيء، انضافت للأزمة الاجتماعية الآن أزمة سياسية حقيقية، أزمة نظام، ليس مؤكدا اليوم أن يكون بمقدور ماكرون الإفلات منها، لأن شرعيته، وادعائه بالاستمرار في قيادة البلاد في السنوات الأربع المقبلة صارت على المحك، وأصبحت مصداقية شرعيته المؤسسية الرسمية متناقضة أكثر فأكثر مع الشرعية الشعبية التي يفتقر إليها تماما.

كانت السلطات، منذ 10 أيام، تتظاهر بتجاهل هذا الواقع، اللامبالاة بالغضب وسخط ملايين النساء والرجال في هذا البلد. وكما قالت إحدى الشابات المتظاهرات: “حتى الآن لم يهتم بنا، والآن لا يهتم بالديمقراطية”. منذ 16 مارس، شهد كل مساء، في مئات المدن، وغالبا ما تكون بلدات صغيرة، مظاهرات عفوية، مع وجود النقابات أو بدونها، مظاهرات غضب ضد المادة 49.3 وازدراء ماكرون. وبعد استعمال المادة 3-49، كان رفض مقترح الرقابة بالجمعية الوطنية في 20 آذار/مارس، من شأنه أن يؤدي إلى إسقاط القانون واستقالة الحكومة (حصل الاقتراح على 278 صوتا، أي تفصله 9 أصوات عن الأغلبية المطلقة، وهو أمر غير مسبوق منذ عام 1992)، إنه دليل آخر على عزلة الرئيس ووجوده في وضع أقلية برلمانية، وشكل ذلك سببا إضافيا للغضب الشعبي. صوت 19 نائبا على اقتراح الرقابة من بين 61 نائبا من الجمهوريين (LR)، وهو ما يتجاوز كل التوقعات. لم تمنع هذه العزلة إيمانويل ماكرون من التصريح، في 22 مارس الساعة الواحدة ظهرا، على TF1 و France 2 (القناتان التلفازيتان الرئيسيتان)، قبل 24 ساعة من يوم التعبئة الوطنية الجديد، بثقة وعدم اكتراث لغضب الشارع. إنه فعل مذهل في الازدراء الأرستقراطي ومحاولة اظهار الصلابة بوجه ناخبيه المتذبذبين، عبر تقديم نفسه “ثابتا”، وأدى داك الفعل فقط الى تنفير الطبقات الشعبية أكثر. لأنه قال مجددا إن لإصلاحه ما يبرره، وأنه انتخب لتنفيذه، وأنه، علاوة على ذلك، اعتمده البرلمان لتوه ديمقراطيا، ما يجعل التعبئة الاجتماعية غير ذات صلة.

***

ومن المؤكد أن ما يسمى بالشرعية الديمقراطية هذه كانت أقوى عامل تحفيزي في الأسابيع الأخيرة. إن نظم التمثيل السياسي، القائمة على الانتخابات الدورية للنواب، بعيدة كل البعد عن السيادة الشعبية الحقيقية، حيث يتخذ السكان المعنيين خيارات بشكل ديمقراطي. لكن الجمهورية الفرنسية الخامسة هي نفسها الدولة الأوروبية التي تراكم كل العيوب التمثيل المحتملة.

تتمتع فرنسا بنظام رئاسي حقيقي، حيث يتمتع فرد واحد، ينتخب بالاقتراع العام، بمعظم السلطات التنفيذية، من حيث السياسة الخارجية والداخلية، والحكومة هي إدارته فقط ورئيس الوزراء له فقط دور ثانوي، إلا في حالة التعايش (خطر مستبعد، سلفا ما لم يستجد، منذ الانتقال إلى فترة الخمس سنوات بالموازاة مع الانتخابات التشريعية التي تلي بسرعة الانتخابات الرئاسية). إنها عقوبة مزدوجة للحقوق الديمقراطية، إذ هناك مجلسان في فرنسا، مجلس الشيوخ والجمعية الوطنية. لا يجري انتخاب مجلس الشيوخ، “مجلس الأعيان”، بالاقتراع المباشر، بل من قبل 160000 ناخب كبير. أي عقوبة ثلاثية، فالجمعية الوطنية لا يجري انتخابها عن طريق التمثيل النسبي، بل عن طريق التصويت الاسمي في جولتين، وهو ما لا يعكس واقع التيارات السياسية ويحد من التمثيل. وهكذا، فإن النظام الانتخابي الفرنسي، “وطن حقوق الإنسان” يلحق الإهانة بجميع أوجه الحقوق الديمقراطية الأساسية.

***

إلى جانب هذه الاعتبارات العامة، أبرزت انتخابات عام 2022 كل أوجه القصور المتأصلة في الجمهورية الخامسة.

فاز ماكرون، على معارضته مارين لوبان، بصوت واحد فقط من أصل كل خمسة ناخبين (20.07٪). نظرا لكون الانتخابات الرئاسية تجري في جولتين، فاز بنسبة 38.55٪ من الناخبين في الجولة الثانية. وقد جاءت الأصوات الإضافية من الناخبين، في معظم الأحيان من اليسار، الذين صوتوا له فقط لمنع اليمين المتطرف. بالتالي، من الواضح أن شرعية برنامجه وحدها لم تتعد عتبة 20٪! في الانتخابات التشريعية التي تلت ذلك، إذ حصل مرشحو تحالفه في الجولة الأولى على 11.97٪ من أصوات الناخبين. إن هاذين الرقمين 20.07٪ و11.97٪ هما الأدنى في مجمل تاريخ الجمهورية الخامسة.

في نهاية كل هذا، حصل نواب التحالف الملتف حول ماكرون على 250 مقعدا فقط في حين تستدعي الأغلبية 289 صوتا. إن مثل هذا الوضع يستدعي محادثات في أي نظام برلماني، محادثات طويلة إلى حد ما، لتشكيل اتفاق ائتلافي حول برنامج مع حزب أو أكثر. إنه وضع مألوف في معظم البلدان الأوروبية، وغيرها.

تمكن ماكرون في عام 2017 من الحصول على 314 مقعدا بسبب تراجع الممثلين المنتخبين عن الحزب الاشتراكي (الذي خسر 216 مقعدا) وبعض منتخبي LR (الذي خسر 92 مقعدا). وكان يعتقد أن بإمكانه إعادة الكرة أساسا مع LR في عام 2022… ولأنه غير راغب في قبول فشله واقتراح تحالف حقيقي، فضل ولا يزال يفضل التصرف كما لو كان يملك الأغلبية والتعويل على جر بعض منتخبي LR لبناء أغلبية. لكن لدى ماكرون أضعف قاعدة اجتماعية، وأضعف قاعدة انتخابية في الجمهورية الخامسة.

كل هذا التذكير ضروري لفهم الغضب المتراكم، غضب من رؤية استخدام العنف السياسي، وكل الحيل لفرض قانون معاد للمجتمع.

***

زادت الأساليب المستخدمة لفرض الإصلاح المرفوض من قبل الغالبية العظمى من السكان من حدة رفض نظام غير ديمقراطي ورئيس اغتصب الشرعية في الواقع. إن ماكرون هو أول رئيس يسعى لتمرير إصلاح نظام التقاعد دون توفره على أغلبية برلمانية. وهو أيضا أول من حاول تمرير إصلاحه عبر مشروع قانون مالية تعديلي للضمان الاجتماعي يتيح استخدام المادة 47.1 التي تحد نقاشات الجمعية الوطنية في 20 يوما وفي 50 يوما الإجراء بأكمله. كما أنه أول من أقر قانونا يعدل بصورة كبيرة شروط ولوج التقاعد باستخدام المادة 49.3 الشهيرة، والتي تسمح بفرض مشروع قانون أقلية دون تصويت.

لذلك أراد ماكرون أن يلوي عنق المؤسسات، وأن يلوي ذراع النواب كي يفرض مشروع أقلية في الجمعية الوطنية وأقلية جد ضئيلة في البلاد. يؤدي عنف هذه المناورات إلى غضب وسخط هائلين بين السكان. وقعت أكثر من 1200 مظاهرة عفوية في جميع أنحاء البلاد في الأيام التي تلت استخدام المادة 49.3، بالموازاة مع غضب في قلب هذه التعبئات ضد حكومة استبدادية، صماء بوجه أضخم تعبئة منذ عام 1995 وضد حكومة مهووسة بخطاب جدير باللغة الجديد لجورج أورويل، “إصلاح ضروري وشرعي”، “عملية ديمقراطية”، “قانون يتوقعه الفرنسيون”. إن عزلة ماكرون السياسية تبقيه أكثر في حالة جمود آملا، أسبوعا تلو آخر، في أن كل هذا سيمر، وأن المارد الشعبي سيعود إلى قمقمه… وهو حتى الآن لم ينجح، بل نفخ بنفسه على الجمر.

إنه الجمع بين مؤسسات معادية للديمقراطية ورئيس منتخب بشكل سيئ يريد فرض إرادته بحيل مؤسسية، والجمع بين إصلاح اجتماعي ظالم للطبقات الكادحة وتضخم متزايد خاصة بشأن الغذاء والطاقة، هو ما يضاعف الغضب.

***

لا يتبقى للسلطة سوى حجة النظام. لم تعد المظاهرات جزءا من النقاش السياسي، ووضع يجب على الحكومة الجواب عليه بمخاطبة القوى الاجتماعية والسياسية التي تحركه، بل فقط شأنا مرتبطا بالنظام العام، وهكذا يصبح سلاح القمع البوليسي الرد السياسي الوحيد، بالموازاة مع محاولة خنق الحركة تحت تنكيل الهراوات والغاز المسيل للدموع وقاذفات رصاص الدفاع.

يقدم ماكرون ودارمانين، وزير الداخلية، نفسيهما الآن كمدافعين عن النظام، يواجهان حربا أهلية يقودها “مشبوهون من اليسار المتطرف”. شهدت الأيام القليلة الماضية، بعد استخدام المادة 49.3 ورفض اقتراح الرقابة، موجة من عنف الشرطة والاعتقالات التعسفية وحظر المظاهرات التي دعت إليها نقابات بي مهنية كبيرة مع ذلك. يتضح أن الهدف هو كسر الحركة. وقد حذرت نقابة القضاء، ونقابة المحامين في فرنسا، ورابطة حقوق الإنسان من هذا الاستخدام لقوات الشرطة لعرقلة سير المظاهرات والتخويف؛ وأعلنت وقوفها ضد عنف الشرطة، وخاصة المرتكب من قبل BRAV-M (كتائب قمع أعمال العنف الآلية) في باريس – وهي تكرار محزن للفولتيغورز التي أنشأها ريمون مارسيلين (وزير الداخلية من 1968 إلى 1974) في أعقاب مايو 68، المسؤولة عن وفاة مالك أوسكين عام 1986. يجد متظاهرون أنفسهم مشوهين في أعقاب عنف الشرطة: في روان، فقد عامل استشفاء إصبعه وفي باريس فقد ناشط في السكك الحديدية الجنوبية إحدى عينيه، بعد إطلاق قنابل فض التجمعات.

***

جرى تنفيذ مثل هذا المخطط من قبل سلطة تجرم الحركة بينما شهد يوم التعبئة، الخميس 23 مارس، في العديد من المدن، أكبر عدد من المظاهرات منذ بداية الحركة، حشدت 3.5 مليون شخص على المستوى الوطني وفقا للنقابات، و1.08 مليون وفقا للشرطة، وهو رقم يعادل يوم التعبئة الكبير في 19 يناير، بتصميم وروح قتالية كبيرين.

شهدت المدن متوسطة الحجم، على وجه الخصوص، مظاهرات هائلة: 40000 في نانت، و30000 في بريست، و20000 في أفينيون، إلى جانب 800000 شخص حاضرين في باريس. وشهد يوم 23 مارس التحاق الشباب بالتعبئة من المدارس الثانوية والجامعات بالموازاة مع إغلاق أكثر من 80 جامعة و400 مدرسة ثانوية و150000 شاب أحصتهم نقابة الاتحاد الوطني لطلاب فرنسا في مظاهرة باريس. يمثل الشباب أول أهداف عنف الشرطة، بغاية القضاء في المهد على امتداد الإضرابات وعمليات شل (المدارس الثانوية أو الكليات).

كما نجح ماكرون، في خطابه المتلفز، في إثارة غضب القيادات النقابية، CFDT وCGT في الصدارة. هاجم ماكرون مباشرة لوران بيرجر، زعيم CFDT، ولم يتردد في التأكيد على أن الأخير لم يقدم أبدا أي اقتراح بشأن تمويل المعاشات التقاعدية. وفي رد فعلهم السلبي، كافأه بيرغر ومارتينيز (CGT) بتعليقات لاذعة “ازدراء، أكاذيب وإنكار”، وكلها مصطلحات غير اعتيادية من جانب القادة النقابيين. لاسيما أن ماكرون طلب صراحة من قادة النقابات مقابلته للمضي قدما وقبول تنفيذ القانون ضد المعاشات التقاعدية.

غالبا ما وقعت الحرائق في باريس وفي مدن عديدة، والمشادات مع الشرطة في مظاهرات ليلية تجمع شبابا غير معتاد على المظاهرات فما بالك بالاشتباكات. أن يجري تصوير هذه المظاهرات بمثابة كونها من فعل المجموعات السوداء “بلاك بلوك” واليسار المتطرف هو مجرد حسابات سياسية لا علاقة لها بالواقع.

تستمر الحركات الإضرابية إلى جانب تعبئة الشوارع والحواجز والتحاق الشباب بالحركة: في 23 مارس، زادت معدلات المضربين بين سائقي SNCF والمعلمين (50٪ من المضربين) وفي مجال الطاقة على نحو قوي واستمرت الإضرابات المتجددة في SNCF، وفي مصافي النفط، والموانئ، والأرصفة، وجمع النفايات، وتخزينها.

وجرى الاشتباك مع الحكومة أيضا، هذا السبت 25 مارس، في مظاهرة كبيرة مناهضة للأحواض الضخمة في سانت سولين جمعت 30000 شخص وواجهت حملات عنيفة من قبل الشرطة، خلفت أكثر من 200 جريح.

في نهاية هذه المرحلة من الحركة، تستمر المواجهة بعناصر متناقضة. تحافظ بعض القطاعات المضربة، ولا سيما قطاع النفايات والمصافي، والمظاهرات المتعددة في المدن على المناخ السياسي المتسم بالمواجهة مع الحكومة. وبالمثل، فإن الشلل المفروض على المدارس الثانوية والجامعات قد يخلق أيضا مناخا جديدا في الأيام المقبلة. وفي الوقت نفسه، لا توجد حركات إضراب جديدة في قطاعات مهمة.

لا يزال ماكرون وحكومته متعثرين وغير قادرين على طي صفحة هذا الصراع، على الرغم من موقفهم المتعنت. بالإضافة إلى ذلك، فهما يبحثان عن مخرج أيضا عبر القاعدة البرلمانية، ويسعيان إلى «توسيع الأغلبية»، أي في الواقع إنشاء أغلبية، دون اتفاق سياسي مع الجمهوريين، بل بالسعي إلى الارتكاز على أزمة الجمهوريين، الممزقين بين دعم ماكرون ومعارضته.

***

لا تزال النقابات البي مهنية قائمة، بمطلب محوري هو سحب القانون ودعوة إلى إضراب جديد يوم الثلاثاء 28 مارس. لكنها في الوقت نفسه مستعدة بالفعل لإمكانية المشاركة في السيرورة الطويلة ل “استفتاء المبادرة المشتركة” التي أطلقها المنتخبون اليساريون. جلي أن تعزيز هذا المنظور الآن لا يتوافق مع تعزيز ميزان القوى في الإضرابات وفي الشوارع. يشعر الجميع أن السلطة ضعيفة ومعزولة، وأن وضع الطبقات الكادحة أمام ارتفاع تكاليف المعيشة وإصلاح المعاشات التقاعدية يحبل بميزان قوى قد يجبر ماكرون على التراجع عن إصلاحه. كان إلغاء زيارة تشارلز الثالث، في الواقع، صفعة على وجه الحكومة، ما يدل على عدم قدرتها على كبح التعبئة الشعبية.

ومع ذلك، فالوضع الحالي، يفتقر إلى بناء جبهة اجتماعية وسياسية مشتركة على المستوى الوطني وفي المدن تحمل بديلا مناهضا للرأسمالية مبني على خيارات اجتماعية ومالية لصالح الطبقات الكادحة، مع توزيع آخر للثروة، جبهة تعتمد على الديناميات الاجتماعية كي تبرز كفاعل سياسي مباشر في الوضع الحالي. حتى لو لم تشهد الحركة تطور هياكل تنظيم ذاتي أو جموع عامة إضرابية ضخمة، فإن عشرات الآلاف من مناضلي الحركة الاجتماعية والسياسية يضمنون في مئات المدن استمرار الحركة من أجل سحب مشروع القانون، الآن، بواسطة الإضرابات وعمليات شل البلاد، كل ذلك بالاعتماد على وجود نقابة بي مهنية وطنية. إنهم هم من يحملون هذه الحركة على أكتافهم، وهم من بنوها وجعلوها تستمر حتى يومنا هذا. ومرة أخرى، سيكون الحفاظ على التعبئة وحدوية وراديكالية تحديا في الأيام المقبلة. (تم استلام المقال مساء يوم 25 آذار/مارس).

ترجمة المناضل-ة 

رابط النص الأصلي

شارك المقالة

اقرأ أيضا