مُقاطعة تنسيقيات شغيلة التعليم لتسليم النقط: تقييم

بقلم: شادية الشربف

خاضت أربع من تنسيقيات شغيلة التعليم (المقصيين- ات من خارج السلم، المفروض عليهم- هن التعاقد، الزنزانة 10، ضحايا النظامين 85/03) مقاطعة تسليم نقط وأوراق فروض المراقبة المستمرة ومنظومة مسار. قُرِّرت الخطوة في اجتماع 23 ديسمبر 2022. ورد في بلاغ ذلك الاجتماع أن الخطوة تأتي «في إطار العمل من أجل بناء وحدة نضالية ميدانية حقيقية تهدف إلى صد الهجوم المعادي لمكتسبات نساء ورجال التعليم (الوظيفة العمومية، الترقية، التقاعد…)».

استمرت المقاطعة طيلة شهري يناير وفبراير 2023، وأوقفت تنسيقية المقصيين- ات مشاركتها ببيان مجلسها الوطني بتاريخ 31 يناير 2023، بينما استمرت تنسيقية التعاقد المفروض حتى وقف شكل الاحتجاج هذا بتاريخ 19 فبراير 2023. تخللت هذه الفترة خطوات نضالية منها ما هو مشترك مثل إضراب 02/ 03 يناير 2023، وأشكال احتجاج ميداني (ممركزة وجهوية وإقليمية).
إلى ما انتهت تلك الخطوة؟ وما هي الدروس المستخلصة؟ سنحاول في هذا المقال التقدم بتقييم، سيركز على الدروس القديمة، والتي تأكدت مرة أخرى، للنضالات الفئوية التي تخوضها تنسيقيات أقسام فئات نفس الهيئة. والقصد هو تبيان تلك الأخطاء لتجاوزها، فلا زالت تنظيمات نضال الشغيلة من نقابات وتنسيقيات، خاصة تنسيقية المفروض عليهم التعاقد، بؤرة يمكن أن تستعيد عافيتها وتستأنف النضال في أي لحظة من اللحظات.

تصعيد في ظروف الجزر
هناك بديهية يجري دوما التغافل عنها: غالبا ما تنتهي خطوات تصعيد معزولة في ظرف غير ملائم (جزر نضالي) إلى هزائم قاسية تقرض معنويات المنخرطين- ات في تلك الخطوات.
لم يغب هذا الدرس عن بيانات تنسيقية التعاقد المفروض. أشار بيان مجلسها الوطني (07 أكتوبر 2022) إلى «الوضع المختلة موازينه لصالح قوى النهب والتحكم»، مكملة ذلك بتشخيص صحيح لأدوات نضال الطبقة العاملة بقول: «تستمر القوى السياسية المتخاذلة وامتداداتها داخل الحقل النقابي في التواطؤ المكشوف والخيانات المتوالية لكل معارك الشعب المقهور».
وهو نفس التشخيص الصحيح الوارد في بيان مجلسيها الوطنيين (21 و30 يناير 2023). وفي وجه موازين القوى المختلة هذه والهجوم البالغ أشواطه الأخيرة، طرح المجلس الوطني (30 يناير 2023) مهمة «تنظيم الجهود النضالية المشتتة وفق رؤية سديدة مسلحة بوعي متقدم لطبيعة الصراع الدائر».
بعد هذا التشخيص الصحيح للوضع والمهام، سار قرار التنسيقية في الاتجاه المعاكس: «الدخول في خطوة تصعيدية بعدم تسليم نقط الفروض للإدارة وعدم مسك النقط في منظومة مسار».
ليست هذه أول مرة تقوم فيها التنسيقية بالتصعيد في ظرف غير ملائم. كانت سابقة إضراب مارس- أبريل 2019، هي النموذج الذي تصاغ على منواله كل خطوات نضالها. وفي كل مرة يتكسر التصعيد غير المسبوق على جدار العزلة النضالية الذي يسهل تفكيك المعركة والتعبئة بمزيج من القمع والاستجابة لمطالب جزئية وإجراءات عقابية إدارية.
كان مآل خطوة مقاطعة تسليم النقط ومنظومة مسار واضحا منذ البداية، لكن جرى التغافل عنه. وبدل قول الحقائق للمنخرطين- ات في الخطوة، جرت الاستعانة بخَطابة وشعارات لا تُقنع إلا المقتنعين- ات أصلا، في حين عجزت عن تحريك القاعدة الكبيرة لشغيلة التعليم (المفروض عليهم- هن التعاقد والمرسمين- ات على حد سواء).

هل كان هناك فعلا تنسيق حقيقي؟
خاضت خطوة المقاطعة أربعُ تنسيقيات، أهمها تنسيقيتا التعاقد المفروض والمقصيين- ات من خارج السلم. وصدر بيانان في 25 و31 ديسمبر 2022، وخيض إضراب مشترك يومي 02 و03 يناير 2023. تضمن بيان 25 ديسمبر خطوات صحيحة لتنظيم التنسيق، كان تنفيذها، إن لم يستطع قيادة الخطوة إلى النصر، فعلى الأقل كان سيخفف وقع الهزيمة. لكن بعد ذلك انفردت كل تنسيقية بتدبير مسار المعركة دون تنسيق فعلي. ويُعزى هذا في جانب منه إلى غياب تقاليد العمل الوحدوي، واقتصاره على إعلان النوايا المحض دون إقرانه بالفعل. وفي جانب آخر إلى اختلاف منظور التنسيقيتين المشكلتين العمود الفقري لخوض تلك الخطوة.
بالنسبة لتنسيقية التعاقد المفروض، تؤكد في كل بياناتها رفضا صريحا للنظام الأساسي الجديد والمشاركة في صياغته، وتعتبره التفافا عن مطلبها الرئيس، إذ أن ذلك النظام الجديد خارج الوظيفة العمومية التي يؤطرها نظام سنة 2003.

أما بالنسبة لتنسيقية المقصيين- ات من خارج السلم، فإنها لم تعترض بتاتا عن ذلك النظام، وإنما وضعت شرطا لقبوله تمتيعها بمطلب الترقية إلى خارج السلم (الدرجة الجديدة). لذلك كان توقيع اتفاق 14 يناير 2023 الصخرة التي تكسرت عليها المقاطعة الموحدة، بتوقف تنسيقية المقصيين- ات عن المشاركة بمبرر أن اتفاق 14 يناير حقق «مكسبا مهما… بإقراره رسميا» الحق «في الترقي إلى الدرجة الممتازة (خارج السلم) بعد أن كانت هذه الفئات محرومة منه» (بيان 31 يناير 2023). في حين اعتبره المجلس الوطني لتنسيقية التعاقد المفروض «اتفاقا صوريا» والنظام الأساسي الجديد «مجرد تحايل على الشغيلة التعليمية»، داعيا إلى الاستمرار في خطوة المقاطعة.

مزاج الجماهير
يُعتبر مزاج الجماهير متدخلا مهما في أي نضال. فخطوات تصعيد في ظرف انحطاط المعنويات النضالية، أو حالة سلبية وانتظارية، تعني أن ذلك التصعيد ستنفذه «أقلية صامدة» فقط. وهذا ما حدث بالضبط.

أ. الشغيلة المنظمة داخل النقابات
كان القسم المنظم من شغيلة التعليم داخل النقابات مجمَّدا ومنتظرا ما سينتج عن «المقاربة التشاركية» داخل اللجنة التقنية لإعداد النظام الأساسي، خصوصا أن حجم الآمال التي استثارتها القيادات النقابية المشاركة في تلك اللجنة كان كبيرا.
لم يكن هذا خافيا على قيادة تنسيقية التعاقد المفروض (المجلس الوطني). تحدث بيان 07 أكتوبر 2022 عن هدف مشاركة «البيروقراطيات النقابية في تلك اللجنة بأنه: «إضفاء شرعية مفقودة لهذا الهجوم، والاستعانة بهذه الأخيرة من أجل ترويج المغالطات وسط الشغيلة وتثبيط عزائمها وتسديد الضربات تلو الضربات».

وفي الظرفية التي أُعلنت فيها المقاطعة «كتصعيد نوعي» لم يكن القسم المنظم داخل النقابات (وحتى أقسام واسعة غير منظمة) قد تخلص من تلك الأوهام. وقد أكد ذلكَ بيان المجلس الوطني للتنسيقية بقول: «على عموم الشغيلة التعليمية الوعي أن التغيير المنشود لن يستقيم والأوهام التي أحاطت بها من كل جانب». لقد كانت المهمة المطروحة إذن هو الإسهام في تخليص الشغيلة من تلك «الأوهام التي أحاطت بها من كل جانب»، بدلا من القفز عليها بخطوة تصعيد غير مسبوقة.
لا يعترض هذا القسم من الشغيلة على الهجوم النوعي المتمثل في مراجعة قانون شغل أجراء قطاع التعليم بالتخلي عن النظام الأساسي للوظيفة المركزية (2003) وتعويضه بنظام أساسي لوظيفة جهوية تستلهم من القطاع الخاص. كل فئة كانت تسعى إلى ضمان مكاسبها الخاصة دون إدراك شمولية الهجوم وضرورة صده جماعيا. وكان الشعار الشائع التي رفعته كل فئة على حدة هو: «لا تطبيق للقانون الإطار دون ضمان حقوق الموارد البشرية». كان لدى هذه الفئات ما تخسره كل على حدة، لذلك حاولت كل فئة وكل تنسيقية على حدة تفادي تلك الخسارة عبر ضمان استثنائها من الهجوم. لم يكن هذا خافيا عن المجلس الوطني، إذ كتب في بيانه (30 يناير 2023) عن البيروقراطيات أنها «تكرس طابعا انتهازيا في صفوف الشغيلة التعليمية بإيهامها بقدرة الانعتاق من واقع الاضطهاد شريطة التخلي عن تحصين المكتسبات التاريخية». لكن مرة أخرى لم يجرِ استنتاج الخلاصات المنطقية من المقدمات المنطقية.

كان هذا هو مُسوِّغَ السلم الاجتماعي الذي التزمت به كل القيادات النقابية منذ توقيع اتفاق 18 يناير 2022. فالانتظارية الشائعة في صفوف الشغيلة لم تكن لتدفع القيادات النقابية إلى ممارسة أي ضغط ضغط نضالي، بل بالعكس كان الشغيلة ينفرون من أي نضال بمبرر أنه قد يزعج الوزارة ويعكر أجواء جلسات اللجنة التقنية. كانت تنسيقية المقصيين- ات أبرز معبر عن هذا المزاج، حتى وهي تناضل. فالنضال بالنسبة لها مجرد ضغط تلجأ إليه مُجبَرةً لتحسين شروط تفاوض القيادات النقابية داخل اللجنة التقنية، حول مطلبها الخاص بها (الدرجة الممتازة): «يناشد النقابات التعليمية بالتشبث بموقفها المبدئي الرافض لأي نظام أساسي لا يتضمن إدراج وفتح باب الترقية إلى الدرجة الممتازة في وجه كل المقصيين، مع التأكيد في لقائها المرتقب مع وزير التربية الوطنية على مطالب الشغيلة التعليمية المقصية المتمثلة في ترقية استثنائية بأثر رجعي وإداري» (بيان المجلس الوطني 20 نوفمبر 2022).

ب. المفروض عليهم- هن التعاقد
إذا كان مزاج الشغيلة النظاميون محكوما بالسعي لتفادي خسارة وضع اعتباري ومكاسب سابقة، فإن مزاج المفروض عليهم- هن التعاقد كان محكوما بأن القادم لن يكون أسوأ مما مضى. لسان حال قسم مهم من شغيلة التعاقد المفروض هو: «لقد مررنا من تجربة العقود مع الأكاديميات وملحقات العقود والأنظمة الأساسية الجهوية. وكان مطلبنا الأساس هو دمجنا في نظام أساسي واحد مع الشغيلة النظاميين. ولن يكون حالنا اللاحق أسوأ من السابق ما دمنا سنكون في سلة واحدة».
كان رفض النظام الأساسي الجديد ورفض المشاركة في صياغته موقف قسم من القيادات داخل المجلس الوطني، في حين أن أقساما مهمة من القواعد كانت تحبذ المشاركة في اللجنة التقنية وتكرر ذرائع القيادات النقابية: «لماذا نرفض نظاما أساسيا لا نمتلك بعد صيغته/ مسودته الأولى، لنشارك وندافع عن حقوقنا داخل تلك اللجنة، بدل الكرسي الفارغ»، وقد أسهم في ذلك أن جزءا مهما من المنسقين- ات منخرطون وأعضاء هياكل في النقابات، خاصة ن. و. ت/ كدش، وFNE.

ساهم أحد المحاور الذي استندت عليه التعبئة الإعلامية للتنسيقية في خلق هذا المزاج الانتظاري. بعد العودة من إضراب مارس- أبريل 2019، رُفع مطلب مركزي اعتُبر على أنه ركيزة الإدماج: «منصب مالي ممركز». وقد أتقنت الوزارة والقيادات النقابية (خصوصا قيادة FNE) العزف على هذا الوتر. وبدل التعبئة من أجل حفز عموم الشغيلة لرفض مشاركة قياداتها النقابية في صياغة ذلك النظام، اتجه الجزء الأهم من النقاش إلى التساؤل حول: «هل سيضمن لنا النظام الأساسي الجديد المنصب المالي الممركز؟». وجدير بالذكر أن حملة تحت عنوان «ليس باسمنا» كانت قد انطلقت للضغط على القيادات النقابية من أجل الانسحاب من اللجنة التقنية، وقد ووجهت هذه الحملة بتجاهل تام من طرف التنسيقية، باستثناء أفرادٍ عديدين.

لم يكن مزاج الجماهير، إذن، ملائما للانخراط في «تصعيد غير مسبوق»، وقد اعترف بذلك ناطقون رسميون باسم التنسيقية في برامج البث المباشر الموجهة للتعبئة لخطوة المقاطعة: «تراجع تجسيد الإضراب والاحتجاج الميداني، هجران الجموع العامة»، وكان تبرير خطوة المقاطعة هو أنها بديل للإضراب الذي يرفض أغلب الأساتذة- ات تجسيده بسبب الاقتطاعات من الأجور، وبديل عن أشكال الاحتجاج الميداني التي تُرفَض بمبرر الخوف من خسارة معتقلين- ات.
هذا هو، إذن، مزاج الجماهير التي جرت دعوتها لتجسيد «خطوة تصعيدية غير مسبوقة»، وبعد ذلك جرى الحديث على أن نجاح الخطوة رهين «بصمود المجسدين- ات»، وبعد وقفها أُلقيت مسؤولية فشلها على الأساتذة- ات ونعتهم- ات بـ”الانتهازيين” و”المعدات” و”المتخاذلين”، وهو تتمة لمناخ وأد أي نقاش أو رأي مغاير داخل التنسيقية.

غياب النقاش الجماعي الديمقراطي

وهي نقيصة رئيسية وسمت التنسيقية منذ تأسيسها. يجري التضييق على الرأي المخالف عبر آليات عدة، منها حملات الشيطنة والقذف بأوصاف «الذباب الاليكتروني» و»الخونة» و»عبدة الدرهم»، أو منع نشر التدوينات في الصفحات الرسمية وحذف التعاليق. أما أجواء الجموع العامة والمجالس الوطنية فتتسم بالصراع والصراخ واستعمال قاموس غليظ من المفاهيم تجعل المناضل- ة المبتدئ- ة ينفر من أي مشاركة.
شهدت خطوة مقاطعة تسليم النقط ذروة محاربة النقاش وإبداء الرأي المخالف. وفي بيان للمجلس الوطني وُصف من كان ينبه إلى أن المعركة سائرة إلى الفشل بـ»المشوشين»، ودعا الأساتذة- ات إلى عدم الاكتراث لتنبيهاتهم، وبعد ذلك حُمِّل هؤلاء «المشوشين» جزءا من مسؤولية مآل المعركة.
أدى وأد النقاش الحر إلى تغييب أصوات تنبه إلى عثرات المعركة ونواقصها. وبدل ذلك النقاش انطلقت سيول الخطابة والشعارات الحماسية التي لا تقنع إلا المقتنعين- ات أصلا، وفي استسهال تام للمخاطر المحدقة بالخطوة، خاصة إجراءات الدولة العقابية.

غياب مطلب مركزي للمعركة
لم يكن هناك مطلب مركزي للمعركة خاصة لدى تنسيقية التعاقد المفروض، على العكس من تنسيقية المقصيين- ات التي كان مطلبها واضحا: حق الترقية إلى خارج السلم (الدرجة الجديدة)، وما أن أقر اتفاق 14 يناير ذلك الحق مبدئيا، حتى انسحبت من المعركة وتوقفت عن الخطوة. لقد كانت تنسيقية المقصيين- ات أكثر حنكة، إذ جنبت قواعدها عقابيل الإجراءات العقابية، وها هي حاليا تعود ببرنامج نضالي طيلة شهر أبريل.
أما بالنسبة لتنسيقية التعاقد، فلم يكن هناك مطلب مركزي يساعد على رسم أفق لتلك المعركة. فبيان 06 أكتوبر 2022 هدد بأشكال تصعيدية «في حالة ما لم تتراجع الدولة المغربية عن هجومها على الأساتذة- ات»، في حين أشار بيان 7 فبراير 2023 إلى أن الخطوة موجهة لـ»التأكيد على استمرار المعركة النضالية الرامية إلى إسقاط مخطط التعاقد»، وهو نفس ما ورد في بيان تعليق المقاطعة (19 فبراير)، فضلا عن أمور معنوية مثل تمكن التنسيقية من إثبات هشاشة نظام التعاقد الذي لا زال مستمرا رغم ادعاءات الوزارة بشأن إلغاءه.
إن معركة دون مطلب مركزي ينبع من صميم أوضاع الجماهير ومزاجها الآني وإمكانات تطوره المستقبلي، لن تعرف للنصر طريقا، وستتحول إلى ساحة للخطابة من طرف الأكثر تقدما، الذين يلقون جريرة فشلها على الجماهير غير الصامدة. وللأسف، كان هذا مآل مقاطعة تسليم النقط.

استسهال الخصم وحتمية الانتصار
أعادت هذه الخطوة إحدى أهم سمات معركة تنسيقية التعاقد المفروض منذ انطلاقها سنة 2018: «الخصم منهزم لا محالة وانتصارنا حتمي».
ففي الوقت الذي بدأت فيه الخطوة تترنح أشار بيان المجلس الوطني (21 يناير 2023) إلى «نجاح خطوة مقاطعة تسليم النقط»، رغم أن الجملة التالية لهذا التأكيد تؤكد العكس: «أصرت وزارة التربية الوطنية بتعاون مع البيروقراطية النقابية على تحوير البوصلة، ومحاولتها فرض واقع جديد أكثر ترديا، وذلك بهدم النظام الأساسي لسنة 2003 بغية تعويضه بنظام جديد تراجعي خارج الوظيفة العمومية، فبعد مسلسل من الجلسات بدأت باتفاق 18 يناير 2022 تلاها بعد سنة اتفاق صوري يوم 14 يناير 2023».
رُوِّج إعلاميا إلى أن الخطوة ناجحة كيفما كان عدد منفذيها، وأن كبح الخطوة بإجراءات عقابية أمر غير ممكن. وحين بدأت الاستفسارات والإعذارات تتقاطر، اعتبرها المجلس الوطني (30 يناير 2023) أساليب «غرضها الأساس الحسم مع كل نضالات الشغيلة التعليمية العصية عن كل تطويع»، ودعا الأساتذة إلى الصمود في وجهها إلى حين التعامل الإيجابي مع مطالب التنسيقية.
زادت الدولة جرعة الإجراءات العقابية بتفعيل مسطرة التوقيف عن العمل وتوقيف أجور عينات بعينها من المقاطعين- ات، وأصيب المجلس الوطني بالذهول. وكانت النتيجة الانخراط في مأزق خطوات نضالية لتحصين الموقوفين- ات عن العمل: معتصمات ومسيرات وإضرابات جرى تمديدها أكثر من مرة.
وللتخلص من مأزق معركة دون أفق واضح ومن الإجراءات العقابية، اضطر المجلس الوطني إلى البحث عن وساطات بينه وبين الوزارة. وبعد تدخل جمعيات الآباء والقيادات النقابية وأطراف أخرى، أعلن المجلس الوطني (19 فبراير 2023) إبداء حسن النية وتعليق مقاطعة تسليم نقط وأوراق الفروض للإدارة والاستمرار في مقاطعة مسار. تحت وقع مأزق المعركة، جرى نسيان دروس وساطة نفس الأطراف أثناء إضراب مارس- أبريل 2019.

لم يجرِ استخلاص الدروس من تصعيد غير محسوب في ظرفية غير ملائمة، بقدر ما كان هَمُّ القيادة (المجلس الوطني) هو تحصين هيبتها والبحث عن «تبرير للتراجع» بدل «تنظيمه»، إذ اعتبر بيانه (19 فبراير) أن وقف المعركة هو تعبير عن «التفاعل الإيجابي والإرادة المسؤولة لحل الملف في شموليته، واستجابة لمجموعة من المبادرات والمناشدات التي تلقتها التنسيقية الوطنية من بعض الهيئات والإطارات»، دون نسيان عبارات التهديد في وجه دولة تمكنت عمليا من هزم الخطوة: «الإبقاء على الإضراب الوطني يومي 20 و21 فبراير، وهو قابل للتمديد في حال عدم التزام الوزارة الوصية بخلاصات اللقاءات التواصلية المنعقدة مع مختلف الإطارات (سحب كل الإجراءات المتخذة في حق الأساتذة والأستاذات وأطر الدعم: توقيفات، إعذارات، تنبيهات، استفسارات، وفتح حوار جاد حول الملف المطلبي)». لم تقم الوزارة بسحب الإجراءات العقابية ولم يفِ المجلس الوطني بتهديد تمديد الإضراب. إنها مراوغات تُفقد المصداقية أكثر مما تعززها، وتخدع القواعد أكثر مما تثير ذعر الخصم.

انتهت الخطوة بالتعليق، ولكن أيضا بإضافة ضحايا إضافيين لضحايا المعارك السابقة: الموقوفين- ات عن العمل ووقف أجورهم- هن. وبدل معركة وطنية تحولت المقاطعة إلى مناوشات بين المعتصمين- ات وقوات القمع، وانبرت كل جهة إلى مداواة جراحها، وعبر أسوء الطرق: تدخل القيادات النقابية المحلية والجهوية كوسيط بين التنسيقيات الإقليمية والجهوية والأكاديميات. وكانت النتيجة سيئة جدا: عقد مجالس تأديبية وسحب التوقيفات مقابل توقيع التزامات فردية بعدم العود واحترام مقتضيات الأنظمة الأساسية الجهوية.

الموقف من النقابات/ البيروقراطيات
كانت هذه النقطة إحدى عوائق النضال الوحدوي بين تنسيقيتي المقصيين- ات خارج السلم والتعاقد المفروض. ففي الوقت الذي أعلنت فيه تنسيقية التعاقد أن البيروقراطيات متورطة في الهجوم ساردة قائمة ممارساتها الخيانية (بيان 30 يناير 2023)، كان موقف تنسيقية المقصيين- ات على النقيض تماما: مناشدة التنسيق النقابي الخماسي الثبات على موقف رفض أي نظام أساسي لا يتضمن الترقية خارج السلم، وتثمين مواقف هذا التنسيق.

منذ بداية تنسيقية التعاقد المفروض، جرى شن حملة تهجم كثيفة على النقابات ناعتة إياها بـ»النفايات»، مساهمة بذلك- عن قصد أو عن غير قصد- في مفاقمة نفور الشغيلة من النقابة. ورغم تمسكها في البيانات بالعمل الوحدوي، إلا أنها نادرا جدا ما تدعو للمشاركة في إضرابات واحتجاجات تدعو إليها النقابات، مفاقمة بذلك عزلتها عن القسم المنظم من الشغيلة وفي نفس الوقت هيمنة البيروقراطيات على أولئك الشغيلة. وبعد وقف المقاطعة، دعت الكونفدرالية الديمقراطية للشغل إلى إضراب عام وطني في الوظيفة العمومية يوم 18 أبريل 2023، انفردت تنسيقية إقليم تاونات بالدعوة للمشاركة فيه، ونالت تهجما شرسا من أطراف داخل التنسيقية بسبب ذلك.
مرة أخرى بعض تشخيصات المجلس الوطني صائبة تماما، لكن يُستخلص منها أكثر الاستنتاجات خطأ. فحول البيروقراطية وعلاقتها بالنقابة كتب بيان المجلس الوطني (30 يناير): «إن البيروقراطيات النقابية بعدما استولت على النقابة كأداة للنضال وشكل تنظيمي لمختلف الفئات، جعلت منها معولا في يد الدولة لضرب نضالات الشغيلة التعليمية». لكنه لم يدعُ إلى تخليص النقابات من تلك البيروقراطية بالتعاون الصادق مع الفروع الكفاحية والمناضلين- ات الكفاحيين- ات داخلها. بل بالعكس برر المجلس الوطني دعوات تأسيس إطار بديل على أنها «رد فعل طبيعي عن الحصيلة الهزيلة لهذه القيادات البيروقراطية بعد جولات لا تنتهي من الحوار مع الوزارة» (2 نوفمبر 2022)، ودعا مناضلي- ات التنسيقية المنخرطين- ات في النقابات إلى الانسحاب منها: «إن المسؤولية الملقاة اليوم على عاتق المفروض عليهم التعاقد؛ تكمن في اتخاذ موقف واضح وحاسم مما يقع من اصطفاف تام من طرف البيروقراطيات النقابية… عبر الانخراط الفعال في التنسيقية الوطنية حفاظا على ديمقراطية وجماهيرية قراراتها والحسم مع كل ازدواجية في المواقف، والتي قد تكون موقفا يزكي بوعي أو بدون وعي ما تمارسه تلك البيروقراطيات» (30 يناير 2023). ونُشرت تدوينات حول لا جدوى انتظار رد فعل من القواعد النقابية ما دامت راضية عما تقوم به قياداتها من سلوك خياني.

يستند هذا إلى تصور سياسي داخل المجلس الوطني يعتقد أن اتخاذ موقف «كلامي/ بياني» من البيروقراطية هو السبيل إلى الحسم معها. لكن النتيجة دوما سلبية: فقدان التواصل مع قواعد تلك النقابات التي لا زالت واثقة في قياداتها، ويُعزَّز ذلك بواقع استنجاد التنسيقية بتلك البيروقراطيات لتكون وسيطا بينها وبين الوزارة حينما تتوحل معاركها. وقد استثمرت البيروقراطيات النقابية تلك الاستغاثة كي تؤدب سياسيا التنسيقية التي وصمت البيروقراطية بالخائنة بسبب تفضيلها الحوار على النضال.

ما علينا أن نعيه، داخل كل التنسيقيات، أن النقابات تظل، مهما بلغ ضعفها، أداة للنضال ورد التعديات، حتى وإن كانت قياداتها موغلة في التواطؤ مع الدولة وأرباب العمل. إن القطاعات (خاصة القطاع الخاص)، حيث تنعدم النقابة، وبالتالي لا بيروقراطية، لا وجود فيها للنضال. وإن القطاعات حيث النقابة ضعيفة يطبق فيها الهجوم بسهولة، في حين أن أكبر المناوشات في وجه خطة الدولة لتفكيك الوظيفة العمومية تجري في قطاع التعليم حيث التقاليد وحدود دنيا من التنظيم النقابي لا زالت قائمة.
كان لدى تنسيقية التعاقد (ولا تزال) فرصة تاريخية لتخصيب الحركة النقابية بتقاليد كفاحية ميدانية من تجربتها الخاصة. فقسم مهم من مناضليها منخرط في النقابات ويتحمل مسؤوليات تنظيمية. ولكن لأن النقاش منعدم والرأي الآخر محارَب، سرعان ما جرى استيعاب وتطويع أولئك المناضلين- ات من طرف بيروقراطيات النقابات.

ما العمل؟
كيف يستقيم النضال والمنظورُ أعوجُ؟ فالنزوع الفئوي والعقلية القطاعية وتقاليد تنظيمية تعدم كل نقاش جماعي ديمقراطي، تمنع بلورة منظورِ نضالي صائب تنتج عنه برامج وتنظيم نضال تتيح تجميع قوى الشغيلة (مرسمة ومفروضٍ عليها لتعاقد) في كل قطاعات الوظيفة العمومية وتقودها إلى النصر.

لا نعدم ومضات لمثل هذا المنظور ترد في بيانات المجلس الوطني للتنسيقية. من هذه الومضات ما ورد في بيان 30 يناير 2023، حول أن الهجوم لا يقتصر على قطاع التعليم، وأن هذا جزء فقط من استراتيجية شاملة مملاة من المؤسسات المالية الدولية، يجري تطبيقها «بتدرج على مدد زمنية وقطاعات اجتماعية تبدو في الظاهر أنها منفصلة، لكنها في الحقيقة مرتبطة أشد الارتباط ببعضها البعض، لتكتمل صورة الهجوم دون استثارة أي مقاومة منظمة قاصدة وبالأساس مبدئية»، والتمسك بضرورة العمل الوحدوي حول ملف مطلبي يستطيع لف كل فئات الشغيلة. هذا الملف المطلبي فصله بيان المجلس (2 نوفمبر 2022): «إسقاط مخطط التعاقد، الإدماج في أسلاك الوظيفة العمومية، وقف تخريب صندوق التقاعد، الحق في خارج السلم، إلغاء الساعات التضامنية، إلغاء القانون التجريمي للإضراب، الزيادة الفعلية في الأجور وليس حساب فارق التضخم…».
ولتفعيل ذلك العمل الوحدوي فصل بيان التنسيقيات الأربع (25 ديسمبر 2022) في آلياته:
* «العمل على ضرورة إنجاح التنسيق في المستقبل القريب وذلك بوضع أرضية موحدة ومحددة لجميع التنسيقيات المشاركة لمناقشة سبل التنسيق الميداني وتوحيد البرامج الاحتجاجية بدءً بالجموع العامة وكذا إمكانية عقد مجالس وطنية مشتركة للخروج ببرامج نضالية موحدة وقوية».
* «ضرورة توحيد احتجاجات الشغيلة التعليمية عن طريق المساهمة في تنظيم الأشكال النضالية والنقاشات داخل المؤسسات التعليمية، والمزيد من التعبئة في صفوف نساء ورجال التعليم ودعم العمل النقابي الحر والنزيه والميداني».
لكن يظل شرط النقاش الديمقراطي والجماعي على قائمة «ما العمل؟»، فبدون حرية النقاش لا يمكن معرفة مزاج الجماهير ولا إمكانية بلورة خطة نضال إجمالية تأخذ بعين الاعتبار سمات الوضع وإمكانات الخصم، فضلا عن إنجاح الشرط البديهي لبناء تنظيمي ديمقراطي: الجموع العامة التقريرية وتنظيم المجالس الوطنية.

مايو 2023

شارك المقالة

اقرأ أيضا