شغيلة التعليم: نُهوضٌ نضالي من القاعدة ضدّ النظام الأساسي التراجُعي

يشهد قطاع التعليم العمومي نهوضاً نضالياً واسعاً من أسفل لا مثيل له منذُ عدة عقود، باستثناء إضرابات المفروض عليهم- هن التعاقد موسم 2018- 2019، وإن كانت على نطاق أضيق مما نشهده حاليا. كان المفجر المباشر للدينامية النضالية الحالية اعتماد الوزارة/ الدولة نظاما أساسيا جديدا سمي “النظام الأساسي لموظفي قطاع التربية الوطنية”، ونشْرِه في الجريدة الرسمية، وهو نظام خارج النظام الأساسي للعام للوظيفة العمومية لسنة 1958، رغم الإحالة إليه في ديباجته. ينسف النظام الأساسي الجديد المكاسب التاريخية لشغيلة القطاع ويفتح باب تكثيف الاستغلال، ولا يستجيب لمطالب الشغيلة، وفي مقدمتها إدماج المفروض عليهم- هن في الوظيفة العمومية وفق نظام 1958، وزيادة الأجور والعدالة الأجرية ومطالب فئوية أخرى. بل تضمن تراجعات خطيرة؛ منها الزيادة في المهام والأعباء وتحضيره للزيادة في ساعات العمل، وتوسيع لائحة العقوبات وتعميمها، إضافة لوضعه أُسسا تستهدف الحد من نسب الترقي، وتكريس “آليات تدبير الموارد البشرية” المستقدمة في غالبيتها من القطاع الخاص، ويحرم معظم فئات الشغيلة من التعويضات، … الخ.

مُؤشرات الصعود النضالي
يُعد حجم انخراط الشغيلة في الدينامية النضالية الحالية استثنائيا وبالغ الدلالة. مُنذ سنوات لم نشهد بقطاع التعليم حركة تلف حولها أعدادا مماثلة من الشغيلة من مختلف الأسلاك والفئات ومن تنظيمات متنوعة على طول البلد وعرضه، لا سيما في المراكز الحضرية الكبرى (الدار البيضاء، الرباط، طنجة، أكادير، مراكش)، عكس نضالات المفروض عليهم-هن التعاقد التي كانت بؤرها متركزة في الهوامش والمراكز الحضرية الصغيرة بحكم حداثة هؤلاء بالقطاع.
كما جرى إعادة اكتشاف تقاليد الحركة العمالية الديمقراطية، منها تنظيم الجموع العامة بمقرات العمل، والنقاش الجماعي الديمقراطي واعتماد طرق التصويت والانتداب للمهام والمسؤوليات، وانتخاب المنسقين- ات وعزلهم- هن في حالة خرق ما جرى انتخابهم- هن من أجله. ينتج عن هذا النقاش الجماعي داخل الجموع العامة بلورة الملفات المطلبية وتحديد أشكال النضال.
يُبرِز حجم المشاركة الفعلية في الاحتجاجات المحلية والوطنية علامات عن مستوى الصعود النضالي الحالي. كما أن المشاركة النوعية للنساء بارزة وهو وضع كان نادرا في ما مضي. والأهم هو الحماسة والإصرار على الذهاب بعيدا في الدينامية النضالية حتى انتزاع المطالب.

نقاط قوة يجب دعمها
إن العودة القوية للشغيلة التعليمية إلى النضال الجماعي دفاعا عن حقوقهم المهددة بالزوال ودفاعا عن المدرسة العمومية، تبعث على الأمل، وتستدعي الدعم والمساندة من كل أنصار تحرر الشغيلة. لذلك لا بد من البناء على التطورات الإيجابية لتعزيزها لتقوية نَفَس نضال شغيلة التعليم عموما. وأولى المهام هي:

*توسيع أشكال الديمقراطية المباشرة التي أعيد اكتشافها من القاعدة: إن الخطوات الديمقراطية التي بدأت داخل بعض المؤسسات المدرسية مثال للاقتداء، ويجب حمايتها والإبداع في أساليب تجسيدها إلى أبعد مدى.
* تحفيز مشاركة الجميع في تقرير كل جوانب المعركة والتقييم والرقابة على المنتدَبين- ات للمهام، وجعل الانتداب ديمقراطيا ومؤقتا وقابلا للعزل. فليست الديمقراطية الفعلية محض وسيلة للتحريض والحشد يجري التخلص منها بعد انتخاب الأجهزة، بحجة توفير الوقت ومبررات الفعالية والتفاعل مع المستجدات. يجب الوعي أن الإجهاز على الديمقراطية وتكريس التدبير البيروقراطي هو جذر انفلات الأجهزة من السلطة والرقابة النشطة للقاعدة، الذي يرتد بدوره إلى تكريس سلبية هذه الأخيرة واتكاليتها. يتيح التطور التكنولوجي حل الكثير من التعقيدات العملية لتعميم المعلومة بسرعة وضمان إسهام القاعدة الواسعة في النقاش والتقرير، دون أن يحل محل الجموع العامة المباشرة والحضورية.
* الدفاع عن وحدة الشغيلة نضاليا: فأعداد واسعة من الشغيلة دخلت ساحة النضال منها المنتمية لتنظيمات نقابية وتنسيقيات ومنها من يخوض أول تجربة أو عاد بعد يأس مديد. التنوع الحاصل أمر طبيعي جدا ولا يجب أن يكون عامل تمزيق بل يجب إيجاد الصيغ المثلى لوحدة الشغيلة التعليمية ضد من يُجهِز على مطالبها ومصالحها. كما ينبغي تجميع قوتها في خندق واحد والضرب بقوة في نفس الوقت.
*استيعاب الدرس من نكسات الماضي التي تعرض لها الاجراء ليس بسبب قوة الخصم بل بسبب الفرقة وأوهام الفئوية وشعارات فخر الانتماء وسوء تدبير المعارك. طبعا هناك شغيلة أفراد بحكم تجاربهم النضالية أو التنظيمية تكوّن لديهم اقتناع رافض لتنسيقية ما أو نقابة ما وينخرط في خطاب معادٍ للقائم من تنظيمات النضال معتقدا أنها عدو يجب إقصاؤه وهذا خطأ قاتل تجرع الشغيلة مراراته لسنوات. ليست القيادة النقابية أو قيادة التنسيقية هي ما يهم في المعركة بل القاعدة العمالية، التي يجب توحيدها وحفز انخراطها الجماعي، سواء المنتمية إلى النقابات والتنسيقيات، أو غير منتمية، وسيتيح هذا إمكانا كبيرا لبناء المعركة من أسفل، بدل المعهود من تسييرها وكبحها من أعلى.
* الدفاع عن الوحدة النضالية من أسفل، بدءا من عقد الجموع العامة في أماكن العمل (المؤسسات المدرسية) التي تضم جميع الشغيلة سواء المنتمية إلى النقابات والتنسيقية أو غير المنتمية، وصولا إلى التقاء نضالي من الإقليم مرورا بالجهة انتهاء بالمستوى الوطني، على أرضية مطالب موحِّدة. فكما فرضت الشغيلة من الأسفل دينامية نضال التحق بها الجميع. على الدينامية أيضا أن تفرض من أسفل تنسيقا نضاليا يضم جميع تنظيمات شغيلة التعليم (التنسيق الوطني لقطاع التعليم، التنسيقية الموحدة لهيئة التدريس وأطر الدعم، الفروع النقابية الكفاحية، نقابات شغيلة الحراسة والنظافة والإطعام والإيواء ومربيات التعليم الأولي… إلخ).
* الانتباه الدائم لتكتيكات الدولة الموجهة لفش الاندفاعة النضالية الحالية، وتحديد الشعارات وأشكال النضال المناسبة لكل مستجد، عبر نقاش جماعي يستحضر تجارب الماضي القريب منه والبعيد.

نقاط قصور علينا تفاديها
تظل أوجه ونقاط القوة التي حفزها النهوض من أسفل هشة وقابلة للعطب نظرا لحداثتها، ولرسوخ تقاليد معادية للديمقراطية.
* خنق النفس الديمقراطي المنبعث من أسفل والسطوة على الأجهزة وإحلالها محل القواعد.
نظرا لضعف تقاليد العمل النقابي الكفاحي، وعدم فهم أسباب تبقرط النقابات والتنسيقيات، تنتهي كل محاولات بناء تنظيمات جديدة (نقابات مستقلة وتنسيقيات…) بإعادة إنتاج نفس الممارسات البيروقراطية، ليس لعدم قدرة القسم الواسع من الشغيلة على مواصلة البناء الديمقراطي لتنظيمها، بل لتدخل الأجهزة (القادة) لكبح تلك الدينامية، لكي يبقوا في قمم التنظيمات، ومن ثمة مصادرة حق الأغلبية في تقرير المطالب وأشكال النضال… وتعمل تيارات ناقصة النزعة الديمقراطية أو حتى ذات منظورات رجعية على نسف حق أغلبية الشغيلة في التقرير في كل جوانب معركتها، وإخفاء المعطيات والإحصاءات وتقارير الاجتماعات عن الجموعات العامة، بل وعقد الاجتماعات الإقليمية أو الجهوية وحتى المجالس الوطنية دون الرجوع للجموع العامة بمبررات أمنية (السرية).
* ميل إلى تصعيد النضال دون تقدير لميزان القوى
تميل كل دينامية نضالية في قطاع التعليم إلى تصعيد (إضراب مفتوح- مقاطعة ناجزة للمهام غير خاضعة لتقييم..)، وعوض جعل أشكال النضال وسائل لإضعاف الخصم، تتحول إلى غايات ومبادئ. تنتج عن تصعيد في سياق غير مناسب نتائج عكسية، فكم من معركة نضالية بالقطاع صدمت الحائط بخوضها لأشكال نضال قصوية دون انطلاق من استعداد الشغيلة الفعلي ولا من ميزان القوى. ويرجع سبب ذلك إلى عدم استحضار دروس النضالات السابقة، أو استحضار ما يزكي استسهال المعركة، فيكفي فقط الانخراط فيها بحماس وقوة.
* استبدال الجموع العامة الواقعية بغرف افتراضية (واتساب)
هناك ميل لدى شغيلة بعض المؤسسات لاستبدال الجموع العامة بتواصل على شبكات النت كغرف الواتساب أو المسنجر، بمبرر سهولة ما تتيح تلك الوسائل من سرعة التواصل والبث في القرارات. لكن ذلك يضعف البناء التنظيمي الديمقراطي، لأن النقاش الحضوري يُمْكن تنظيمه بانتخاب مسير ومقرر… ويتيح مشاركة فعلية وحية من القواعد ورقابة، ويبدع آليات المحاسبة، فيما ينفلت النقاش على الوسائل التواصل عن بعد من كل رقابة ويضيق إمكانات النقاش وإيصال الرأي، حيث يستحيل تتبع مئات الرسائل على مدار 24 ساعة، فضلا على استحالة تدبير الاختلافات والنقاشات عن بعد..
* غياب إشراك النساء في الأجهزة وتغييب مطالبهن الخاصة بهن كنساء
لا يتناسب حجم مشاركة المدرسات في الإضرابات والجموع العامة مع مكانتهن في الانتداب إلى مسؤوليات التنسيق الإقليمي أو الجهوي أو الوطني، كما يشكلن أقلية في اللجن.. فضلا عن غياب مطالب المدرسات في الملف المطلبي الخاص بهذه الدينامية، بصفتهن نساء.
* ضعف الواجهة الاعلامية
يتركز الجهد الإعلامي في صفحات الفيسبوك أو غرف الواتساب، أو التغطيات الصحفية، وما عُقد من ندوات صحفية كان إعلانا عن المطالب الفئوية لمختلف فئات الشغيلة والبرامج الإضرابية المقررة. يكمن ضعفنا الإعلامي في غياب حملات تواصلية مع المعنيين المباشرين بالمدرسة العمومية (التلاميذ، الأسر، الرأي العام…) فماهي دواعي إضراب أوقف تمدرس أبناء- ات المغاربة طيلة ثلاث أسايبع، ولا زال متواصلا؟ ألا يخدم نضال شغيلة التعليم العمومي بقاء التعليم كخدمة عمومية، والحرص على شروط جيدة ومجانية لتمدرس أبناء- ات الشعب؟ من شأن ترك هذا الفراغ في مخاطبة الأسر والتلاميذ- ات استثماره من طرف الدولة لتأليبهم على الشغيلة، وإظهارهم كأنانيين لا يفكرون إلا في مطالبهم وأجورهم، وسيفقدنا ذلك حليفا لا انتصار لمعركتنا دون كسبه لصفنا.
* الاستخفاف بقوة الدولة وبخبرتها المديدة
منذ انطلاق المعركة في 5 أكتوبر 2023 يجري مواجهة تصريحات مسئولي الدولة وإجراءاتها بحملات التهكم والسخرية بدل أخذها على محمل الجد، فالنظام الأساسي جزء من منظور إجمالي جرى تمرير قسطه الأعظم. كما يجري التقاط الإجراءات التي تواجه بها الدولة/ الوزارة المعركة كمؤشر ضعف يجب مواجهتها بمزيد من التصعيد، دون الانتباه الى أن الإجراءات العقابية (اقتطاع، قمع، عزل، مجالس تأديبية، اعتقالات…) تندرج في إطار خطة، تستهدف القسم الواسع من الشغيلة المتردد…
إن الاندفاعة النضالية الحالية، قد تشكل قاعدة لإعادة بناء فعل نقابي على أسس الكفاح والدفاع المستميت على مصالح الشغيلة، يستدعي ذلك فسح المجال لجهود حقيقية للتثقيف حول مسائل النضال وتاريخه وأسباب وضع منظماتنا النقابية الحالي وما السبيل للخروج من هذا الوضع. إن ضمانة أي انتصارآت هو تعضيده بأدوات نضال متخلصة من أعطابها، وهذه المهمة لا تقل عن باقي المهام المطروحة على الاندفاعة النضالية الحالية لشغيلة التعليم.
لقد ضيعنا الكثير من الوقت في النضالات والمعارك الفئوية المعزولة، وقد اضطررنا إلى التنسيق تحت ضغط الهجوم الكبير للدولة… وعلينا ألا نضيع الكثير من الوقت قبل أن نتوصل إلى ضرورة الوحدة مع باقي أقسام شغيلة الوظيفة العمومية المستهدَفة بنفس الهجوم، والتي تناضل حاليا ولكن بمعزل عن نضالات شغيلة التعليم.

بقلم: ح.ع

شارك المقالة

اقرأ أيضا