أين وصل النقاش الاستراتيجي بين الثوريين اليوم؟

إشتراكية, الثورة, الحزب29 فبراير، 2024

يجيب فرانسوا سابادو هنا على الأسئلة المطروحة عليه خلال ندوة البحث النضالي والتحرري ETAPE (الاستكشافات اللاسلطوية البراغماتية من أجل التحرر) [1] التي نظمت في 17 فبراير 2023.

***************

  • فرانسوا سابادو قيادي سابق في العصبة الشيوعية الثورية والأممية الرابعة (انظر ملفه الشخصي في مايترون). أشرف، على وجه الخصوص، على الكتاب الجماعي Daniel Bensaïd, l’intempestif (La Découverte, 2012). انظر ملفه الشخصي في Maitron:

https://maitron.fr/spip.php?article238052

  • Grand Angle. 26 avril 2023. :

http://www.grand-angle-libertaire.net/retours-sur-la-question-strategique-comment-changer-politiquement-de-societe/

تلامس الأسئلة الاستراتيجية مشاكل الثورة، وبالتحديد «مسارات» الثورة.

I – الصعوبات

إنه سؤال صعب لعدة أسباب:

I -1 نحن «ثوار بدون ثورة» لأكثر من أربعين عاما.

عندما نتحدث عن الثورة أو أوضاع ما قبل ثورية أو ثورية، فإننا نتحدث عن حركات ذات ديناميات معادية للرأسمالية أو مناهضة للإمبريالية، بالمعنى الأوسع. تعود آخر السيرورات الثورية إلى السنوات 1967/1976، خاصة في جنوب أوروبا، مع نقطة متقدمة في البرتغال حيث تصدع جهاز الدولة. يمكننا أيضا التحدث عن ثورة ذات دينامية ديمقراطية ومعادية للإمبريالية في نيكاراغوا عام 1979. كانت هناك أيضا ثورات مثل «الثورات المخملية» في بلدان الشرق أو الثورات العربية، لكنها لم تكن سيرورات ثورية ذات دينامية مناهضة للرأسمالية… وبين عام 1968 واليوم، مرت خمسة وخمسون عاما. دعونا نتذكر أن الفترات بين السيرورات الثورية كانت أقصر بين 1917 وسنوات 1930- 1940، وبين فترة ما بعد الحرب وستينيات القرن العشرين، في كل مرة كانت حوالي عشرين عاما: اليوم صارت أكثر من أربعين عاما… ونحن نفتقر إلى الخبرة والمواد…

I – 2 ثمة صعوبة أخرى تتمثل في أننا نوجد في وضع تهيمن عليه استمرارية إصلاح مضاد نيوليبرالي لمدة استثنائية، وهو يدوم، مرة أخرى، قرابة خمسين عاما.

كانت هناك حركات اجتماعية وانفجارات اجتماعية، لكن المهيمن هو استمرارية النيوليبرالية مع كل ما جرى تدميره من حيث المكاسب الاجتماعية والديمقراطية.

I – 3 لكن الصعوبة الأكثر جوهرية بشأن نقاش الاستراتيجية هي التحول التاريخي الذي نشهده، ليس فقط مع نهاية الستالينية، وتراجع الاشتراكية الديمقراطية، ونهاية القوة الدافعة للثورة الروسية، ولكن أيضا التشكيك في دورة تاريخية كاملة للحركة العمالية التي بدأت في نهاية القرن التاسع عشر.

ويجري هذا في سياق وضع أزمة تاريخية للحركة العمالية، وأزمة المشروع الاشتراكي وأزمة استراتيجية. أضعفت هذه الأزمة إلى حد كبير قوى الحركات الهادفة ليس فقط إلى التغيير الثوري، ولكن إلى التغيير المجتمعي. لقد اختفى أفق الأمل الثوري. نحن بحاجة إلى إعادة اختراعه. يعالج دانيال بنسعيد، بطريقته الخاصة، هذه القضية بالقول:   

«ما ينتهي هو دورة أطول تميل إلى استنفاد نفسها، وهي في هذه اللحظة، دورة الأشكال السياسية الحديثة»[2]، أي «النموذج السياسي للحداثة السياسية كما جرى تشكيله منذ القرن السابع عشر عبر مزيج من مفاهيم السيادة والأراضي والحدود ورأس المال والشعب والحروب الوطنية، والقانون الدولي. وتواجه كل هذه المستويات تحديات من جراء اضطرابات العولمة [3]. ونتيجة لذلك، نحن «في بداية إعادة بناء الحركات النقابية والقوى السياسية»[4]، و»إعادة التأسيس الاستراتيجي»[5].

وبالتالي، من الصعب الارتكاز على الأمثلة الثورية للقرن الماضي… لأن الزمن قد تغير: ظهرت قضايا جديدة: الحركة النسائية، والمسألة البيئية، وإعادة توزيع العمل المأجور. إنها ليست مجرد «إضافات»، بل هي عمليات إعادة تشكيل جديدة للعالم.

II – الثورة والاستراتيجية

في العصبة [الشيوعية الثورية]، جرى تنظيم مدارس الكوادر حول الثورات الروسية والألمانية والإيطالية، والجبهتين الشعبيتين الفرنسية والإسبانية، والأوضاع الثورية لفترة ما بعد الحرب، في فرنسا، وإيطاليا، ويوغوسلافيا، والصين، ثم مايو 68، ومايو الزاحف الإيطالي، والتجربة الشيلية، والثورة البرتغالية.

ما الذي يمكننا الارتكاز عليه اليوم؟

نحن لا نبدأ من الصفر، لكن المسارات المتاحة لا تزال مطبوعة بالتاريخ، وهنا أعترف، حين يتعلق الأمر بالابتكار، حتى أفضل حاملي الماضي يجدون صعوبة في إنتاج البرامج والاستراتيجيات للمستقبل…

بعد قولي هذا، نحن نندرج في تاريخ معين، تاريخ الحركة الثورية، وبقدر ما يهمني الأمر تاريخ العصبة، ماركسية ثورية نقدية ومنفتحة… ولكن مع حدودها [6].

II – 1 يمكن التحدث عن ثورة عندما يكون هناك «اندفاع ثوري للجماهير» بهدف الإطاحة بالوضع القائم، والإطاحة بالرأسمالية، بالنسبة للحركات التي تضع النظام الاجتماعي موضع تساؤل.

يفترض هذا مسبقا وضعا استثنائيا، أزمة سياسية، أزمة اقتصادية، حربا، انهيارا ماليا، رفضا جماعيا للديكتاتوريات.

هذا على نحو عام، لكن حين كنا نتحدث عن الاستراتيجية، فإن أول شيء يجب تسجيله هو أنه لم يكن هناك نموذج استراتيجي. ربما تحدث الثوار عن «نموذج أكتوبر» أو «النموذج الكوبي» بالنسبة لثوار حرب العصابات في أمريكا اللاتينية أو عن «حرب طويلة الأمد» المستلهم من الثورة الصينية. لكن ما يحتل الصدارة هو الخصوصيات. لم نكن نعتقد أنه يمكننا التعميم. كل بلد أو منطقة لها خصوصياتها الخاصة.

II– 2 حتى لو كان لقوة أكتوبر تأثير على الحركة الثورية في عشرينيات و ثلاثينيات القرن العشرين، فقد ميز تروتسكي وغرامشي بين الثورة في الشرق والغرب.

إنها ليست نفس المجتمعات: في روسيا، المجتمع، وفقا لغرامشي، «بدائي، هلامي»: هيمنة إمبراطورية قيصرية، وديمقراطية برلمانية ضئيلة أو معدومة، ومحيط فلاحي، وعنف العلاقات الاجتماعية. وفي أوروبا، المجتمع «أكثر كثافة وقوة»: تنمية اقتصادية، وقوة نظام الأجور، وتقاليد برلمانية إلى حد ما.

لا «نماذج» بل «فرضيات» وفقا لخصوصيات كل تشكيلة اجتماعية ووطنية.

أصر تروتسكي، في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، على الاختلافات بين الثورة الروسية والسيرورات الثورية في ألمانيا.

II – 3 ما هي الاستراتيجية؟

المصطلح من أصل عسكري. ظهرت النقاشات الاستراتيجية بعد الحرب العالمية الأولى.

«إنها مجموعة من التكتيكات والمبادرات تهدف مجتمعة إلى الاستيلاء على السلطة».

في نقاشات الأممية الشيوعية والحركة الثورية، جرى تحديد الاستراتيجية بالاستيلاء الثوري على السلطة. مع التجربة، كانت رؤية اختزالية: الاستراتيجية ليست فقط لحظة الاستيلاء على السلطة، ولكن كل الفترة التحضيرية التي يشكل النشاط الذاتي للجماهير نقطة ثقلها. كان التركيز على الاستيلاء على السلطة وجرى التغاضي عن النظام المركب للمبادرات الإعدادية للاستيلاء على السلطة.

ومن هذا المنظور، فإن الخيط المحوري للثورة هو تدخل العمال أو المواطنين من أجل تحررهم. يمكن استبدال «الاستيلاء على السلطة» ب «التحرر».

III – «تحرر العمال من صنع العمال أنفسهم»...

III -1 يبقى «العمال» هم «الموضوع الثوري»، لكن محتوى كلمة «العمال» يتغير.

نبدأ من تعريف واسع للبروليتاريا: «أولئك الذين يجبرون على بيع قوة عملهم». أي 80 إلى 90٪ من المجتمع- عمال رسميون أو غير رسميون- بالتالي أغلبية كبيرة جدا، لكنها مجزأة ومفككة وغير مستقرة. وهذا بفعل طبيعة جديدة للنظام الرأسمالي. لا يتعلق الأمر بمجرد نظام اقتصادي، بل بإعادة تشكيل للمجتمع بأسره، كما تقول الفيلسوفة الأمريكية نانسي فريزر: «تشابك غير عرضي، بل هيكلي بالموازاة مع الهيمنة الجنسانية، والتدهور البيئي، والقمع العنصري والإمبريالي، والهيمنة السياسية- بالتزامن، طبعا، مع ديناميته الأساسية، الهيكلية أيضا وليست عرضية، القائمة على استغلال العمل»[7].

لذلك هناك دائما مركزية معينة للصراع الطبقي، والتي تعود تاريخيا إلى نضال عبيد سبارتاكوس ضد المالكين الرومان. لكن الصراع الطبقي ليس فقط الصراع عمال/أرباب عمل، ناهيك عن الصراع في مكان العمل.

علاوة على ذلك، فإن مسألة مثل البيئة لا تعيد صياغة ديناميات النضالات فحسب، بل أيضا البرنامج المناهض للرأسمالية، الذي يجب أن يبتعد في الوقت نفسه عن المنطق الإنتاجوي. لدى ماركس، يجري تقديم أزمة الرأسمالية على أنها تناقض بين تطور القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج الرأسمالية التي تعيق هذه القوى المنتجة. تُظهر الأزمة البيئية أن هذه القوى المنتجة تتحول إلى قوى مدمرة. وهذا يغير المنظور. لم يعد إطار النضال ومضمونه كما كان. يجري إعادة تعريف الاحتياجات الاجتماعية في عالم محدود، وليس كما كنا نعتقد بعالم من الوفرة. يمكن أن يؤدي هذا إلى توترات أو حتى تباينات بين المطالب الاجتماعية والمطالب البيئية. ومن هنا الحاجة لخيارات برنامجية جديدة. وهذا ما دفعنا إلى الحديث عن الاشتراكية البيئية للإشارة إلى البرنامج والمجتمع الذي نريده. إنه تحول كبير.

III– 2 «النشاط الذاتي للحركة الاجتماعية في صلب الاستراتيجية»ّ

كنا نتحدث عن خيط موجه: يجب أن يهدف إلى تدخل العمال واستقلاليتهم بأوسع معانيها، بواسطة التنظيم الذاتي، وعبر بناء النقابات والجمعيات حيث يتولى الناس مسؤولية شؤونهم. إن التجارب الديمقراطية الاجتماعية، حتى الجزئية منها، من قبيل إدارة بعض المؤسسات مثل الضمان الاجتماعي، هي نقطة ارتكاز للانتقال إلى الاشتراكية. إن ممارسة الجموع العامة، داخل المقاولات أو الجماعات، باعتبارها مساحات تفلت من المنطق الرأسمالي- حركات البدون أرض، والبدون سكن، والمصانع المحتلة، وحركة «منطقة ينبغي حمايتها» zone à défendre (ZAD)- ينبغي أن تحضر تجارب الرقابة العمالية والشعبية لرسم معالم السلطة الشعبية المستقبلية باستهداف الإدارة الذاتية الاجتماعية، واستبدال الملكية الرأسمالية بإضفاء الطابع الاجتماعي على النشاط الاقتصادي. لا يصبح التحرر هدفا برنامجيا فحسب، بل يصبح أيضا استراتيجية للإطاحة بالنظام القائم وبناء سلطات جديدة.

III. 3 من وجهة نظر استراتيجية، كان لدينا ميل ليس إلى إنكار المكاسب أو الإصلاحات الجزئية، بل إلى إخضاع «الأشياء المهمة» للاستيلاء على السلطة السياسية.

عقدنا بالفعل مقارنات بين الثورات البرجوازية والثورات الاشتراكية، موضحين أن البرجوازية كانت تتمتع بالسلطة- الاقتصادية والأيديولوجية- قبل الاستيلاء على السلطة السياسية، على عكس الثورات الاشتراكية، حيث كان على العمال أن يستولوا أولا على السلطة السياسية قبل توسيع سلطاتهم الجديدة في الاقتصاد والثقافة وما إلى ذلك. لا يزال الاستيلاء على السلطة السياسية عقبة أساسية أمام التغيير الثوري، ولكن يوجد الكثير على المحك قبل الاستيلاء على السلطة. لقد تحدث ماركس بالفعل عن «أجنة» أو «كمون» شيوعي في النشاط البشري، في إطار العلاقات الرأسمالية. من الضروري إعادة الإصرار على تعزيز هذه «الأجنة» أو ما انتزعته النضالات من مكاسب والحقوق الاجتماعية والديمقراطية. وهذا يعني، ما جرى انتزاعه قبل الاستيلاء على السلطة وربطه بهدف الاستيلاء على السلطة.

هذا الجسر هو النهج الانتقالي الذي ينطلق من الوضع الحالي، من المطالب الفورية، وينعكس نفسه في أعمال جماهيرية مناهضة للرأسمالية، ويدافع عن توزيع مختلف للثروة ويثير مسألة السلطة والملكية. من الضروري بناء هذا «الجسر» بين المطالب الحالية، والمعركة من أجل تجسيدها المؤسسي، والاستيلاء على السلطة السياسية.

يمكن أيضا استعادة هذا النهج عن طريق مفاهيم غرامشي حول كسب الهيمنة، والإصلاحات الهيكلية المناهضة للرأسمالية لدى اليسار البلجيكي في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، ومساهمات أندريه غورز في ستينيات القرن العشرين بشأن المعركة من أجل انتزاع المكاسب العمالية والشعبية في سياق سيرورة التحرر، وهذا في إطار لا يزال رأسماليا [8].

IV – الأوضاع الثورية ومسألة السلطة

IV.1. إذن هل يمكننا تغيير العالم دون الاستيلاء على السلطة، كما يقول جون هولواي، بناء على تفسيراته لتجربة الزاباتيين في تشياباس المكسيكية؟ [9]

يمكن الذهاب بعيدا وكسب مساحات جديدة من السلطة، ما يعني مسارات طويلة، وحالات أزمة مديدة، وبالتالي مراكمة تجارب من السلطة الجزئية. في أوضاع ما قبل ثورية أو ثورية، يمكن لهذا أن يدوم، بما في ذلك عدة أشهر أو سنوات. لكن مسألة السلطة لا يمكن التحايل عليها. من المسيطر؟ من المسؤول؟ ما هي المصالح الاجتماعية المهيمنة؟ تثار أسئلة السلطة هذه في سياق الصراع. يمكننا استعادة المفاهيم اللينينية لتحديد المقصود بوضع ما قبل ثوري أو الثوري:

«من في الأسفل لم يعودوا يقبلون سلطة من هم فوق، ومن هم فوق لم يعودوا قادرين على الحكم كما في السابق، والشرائح والطبقات المتوسطة تتأرجح إلى جانب من هم في الأسفل، وهناك قيادة ثورية أو أكثر للسيرورة» (لينين، اليسراوية، مرض الشيوعية الطفولي، 1920)[1].

IV.2 يمكن أن تتكثف هذه السيرورة في شكل أزمات ثورية حيث تكون مسألة السلطة بين الطبقات الحاكمة والطبقات المحكومة على المحك.

وهذا يتوافق مع مستوى توهج معين في تطور الحركة الجماهيرية، بالموازاة مع تجربة النضالات والإضرابات والمظاهرات والأوضاع شبه الانتفاضية، وبين هذه التجارب المختلفة تكون مسألة الإضراب العام محورية- إنها اللحظة التي يتوقف فيها العمال، المواطنون، عن العمل، ويعرقلون السير العادي لمنطقة أو بلد، وتُطرح مسألة من المسؤول: المضربون وأنصارهم أم الحكام!

IV.3 يمكن أن تتخذ هذه الأوضاع الثورية شكل ازدواجية السلطة، إما في شكل إقليمي أو في شكل مؤسسات- تعارض بين المؤسسات القديمة والمؤسسات الجديدة للسلطة الشعبية.

يمكن أن تنقسم المؤسسات القديمة بين القديم والجديد. ويمكن تحقيق ذلك أيضا من خلال مزيج من التنظيم الذاتي أو الإدارة الذاتية الاجتماعية وأغلبية برلمانية يسارية. قد تكون هناك بداية برلمانية للثورة. نحن نصر على كلمة «بداية» لأن النتيجة الإيجابية للوضع الثوري لا يمكن تحقيقها عبر حيازة أغلبية برلمانية. فهذا يتطلب ظهور قوى جديدة تعارض آلة الدولة الرأسمالية وتحطمها. وهذا هو السياق حيث يلزم معالجة مسألة المشاركة في حكومة يسارية. علينا التمييز بين حكومات التعاون الطبقي، التي نعارضها، وحكومات القطيعة مع الرأسمالية. ينبغي مناقشة درجة القطيعة في كل حالة، لكن يمكن للثوار دعم حكومات القطيعة هذه أو المشاركة فيها. وهناك أيضا مجموعة من التكتيكات التي يمكن تناولها: الدعم دون المشاركة، والمعارضة الموالية، باختصار، أي اعتبار يجمع بين أشكال الدعم والحفاظ على الاستقلال.

IV.4 تصدع الطبقة الحاكمة وتفككها تحت ضربات الحركة الاجتماعية، وتناقضاتها الداخلية.

يشهد جهاز الدولة، وحتى جهاز القمع، تمايزات وصراعات داخلية. هذا ما شهدته البرتغال في أوروبا بظهور حركة القوات المسلحة عام 1974 إبان «ثورة القرنفل». لكن ما تظهره التجربة التاريخية هو أنه عندما يتم بلوغ نقاط القطيعة، وحين تصبح عمليات المس بالملكية الخاصة معممة أو تتوسع مساحات السلطات الجديدة، حينها تحصل المواجهة لأن الطبقات الحاكمة لن تسمح تلقائيا بالتجريد من ممتلكاتها. إنها ترد وتطلق سياسة القمع وتحشد القطاعات الرئيسية لجهاز الدولة وجزء من الطبقات الحاكمة والمتوسطة. لا بد على من هم في القاع من فرض أنفسهم وبناء سلطة جديدة. إن تاريخ الثورات، وكذلك التطورات الحالية، لا يبين لنا أنه بالإمكان حدوث غزو تدريجي وسلمي لسلطة الدولة.  في كل مرة، هناك صدام ومواجهة. إنه سؤال لا مفر منه، ويجب أن نكون مستعدين للإجابة عليه. توجد تمايزات وانقسامات داخل جهاز الدولة. وهذا يفترض مسبقا الاستيلاء على مساحات في المؤسسات والدولة، ولكن، كما يشير ماركس في دروسه عن الكومونة، «لا يمكن للبروليتاريين الاكتفاء بالاستيلاء على آلة الدولة جاهزة، بل يجب عليهم تحطيمها» (La guerre civile en France، 1871).

لا تتعلق الاستراتيجية بالاستيلاء على السلطة وحسب، فما يحدث قبل الاستيلاء عليها حاسم، ومسألة السلطة لا يمكن التحايل عليها أو تجنبها.

V – تعتبر مسألة الديمقراطية مسألة مركزية في هذه السيرورة.

V.1 وهذا ينطلق من المطالب الديمقراطية الأساسية، خاصة في مواجهة النيوليبرالية الاستبدادية.

يتعين على الثوريين استئناف النضال من أجل جميع المطالب الديمقراطية، حق التعبير والتعددية والتمثيل الديمقراطي والتمثيل النسبي والتناوب والانتخاب والعزل، وكل هذا وفق منطق دمقرطة المؤسسات.

ويجب أن يؤدي ذلك إلى إعادة بناء المؤسسات الديمقراطية، ومن هنا يأتي النضال من أجل جمعية تأسيسية. وهذا النضال من أجل الجمعية التأسيسية وتوسيع الحريات الديمقراطية أمر حاسم، لكنه لا يخلو من المخاطر. يمكن استفتاء الشعب ورفض الجمعية التأسيسية كما حصل في الشيلي عام 2022. ولكن يمكن أن تثار مسألة الجمعية التأسيسية بمجرد حدوث نضال ديمقراطي جماهيري.

V.2 أبعد من هذه المطالب: لا يمكن للسيرورة الثورية أن تنتصر إلا إذا كانت ديمقراطية وذات أغلبية.

ديمقراطية، بمعنى أن دينامية ثورية إيجابية يجب أن تستند إلى ديمقراطية الحركة الجماهيرية والجموع العامة واللجان والتنسيق والتجمعات الشعبية. هناك، طوال «الفترة الفاصلة»، تعايش أو مزيج من المؤسسات البرلمانية وهياكل السلطة الشعبية. ومن أجل أن تسود الديمقراطية الثورية، الديمقراطية المباشرة، في أماكن العمل وفي المجالس البلدية المنتخبة والمجالس الإقليمية، على المؤسسات القديمة للدولة البرجوازية، يلزم أن تكون هذه المؤسسات الجديدة أكثر «ديمقراطية»، ويجب أن تكون ديمقراطية السلطة الشعبية أعلى من المؤسسات القديمة: إرساء ديمقراطية جديدة أكثر ديمقراطية، بحقوق أكثر، وتعددية أكثر، وأوسع نقاش حر، واحترام الأغلبيات ولكن أيضا مراعاة الأقليات، والاستقلال الذاتي والتعبير الحر للحركات الاجتماعية. يجب أن يؤدي هذا إلى تحديد الخطوط العريضة للديمقراطية الاشتراكية، التي يحددها الاقتراع العام، والانتخاب لمجالس المواطنين والمنتجين، والجمع بين الديمقراطية المباشرة وسلطة المجالس. ينبغي أن يضاف إلى البرنامج الديمقراطي، الزامية مبدأ التبعية[2]: تتخذ القرارات بأكبر قدر ممكن من القرب إلى المكان والمواطنين. وتتخذ القرارات على المستوى الأعلى فقط حين يتعذر اتخاذها على المستوى المحلي. وأخيرا، لا بد من تناول سؤال ألقى بثقله على النقاش الديمقراطي: السلطة الاشتراكية لا يمكن الرجوع عنها. يجب استشارة العمال والمواطنين على أساس منتظم، وإذا قررت الأغلبية وقف السيرورة الثورية، فيجب قبول ذلك. هذا ما فعله الساندينيون عام 1989 في نيكاراغوا.

V.3 يجب أن تحظى الثورة بالأغلبية، لذلك لا انقلاب ولا أقليات نشطة، ولا ثورات أقلية.

ربما هناك «أمثلة» مؤقتة يجري السعي إلى تعميمها- وهذا ما حدث مع حرب العصابات- لكن هدف الثوار هو قيادة المضطهدين إلى الفعل النضالي، الذي يتعلمونه بالتجربة، ويقومون به بأنفسهم. ويعني هذا البعد الأغلبي وحدة المضطهدين والحركات الاجتماعية، عبر ما يسمى في مفاهيمنا، «الجبهة الموحدة» للعمال والمضطهدين ومنظماتهم. والمعيار هو أن تتأرجح الأغلبية إلى مواقف تقدمية. لا يتعلق الأمر بمسألة الدفاع عن الوحدة من أجل الوحدة، بل المحاولة المستمرة، على أساس محتوى تقدمي، لتهيئة الظروف للوحدة، من أجل أغلبية ممكنة. إنه أحد شروط الفعالية.

VI– مسائل الدفاع عن النفس والعنف الثوري.

لقد تحدثنا عن مواجهة بين «من هم فوق ومن هم في الأسفل»، ما يعني مناقشة قضايا اللاعنف أو العصيان المدني أو العنف الثوري. نحن، بشكل عام، ضد العنف. علاوة على ذلك، تبدأ الثورات عموما بطريقة مبهجة واحتفالية. إن الطبقات المالكة أو القوى المهيمنة هي التي تباشر العدوان. عندما نضطر إلى استخدام العنف، يكون ذلك دفاعا وليس عدوانا. وهذا يعني استخلاص دروس الدفاع الذاتي، في النضالات، وعبر لجان الإضراب، وفي المظاهرات، وفي حركات «منطقة ينبغي حمايتها» ZADs، والنظر للمبادرات «العسكرية» كدفاع (أو دفاع عن النفس) وليس هجوما. وهذا السياق هو الذي يجب ضمنه تجنب استبدالية الجماعات المسلحة. ينبغي، في خضم المواجهة، تسليح الناس بالرغبة في حمل السلاح، والاستعداد للرد على العدوان، ولكن للدفاع عن أنفسهم، وليس للبدء بالعدوان. وفي إطار هذه المواجهات، يجب علينا أيضا البحث عن خلق الانقسام والتفكك وسط جيش الطبقات الحاكمة. من الضروري أيضا قياس ما ينبع من التخصص ومن التعبئة الجماهيرية. لكن في وضع ثوري، تكون التخصصات في خدمة التعبئة الجماهيرية، ويجب أن يكون الهدف هو تسليح الشعب، وليس بناء جيش على غرار جيوش الدولة البرجوازية.

سؤال عام آخر: لقد علمتنا التجربة يا للأسف أن قادة الجيوش الثورية غالبا ما يميلون إلى الاحتفاظ بالسلطة واحتكارها وأخذها من المواطنين. وهنا أيضا، تعتبر الديمقراطية الداخلية في عمل جيش شعبي حاسمة: انتخاب القادة-آت، والتناوب، والرقابة.

أود أن أضيف سؤالا واحدا: سؤال الحرب في الثورة.

كان هناك العديد من الثورات التي اجتمعت مع الحرب- الثورة الروسية والحرب العالمية الأولى، والثورات الصينية والفيتنامية واليوغوسلافية والحرب العالمية الثانية- ولكن ثورات ستينيات وسبعينيات القرن العشرين لم تكن مرتبطة مباشرة بالحرب. من المؤكد أن التضامن المرافق لحرب فيتنام أو الثورة الاستعمارية في المستعمرات البرتغالية كان لها تأثير على السيرورات الثورية حينها. لكن لم يكن هناك رابط مباشر.

مع الحرب في أوكرانيا، يعود هذا السؤال إلى الواجهة. هناك وستظل هناك عدة أنواع من الحروب، الحروب الإمبريالية البينية، وحروب التحرر الوطني، والحروب العرقية. ويتطلب كل صراع تحديد خط سياسي مناسب. وهذا الأخير يتطلب رسم خط أحمر بين معسكر الظالمين والمعتدين ومعسكر المضطهدين والمقموعين والمعرضين للملاحقات والمذابح من قبل الديكتاتوريات.

دون استنفاد كل الأسئلة، والاستعمال الأدواتي لدى هؤلاء وأولئك، والتوترات والتناقضات الداخلية في البلدان أو حركات المقاومة، يجب أن يكون هذا الخط الأحمر المَعْلَم الموجه الأساسي. إنه المَعْلَم المرجعي الذي يرشدنا بشأن الصراع في أوكرانيا، حيث يجب أن نحدد بوضوح النظام الروسي باعتباره المعتدي على الشعب الأوكراني المعرض للعدوان، وهو شعب يتعين مساعدته بكل الوسائل، بما في ذلك العسكرية.

VII: أخيرا، السؤال الأخير هو سؤال الحركة أو الحزب أو قيادات السيرورة الثورية التي لا يمكن فصلها عن تشكيل وعي واسع مناهض للرأسمالية.

تتطلب هذه العملية برمتها تنسيق النضالات والحركات وبناء تدخل سياسي والإندراج في سياق تاريخي. يمكن بالتأكيد أن يحدث وضع ما قبل ثوري أو ثوري بدون وجود قوة ثورية. لكن، في هذه الحالة، نحن نتعامل بالأحرى مع انفجارات اجتماعية، بما في ذلك انفجارات عنيفة وشبه تمردية، والتي يمكن أن تذهب بعيدا جدا في النضال… لكن هناك حدود لهذه الحركات، لأنه يجب أن توجد قوة أو قوى تمثل الحركة سياسيا. يمكن أن تكون هذه القوة السياسية متعددة الأوجه: من الأندية إلى المنظمة، ولكن يجب أن يكون هناك زخم. وهناك حاجة إلى تقاسم خطة شاملة، ولا بد من حركة تنتج السياسة. هذا ما نحتفظ به من التقليد اللينيني، لكن يجب أن نقطع مع النقائص اللينينية الأخرى، كل ما هو نخبوي، وكل ما هو استبدالية سياسية، وكل ما يشكل شرخا بين الحركة الجماهيرية والقوة السياسية، وكل ما يمثل إخضاع الحركة الجماهيرية للحزب. يجب دمج المنظمة في الحركة الحقيقية. إنه التجسيد المسبق للاشتراكية الديمقراطية التي نقترحها: حقوق التعبير، والتعددية السياسية، وحقوق الأقليات، والتناوب على المسؤوليات، والنضال ضد جميع الامتيازات، والقيادة المختلطة، والتصويت على التوجهات والاتجاهات.

هل نسمي هذا حزبا أم حركة: على أي حال، نحن بحاجة إلى قوة سياسية تحاول أن تحمل برنامجا واستراتيجية.

إحالات:

[1] http://www.grand-angle-libertaire.net/retours-sur-la-question-strategique-comment-changer-politiquement-de-societe/

[2] Daniel Bensaid, Fragments radiophoniques, Vulaines sur Seine, Éditions du Croquant, 2020, p. 130.

[3] Daniel Bensaid, «Moment utopique et refondation stratégique» , 9 mai 2006, repris sur Contetemps web, 11 novembre 2019

[4] Daniel Bensaid, Fragments radiophoniques, op. cit., p. 131

[5] Daniel Bensaïd, «Moment utopique et refondation stratégique» , art. cit.

[6] Voir Hélène Adam et François Coustal, C’était la Ligue, Paris et Tarbes, Syllepse et Les éditions Arcane 17, 2019. </p

[7] Nancy Fraser, Cannibal Capitalism, Londres, Verso, 2022, pp. 19-20.

[8] Voir André Gorz, Réforme et révolution, Paris, Seuil, 1969.

[9] John Holloway, Changer le monde sans prendre le pouvoir [1e éd. en espagnol : 2002], Montréal et Paris, Lux et Syllepse, 2007-2008

[1] المترجم؛ كي يتضح المعنى أكثر: «لا يكفي من أجل الثورة أن تدرك الجماهير المستثمَرة والمظلومة عدم إمكانية العيش على الطريقة القديمة وأن تطالب بتغييرها. إن من الضروري أيضا لأجل الثورة أن يغدو المستثمِرون غير قادرين على العيش والحكم بالطريقة القديمة. إن الثورة لا يمكن أن تنتصر إلا عندما تعزف «الطبقات الدنيا» عن القديم، وعندما تعجز «الطبقات العليا» عن السير وفق الطريقة القديمة.  ونعني أن الثورة مستحيلة بدون أزمة وطنية عامة (تشمل المستثمَرين والمستثمِرين معا). وذلك يعني أنه من أجل الثورة، ينبغي أولا التوصل إلى جعل أكثرية العمال (أو على كل حال أكثرية العمال الواعين المفكرين والنشيطين سياسيا) مدركة كل الإدراك ضرورة الانقلاب، ومستعدة للمضي إلى الموت في سبيله. ثانيا، أن تعاني الطبقات الحاكمة من أزمة حكومية تجذب إلى جلبة السياسة حتى أكثر الجماهير تأخرا (إن علامة أي ثورة حقيقية هي أن عدد ممثلي الجماهير الكادحة والمستثمَرة والخاملة حتى ذلك الحين، بوسعهم أن يشنوا الكفاح السياسي، يتصاعد بسرعة إلى عشرة أضعاف، بل إلى مئة ضعف) فتوهن الحكومة وتجعل إسقاطها السريع أمرا ممكنا للثوريين». لينين: مرض «اليسارية» الطفولي في الشيوعية: الفصل التاسع. الشيوعية «اليسارية» في انجلترا.

[2] التبعية هي صفة ما هو فرعي، أي ما يضاف إلى العنصر الأساسي لتقويته. وفي السياسة، يعني مبدأ التبعية المبدأ القائل بأن المسؤولية يجب أن يتحملها أدنى مستوى من السلطة العامة المختصة لحل المشكلة. ولذلك، فإن العمل العام هو البحث عن المستوى الأكثر صلة والأقرب إلى المواطنين. إنه يؤدي إلى عدم القيام على مستوى أعلى بما يمكن القيام به بنفس الكفاءة على مستوى أقل. ولا يتدخل المستوى الأعلى إلا إذا تجاوزت المشكلة قدرات المستوى الأدنى (مبدأ الاستبدال). ويجد هذا المبدأ أصله في العقيدة الاجتماعية للكنيسة الكاثوليكية.

شارك المقالة

اقرأ أيضا