كتاب لينين “تطوّر الرأسمالية في رُوسيَا” ترجمة فوّاز طرابلسي

المكتبة1 فبراير، 2015

سيعمل الموقع على نشر كتاب لينين “تطوّر الرأسمالية في رُوسيَا” ترجمة فوّاز طرابلسي، على حلقات، أولاها مقدمة المترجم، ومقدمتا المؤلف للطبعة الأولى والثانية، وفهرس الكتاب. وستنشر الحلقات تباعا فصاعدا.

تطوّر الرأسمالية في رُوسيَا

(في عملية تكوّن سوق داخلية للصناعة الكبيرة)

ترجمة
فوّاز طرابلسي

الطبعة الأولى
تموز/يوليو 1979

دار الطليعة للطباعة والنشر
بيروت

ترجم هذا الكتاب عن النسخة الانكليزية من مؤلفات لينين الكاملة، الجزء الثالث، الطبعة الثانية، دار التقدم بموسكو، 1964.

الفهرس

تقديم

مقدمة الطبعة الأولى

مقدمة الطبعة الثانية

الفصل الأول: الاخطاء النظرية عند الاقتصاديين الشعبويين

الفصل الثاني: تمايز الفلاحين

الفصل الثالث: انتقال ملاك الاراضي من اقتصاد السخرة غلى الاقتصاد الراسمالي

الفصل الرابع: نمو الزراعة السوقية

الفصل الخامس: الأطوار الاولى للرأسمالية في الصناعة

الفصل السادس: المانيفاتورة الرأسمالية والصناعة المنزلية الرأسمالية

الفصل السابع: تطور الصناعة الآلية الكبيرة

الفصل الثامن: تكوّن السوق الداخلية

=============================

لينين مختارات جَديدَة

تطوّر الرأسمالية في رُوسيَا

(في عملية تكوّن سوق داخلية للصناعة الكبيرة)

ترجمة
فوّاز طرابلسي

الطبعة الأولى
تموز/يوليو 1979

دار الطليعة للطباعة والنشر
بيروت

ترجم هذا الكتاب عن النسخة الانكليزية من مؤلفات لينين الكاملة، الجزء الثالث، الطبعة الثانية، دار التقدم بموسكو، 1964.

تقديــــــم

بين سجنه في سان بطرسبرغ ومنفاه السيبيري، كرّس لينين ثلاث سنوات (1896-1898) لوضع «تطور الرأسمالية في روسيا». أما جهده الدراسة والتنقيب فأقل ما يقال فيه أنه خارق. خلاله اطلع لينين، اطلاع الباحث الناقد، على أكثر من 500 كتاب ومجموعة احصائية ومجلة ومقالة –باختصار، كل من كتب عن الاقتصاد الروسي. وكعادته، لم يترك هذه المناسبة «الأكاديمية» بدون استغلال في عمله النضالي السري. فمراسلاته العديدة في السجن لأسرته ورفاقه طلبا للكتب والمراجع، كانت أيضا واجهة لمراسلات بالحبر السري تتعلق بأوضاع الحلقات الماركسية المبتدئة تحت راية «عصبة النضال من أجل تحرر الطبقة العاملة» التي كان لينين من مؤسسيها، وقد اعتقل بتهمة الانتماء اليها. وحين صدر الكتاب، في مطلع العام 1899، عرف رواجا ملفتا في أوساط المعارضة الروسية.

والحقيقة أن «تطور الرأسمالية في روسيا» يشكل علامة فارقة في الفكر الماركسي عموما، وفي فكر لينين ومسار الثورة الروسية خصوصا. ولسنا نبالغ إذا قلنا انه أهم أثر ماركسي بعد «رأس المال» لماركس. ويعلن صدوره اختتام مرحلة بأكملها من تطور الماركسية في روسيا، يمكن تسميتها المرحلة التأسيسية، كان وجهها الأبرز هو استكمال القطيعة مع العقيدة الشعبوية (النارودنية). على امتداد الثمانينات من القرن الماضي، كان الرعيل الأول من الماركسيين، وفي مقدمتهم غريغوري بليخانوف، يؤكدون تمايزهم المستجد عن الشعبوية بالسجال ضد مفاهيمها الرئيسية: بعث المشاعة القروية الروسية (المير) ونظام التعاونيات المهنية التقليدية (الآرتيل) والانتقال بروسيا، على قاعدتهما، مباشرة للاشتراكية دون المرور بـ«شرور» الرأسمالية، والانطلاق من أن الفلاحين، السواد الأعظم للشعب الروسي، هم محرك الثورة ضد القيصرية ومن أجل الاشتراكية والقوة القائدة لها. في المقابل، كان بليخانوف وزملاؤه في «عصبة تحرر العمل»، يشيرون إلى الوتائر السريعة لنمو الرأسمالية والصناعة الكبيرة في روسيا، والى تفكك المشاعة القروية ونمو التمايز الطبقي بين قلة من الفلاحين الأغنياء وكثرة من الفلاحين المفقرين والأجراء الزراعيين. وكان الماركسيون يؤكدون على أن الطبقة العاملة، السريعة النمو والمتمركزة والبادئة بالتململ والحركة، هي القوة المرشحة للإطاحة بالقيصرية وقيادة عملية بناء الحياة الجديدة.

ولئن اكتفى رجالات الرعيل الماركسي الأول بمناوشة الشعبويين بواسطة المفاهيم الماركسية العامة، فإن الرعيل الثاني، وفي مقدمه لينين، صمم على تسديد الضربة القاضية للأوهام الرومنطيقية للشعبويين. فيأخذ لينين على بليحانوف أنه يبحث «عن أجوبة على الأسئلة المحددة في التجلي المنطقي المبسط للحقيقة العامة»، في حين أن المطلوب هو صوغ الأجوبة المحددة على السؤالين المحددين، بل التحديين المحدَّدين، اللذين تقذف بهما الشعبوية: هل تنطبق الماركسية على الأوضاع الروسية؟ وطالما أن تكوّن سوق داخلية هو مقياس حاسم لسيادة الرأسمالية، فهل تكونت مثل هذه السوق في روسيا؟

على امتداد العقد الأخير من القرن الماضي، كرّس لينين جهده الدراسي والكتابي للإجابة على هذين السؤالين-التحديين في عدد من الدراسات ومراجعات الكتب والأبحاث الاقتصادية والمقالات، ومن أبرزها «ما هم أصدقاء الشعب» (1894) و«في تشخيص الرومانسية الاقتصادية» (1897). وكان «تطور الرأسمالية في روسيا» (وعنوانه الفرعي: «في عملية تكوّن سوق داخلية للصناعة الكبيرة» بمثابة تتويج لهذا الجهد. والواقع أن هذا الأثر النظري يحتوي، بشكل جنيني، على المنهج والمفاهيم الأساسية التي سوف تتميز بها اللينينية، بما هي هذا التطوير الخلاق لنظرية ماركس وانغلز من أجل مواجهة تحديات المجتمعات غير الأوروبية. وهو يقول، في ذلك الوقت تقريبا:

«لسنا نعتبر ان نظرية ماركس كاملة وغير قابلة للمس. بل أننا، بالعكس تماما، مقتنعون بأنها اكتفت بإرساء حجر الزاوية لعلم ينبغي على الاشتراكيين تطويره بكافة الاتجاهات اذا هم ارادوا ان يماشوا الحياة. ونعتقد ان البلورة المستقلة لنظرية ماركس أمر جوهري بالنسبة للاشتراكيين الروس بنوع خاص، لأن هذه النظرية تقدّم المبادئ العامة المرشدة فقط، التي تختلف في التطبيق العملي المخصوص في بريطانيا عنها في فرنسا، وفي فرنسا عنها في ألمانيا كما تختلف في ألمانيا عنها في روسيا» «المؤلفات الكاملة، المجلد 4، ص 211-212».

وان تطوير هذا «العلم» يعني الانتقال من المفاهيم (الحقائق) العامة إلى البلورة المستقلة للمفاهيم المحددة، المفاهيم التي تقوم عليها نظرية تطور المجتمع الروسي، نظرية الثورة الروسية. ولذا، فان الوجه الآخر لسجال لينين ضد الأوهام الشعبوية، هو سجاله ضد التيارات الماركسية التي تعرقل عملية البلورة المستقلة هذه. ذلك أن «الماركسية الشرعية» لستروفه وجماعته هي الأب الشرعي للنزعة الاقتصادوية، التي تنطلق من اثبات التطور الرأسمالي إلى تبرير الرأسمالية والتنظير لتبعية البروليتاريا لها. ان «تطور الرأسمالية في روسيا» يرسي هنا أيضا حجر الأساس لأحد ابرز المفاهيم اللينينية: الدور القيادي للطبقة العاملة في الثورة الوطنية الديمقراطية والتواصل بين هذه الثورة والثورة الاشتراكية.

هذا النموذج الفذ «للتحليل المحدد للواقع المحدد» عند لينين، يحتفظ بكل حيويته الآن، رغم مضي أكثر من ثلاثة أرباع القرن عليه. فما أكثر الشعبويين المعاصرين، الذين ينطلقون من رفض مآسي «التحديث الرأسمالي» للامبريالية، لينتهوا الى تمجيد التخلف! وما أكثر المتنورين التحديثيين، ورثة الاقتصادويين الروس الذين ينتهون الى تبرير الرأسمالية من شدة التوكيد، غير الجدلي، على «تقدميتها»، أو الذين ينبهرون أمام ديمقراطية وعقلانية الغرب فيتغافلون عن أن الرأسمالية انما ولدت «وسط الوحل والدم اللذين يرشحان من مسام بدنها، من رأسها حتى أخمص قدميها» (ماركس)، وإنها مستمرة بفعل استغلال الارقاء الجدد، الذين هم بروليتاريا الاقطار الصناعية، وشعوب القارات الخاضعة للامبريالية.

ان لينين يساهم مباشرة في هذا السجال المعاصر!

ويبقى ان نقول ان ترجمة «تطور الرأسمالية في روسيا» اقتضت بعض التعديل. لعل تردد العديدين في نقل «تطور الرأسمالية…» الى العربية يكمن في هذا التهيّب امام الجفاف العلمي الذي يهيمن عليه، بين تحليل نظري لأصعب المقولات الاقتصادية (كنظرية التحقق مثلا) وتمحيص تفصيلي في جداول احصائية لامتناهية. لذا، فقد اقتضى الأمر اجراء عملية تحرير للنص تضعه في متناول أكبر عدد من القراء، تتلخص في حذف عدد من الأقسام والمقاطع التي تشكل الاستطرادات السجالية والاستشهادات وثبت المراجع التي فقدت معناها الآن، أو هي تعالج احصائيات جزئية (مناطق معينة، زراعات ومحاصيل معينة، حرف وصناعات معينة)، مغلبين الاحصائيات الشاملة لروسيا ككل. وفي كل الأحوال سعيت الى «تخفيف» النص، دون افقاده القدرة على التعبير عن سعة البحث ودقة التشخيص والتحليل.

أيار/مايو 1979

فواز طرابلسي

=========================================

لينين مختارات جَديدَة

تطوّر الرأسمالية في رُوسيَا

(في عملية تكوّن سوق داخلية للصناعة الكبيرة)

ترجمة
فوّاز طرابلسي

الطبعة الأولى
تموز/يوليو 1979

دار الطليعة للطباعة والنشر
بيروت

ترجم هذا الكتاب عن النسخة الانكليزية من مؤلفات لينين الكاملة، الجزء الثالث، الطبعة الثانية، دار التقدم بموسكو، 1964.

مقدمة الطبعة الأولى

في هذا الكتاب، عيّن المؤلف نفسه هدف البحث في مسألة كيفية تكوّن سوق محلية للرأسمالية الروسية. وكما هو معلوم، فالمسألة مثارة منذ زمن طويل من قبل الدعاة الرئيسيين للأفكار الشعبوية (وأبرزهم السيدان فورونتسوف ودانيالسون) [1]. وستكون مهمتنا هنا تعريض هذه الآراء للنقد. ونرى أنه لا يمكن الاكتفاء من هذا النقد بدراسة الاخطاء والأفكار المغلوطة في آراء خصومنا. ففي الاجوبة على السؤال المطروح، يبدو لي أنه لا يكفي اثبات الوقائع التي تشهد على نشوء وتطور سوق داخلية، ذلك أن اعتراضنا قد يثار بأن الوقائع مختارة اعتباطيا وبأنه جرى اغفال الوقائع المعاكسة. لذا بدت لنا ضرورة أن ندرس كامل عملية تطور الرأسمالية في روسيا، في محاولة لتصويرها بشمولها. وغني عن القول أن مثل هذه المهمة الضخمة تفوق قدرات شخص بمفرده، لولا ادخال عدد من التقييدات، أولها، وكما يشير العنوان نفسه، اننا نعالج مسألة تطور روسيا في روسيا من منظار السوق الداخلية وحدها، تاركين جانبا قضية السوق الخارجية والمعطيات المتعلقة بالتجارة الخارجية.

ثانيا، اننا سنقتصر في بحثنا على فترة «ما بعد الإصلاح [2].

ثالثا، اننا سنعالج أساسا بل حصرا الى حد كبير، المعطيات المتعلقة بالمقاطعات الداخلية، اي المقاطعات الروسية المحض.

رابعا، سوف نقتصر على الأوجه الاقتصادي للعملية حصرا.

ولكن الموضوع المتبقي يظل شاسعا جدا، رغم كل هذه التقييدات. والمؤلف لا يغض الطرف اطلاقا عن صعوبة، بل خطورة، معالجة مثل هذا الموضوع الشاسع. ولكن يخيل له أن توضيح مسألة السوق الداخلية للرأسمالية الروسية يستوجب استظهار التشابك بين مختلف اوجه العملية الجارية في كافة ميادين الاقتصاد الاجتماعي. لهذا سنقتصر على دراسة المميزات الرئيسية للعملية، تاركين الدراسة الاكثر تدقيقا لأبحاث لاحقة.

ان تصميم كتابنا هو على الشكل التالي: سندرس في الفصل الأول بأكبر قدر ممكن من الإيجاز الأطروحات النظرية الاساسية للاقتصاد السياسي المجرد حول مسألة السوق الداخلية للرأسمالية. وستخدم هذه الدراسة كمقدمة لباقي اجزاء الكتاب، للقسم الوقائعي منه، كما أنها سوف تعفينا من الحاجة الى الإشارات المتكررة للنظرية في عرضنا اللاحق. وسنسعى، في الفصول الثلاثة اللاحقة، إلى وصف التطور الرأسمالي للزراعة في روسيا «بعد الإصلاح» ففي الفصل الثاني، تحديدا، نعالج المعطيات الاحصائية للزييمستوفات عن تمايز الفلاحين. وفي الفصل الثالث، المعطيات الاحصائية عن الطابع الانتقالي لاقتصاد ملاّك الأراضي وعن استبدال اقتصاد السخرة بالاقتصاد الرأسمالي. ونعالج، في الفصل الرابع، الأشكال التي يكتسبها تكوّن الزراعة التجارية والرأسمالية. ونخصص الفصول الثلاثة اللاحقة لأشكال ومراحل تطور الرأسمالية في الصناعة الروسية. فالفصل الخامس يعالج الأطوار الاولى للرأسمالية في الصناعة، تحديدا في الصناعة الفلاحية الصغيرة (المعروفة باسم «الصناعية اليدوية»). ويحتوي الفصل السادس معطيات احصائية عن المانيفاتورة الرأسمالية والصناعة الرأسمالية المنزلية، والفصل السابع على معطيات عن تطور الصناعة الآلية الكبيرة. اما الفصل الأخير (الثامن) فانه ينطوي على محاولة لتبيان الرابط بين مختلف أوجه العملية الموصوفة وتقديم صورة اجمالية عنها.

***

ملحوظة: يؤفنا جدا اننا لم نستطع ان نستفيد في هذا الكتاب من التحليل الرائع لـ«تطور الزراعة في المجتمع الرأسمالي» الذي قام به كارل كاوتسكي في كتابه المسألة الزراعية Die Agrarfrage (الجزء الأول «تطور الزراعة في المجتمع الرأسمالي»، شتوغرات، دييتز 1899) [3].

ان هذا الكتاب (الذي تسلمته والقسم الأكبر من كتابي الحالي قيد الطبع) يشكل، بعد الجزء الثالث من رأس المال، أجدر مساهمة في أدبنا الاقتصادي المعاصر. يدرس كاوتسكي «الاتجاهات الأساسية للتطور الرأسمالي في الزراعة، وهدفه تفحص الظواهر المختلفة في الزراعة الحديثة بما هي «تجليات مخصوصة لظاهرة شاملة واحدة» (المقدمة، ص 6). والجدير بالملاحظة هو مدى التطابق في السمات الأساسية لهذه العملية الشاملة بين اوروبا الغربية وروسيا، على الرغم من الخصوصيات الكبيرة لهذه الاخيرة في المجالين الاقتصادي وغير الاقتصادي. فمثلا، تتميز الزراعة الرأسمالية الحديثة عموما بالقسمة المتدرجة للعمل وباستخدام الآلة، وهي ظاهرة نلاحظها في روسيا بعد الاصلاح (راجع الفصل الثالث، القسمان 7و8، والفصل الرابع، وخاصة القسم 9). ان عملية «بلترة الفلاحين»[4] (عنوان الفصل الثامن في كتاب كاوتسكي) تتجلى اينما كان في توسع العمل المأجور بكافة اشكاله بين الفلاحين الصغار (كاوتسكي، الفصل الثامن). ونلقي في روسيا ظاهرة مشابهة تتجلى في تكوّن طبقة كبيرة من العمال المأجورين المحاصصين (انظر الفصل الثامن من هذا الكتاب). ان وجود الفلاحين الصغار في كل مجتمع رأسمالي لا يعود الى التفوق التقني للإنتاج الصغير في الزراعة، وإنما الى كون صغار الفلاحين يخفضون من مستوى متطلباتهم لما هو دون مستوى متطلبات العمال المأجورين، ويرهقون انفسهم بالعمل اكثر منهم (كاوتسكي، الفصل السادس، «العامل الزراعي المأجور صاحب مستوى معاشي افضل من الفلاح الصغيير»- يقول كاوتسكي تكرارا في الصفحات. 11، 317، 320). واننا نشاهد الظاهرة اياها في روسيا (انظر الفصل الثاني، القسم 11). فطبيعي والحالة هذه، أن يتفق الماركسيون الروس والأوروبيون في تقديرهم لمثل هذه الظواهر بما هي «استخدامات زراعية خارجية»، على حد التعبير الروسي، او بما هي «العمل الزراعي المأجور للفلاحين المهاجرين»، على حد تعبير الالمان (كاوتسكي، ص 192، انظر في هذا الكتاب الفصل الثالث، القسم 10) وأن يقوم التوافق حول ظاهرة كظاهرة هجرة العمال والفلاحين من القرى إلى المدن والمعامل (كاوتسكي، الفصل التاسع…) وحول انتقال الصناعة الرأسمالية الكبيرة إلى الأرياف (كاوتسكي، ص 187، وفي هذا الكتاب، الفصل الرابع، القسم 9). ناهيك عن الاعتراف المشترك بالدلالة التاريخية للرأسمالية الزراعية (كاوتسكي، المصدر ذاته، خاصة ص 289، 292، 298. انظر في هذا الكتاب الفصل الرابع، القسم 9). وعن الاعتراف المشترك بالطبيعة التقدمية للعلاقات الرأسمالية في الزراعة بالمقارنة مع العلاقات قبل الرأسمالية (كاوتسكي، ص 382: «ان طرد des Gesrndes العمال الزراعيين والخدم التابعين شخصيا der Lastleute «الواقعين بين العامل الزراعي وبين المزارع المستأجر»، الفلاحين الذين يستأجرون الأرض ويدفعون بواسطة العمل-الخدمة، من قبل العمال المياومين الذين هم رجال أحرار خارج ساعات العمل، يشكل تقدما اجتماعيا عظيما.» وانظر ايضا الفصل الرابع من هذا الكتاب، القسم 9). ويجزم كاوتسكي بأن تبني المشاعة القروية [5] للزراعة الحديثة الكبيرة حيث جماعية الانتاج «امرا ليس واردا على الإطلاق (ص 338) وبأن الاقتصاديين الزراعيين في اوروبا الغربية الذين يطالبون بتدعيم وتطوير المشاعة القروية ليسوا اشتراكيين على الإطلاق بل هم ممثلو مصالح كبار الملاك العقاريين الذين يريدون تقييد العمال بتحصيص الاراضي لهم، وهو يسعون الى تكريس هذه الاجراءات في نصوص قانونية (ص 162)، كما يجزم بأن كافة المحاولات لمساعدة الفلاح الصغير بإدخال الصناعة اليدوية، –ذلك الشكل الأبشع للاستغلال الرأسمالي- «تنبغي محاربتها بكل قوة» (ص 181). وإذا كنا مضطرين للتأكيد على الاجماع في الآراء بين الماركسين الاوروبيين الغربيين والروس، فلان آخر محاولات الناطقين باسم الشعبويين تسعى للتمييز الحاد بين مواقف الطرفين (انظر مداخلة السيد ف. فورنتسوف في 17 شباط/فبراير 1899 امام «جمعية تشجيع الصناعة والتجارة الروسيتين» نوفويي فريميا [الأزمنة الحديثة]، العدد 8255، 19 شباط/فبراير 1899) [6].
—————————————————————————————————————————

احالات مقدمة الطبعة الأولى

[1]-دانيالسون وفورونتسوف مفكران اقتصاديان يمثلان الشعبوية الليبرالية. وكان دانيالسون أول من ترجم رأس المال لماركس إلى الروسية وأجرى مراسلة مع انغلز الذي لم يكن يخفي اعجابه بنضال الشعبويين الروس ضد القيصرية. وقد سعى، دون طائل، إلى التوفيق بين الشعبويين والماركسيين عام 1892 في لقاء يعقد بحضوره في لندن. أما بصدد السجال النظري بين التيارين الفكريين فقد استعاد انغلز موقف ماركس الذي لم ينكر بالمطلق امكانية انتقال الريف الروسي مباشرة من المشاعة القروية إلى الشيوعية، لكنه رهن هذه الامكانية بقيام الثورة الاشتراكية في اوروبا الرأسمالية. أما بصدد مسألة السوق الداخلية للرأسمالية، فإن انغلز قد أكد –في رسالة إلى دانيالسون عام 1893- ان الرأسمالية تتطور بخطى ثابتة في روسيا، مؤكدا أن البلد يملك ما يكفي من السكان لنشوء سوق داخلية للصناعة الكبيرة، ومتوقعا تفكك المشاعة القروية ونمو التمايز بين الفلاحين (انظر بهذا الصدد ماركس انغلز، حول روسيا، ترجمة جورج طرابشي، دار الطليعة، بيروت 1975، ص 205-211). ان لينين لم يعرف بهذه الرسالة في حينها، والأرجح ان لم يعرف بها اطلاقا. على انه، في عام 1893 نفسه، كان يصوغ دراسته حول «مسألة السوق» ويؤكد فيها توقعات انغلز بواسطة الأرقام –المترجم-.

[2]-الاصلاح الفلاحي للعام 1861 هو التشريع الذي الغى القنانة في روسيا. لكن السلطات القيصرية طبقته لمصلحة ملاك الاراضي الاقطاعيين. صدر الإصلاح بعد تنامي حركة فلاحية ضد الاستغلال الاقطاعي تميزت بعنف كبير. ومع انه كان اقطاعيا في بدايته، إلا أن زخم التطور الرأسمالي في روسيا ما لبث ان اضفى عليه طابعا رأسماليا. وقد شكل هذا الصلاح خطوة نحو تحويل روسيا إلى مملكة برجوازية –المترجم-

[3]-في شباط/فبراير او في مطلع آذار/مار 1899 تسلّم لينين، في المنفى، نسخة عن المسألة الزراعية لكارل كاوتسكي. ولما كان القسم الاكبر من كتابه تطور الرأسمالية قد بات قيد الطبع، قرر اضافة هذه الملحوظة، فوقعت في يد الرقابة القيصرية، فعدّلتها –المترجم-

[4]-أي تحولهم إلى بروليتاريين، باعتمادهم المتزايد على العمل المأجور كمورد رزق رئيسي.

[5]-المشاعة القروية –المير- في روسيا، هي الشكل الجماعي لاستثمار الفلاحين للأرض الذي يتميز بالمناوبة الالزامية بين المحاصيل (حفاظا على خصوبة التربة) وعدم تقسيم الغابات والمراعي. ومن ابرز سماتها المسؤولية الجماعية للفلاحين عن دفع استحقاقاتهم كاملة وفي الوقت المناسب، وتقديم جملة من الخدمات للدولة وللملاك العقاريين، وإعادة توزيع الأرض دوريا دون حق رفض الحصة الممنوحة ومنع التصرف بها (بيعا أو شراء او تأجيرا).

عرفت المشاعة القروية الروسية منذ الأزمنة القديمة، لكنها مع الوقت تحولت الى ركن اساسي للإقطاعية. وقد استخدمها الاسياد الاقطاعيون والقياصرة لتكثيف الاستغلال الاقطاعي ولاستجرار اموال الاعتاق والضرائب من الشعب. ولقد اشار لينين إلى ان المشاعة القروية «ليست تعفي الفلاح من التحول إلى بروليتاري، والواقع أنها تشكل حاجزا قرن أوسطيا يقسم الفلاحين، المقيدين بروابط و«مراتب» فقدت كل مبررات وجودها».
(المسألة الزراعية في روسيا في نهاية القرن التاسع عشر، الأعمال الكاملة، الطبعة الانكليزية، المجلد 15).

ولقد اثارت مسألة المشاعة القروية محاججات حامية وكانت موضوع كتابات اقتصادية كثيرة. وقد ابدى الشعبويون اهتماما استثنائيا بالمشاعة القروية، فرأوا فيها ضمانة تقدم روسيا نحو الاشتراكية عبر طريق مميزة. وبواسطة الانحياز في جميع المعلومات وتزويرها، وباستخدام ما يسمى «المعدلات الوسطية»، سعى الشعبويون للإثبات بأن الفلاحين المشاعيين في روسيا يملكون نوعا من «الصمود»، وبأن المشاعة القروية تحمي الفلاحين من تغلغل العلاقات الرأسمالية إلى داخل القرية، و«تنقذ» الفلاح من الخراب ومن التمايز الطبقي. منذ ثمانيات القرن الماضي، أوضح بليخانوف مبلغ التهافت في الأوهام الشعبوية عن «الاشتراكية المشاعية». وفي العقد الاخير من القرن، اسدى لينين الضربة القاسية للنظريات الشعبوية. وقد استشهد لينين بكمية هائلة من المواد الوقائعية والإحصائية ليبين كيف تنمو العلاقات الرأسمالية في القرية الروسية، وكيف يؤدي رأس المال، المتغلغل لداخل المشاعة القروية البطريركية، إلى انشطار الفلاحين إلى طبقتين –الكولاكيون والفلاحون الفقراء.

في العام 1906، اصدر الوزير القيصري ستوليبين قانونا لصالح الكولاكيين يجيز للفلاحين مغادرة المشاعة وبيع حصص الارض خاصتهم. وقد ارسى هذا التشريع الاساس للإلغاء الرسمي لنظام المشاعة القروية كما ادى إلى تفاقم ظاهرة التمايز بين الفلاحين. وفي غضون السنوات التسع التي اعقبت تنفيذ هذا القانون، أقدم مليونان من الاسر الفلاحية على الانسحاب من المشاعات –الناشر السوفييتي-

[6]- دار الحوار حول مداخلة بعنوان «هل يمكن التوفيق بين الشعبوية والماركسية؟». ومما قاله السيد فورونتسوف ان الذين يمثلون «التيار الحديث في الماركسية الغربية» هم اقرب إلى الشعبويين الروس منهم إلى الماركسيين الروس –المترجم-.

===============================================

لينين مختارات جَديدَة

تطوّر الرأسمالية في رُوسيَا

(في عملية تكوّن سوق داخلية للصناعة الكبيرة)

ترجمة
فوّاز طرابلسي

الطبعة الاولى
تموز/يوليو 1979

دار الطليعة للطباعة والنشر
بيروت

ترجم هذا الكتاب عن النسخة الانكليزية من مؤلفات لينين الكاملة، الجزء الثالث، الطبعة الثانية، دار التقدم بموسكو، 1964.

مقدمة الطبعة الثانية [1]

وضع هذا الكتاب في الفترة السابقة على الثورة الروسية، خلال الهدنة القصيرة التي اعقبت اندلاع الاضرابات الكبيرة عامي 1895-1896. في ذلك الحين، كانت حركة الطبقة العاملة كأنها تقوقعت على نفسها، وأخذت تنتشر أفقيا وعموديا وتمهد الطريق لانطلاقة حركة التظاهرات للعام 1901.

ان تحليل النظام الاقتصادي-الاجتماعي، وبالتالي تحليل البنية الطبقية لروسيا، الوارد في هذا الكتاب والمعتمد على ابحاث اقتصادية ولعى تحليل نقدي للإحصائيات، قد تأكد الآن بفضل النشاط السياسي المباشر لكافة الطبقات خلال مسار الثورة. فقد تجلى الدور القيادي للبروليتاريا تجليا كاملا. كذلك اتضح ان قوة البروليتاريا في تحديد مسار التاريخ اضخم بما لا يقاس من نسبتها إلى مجموع السكان. والكتاب الحالي يبين الاساس الاقتصادي لهذه الظاهرة وتلك.

وبالإضافة لذلك، فان الثورة تكشف باطراد الموقع المزدوج والدور المزدوج للفلاحين. ان الترسبات الراسخة الجذور لاقتصاد السخرة وكافة مخلفات القنانة وما يرافقها من افقار لم يسبق له مثيل وخراب لفقراء الفلاحين، كل هذه تفسر المصادر العميقة لثورية الحركة الفلاحية، والجذور العميقة للطابع الثوري للفلاحين كمجموع. هذا من جهة. ومن جهة أخرى، ففي سياق الثورة، نجد ان طبيعة الاحزاب السياسة المختلفة، وتعدد الاتجاهات الايديولوجية-السياسية، يكشفان البنية الطبقية المتناقضة لجماهير الفلاحين، وطابعها البرجوازي الصغير، كما يكشفان التناقض بين تيار الملاك وتيار البروليتاريين داخلها. ان تذبذب الحرفي الصغير بين البرجوازية المعادية للثورة والبروليتاريا الثورية أمر حتمي بقدر ما هي حتمية تلك الظاهرة التي يعرفها كل مجتمع رأسمالي حيث اقلية صغيرة من المنتجين الصغار تصيب الثروة، «وتحتل مكانها تحت الشمس»، أي تتحول إلى برجوازية، بينما الغالبية الساحقة تنهار اقتصاديا انهيارا كاملا وتتحول إلى جمع من الاجراء والمعوزين، أو تعيش ابد الدهر على شفير الحياة البروليتارية. ان الدراسة الحالية تكشف الاساس الاقتصادي لكل من هذين التيارين وسط الفلاحين.

ان هذا الاساس الاقتصادي للثورة في روسيا يجعل منها، بالطبع، ثورة برجوازية حُكماً. هذه المقولة الماركسية غير قابلة للدحض إطلاقا وذلك امر لا يجوز تناسيه أبدا بل ينبغي تطبيقه على كل القضايا الاقتصادية والسياسية للثورة الروسية.

غير انه ينبغي على المرء ان يجيد التطبيق. ذلك ان التحليل المحدد لموقع الطبقات المختلفة ومصالحها يجب أن يخدم كوسيلة لتعيين المعنى الدقيق لهذه الحقيقة عند تطبيقها على هذه القضية أو تلك. ان نمط التفكير المعاكس الذي نلقاه غالبا بين الاشتراكيين الديمقراطين اليمينيين برئاسة بليخانوف، أي السعي للبحث عن أجوبة على الاسئلة المحددة في التجلي المنطقي المبسط للحقيقة العامة حول الطابع الاساسي للثورة، ان هذا النمط من التفكير انما هو ابتذال للماركسية واستهزاء صريح بالمادية الجدلية. عن مثل هؤلاء، الذين يستخلصون من الحقيقة العامة عن طبيعة هذه الثورة، الدور القيادي «للبرجوازية» في الثورة، مثلا، أو ضرورة أن يمحض الاشتراكيون تأييدهم لليبراليين، كان سيحلو لماركس، أغلب الظن، ان يكرر الكلمات نفسها التي استعارها ذات مرة من هايني: «لقد زرعتُ أسنان التنين وما حصدت غير البراغيث»[2].

ازاء هذا الأساس الاقتصادي الراهن للثورة الروسية، يبرز اتجاهان للتطور ممكنان موضوعيا:

إما أن يستمر اقتصاد الملاّك العقاريين القديم، المرتبط بالقنانة بألف قيد وقيد، ويتحول ببطء إلى اقتصاد رأسمالي صاف، إلى اقتصاد «يونكري»[3] وتكون قاعدة الانتقال النهائي من العمل-الخدمة إلى الرأسمالية هي التحول الداخلي لاقتصاد الملاّك العقاريين الاقطاعي. وهكذا فإن مجمل النظام الزراعي للدولة يصبح رأسماليا، لكنه يحتفظ بخصائص اقطاعية لفترة طويلة من الزمن. وإما أن ينهار اقتصاد ملاّك الارض القديم بفعل الثورة، التي تدمر كافة مخلفات القنانة، وفي مقدمتها ملكية الارض الكبيرة. هنا تكون قاعدة الانتقال النهائي من العمل-الخدمة إلى الرأسمالية هي التطور الحر للإنتاج الفلاحي الصغير وقد تلقى دفعا كبيرا نتيجة مصادر و مزارع الملاك العقاريين لمصلحة الفلاحين. وهكذا تغلب الرأسمالية على كامل النظام الزراعي، ذلك أنه بقدر ما يتم تصفية مخلفات القنانة تصفية نهائية بقدر ما تتسارع وتيرة عملية تمايز الفلاحين. وبعابرة أخرى، إما المحافظة، أساسا، على الملكية العقارية وعلى المرتكزات الرئيسية «للبناء الفوقي» القديم، وبالتالي، الدور الغالب للبرجوازيين والملاك العقاريين ذوي الاتجاه الملكي-الليبرالي، والانحياز السريع للفلاحين إلى جانبهم، وتدهور أوضاع الجماهير الفلاحية، المنزوعة الملكية على نطاق واسع، الرازحة، اضافة لذلك، تحت نير هذا النوع أو ذاك من مقترحات الكاديت [4] بصدد استردادات الأراضي، المسحوقة والمتبلدة بفعل طغيان الرجعية، حيث ينفذ هذه الثورة البرجوازية سياسيون من طراز الاكتوبريين [5]. وإما تدمير نظام ملاك الاراضي وكل الركائز الرئيسية لـ«البناء الفوقي» القديم المقابل له، وطغيان دور البروليتاريا والجماهير الفلاحية، مع تحييد للبرجوازية المترددة والمعادية للثورة، ومع اسرع تطور للقوى الانتاجية على اسس رأسمالية وأكثر انفلاتا من القيود، في ظل افضل الظروف للجماهير العمالية والفلاحية التي يمكن تصورها في مرحلة الانتاج البضاعي-وبالتالي، توفير الظروف الاكثر مواءمة لكي تنجز الطبقة العاملة لاحقا مهمتها الأصلية الأساسية مهمة اعادة بناء المجتمع على اسس اشتراكية. وبالطبع، يمكن أن تقوم خلائط متنوعة إلى ما لانهاية تضم عناصر من هذا أو ذاك النمط من التطور الرأسمالي، ووحدهم المتحذلقون الذين لا يُرجى منهم اي خير هم الذين يعملون على حل القضايا المخصوصة والمعقدة الناشئة بمجرد الاستشهاد بهذا الرأي لماركس او ذاك بصدد حقبة تاريخية أخرى.

الدراسة الحالية الموضوعة بين ايدي القراء مكرسة لتحليل اقتصاد روسيا قبل الثورة. خلال الحقبة الثورية، تسير الحياة في البلد المعني بسرعة وفجائية يستحيل معهما تعيين النتائج الاساسية للتطور الاقتصادي في لهيب الصراع السياسي. أما امثال ستوليبين [6]، من جهة، والسادة الليبراليين من جهة ثانية (ليس أعضاء الكاديت من اتباع ستروفه [7]، وإنما الكاديت عموما) فإنهم يعملون بانتظام وبدأب وثبات لانجاز الثورة وفق الصيغة الاولى. ان انقلاب 3 حزيران/يونيو 1907 [8]، الذي شهدناه مؤخرا، يشكل انتصارا للردة المضادة لثورة الساعية لضمان الغلبة الكاسحة للملاك العقاريين فيما يسمي الهيئة التمثيلية للشعب الروسي. وأما إلى أي مدى سيطول أمد هذا «الانتصار» فتلك مسألة أخرى. ذلك أن النضال مستمر من اجل مخرج آخر للثورة. انه المخرج الذي تسعى اليه البروليتاريا، وأيضا أوسع جماهير الفلاحين، بهذا القدر او ذاك من التصميم والثبات والوعي. ومهما حاولت الردة المضادة للثورة خنق النضال الجماهيري المباشر بواسطة العنف الأرعن، مهما سعى الكاديت لخنقه بواسطة افكارهم الحقيرة والمنافقة والمعادية للثورة، فان هذا النضال يندلع، مرة هنا ومرة هناك، بالرغم من كل شيء، ويترك بصماته على سياسة الاحزاب الشعبوية «العمالية»، رغم أن الاوساط العليا من السياسيين البرجوازيين الصغار ملوثة، دون شك، (وخاصة «الاشتراكيون الشعبيون» و«العماليون»-الترودوفيك [9]) بروح الغدر الكاديتية، والمولشالينية [10]، والغرور الذي يميز أشباه المثقفين أو البرقراطيين المعتدلين والمتشبثين بالشكليات.

كيف سينتهي هذا النضال؟ ما هو مآل هذا الاستهلال للثورة الروسية؟ الاجابة مستحيلة حاليا. ولهذا، فان الوقت لم يحن بعد للقيام بمراجعة دقيقة لهذه الدراسة (اضافة لكون المهام الحزبية المباشرة لمساهم في حركة الطبقة العاملة لا تترك الوقت لذلك) [11]). ولم يكن بمستطاع الطبعة الثانية أن تتجاوز حدود تشخيص الاقتصاد الروسي قبل الثورة. لذا فقد اكتفى المؤلف بمراجعة النص وتنقيحه فضلا عن ادخال الاضافات الأكثر الحاحا بناء على آخر المعطيات الاحصائية: كالمعطيات الاخيرة لتعداد الأحصنة، واحصائيات المواسم الزراعية، وعائدات التعداد السكاني للعام 1897، والمعطيات الجديدة عن الاحصائيات المعملية، الخ.

تموز/يوليو 1907 المؤلف
—————————————————————————————————————————
احالات مقدمة الطبعة الثانية

[1]-صدرت الطبعة الثانية من تطور الرأسمالية في روسيا في العام 1908. وقد اجرى عليها لينين عدة تصحيحات وإضافات اعتمادا على آخر المعطيات الاحصائية. وكانت تجربة الثورة الروسية الاولى 1905-1907 قد اكدت كليا تشخيص لينين القائل ان «الماركسيين الشرعيين» هم برجوازيون ليبراليون يتسترون وراء قناع الماركسية ويحاولون استخدام حركة الطبقة العاملة لصالح البرجوازية. ولم يكف لينين عن اجراء التعديلات على كتابه بعد ظهور الطبعة الثانية عام 1908. اما عن مراجعة الكتاب كليا، كما هو وارد في هذه المقدمة، وإضافة جزء كامل عن نتائج ثورة 1905، فقد حققها لينين جزئيا في العديد من الكتابات اللاحقة ومنها «البرنامج الزراعي للاشتراكية الديمقراطية في الثورة الروسية الأولى 1905-1907»-المترجم-.

[2]- من قصيدة للشاعر الألماني الكبير هنريتش هايني، وكان صديقا لماركس – المترجم -.

[3]-نسبة إلى اليونكرز Junkers. وهم طبقة ملاك الأراضي البروسيين (الألمان). وقصد لينين الاشارة إلى نمط من الانتقال المتدرج للرأسمالية على غرار ما حصل في العديد من الدور الأوروبية باستثناء فرنسا (وعلى الأخص المانيا وانكلترا). فإذا كان تطور الرأسمالية في المانيا عزز الملكية الاقطاعية للأرض –القاعدة الاقتصادية لسلطة اليونكرز- إلا انهم استمروا بصفتهم فئة حاكمة لصالح البرجوازية تعتاش على حساب الدولة بشكل خاص. ويقدم انغلز تحليلا ثاقبا لهذه الظاهرة في كتابه «دور العنف في التاريخ» حيث يقول ان التطور الرأسمالي، اذا كان سلب اليونكرز امتيازاتهم الاقطاعية كأفراد إلا انهم –مثلهم كمثل الارستقراطية البريطانية- احتفظوا بالسلطة كفئة من خلال سيطرتهم على القضاء والشرطة والإدارة الريفية. «وهكذا، فقد احتفظوا، تحت تسميات عصرية، بكافة مواقع القوة الرئيسية التي لم يعد بامكانهم السيطرة عليها على الأساس الاقطاعي القديم» (انغلز، دور العنف في التاريخ، الترجمة الإنكليزية، لندن 1968، ص 105). وابرز ممثلي اليونكرز بسمارك، الأمير الينكر البروسي، الذي يدفعه حسه التجاري احيانا إلى كبت نوازعه اليونكرية، (انغلز ص 56) والذي حقق رغبات البرجوازية الألمانية ولكن «رغما عنها»، اذ تصدى لمطالبها وتطلعاتها البرلمانية، لكنه اندفع في المقابل إلى تحقيق مطامحها في التوحيد القومي (انغلز، ص 61-63)-المترجم-

[4]-الكايدت، اعضاء الحزب الدستوري الديمقراطي، الحزب الرئيسي للبرجوازية الامبريالية الروسية. تأسس في تشرن الأول/اكتوبر 1905 وضم ممثلين عن البرجوازية الليبرالية-الملَكية، وموظفي الزييمستوفات والمثقفين البرجوازيين الذين يستخدمون العبارات الخادعة عن «الديمقراطية» لإخفاء آرائهم الحقيقية ولخطب ود الفلاحين. ويتحدث برنامج الكاديت الزراعي عن امكانية توزيع قسم من المزارع الكبيرة على الفلاحين على اساس مدفوعات الاسترداد ولو بأثمان باهضة. وكان الكاديت يتمسكون بالنظام الملكي. وحاولوا اقناع القيصر والأسياد الاقطاعيين بمشاركتهم الحكم، على ان مهمتهم الاساسية كانت النضال ضد الحركة الثورية. ابان الحرب العالمة الأولى دافع الكاديت بحماس عن السياسية الخارجية للحكومة القيصرية القائمة على الغزو، وحاولوا انقاذ النظام الملكي خلال الثورة البرجوازية الديمقراطية في شباط/فبراير 1917. وانتهج الاعضاء الكاديت في الحكومة البرجوازية المؤقتة سياسة معادية للثورة، معادة لمصالح الشعب لكنها مؤدية للامبرياليين الامريكيين والبريطانيين والفرنسيين. وبعد انتصار ثورة اكتوبر الاشتراكية الكبرى تحول الكاديت إلى ألد اعداء السلطة السوفييتية وقد شاركوا في كل الأفعال المسلحة المعادية للثورة وفي حروب التدخل. وبعد هزيمة قوات التدخل والحرس الأبيض هرب الكاديت خارج البلاد حيث واصلوا نشاطهم المعادي للثورة وللسوفيت –الناشر السوفييتي-

[5]-حزب الأكتوبريين (أو اتحاد السابع عشر من أكتوبر) يمثل مصالح كبار الرأسماليين الصناعيين وكبار الملاك العقاريين الذين يزرعون اراضيهم على اسس رأسمالية. ادعى الأكتوبريون تأييد بيان القيصر في 17 تشرين الأول/أكتوبر 1905 عندما دفعه خوفه من الثورة إلى ان يعد الشعب بالحقوق المدنية. لكن الأكتوبريين، في الواقع، لم يكونوا ينوون تحديد صلاحيات النظام القيصري، وقد محضوا كل تأييدهم للسياسية الداخلية والخارجية لحكومة القيصرية -الناشر السوفييتي-

[6]-بيوتر اركادييفيتش ستوليبين –أحد غلاة الرجعيين الروس، ترأس مجلس الوزراء خلال فترة 1906-1911، يرتبط باسمه قمع ثورة 1905-1907 وفترة الردة الرجعية السياسية العنيفة التي اعقبتها.

وفي مسعى منه لإيجاد ركيزة راسخة للأوتقراطية القيصرية في الريف عبر الكولاك، عمل ستوليبين على سن قانون زراعي جديد. وبمقتضى مرسوم صادر في 9 تشرين الثاني/نوفمبر 1906 بات يحق لكل فلاح أن نحب من المشاعة القروية وبتحويل حصته إلى ملكية فردية مع ما يتبع ذلك من حق في بيعها ورهنها، الخ. وقد كانت هذه أمور محرمة حتى ذلك الحين. وبات من واجبات المشاعة أن تمد الفلاح الذي يغادرها بقطعة ارض موحدة. وقد استغل الكولاك هذا التشريع لكي يشتروا اراضي الفلاحين المستضعفين اقتصاديا بأسعار زهيدة. أما قوانين 14 حزيران/يونيو 1910 و29 ايار/مايو 1911، فقد قضت بتوزيع الزامي للأرض لصالح الكولاك –الناشر السوفييتي-.

[7]-بيوتر بيرنغاروفيتش ستروفه (1870-1944) ممثل بارز لـ«الماركسية الشرعية».

شهد العقد الأخير من القرن التاسع عشر تسامحا كبيرا من الرقابة القيصرية تجاه الادبيات الماركسية، شرط أن لا تتعاطى الكتابة السياسية المباشرة ضد الحكم الأوتقراطي. وقد اعيد نشر رأس المال والبيان الشيوعي علنا، كما صدرت عدة مجلات وصحف ذات نزعة ماركسية واضحة. ولكن اذا كان بعض الماركسيين، وبينهم بليخانوف ولينين نفسه، قد استغل هذا الانفراج للوصول إلى أوسع عدد ممكن من القراء، فقد نما، في المقابل، تيار بين الماركسيين انطلق من نقد الشعبويين ليصل إلى تمجيد الرأسمالية وتبريرها. وهكذا، فمن التحايل على الرقابة القيصرية، انتقل البعض لسلب الماركسية جوهرها الثوري، فحولوها إلى مجرد طلاء لنزعة برجوازية مبتذلة، لا غير. ومن ابرز هؤلاء «الماركسيين الشرعيين» ستروفه الذي اجل لينين ضده في اكثر من مقال ودراسة وكراس. وقد صدقت توقعات لينين بصدد ستروفه عندما انتقل هذا الاخير إلى رفض الماركسية كلها، وانضم إلى حزب الكاديت ليصبح احد قادته –المترجم-

[8]-3 حزيران/يونيو 1907 هو تاريخ حل مجلس دوما الدولة الثاني وإصدار قانون انتخابات مجلس الدوما الثالث الذي اتى بأكثرية من الملاك العقاريين والرأسماليين. وهكذا خرق القيصر، غدرا، بيان 17 تشرين الاول/اكتوبر 1905 فأطاح الحقوق الدستورية وأمر باعتقال الكتلة الاشتراكية الديمقراطية في الدوما الثاني الذين صدرت بحقهم احكام بالأشغال الشاقة. فكان ما سمي «انقلاب 3 حزيران/يونيو» بمثابة انتصار مؤقت للردة المضادة للثورة –الناشر السوفييتي-

[9]-الحزب الاشتراكي الشعبي هو انشقاق عن يمين الحزب الاشتراكي الثوري عام 1906. كان يعبر عن مصالح الكولاك ويطالب بالتأميم الجزئي للمزارع الكبيرة وتوزيعها على الفلاحين وفق ما يمى «مقياس العمل». دعا الاشتراكيون الشعبويون إلى التحالف مع الكاديت. وكان لينين يسميهم «الاشتراكيين-الكاديت» ويعتبر انهم بالكاد يختلفون عنهم بعد ان تخلوا عن الجمهورية وعن المطالبة بكل الأراضي. ابرز شخصيات الحزب أ.بيشيكوتوف، ن.ف.انيسكي، ف.أ.مياكوتين. بعد ثورة شباط/فبراير 1917 البرجوازية الديمقراطية، شارك الحزب الاشتراكي الثوري في الحكومة البرجوازية المؤقتة. وبعد قيام ثورة اكتوبر، انتقل الاشتراكيون الثوريون إلى مناهضة الثورة وشاركوا في اعمال مسلحة ضدها –الناشر السوفييتي-

العماليون (الترودوفيك)- كتلة من الديمقراطيين البرجوازيين الصغار في مجال دوما الدولة الروسية تتكون من الفلاحين ومن المثقفين المتأثرين بالأفكار الشعبوية. وقد تشكلت الكتلة العمالية في نيسان/ابريل 1906 من النواب الفلاحين لدوما الدولة الاول.

تتضمن مطالب الترودوفيك الغاء كل التقييدات المرتكزة إلى المراتب الاجتماعية أو القومية، والإصلاح الديمقراطي للزييمستوفات وهيئات الحكم المحلية المدينية، وبالاقتراع العام لانتخابات دوما الدولة. اما برنامجهم الزراعي فكان ينطلق من المبدأ الشعبوي من الاستخدام المتساوي للأرض: انشاء صندوق قومي يتكون من أراضي الدولة والعائلة المالكة والقيصر نفسه والأديرة والمزارع الخاصة التي تفوق مقياس العمل المعتمد، مع الاقرار بضرورة التعويض في حالة مصادرة المزارع الخاصة. في مجلس الدوما، كان الترودوفيك يتذبذبون بين الكاديت والبلاشفة، بسبب الطبيعة الطبقية ذاتها لفلاحين الذين هم ملاك صغار. وقد حاول البلاشفة الوصول إلى اتفاقات معهم حول قضايا محددة بغرض خوض معركة مشتركة ضد الكاديت والنظام القيصري.

عام 1917 انضمت كتلة الترودوفيك إلى الحزب الاشتراكي الشعبي –الناشر السوفييتي-.

[10]-مولشالينية- مرادفة للتملق الذليل والتزلف. على اسم مولشالين، شخصية في احدى مسرحيات غريبوييدوف –الناشر السوفييتي-.

[11]-ان مثل هذه المراجعة قد تتطلب ملحقا بالكتاب الحالي. وفي ذلك الحال، لا بد من ان يقتصر الجزء الاول على تحليل الاقتصاد الروي قبل الثورة، بينما يخصص الجزء الثاني لدراسة انجازات ونتائج الثورة –(ملاحظة لينين).

يتبع على حلقات

شارك المقالة

اقرأ أيضا